المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

المجلس السّادس عشر

روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ، والكشي في كتاب الرجال : أنّ مروان بن الحكم كتب الى معاوية ـ وهو عامله على المدينة ـ : أمّا بعد ، فقد ذكر لي أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي ، وإنّه لا يؤمن وثوبه ، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه يريد الخلافة. فكتب إليه معاوية : إيّاك أنْ تعرض للحسين في شيء ، واترك حسيناً ما تركك. وكتب معاوية إلى الحسين (ع) : قد انتهت إليّ اُمور عنك ، إنْ كانت حقاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله ، إنّ مَن أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإنّ أحقّ النّاس بالوفاء مَن كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، ونفسك فاذكر وبعهد الله أوفِ ؛ فانّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتّقِ شقّ عصا هذه الاُمّة وأنْ يردهم الله على يديك في فتنة. وانظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد ، ولا يستخفنّك السفهاء والذين لا يعلمون. فكتب إليه الحسين (ع) : «أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت لي عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير ، فإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلاّ الله تعالى ؛ وأمّا ما ذكرت إنّه رقي إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون ، ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن الأعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين الملحدين ، حزب الظلمة وأولياء الشياطين. ألستَ القاتل حِجْر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين ، الذين كانوا ينكرون الظلم ويستفضعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة ، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ؛ جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟! أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (ص) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونُه ، فقتلته بعدما أمّنته وأعطيته من العهود ما لو فهمته العصم

٤١

لنزلت من رؤوس الجبال؟! أولست المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ؛ وقد قال رسول الله (ص) : الولد للفراش وللعاهر الحَجَر. فتركت سنّة رسول الله (ص) تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدىً من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطّع أيديهم وأرجلهم ويسمل أعينهم ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك؟! أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سميّة أنّهم على دين علي صلوات الله عليه ، فكتبت إليه : أنْ اقتل كلّ مَن كان على دين علي ؛ فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودين علي هو دين ابن عمّه (ص) الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك ، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه. ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء والصيف؟! وقلتَ فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد (ص) واتّق شقّ عصا هذه الاُمّة وأنْ تردهم إلى فتنة!! وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها ، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد (ص) أفضل من أنْ اُجاهدك ، فإنْ فعلت فإنّه قربة إلى الله ، وإنْ تركته فإنّي أستغفر الله لديني وأسأله توفيقَه لأرشاد أمري. وقلتَ فيما قلت : إنْ أنكرتك تنكرني ، وإنْ أكِدك تكدني! فكدني ما بدا لك ، فإنّي أرجو أنْ لا يضرني كيدك ، وأنْ لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك وتحرصت على نقض عهدك ، ولعمري ما وفيتَ بشرط ، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أنْ يكونوا قاتَلوا وقتلوا ، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا ؛ فقتلتهم مخافة أمرٍ لعلّك لو لم تقتلهم متّ قبل أنْ يفعلوا ، أو ماتوا قبل أنْ يدركوا. فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءه على التهم ، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس ببيعة ابنك غلام حدث ؛ يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ خسرتَ نفسك وبترت دينك ، وغششتَ رعيّتك وأخربت أمانتك ، وسمعتَ مقالة السفيه الجاهل وأخفت الورع التّقي ، والسّلام».

فلمّا قرأ معاوية الكتاب ، قال : لقد كان في نفسه شيء ما أشعر به. فقال يزيد : أجبه جواباً يصغر إليه نفسه ؛ تذكر فيه أباه بشرّ فعله. ودخل عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال معاوية : أما رأيت ما كتب به الحسين؟ وأقرأه الكتاب. فقال : وما يمنعك أنْ تجيبه بما يصغر إليه نفسه؟ ـ وإنما قال ذلك في هوى معاوية ـ فقال يزيد : رأيت يا أمير المؤمنين رأيي؟ فضحك معاوية وقال : أخطأتما ، أرأيتما لو أنّي ذهبت لعيب عليّ محقاً ، فما عسيت أنْ أقول فيه؟ ومتى ما عبت رجلاً بما لا يعرفه النّاس لم يُحفل به وكذّبه النّاس ، وما عسيت أنْ أعيب حسيناً!

٤٢

فو الله ، ما أرى للعيب فيه موضعاً.

ومناقبٍ شهِدَ العدوُّ بفضلِها

والفضلُ ما شهدتْ بهِ الأعداءُ

تفديك نفسي يا أبا عبد الله ، أنت الذي علّمت النّاس الأنَفَة والشمم والإباء ؛ أبيت أنْ تخضع لتهديد معاوية ووعيده كما أبيت أنْ تخضع وتنقاد ليزيد ، وجدت بنفسك في سبيل الدّين والعزّ والشرف حتّى قُتلت عطشان ظامئاً غريباً مظلوماً ، وآثرت المنيّة على الدنيّة وموت العزّ على حياة الذلّ ، وقلت فيما قلت : «والله ، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ، لما بايعت يزيد بن معاوية».

