المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

المجلس الخامس والثمانون بعد المئة

في العقد الفريد : لمّا قدم عقيل بن أبي طالب على معاوية ، أكرمه ، وقضى حوائجه وقضى دينه ، ثمّ قال له يوماً : إنّ عليّاً قطع قرابتك وما وصلك. قال عقيل : والله ، لقد أجزل العطيّة وأعظمها ، ووصل القرابة وحفظها ، وحسن ظنّه بالله إذ ساء به ظنّك ، وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم وجرتم ، فاكففْ لا أباً لك! فإنّه عمّا تقول بمعزل. وقال معاوية يوماً ، وعقيل عنده : هذا أبو يزيد ، لولا علمه أنّني خير له من أخيه ، لَمَا أقام عندنا وتركه. فقال عقيل : أخي خيرٌ لي في ديني ، وأنت خيرٌ لي في دنياي ، وقد آثرت دنياي ، وأسأل الله خاتمة خير. وقال له يوماً : أنتم يا بني هاشم ، تُصابون في أبصاركم! ـ وكان عقيل مكفوف البصر ـ فقال : وأنتم يا بني اُميّة ، تصابون في بصائركم. ودخل عقيل يوماً على معاوية ، فقال معاوية لأصحابه : هذا عقيل عمّه أبو لهب. فقال عقيل : وهذا معاوية عمّته حمّالة الحطب. وقال له معاوية : أين ترى عمّك أبا لهب؟ فقال عقيل : إذا دخلت النّار ، فخذ على يسارك ، تجده مفترشاً عمّتك حمّالة الحطب ، فانظر أيّهما شر.

وروى المدائني قال : قال معاوية يوماً لعقيل بن أبي طالب : هل من حاجة فأقضيها لك؟ قال : نعم ، جارية عرضت عليّ وأبى أصحابها أنْ يبيعوها إلاّ بأربعين ألفاً. فأحبّ معاوية أنْ يُمازحه ، فقال : وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفاً ، وأنت أعمى تجتزي بجارية قيمتها خمسون درهماً؟ قال عقيل : أرجو أنْ تلد لي غُلاماً ، إذا أغضبتَه يضرب عنقك بالسّيف. فضحك معاوية وقال : مازحناك يا أبا يزيد. وأمر فابتعيت له الجارية التي أولد منها مُسلماً فلمّا أتت على مسلم ثماني عشرة سنة ، وقد مات أبوه عقيل ، قال لمعاوية : إنّ لي أرضاً بمكان كذا في المدينة ، وإنّي اُعطيت بها مئة ألفٍ وقد أحببت أنْ أبيعك إيّاها ، فادفع إليّ ثمنها. فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن إليه ، فبلغ