أرادتْ لها الويلاتُ تسليمَهُ لها

وكيف تنالُ الشمسَ أيدي اللوامسِ

وهيهات أنْ يرضى الحسينُ بذلّةٍ

أبتها اُصولٌ زاكياتُ المغارسِ

٤٣

المجلس السّابع عشر

في مناقب ابن شهر آشوب ، عن عبد الله بن عمير والحاكم والعبّاس قالوا : خطب الحسن (ع) عائشة بنت عثمان ، فقال مروان : اُزوّجها عبد الله بن الزّبير. فلما قُبض الحسن (ع) ومضت أيام من وفاته ، كتب معاوية إلى مروان ـ وهو عامله على الحجاز ـ يأمره أنْ يخطب اُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد. فأتى عبدَ الله بن جعفر فأخبره بذلك ، فقال عبد الله : إنّ أمرها ليس إليّ إنما هو إلى سيّدنا الحسين (ع) وهو خالها ، فأخبر الحسين (ع) بذلك ، فقال : «أستخير الله تعالى. اللهمَّ ، وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمّد». فلمّا اجتمع النّاس في مسجد رسول الله (ص) ، أقبل مروان حتّى جلس إلى الحسين (ع) وعنده من الجِلّة وقال : إنّ أمير المؤمنين معاوية أمرني أنْ أخطب اُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد ، وأنْ أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ ، مع صلح ما بين هذين الحَييّن ، مع قضاء دَين أبيها. واعلم أنّ مَن يغبطكم بيزيد أكثر ممَّن يغبطه بكم. والعَجب كيف يستمهر يزيد وهو كفو من لا كفو له وبوجهه يستسقى الغمام؟! فردْ خيراً يا أبا عبد الله. فقال الحسين (ع) : «الحمد لله الذي اختارنا لنفسه وارتضانا لدينه واصطفانا على خلقه» ثمّ قال (ع) : «يا مروان ، قلت فسمعنا ؛ أمّا قولك مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ ، فلعمري ، لو أردنا ذلك ما عدونا سنّة رسول الله (ص) في بناته ونسائه وأهل بيته ؛ وهو اثنتا عشرة أوقية ، يكون أربعمئة وثمانين درهماً ؛ وأمّا قولك مع قضاء دَين أبيها ، فمتى كنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا؟ وأمّا صلح ما بين هذين الحييّن ، فإنّا قوم عاديناكم في الله فلم نكنْ نصالحكم للدنيا ، فلعمري ، لقد أعيا النسب فكيف السبب ؛ وأمّا قولك العجب ليزيد كيف يستمهر ، فقد استمهر مَن هو خير من يزيد ومن أبي يزيد ومن جدّ يزيد ؛ وأمّا قولك أنّ يزيد كفو مَن لا كفو له ، فمَن كان كفوه قبل اليوم فهو كفوه اليوم ، ما زادته إمارته في الكفاءة شيئاً ؛ وأمّا قولك بوجهه يستسقى الغمام ، فإنّما كان ذلك بوجه رسول الله (ص) ؛ وأمّا قولك مَن يغبطنا به أكثر ممَن يغبطه بنا ، فإنّما يغبطنا به أهل الجهل

٤٤

ويغبطه بنا أهل العقل». ثمّ قال (ع) : «فاشهدوا جميعاً أنّي قد زوّجت اُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر من ابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر على أربعمئة وثمانين درهماً ، وقد نحلتها ضيعتي بالمدينة ـ أو قال : أرضي بالعقيق ـ وأنّ غلّتها في السّنة ثمانية آلاف دينار ، ففيها لهما غنى إنْ شاء الله». قال : فتغيّر وجه مروان وقال : غدراً يا بني هاشم ، تأبون إلاّ العداوة. فذكّره الحسين (ع) خطبة أخيه الحسن (ع) عائشة وفعله ، ثمّ قال (ع) : «فأين موضع الغدر يا مروان؟». فقال مروان :

أردْنا صهرَكمْ لنجدَّ ودّاً

قدْ اخلَقهُ بهِ حدثُ الزّمانِ

فلمّا جئتكمْ فجبهتُموني

وبحتمْ بالضّميرِ من الشّنانِ

فأجابه ذكوان مولى بني هاشم :

أماط اللهُ عنهمْ كلَّ رجسٍ

وطهّرهُمْ بذلك في المثاني

فما لهمُ سواهُمْ منْ نظيرٍ

ولا كفوٌ هناك ولا مُداني

أتجعلُ كلَّ جبّارٍ عنيدٍ

إلى الأخيارِ منْ أهلِ الجنانِ

وما زالت هذه الأضغان في نفس يزيد حتّى أظهرها لمّا جيء إليه برأس الحسين (ع) ، فجعل يقول :

نفلّقُ هاماً من رجالٍ أعزّةٍ

علينا وهمْ كانوا أعقَّ وأظلما

ودعا بقضيب خيزران فجعل ينكت به ثنايا الحسين (ع) ، ثمّ قال:يوم بيوم بدر. ثمّ قال :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا

جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ

لأهلّوا واسْتهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

قد قتلنا القَرمَ منْ ساداتهمْ

وعدلناه ببدرٍ فاعتَدلْ

لعبتْ هاشمُ بالمُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزلْ

لستُ من خِندفَ إنْ لم أنتقمْ

مِن بني أحمدَ ما كانَ فعلْ

أتنكثُها شُلّتْ يمينُكَ إنّها

وجوهٌ لوجْهِ اللهِ طالَ سجودُهَا

٤٥

المجلس الثامن عشر

قال الامام الرضا (ع) : «إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة فيما مضى يحرّمون فيه الظلم والقتال ، فاستُحلّت فيه دماؤنا ، وهُتكت فيه حرمتنا ، وسُبي ذرارينا ونساؤنا ، واُضرمت النيران في مضاربنا وانتهب منها ثقلنا ، ولم ترعَ لرسول الله (ص) حرمة في أمرنا. إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسال دموعنا ، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ؛ فعلى مثل الحسين فليبك الباكون». ثم قال الامام (ع) : «كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى تمضي منه عشرة أيّام ، فإذا كان اليوم العاشر ، كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه جدّي الحسين (ع)». وقال الامام الرضا (ع) : «مَن ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء ، قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة. ومَن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، جعل الله عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره ، وقرّت بنا في الجنان عينه. ومَن سمَّ يوم عاشوراء يوم بركة وادّخر فيه لمنزله شيئاً ، لم يبارك له فيما ادّخر ، وحُشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد لعنهم الله إلى أسفل درك من النار». أقول : وأمّا اتخاذ يوم عاشوراء يوم عيد وفرح وسرور فهي سنّة اُمويّة ، وقد اتّبعها مَن اتّبعها جهلاً بالحال ، وإلاّ فلا يُظنّ بمسلم أنّه يفرح في يوم قتل ابن بنت نبيّه (ص) ، الذي لو كان حياًّ لكان هو المعزّى به والباكي عليه كما بكى عليه في حياته.

يا يومَ عاشوراء كمْ لكَ غلةً

تترقّصُ الأحشاءُ منْ إيقادِها

ما عُدْتَ إلإَ عاد قلبي لوعة

حرّى ولو بالغتُ في إبرادِها

مِثلُ السّليمِ مضيضةٌ آناؤهُ

خُزرُ العيونِ تعودُهُ بعيادِها

كانتْ مآتمُ بالعراقِ تعدّها

اُمَويّةٌ بالشّامِ منْ أعيادِها

٤٦

المجلس التاسع عشر

حكى دعبل الخزاعي قال : دخلت على سيّدي ومولاي علي بن موسى الرضا (ع) في أيام عشر المحرّم ، فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب وأصحابه من حوله ، فلمّا رآني مقبلاً ، قال لي : «مرحباً بك يا دعبل ، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه». ثم إنّه وسع لي في مجلسه وأجلسني إلى جانبه ، ثمّ قال (ع) : «يا دعبل ، اُحبّ أنْ تنشدني شعراً ؛ فإنّ هذه الأيام أيام حزن كانت علينا أهل البيت ، وأيام سرور كانت على أعدائنا خصوصاً بني اُميّة». ثمّ إنّه (ع) نهض وضرب ستراً بيننا وبين حرمه ، وأجلس أهل بيته من وراء السّتر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين (ع) ، ثمّ التفت إليّ وقال لي : «يا دعبل ، إرث الحسين ، فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيّاً ، فلا تقصّر عن نصرنا ما استطعت». قال دعبل : فاستعبرت وسالت عبرتي ، وأنشأت أقول :

أفاطمُ لو خِلتِ الحسينَ مُجدّلا

وقد مات عطْشاناً بشطِّ فُراتِ

إذاً للطمتِ الخدَّ فاطمُ عندَهُ

وأجريتِ دمعَ العينِ في الوجناتِ

أفاطمُ قومي يابنةَ الخيرِ واندُبي

نُجومَ سَماواتٍ بأرضِ فَلاةِ

قبورٌ بكوفانٍ واُخرَى بطَيبةٍ

واُخرَى بفخٍّ نالَها صلواتي

قبورٌ بجنب النّهرِ من أرضِ كربَلا

مُعرّسُهمْ فيها بشطِّ فُراتِ

تُوفوا عطاشَى بالفُراتِ فليتَني

تُوفّيتُ فيهِم قبلَ حينِ وفاتي

إلى اللهِ أشكو لوعةً عندَ ذكرِهمْ

سَقتني بكأسِ الثُّكلِ والفظعاتِ

سأبْكيهُمُ ما حجَّ لله راكبٌ

وما ناح قُمريٌّ على الشّجراتِ

فيا عينُ بكّيهمْ وجُودي بعبرةٍ

فقدْ آنَ للتّسكابِ والهَملاتِ

سأبكيهُمُ ما ذرَّ في الاُفقِ شارقٌ

ونادى مُنادي الخيرِ للصَلواتِ

وما طلُعتْ شمسٌ وحَانَ غُروبُها

وبالليلِ أبْكيهمْ وبالغُدواتِ

٤٧

وفي عيون أخبار الرضا (ع) بسنده عن عبد السّلام بن صالح الهروي قال : دخل دعبل بن علي الخزاعي رحمه الله على أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع) بمرو فقال له : يابن رسول الله ، إنّي قد قلت فيكم قصيدة وآليت على نفسي أنْ لا أنشدها أحداً قبلك. فقال (ع) : «هاتها». فأنشده :

مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ

ومنزلُ وحيٍ مُقفِرُ العَرَصاتِ

فلمّا بلغ إلى قوله :

أرى فيئَهُمْ في غيرِهمْ مُتَقسَّماً

وأيديَهُمْ من فيئِهمْ صَفِراتِ

بكى أبو الحسن الرضا (ع) وقال له : «صدقت يا خزاعي». فلما بلغ إلى قوله :

إذا وُتِروا مَدُّوا إلى واترِيهُمُ

أكفّاً عن الأوتَارِ مُنْقَبضَاتِ

جعل أبو الحسن (ع) يقلّب كفّيه ويقول:«أجل ، والله منقبضات». فلمّا بلغ إلى قوله :

لقدْ خِفتُ في الدُّنيَا وأيامِ سَعْيهَا

وإنّي لأرجُو الأمنَ بَعدَ وفاتي

قال الرضا (ع) : «آمنك الله يوم الفزع الأكبر». ثمّ أعطاه مئة دينار من الدنانير المضروب عليها اسم الرضا (ع) ، فقال دعبل : والله ما لهذا جئت ، ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شيء. وردّ الصّرة ، وسأل ثوباً من ثياب الرضا (ع) ليتبرّك به ، فأنفذ إليه الرضا (ع) جبّة خزّ مع الصرّة ، فأخذهما دعبل وانصرف.

لا أضحَكَ اللهُ سِنَّ الدَّهرَ إنْ ضَحِكتْ

وآلُ أحمدَ مظلُومُونَ قدْ قُهرُوا

مُشرَّدونَ نُفوا عَنْ عُقرِ دارِهُمُ

كأنّهمُ قدْ جَنَوا ما ليسَ يُغتَفرُ

إذا العينُ قرّتْ في الحياةِ وأنتُمُ

تخافُونَ في الدّنيا فأظلمَ نُورُها

٤٨

المجلس العشرون

عن معاوية بن وهب قال : دخلت يوم عاشوراء إلى دار مولاي جعفر الصادق (ع) ، فرأيته ساجداً في محرابه ، فجلست من ورائه حتّى فرغ فأطال في سجوده وبكائه ، فسمعته يناجي ربّه وهو ساجد وهو يقول : «اللهمّ ، يا من خصّنا بالكرامة ووعدنا بالشفاعة وحمّلنا الرسالة ، وجعلنا ورثة الأنبياء ، وختم بنا الاُمم السّالفة ، وخصّنا بالوصيّة ، وجعل أفئدة من النّاس تهوي إلينا ، اغفر اللهمَّ لي ولإخواني ولزوّار أبي عبد الله الحسين (ع) الذين أنفقوا أموالهم في حبّه ، وأشخصوا أبدانهم ؛ رغبة في برّنا ، ورجاء لما عندك في صلتنا ، وسروراً أدخلوه على نبيّك محمّد (ص) ، وإجابة منهم لأمرنا ، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا وأرادوا بذلك رضوانك. اللهمَّ ، فكافهم عنّا بالرضوان ، واكلأهم بالليل والنّهار ، وأخلفهم في أهاليهم وأولادهم الذين خلّفوا أحسن الخلف ، واكفهم شرّ كلّ جبّار عنيد وكلّ ضعيف من خلقك وشديد ، وشرّ شياطين الإنس والجنّ ، وإعطهم أفضل ما أمّلوه منك في غربتهم عن أوطانهم ، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقرابتهم. اللهمَّ ، إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلك عن النّهوض والشخوص إلينا ؛ خلافاً منهم على مَن خالفنا ، فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس ، وارحم تلك الخدود التي تقلّبتْ على قبر أبي عبد الله الحسين ، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك القلوب التي حزنت لأجلنا واحترقت بالحزن ، وارحم تلك الصّرخة التي كانت لأجلنا. اللهمَّ ، إنّي استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتّى ترويهم من الحوض يوم العطش الأكبر ، وتدخلهم الجنّة وتسهّل عليهم الحساب ، إنّك أنت الكريم الوهّاب». قال : فما زال الإمام (ع) يدعو لأهل الإيمان ولزوّار قبر الحسين (ع) وهو ساجد في محرابه ، فلمّا رفع رأسه أتيت إليه وسلّمت عليه وتأمّلت وجهه ؛ فاذا هو كاسف اللون متغيّر الحال ظاهر الحزن ، ودموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ الرطب ، فقلت : يا سيّدي ، ممَّ بكاؤك؟ لا أبكى الله لك عيناً ، وما الذي حلّ بك؟ فقال لي : «أوَ في غفلة أنت عن هذا اليوم؟! أما علمت أنّ جدّي