٤٤١

ذلك الحسين (ع) ، فكتب إلى معاوية : «أمّا بعد ، فإنّك غررت غُلاماً من بني هاشم ، فابتعت منه أرضاً لا يملكها ، فاقبض من الغُلام ما دفعته إليه ، واردد إلينا أرضنا». فبعث معاوية إلى مسلم فأخبره ذلك ، وأقرأه كتاب الحسين (ع) ، وقال : اردد علينا مالنا ، وخُذ أرضك ؛ فإنّك بِعت ما لا تملك. فقال مسلم : أمّا دون أنْ أضرب رأسك بالسّيف فلا. فاستلقى معاوية ضاحكاً يضرب برجليه ، ثمّ قال : يا بُني ، هذا والله ، كلامٌ قاله لي أبوك حين ابتعت له اُمّك. ثمّ كتب إلى الحسين (ع) : إنّي قد رددت عليكم الأرض ، وسوّغت مسلماً ما أخذ. ومناقب مسلم وفضائله كثيرة ، وشجاعته عظيمة شهيرة ، وهو الذي قال في حقّه الحسين (ع) لمّا بعثه إلى أهل الكوفة ، فكتب إليهم : «أنا باعثٌ إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي ، مسلم بن عقيل». وهو الذي أجاب عبيد الله بن زياد بتلك الأجوبة العظيمة ، وذلك حين اُخذ مسلم أسيراً واُدخل على ابن زياد ، فقال له الحرسيّ : سلّم على الأمير. فقال : اسكت ويحك! والله ، ما هو لي بأمير. قال ابن زياد : لا عليك ، سلّمت أم لمْ تسلّم فإنّك مقتول. فقال له مسلم : إنْ قتلتني ، فلقد قتل مَن هو شرّ منك مَن هو خيرٌ منّي. فقال له ابن زياد : قتلني الله إنْ لمْ أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام. فقال له مسلم : أما إنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لمْ يكن ، وإنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المُثلة ، وخبث السّريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك. فقال ابن زياد : يا عاق يا شاق ، خرجت على إمامك ، وشققت عصا المسلمين ، وألقحت الفتنة. فقال مسلم : كذبت إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأمّا الفتنة فإنّما ألقحتها أنت وأبوك. فقال ابن زياد : منّتك نفسك أمراً حال الله دونه ، وجعله لأهله. فقال له مسلم : ومَن أهله يابن مرجانة إذا لم نكن نحن أهله؟! فقال ابن زياد : أهله أمير المؤمنين يزيد. فقال مسلم : الحمد لله على كلّ حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال له ابن زياد : أتظنّ أنّ لك في الأمر شيئاً؟ فقال له مسلم : والله ، ما هو الظنّ ولكنّه اليقين. فقال له ابن زياد : أتيت النّاس وهم جميع ، فشتتّ أمرهم ، وفرّقت كلمتهم. قال : كلاّ لست لذلك أتيت ، ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف ، وتأمّرتم على النّاس بغير رضىً منهم ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ؛ فأتيناهم لنأمرهم بالمعروف وننهى عن المنكر. فقال له ابن زياد : لِم لمْ تعمل بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال مسلم : أنا أشرب الخمر؟! أما والله ، إنّ الله ليعلم أنّك تعلم أنّك غير صادق ، وأنّ أحقّ بشرب الخمر منّي مَنْ يقتل النّفس التي حرّم الله على الغضب ، والعداوة ، وسوء الظن. فاقبل ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً

٤٤٢

والحسن والحسين عليهم‌السلام وعقيلاً ، فقال له مسلم : أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة ، فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدوّ الله. فقال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه. فصعد به بكر بن حمران ، وهو يكبّر ويستغفر الله ويُسبّحه ، ويصلّي على رسول الله (ص) ، ويقول : اللهمّ ، احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا. فضرب عنقه واتبع رأسه جسده. فلمّا بلغ خبره الحسين (ع) ، استعبر باكياً ، ثمّ قال : «رحم الله مُسلماً ، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّاته ورضوانه ، أما أنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا». ثمّ أنشأ يقول :

فإنْ تكُنْ الدُّنيا تُعدُّ نفيسةً

فإنّ ثوابَ اللهِ أعلى وأنبلُ

وإنْ تكُنْ الأبدانُ للموتِ اُنشئتْ

فقتلُ امرئٍ بالسّيفِ في اللهِ أفضلُ

وإنْ تكُنْ الأرزاقُ قِسْماً مُقدّراً

فقلّةُ حِرصِ المرءِ في السَّعي أجملُ

وإنْ تكُنْ الأموالُ للتّركِ جَمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخلُ

٤٤٣

المجلس السّادس والثمانون بعد المئة

ذكر غير واحد من المؤرّخين ، منهم : ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) : إنّ عبد الله بن الزّبير لمّا قطع ذكر رسول الله (ص) من الخطبة ، لامهُ النّاس ، فقال : إنّ له اُهيلَ سوءٍ ، إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم فاُحبّ أنْ أكبتهم. وعاتبه قوم من خاصّته على ذلك ، فقال : ما تركته علانيّة إلاّ وأنا أقوله سرّاً ، ولكنّي رأيت بني هاشم إذا سمعوا ذكره ، أشرأبّوا واحمرّت ألوانهم وطالت رقابهم ، والله ، ما كنت آتي لهم سروراً وأنا اقدر عليه ... إلى أنْ قال : بيت سوء لا أوّل لهم ولا آخر. فبلغ ذلك ابن عبّاس ، فخرج مغضباً ومعه ابنه حتّى أتى المسجد ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على رسوله (ص) ، ثمّ قال : أيّها النّاس ، إنّ الزّبير يزعم أنّه لا أوّل لرسول الله (ص) ولا آخر ، فيا عجباً كلّ العجب لافترائه وكذبه! إنّ أوّل مَن أخذ الإيلاف وحمى عِيرَ قريشٍ لهاشم ، وإنّ أوّل مَن سقى بمكة عَذِباً ، وجعل باب الكعبة ذهباً لعبد المطلب ، والله ، لقد نشأت ناشئتنا مع ناشئة قريش ، وإنّا كنّا لقالتهم إذا قالوا ، وخطباءهم إذا خطبوا ، وما عُدّ مجدٌ كمجد أوّلنا ، ولا كان في قريش مجد لغيرنا ؛ لأنّها كانت في كفر ماحق ودين فاسق ، وضلة وضلالة ، في عشواء عمياء حتّى اختار الله لنا نوراً ، وبعث لنا سراجاً ، فانتجبه طيّباً من طيّبين ، فكان أحدَنا وولدَنا ، وعمَّنا وابنَ عمّنا. ثمّ إنّ أسبق السابقين إليه منّا ابن عمنّا ، ثُمّ تلاه في السّبق أهلنا ولحمتنا ، واحداً بعد واحد ، ثمّ إنّا لَخير النّاس بعده ؛ أكرمهم أدباً ، وأشرفهم حسباً ، وأقربهم منه رحماً. وأعجباً كلّ العجب لابن الزّبير! يَعيب بني هاشم ، وإنّما شرُفَ هو وأبوه وجدّه بمصاهرتهم! أما والله ، إنّه لمسلوب قريش ، ومتى كان العوّام بن خويلد يطمع في صفيّة بنت عبد المطلب؟ قيل للبغل : مَن أبوك؟ فقال : خالي الفرس. ثمّ نزل. وخطب ابن الزّبير بمكّة ، وابن عباس تحت المنبر ، فقال : إنّ ههنا رجلاً قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره ؛ يُفتي في القملة والنّملة ، وقد قاتل اُمّ المؤمنين وحواري رسول الله (ص). فقال ابن عباس لقائده :

٤٤٤

استقبل بي وجه ابن الزّبير ، وارفع من صدري ـ وكان قد كُفّ بصرُه ـ. فاستقبل به وجهه ، فحسر عن ذراعيه ، ثمّ قال : يابن الزّبير :

قدْ أنصفَ القارَةَ مَنْ رامَاهَا

إنّا إذا ما فئةً نلقاهَا

نردُّ اُولاهَا على اُخراهَا

حتّى تصيرَ حَرضاً دَعْواها

فأمّا العمى ، فإنّ الله تعالى يقول : (فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى‏ الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَي الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُور) وأمّا فُتياي في القملة والنّملة ، فإنّ فيهما [حكمين] لا تعلمهما أنت ولا أصحابك ؛ وأمّا قتالنا اُمّ المؤمنين ، فبنا سُمّيت اُمّ المؤمنين ، لا بك ولا بأبيك ، فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مدّه الله عليها ، فهتكاه عنها ، ثمّ اتخذاها فتنة يقاتلان دونها ، وصانا حلائلهما ، فلا أنصفا الله ولا محمّداً من أنفسها ؛ إذ أبرزا زوجة نبيّهما وصانا حلائلهما. وأمّا قتالنا إيّاكم ، فإنّا لقيناكم زحفاً ، فإنْ كنّا كفّاراً ، فقد كفرتم بفراركم منّا ، وإنْ كنّا مؤمنين ، فقد كفرتم بقتالكم إيّانا. وأيَم الله ، لولا مكان صفيّة فيكم ، ومكان خديجة فينا ، لَمَا تركت لبني أسد بن عبد العُزّى عظماً إلاّ كسرتُه. فقال في ذلك أيمن بن خريم الأسدي :