٤٩

الحسين قد قُتل في مثل هذا اليوم؟». فبكيت لبكائه وحزنت لحزنه ، فقلت له : يا سيّدي ، فما الذي أفعل في مثل هذا اليوم؟ فقال : «يابن وهب ، زر الحسين (ع) من بعيد أقصى ومن قريب أدنى ، وجدّد الحزن عليه ، وأكثر البكاء والشجو له». فقلت له : يا سيّدي ، لو أنّ الدعاء الذي سمعته منك وأنت ساجد كان لمَن لا يعرف الله تعالى ، لظننت أنّ النّار لا تطعم منه شيئاً. والله ، لقد تمنّيت أنّي كنت زرته قبل أنْ أحجّ. فقال لي : «فما يمنعك من زيارته يابن وهب ولم تدع ذلك؟». فقلت : جعلت فداك! لم أدر أنّ الأجر يبلغ هذا كلّه حتّى سمعت دعاءك لزوّاره. فقال لي : «يابن وهب ، إنّ الذي يدعو لزوّاره في السّماء أكثر ممَّن يدعو لهم في الأرض ، فإيّاك أنْ تَدَع زيارته لخوفٍ من أحد ؛ فمَن تركها لخوف من أحد رأى الحسرة والندم. يابن وهب ، أما تُحب أنْ يرى الله شخصك؟ أما تحب أنْ تكون غداً ممَّن يصافحه رسول الله (ص) يوم القيامة؟». قلت : يا سيّدي ، فما قولك في صومه من غير تبييت؟ فقال لي : «لا تجعله صوم يوم كامل ، وليكن إفطارك بعد العصر بساعة على شربة من ماء ، فإنّه في ذلك الوقت انجلت الهيجاء عن آل الرسول وانكشفت الغمّة عنهم ، ومنهم في الأرض ثلاثون قتيلاً ، يعزّ على رسول الله (ص) مصرعهم. ولو كان حيّاً لكان هو المعزّى بهم». قال : وبكى الصادق (ع) حتّى اخضلّت لحيته بدموعه ، ولم يزل حزيناً كئيباً طول يومه ذلك وأنا معه أبكي لبكائه وأحزن لحزنه.

مصيبةٌ أسعَرَتْ في القلب نارَ جَوَى

يُزيدُها مُستمِرُ الذّكرِ تسعيرَا

يا آلَ أحمدَ كمْ حلّتْ فجائعُكُمْ

وكاءَ عيني بدمعٍ ليسَ مَنزُورَا

٥٠

المجلس الحادي والعشرون

مرّ سليمان بن قتّة العدوي رحمه الله بكربلاء بعد قتل الحسين (ع) بثلاث ، فنظر إلى مصارعهم واتكأ على فرس له عربيّة ، وأنشأ يقول :

مَررتُ على أبياتِ آلِ محمّد

فلَمْ أرَها أمثالَها يومَ حُلّتِ

ألمْ ترَ أنَّ الشّمسَ أضحتْ مَريضةً

لفقدِ حُسينٍ والبلادَ اقشعرّتِ

وكانوا رجاءً ثمّ أضحَوا رزيّةً

لقدْ عَظُمتْ تلك الرّزايا وجلّتِ

وتسألُنَا قيسٌ فنُعطي فقيرَهَا

وتغتابُنا قيسٌ إذا النَّعلُ زلّتِ

وعندَ غنيٌّ قطرةٌ من دمائِنا

سَنطلِبُهُمْ يوماً بها حيثُ حلّتِ

فلا يُبعدُ اللهُ الدّيارَ وأهلَها

وإنْ أصبَحتْ منهُمْ برغمي تخلّتِ

وإنّ قتيلَ الطفِّ منْ آلِ هاشمٍ

أذلَّ رِقابَ المُسلمينَ فذلّتِ

وقدْ أعولتْ تبكي السّماءُ لفقدِهِ

وأنجُمُنا ناحتْ عليهِ وصلّتِ

ومرّ ابن الهباريّة الشاعر بكربلاء ، فجلس يبكي على الحسين (ع) وأهله ، وقال بديهاً :

أحسينُ والمبعوثِ جدِّكَ بالهُدى

قَسماً يكون الحقُّ عنهُ مُسائلي

لو كنتُ شاهدَ كربلا لبذلتُ في

تَنْفيسِ كربِكَ جُهدَ بذلِ الباذلِ

وسَقيتُ حدَّ السّيفِ من أعدائكُمْ

عللاً وحدَّ السّمهَريِّ الذّابلِ

لكنَّني اُخّرتُ عنكَ لشقْوَتي

فبلابِلي بينَ الغريِّ وبابلِ

هَبنيْ حُرمتُ النَّصرَ من أعدائكُمْ

فأقلّ منْ حُزنٍ ودمعٍ سائلِ

ويقال : أنّه نام في مكانه فرأى النبي (ص) ، فقال له : «جزاك الله عنّي خيراً ، أبشر فإنّ الله قد كتبك ممَّن جاهد بين يدي الحسين (ع)».

٥١

يا آلَ أحمدَ لا يخيبُ مُوحدٌ

مُتمسكٌ منكُمْ بحبلِ ولاءِ

إنْ فاتَني منْ نَصركُمْ ما فاتَني

وأطالَ فيكُمْ لوعَتي وبُكائي

فَلأرثينّكُمُ على طولِ المَدَى

بقصائدٍ أعيتْ على الشّعراءِ

٥٢

المجلس الثاني والعشرون

في الأغاني بسنده عن علي بن إسماعيل التميمي عن أبيه قال : كنتُ عند أبي عبد الله جعفر بن محمّد (ع) إذ استأذن آذنه للسيّد الحميري ـ وهو إسماعيل بن محمّد ، والسيّد لقبه ـ فأمر بإيصاله وأقعد (ع) حرمه خلف ستر ، ودخل فسلّم وجلس ، فاستنشده فأنشده قوله :

اُمرُرْ على جَدثِ الحُسينِ

وقُلْ لأعظُمِهِ الزكيّهْ

يا أعظُماً لا زلتِ منْ

وطفاءَ ساكبةٍ رَويّهْ

وإذا مررتَ بقبرِهِ

فأطلْ بهِ وقفَ المطيّهْ

وابكِ المُطهْرَ للمُطهْرِ

والمُطهْرةِ النقيّهْ

كبكاءِ مُعولةٍ أتتْ

يوماً لواحدها المنيّهْ

قال : فرأيت دموع جعفر بن محمّد (ع) تتحدر على خديه ، وارتفع الصراخ من داره حتّى أمره بالإمساك ، فأمسك. وقال الصادق (ع) لأبي هارون المكفوف : «يا أبا هارون ، أنشدني في الحسين (ع)». قال : فأنشدته ، فقال لي : «أنشدني كما تُنشدون». فأنشدته :

اُمرُرْ على جَدثِ الحسينِ

وقلْ لأعظُمهِ الزكيّهْ

ما لذَّ عيشٌ بعد رضْضِكِ

بالجيادِ الأعوجيّهْ

٥٣

المجلس الثالث والعشرون

لمّا مات معاوية ـ وذلك في النصف من رجب سنة ستّين من الهجرة ـ وتخلّف بعده ولده يزيد ، كتب يزيد إلى ابن عمّه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ وكان والياً على المدينة ـ يأمره بأخذ البيعة على أهلها وخاصّة على الحسين (ع) ، ولا يرخص له في التأخّر عن ذلك ، ويقول : إنْ أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. فأحضر الوليد مروان بن الحكم واستشاره في أمر الحسين (ع) ، فقال : إنّه لا يقبل ولو كنت مكانك لضربت عنقه. فقال الوليد : ليتني لم أك شيئاً مذكوراً. ثمّ بعث إلى الحسين (ع) في الليل فاستدعاه ، فعرف الحسين (ع) الذي أراد ، فدعا بجماعة من أهل بيته ومواليه ـ وكانوا ثلاثين رجلاً ـ فأمرهم بحمل السلاح ، وقال لهم : «إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ، ولست آمن أنْ يكلّفني فيه أمراً لا اُجيبه ، وهو غير مأمون ، فكونوا معي ، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب ، فإنْ سمعتم صوتي قد علا ، فادخلوا عليه لتمنعوه عنّي». فصار الحسين (ع) إلى الوليد ، فوجد عنده مروان بن الحكم ، فنعى إليه الوليد موت معاوية ، فاسترجع الحسين (ع) ، ثمّ قرأ الوليد عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه ليزيد. فقال الحسين (ع) : «إنّي أراك لا تقنع ببيعتي سرّاً حتّى اُبايعه جهراً فيعرف ذلك النّاس». فقال له الوليد : أجل. فقال الحسين (ع) : «تصبح وترى رأيك في ذلك». فقال له الوليد : انصرف على اسم الله حتّى تأتينا مع جماعة النّاس. فقال له مروان : والله ، لئن فارقك الحسين السّاعة ولم يبايع ، لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، ولكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب الحسين (ع) عند ذلك ثمّ قال : «ويلي عليك يابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب عنقي؟! كذبت والله ولؤمت». ثمّ أقبل على الوليد فقال : «أيها الأمير ، إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرّسالة ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله. ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة». ثمّ خرج ومعه مواليه

٥٤

وهو يتهادى بينهم ، ويتمثّل بقول يزيد بن مفرّغ الحميري الشاعر المشهور :

لا ذَعرتُ السّوامَ في فَلقِ الصبحِ

مُغيراً ولا دُعيتُ يزيدا

يومَ اُعطيْ مخافةَ الموتِ ضَيماً

والمنايَا يَرصدْنَني أنْ أحيدَا

حتّى أتى منزله ، فقال مروان للوليد : عصيتني. فقال : ويحك! إنّك أشرت علي بذهاب ديني ودنياي ، والله ، ما اُحبّ أنْ أملك الدّنيا بأسرها وأنّي قتلت حسيناً. والله ، ما أظنّ أحداً يلقى الله بدم الحسين إلاّ وهو خفيف الميزان ، لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكّيه.

كأنّي بالحسين (ع) لمّا خرج من عند الوليد ، أحدق به إخوته وأولاده ومواليه وسائر بني هاشم وهم شاكون في السّلاح ، وهو بينهم كالقمر ما بين النجوم ، يقدمهم أبو الفضل العبّاس قمر بني هاشم ، وهو كالأسد الغضبان حتّى أتوا به إلى منزله مكرّماً لم يصبه سوء ، فأين كان بنو هاشم عن سيّدهم الحسين (ع) يوم عاشوراء حين بقي وحيداً فريداً بين الأعداء لا ناصر له ولا معين؟! بلى ، كانوا مطرّحين على الرمضاء مرمّلين بالدماء ، مقطّعة أعضاؤهم مبددة أوصالهم.