يا بنَ الزُّبيرِ لقدْ لاقيتَ بائقةً

من البوائقِ فالطُفْ لُطفَ مُحتالِ

لاقيْتهُ هاشميّاً طاب مَنْبتُهُ

في مغرسيهِ كريمَ العمِّ والخالِ

ما زالَ يقرعُ منكَ العظْمَ مُقتَدِراً

على الجوابِ بصوتٍ مُسمعٍ عالي

حتّى رأيتُكَ بينَ النّاسِ مُحتَجِراً

خلفَ الغبيطِ وكُنتَ الباذخَ العالي

إنّ ابنَ عبّاسٍ المعْرُوفُ حكمتُهُ

خيرُ الأنامِ له حالٌ مِنَ الحالِ

لمّا رماكَ على رُسلٍ بأسْهُمِهِ

جرتْ عليكَ كسوفُ الحالِ والبالِ

واعلمْ بأنّكَ إنْ عاودْتَ عيبتَهُ

عادَتْ عليكَ مخازٍ ذاتِ أذيالِ

فرحم الله ابن عبّاس ، فلقد كان من علماء بني هاشم وخطبائهم ، وله مواقف مشهورة ، ومقامات معدودة في نُصرة أمير المؤمنين (ع) وولده ، والذبّ عن حوزة الحقّ ، وفي المناظرة والاحتجاج مع عائشة اُمّ المؤمنين بالبصرة ، ومع أهل النّهروان ، ومع معاوية وابن العاص وابن الزّبير وغيرهم. وكان أمير المؤمنين (ع) يبعثه في المهمات ، واختاره للحكومة يوم الحكمين فأبى أهل العراق ، وكان تلميذ أمير المؤمنين (ع) وبه تخرّج ومنه تعلّم ، وكان مُخلصاً في ولائه وولاء ذرّيّته. ولمّا حضرته الوفاة ، قال : اللهمّ ، إنّي أتقرّب إليك بولائي لعلي بن أبي طالب (ع).

٤٤٥

وكان يمسك بركاب الحسنين عليهما‌السلام حتّى يركبا ، ويقول : هُما ولدا رسول الله (ص). وقال له معاوية لمّا قُبض الحسن (ع) : أصبحت سيّد بني هاشم. فقال : أما وأبو عبد الله حيّ فلا. ولمّا عزم الحسين (ع) على الخروج إلى العراق ، جاءه عبدالله بن عباس فنهاه عن الخروج ، فقال (ع) : «أستخير الله وانظر ما يكون». ثمّ أتاه مرّة ثانية فأعاد عليه النَهي ، وقال : إنْ أبيت إلاّ الخروج فاخرج إلى اليمن. فقال الحسين (ع) : «يابن عمّ ، والله ، إنّي لأعلمُ أنّك ناصحٌ مشفق ، وقد ازمعتُ وأجمعت المسير». فخرج ابن عبّاس ومرّ بابن الزّبير ، وأنشد :

يا لكِ منْ قُبَّرةٍ بمَعْمَرِ

يا لكِ منْ قُبَّرةٍ بمَعْمَرِ

ونقِّري ما شِئْتِ أنْ تُنقِّري

هذا حسينٌ خارجٌ فأبشِري

ثُمّ أتاه هو وابن الزّبير ، وأشار عليه بالإمساك عن المسير إلى الكوفة ، فقال لهما : «إنّ رسول الله (ص) قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه». فخرج ابن عبّاس ، وهو يقول : وا حُسيناه! ولمّا دعاه ابن الزّبير ـ بعد قتل الحسين (ع) ـ إلى بيعته فامتنع ، وكتب إليه يزيد يشكره على ذلك ، ويَعدُه البرّ والصّلة ، كتب ابن عبّاس إلى يزيد ذلك الكتاب العظيم ، الذي يقول من جملته : إنّك تسألني نصرتك وقد قتلتَ حسيناً (ع) وفتيان عبد المطّلب مصابيح الهدى ونجوم الأعلام ، غادرتْهم خيولك بأمرك في صعيد واحد ، مرمّلين بالدّماء ، مسلوبين بالعراء ، لا مُكفّنين ولا موسّدين ، تسفي عليهم الرياح وتنتابهم عرج الضّباع ، وما أنسى من الأشياء فلستُ بناسٍ طردك حسيناً (ع) من حرم رسول الله (ص) إلى حرم الله ، وتسييرك إليه الرجال لتقتله في الحرم. ألا وإنّ من أعجب الأعاجيب ، وما عسى أنْ أعجب ، حملك بنات عبد المطّلب وأطفالاً صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب.