گضَوا حگ العليهُمْ دونْ الخيامْ

ولا خلّوا خواتِ حسينْ تنضامْ

لمَنْ خرّوا تفايضْ منهمُ الهامْ

تهاووا مثلْ مَهوى النّجمْ منْ خَرْ

گضَوا ما بين منْ گطعوا وريدهْ

وبين الطّار راسَه وطاحت ايدهْ

وبين امْشبّح برميا شديدهْ

وبين الصّار للنشاب مكورْ

٥٥

المجلس الرابع والعشرون

لمّا تهيّأ الحسين (ع) للخروج من المدينة ، مضى في جوف الليل إلى قبر اُمّه عليها‌السلام فودّعها ، ثمّ مضى إلى قبر أخيه الحسن (ع) ففعل كذلك ، ثمّ رجع إلى منزله وقت الصبح. فأقبل إليه أخوه محمّد بن الحنفيّة فقال : يا أخي ، أنت أحبّ الخلق إليّ وأعزّهم عليّ ، ولستُ أدّخر النصيحة لأحد من الخلق ، وليس أحد أحقّ بها منك ؛ لأنّك مزاج مائي ونفسي وروحي وبشري ، وكبير أهل بيتي ، ومَن وجبت طاعته في عنقي ؛ لأنّ الله قد شرّفك عليّ وجعلك من سادات أهل الجنّة. تنحَ ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما أستطعت ، ثمّ ابعث رسلك إلى النّاس ، فإنْ تابعك النّاس وبايعوا لك ، حمدت الله على ذلك ، وإنْ اجتمع النّاس على غيرك ، لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك. إنّي أخاف عليك أنْ تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف النّاس بينهم ، فتكون لأول الأسنّة غرضاً ، فإذا خير هذه الاُمّة كلّها نفساً وأباً واُمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً. فقال له الحسين (ع) : «فأين أذهب يا أخي؟». قال : تخرج إلى مكّة ، فإنْ اطمأنّت بك الدار بها فذاك ، وإنْ تكن الاُخرى جئت الى بلاد اليمن فإنّهم أنصار جدّك وأبيك ، وهم أرأف النّاس وأرقّهم قلوباً وأوسع النّاس بلاداً ، فإنْ اطمأنّت بك الدار وإلاّ لحقت بالرمال وشعوب الجبال ، وجزت من بلد إلى بلد حتّى تنظر ما يؤول إليه أمر النّاس ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين. فقال الحسين (ع) : «يا أخي ، والله لو لَمْ يكن في الدّنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية». فقطع محمّد بن الحنفيّة عليه الكلام وبكى ، فبكى الحسين (ع) معه ساعة ثمّ قال (ع) : «يا أخي جزاك الله خيراً ، فقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا عازم على الخروج إلى مكّة وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ، أمرهم أمري ورأيهم رأيي .. وأمّا أنت يا أخي ، فلا عليك أنْ تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم ، لا تخفي عنّي شيئاً من اُمورهم». ثم دعا الحسين (ع) بدواة وبياض وكتب هذه الوصية لأخيه محمّد بن الحنفيّة :

٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

«هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام إلى أخيه محمّد المعروف بابن الحنفيّة : إنّ الحسين (ع) يشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله جاء بالحقِّ من عند الحقّ ، وأنّ الجنّة والنّار حقّ ، وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث مَن في القبور. وإنّي لمْ أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي رسول الله (ص) ؛ اُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي (ص) وأبي علي (ع). فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين. وهذه وصيّتي يا أخي إليك ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه اُنيب». ثم طوى الحسين (ع) الكتاب وختمه بخاتمه ودفعه إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة ، ثمّ ودّعه وخرج في جوف الليل وهو يقرأ (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَبُ قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ). ولزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : لو تنكبت الطريق (أي سرت على غير الجادّة العظمى) كما فعل ابن الزّبير ؛ كيلا يلحقك الطلب. فقال (ع) : «لا والله ، لا اُفارق الطريق الأعظم حتّى يقضي الله ما هو قاض».

أفديْهِ منْ خائفٍ ضاقَ الفَضاءُ بهِ

وهو الأمانُ لمَنْ فوق الثّرى جُمَعَا

مُشرّداً لا يَرى حِرزاً يلوذُ بهِ

إلاّ حُساماً كلونِ الملحِ قد نصَعَا

مستقتلاً أنْ يحلَّ الضيمُ ساحتَهُ

ومسرعاً نحو داعي العزِّ حينَ دعا

٥٧

المجلس الخامس والعشرون

لمّا وصل الحسين (ع) إلى مكّة وذلك لثلاث مضين من شعبان سنة ستّين من الهجرة ، دخلها وهو يقرأ : (وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ). وجاءه عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الزّبير فأشارا عليه بالإمساك ، فقال لهما : «إنّ رسول الله (ص) أمرني بأمر وأنا ماض فيه». فخرج ابن عبّاس وهو يقول : وآحسيناه! ثم جاءه عبد الله بن عمر فأشار عليه بصلح أهل الضلال ، وحذّره من القتل والقتال ، فقال (ع) له : «يا أبا عبد الرحمن ، أما علمت أنّ من هوان الدّنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنْ لم يصنعوا شيئاً ، فلم يعجّل الله عليهم بل أخذهم أخذ عزيز ذي انتقام. اتقِّ الله يا أبا عبد الرحمن ، ولا تدعنّ نُصرتي». وبلغ أهل الكوفة امتناعُ الحسين (ع) من بيعة يزيد وخروجه إلى مكّة ، فاجتمعوا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي ، وكتبوا إليه بالقدوم عليهم ووعدوه النصرة. وتواترت عليه كتبهم حتّى اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب ، وفي بعضها : أنّ النّاس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل ثمّ العجل العجل ، وفي بعضها : قد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار ، وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار ، فإذا شئت فأقبلْ على جند لك مجنّد. وفي رواية : أنّهم كتبوا إليه : إنّا معك مئة ألف سيف. وهو مع ذلك يتأنّى ولا يجيبهم. ثم أجابهم بالقبول ، وأرسل إليهم ابن عمّه مسلم بن عقيل رضوان الله عليه ، فكتب إليه مسلم يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً ويأمره بالقدوم. وفي رواية : أنّه بايعه منهم أربعون ألفاً على أنْ يحاربوا مَن حارب ويسالموا مَن سالم. فأقام الحسين (ع) بمكّة باقي شعبان وشهر رمضان وشوالاً وذا القعدة وسبعة أيام من ذي الحجّة وخرج في اليوم الثامن ؛ وذلك أنّ يزيد بن معاوية أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم ، وولاّه أمر الموسم وأمره على الحاجّ كلّهم

٥٨

وكان قد أوصاه بقبض الحسين (ع) سرّاً ، وإنْ لمْ يتمكّن منه يقتله غيلة. ثم إنّه دسّ مع الحاجّ في تلك السّنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني اُميّة ، وأمرهم بقتل الحسين (ع) على أيّ حال اتفق ، فلمّا علم الحسين (ع) بذلك ، عزم على التوجّه إلى العراق ، وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ، وأحلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مفردة ؛ لأنّه لم يتمكّن من إتمام الحجّ مخافة أنْ يقبض عليه. فخرج من مكّة يوم التّروية لثمان مضين من ذي الحجّة ، فكان النّاس يخرجون إلى منى ، والحسين (ع) خارج إلى العراق. ولم يكن علم بقتل مسلم بن عقيل رحمه الله ؛ لأنّه خرج من مكّة في اليوم الذي قُتل فيه مسلم بن عقيل بالكوفة :

لا أضحكَ اللهُ سِنَّ الدّهرِ إنْ ضَحكتْ

وآلُ أحمدَ مظلُومُونَ قدْ قُهِرُوا

مُشرَّدُونَ نُفُوا عنْ عُقرِ دارِهِمُ

كأنّهمْ قدْ جَنَوا ما ليس يُغتفرُ

٥٩

المجلس السادس والعشرون

لمّا عزم الحسين (ع) على الخروج من مكّة إلى العراق ، جاءه محمّد بن الحنفيّة رضوان الله عليه في الليلة التي أراد الحسين (ع) الخروج في صبيحتها ، فقال له : يا أخي ، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفتُ أنْ يكون حالك كحال مَن مضى ، فإنْ رأيت أنْ تقيم فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه. فقال (ع) : «يا أخي ، قد خفت أنْ يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم ، فأكون الذي تُستباح به حرمة هذا البيت». فقال له ابن الحنفيّة : فإنْ خفتَ ذلك فسرْ إلى أرض اليمن أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع النّاس به ، ولا يقدر عليك أحد. فقال (ع) : «أنظر فيما قلت». فلمّا كان السّحر ارتحل الحسين (ع) ، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة ، فأتاه فأخذ بزمام ناقته ـ وقد ركبها ـ فقال : يا أخي ، ألمْ تعدني النظر فيما سألتك؟ قال (ع) : «بلى». قال : فما حداك على الخروج عاجلاً؟ قال (ع) : «أتاني رسول الله (ص) بعدما فارقتك فقال : يا حسين ، اخرج فإنّ الله شاء أنْ يراك قتيلاً». فقال محمّد بن الحنفيّة : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ فقال (ع) : «إنّ الله قد شاء أنْ يراهنّ سبايا». فسلّم عليه ومضى. وسمع عبد الله بن عمر بخروجه ، فقدّم راحلته وخرج خلفه مسرعاً ، فأدركه في بعض المنازل فقال : أين تريد يابن رسول الله؟ قال (ع) : «العراق». قال : مهلاً ، ارجع إلى حرم جدّك رسول الله (ص). فأبى الحسين (ع) ، فلما رأى ابن عمر إباءه قال : يا أبا عبد الله ، اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول الله (ص) يقبّله منك. فكشف الحسين (ع) عن سرّته ، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى وقال : أستودعك الله يا أبا عبد الله ، فإنّك مقتول في وجهك هذا.

إنْ يقتلُوكَ فلا عَنْ فَقدِ معرفةٍ

الشّمسُ مَعْروفةٌ بالعينِ والأثرِ

قدْ كُنتَ في مشرِقِ الدّنيا ومغْربِها

كالحمدُ لمْ تُغنِ عنهَا سائرُ السّوَرِ

٦٠