نصرتَ ابنُ عبّاسٍ حسينَ بنَ فاطمٍ

بحدِّ لسانٍ ما عنْ السّيفِ يَنقصُ

دعتْكَ إليه شِيمةٌ هاشميّةٌ

فحقّاً لأنتَ الهاشميُّ المُخلَصُ

٤٤٦

المجلس السّابع والثمانون بعد المئة

روى المُرزُباني : أنّ عبد الله بن العبّاس ـ رضي الله عنه ـ مرّ بمكّة ـ بعدما كُفّ بصره ـ بصفة زمزم ، وإذا قوم من أهل الشام يسبّون عليّاً (ع) ، فوقف عليهم ، فقال : أيّكم السّاب الله؟ قالوا : سبحان الله! ما فينا أحد سبّ الله. قال : فأيّكم السّاب رسول الله (ص)؟ قالوا : سبحان الله! ما فينا أحد سبّ رسول الله (ص). قال : فأيّكم السّاب علي بن أبي طالب (ع)؟ قالوا : أمّا هذا فقد كان. قال : أشهد على رسول الله (ص) لسمعتُه يقول : «مَن سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومَن سبّني فقد سبّ الله ، ومَن سبّ الله أكبّه الله على منخره في نار جهنّم». ثمّ توّلى عنهم. فقال لابنه : كيف تراهم؟ فقال له ابنه :

نَظَرُوا إليك بأعْينٍ مُحمرَّةٍ

نظرَ التّيوسِ إلى شفارِ الجازِرِ

فقال لابنه : زدني. فقال :

خزرُ العُيونِ نواكسٌ أبصارُهُمْ

نظًرُ الذَّليلِ إلى العزيزِ القاهِرِ

فقال له : زدني. فقال : ليس عندي زيادة. فقال عبد الله :

أحياؤُهُمْ عارٌ على أمواتِهمْ

والميِّتونَ مسبَّةٌ للغابِرِ

وكان ابن عباس ـ رحمه الله ـ مبرّزاً في الفقه والتفسير ، والشعر والأنساب ، وأيام العرب ووقائعها ، وكان يُسمّى الحَبْر ؛ لكثرة علمه ، وكان فصيحاً قوي الحُجّة ، ثابت الجنان ، وله مواقف مشهورة في ذلك مع معاوية وعبد الله بن الزّبير وعائشة ، ومع الخوارج وغيرهم ، وشهد مع أمير المؤمنين (ع) حروب الجمل وصفّين والنّهروان. وأراد علي (ع) أنْ يختاره يوم الحكمين ، فلمْ يمكّنه أهل العراق

٤٤٧

من ذلك. ونظر إليه معاوية يوماً ، وهو يتكلم ، فقال : متمثّلاً :

إذا قالَ لَمْ يتْرُكْ مقالاً لقائلٍ

مُصيبٍ ولَمْ يَثنِ اللّسانَ على هُجرِ

يُصرِّفُ بالقولِ اللّسانَ إذا انْتَحَى

وينظرُ في أعْطَافِهِ نَظَرَ الصَّقْرِ

وكُفّ بصره في آخر عمره ، فقال :

إنْ يأخذْ اللهُ منْ عينيَّ نُورَهُمَا

ففي لسانِي وقَلبِي منهُما نُورُ

قلبِي ذكيٌّ وعقلي غيرُ ذي دَخَلٍ

وفي فمي صارمٌ كالسَّيفِ مأثُورُ

وهو الذي كتب إلى يزيد بن معاوية ـ بعد قتل الحسين (ع) ـ ذلك الكتاب العظيم ، وذلك أنّ عبد الله بن الزّبير ـ بعد قتل الحسين (ع) ـ دعا ابن عبّاس إلى بيعته ، فامتنع ، فظنّ يزيد أنّ امتناعه تمسك منه ببيعته ، فكتب إليه كتاباً يشكره فيه على ذلك ، ويَعده البرّ والصلة. فأجابه ابن عبّاس بكتاب يقول فيه : أتراني ناسياً لك قتل الحسين بن علي عليهما‌السلام وفتيان بني عبد المطلب ، مضرَّجين بالدماء ، مسلوبين بالعراء ، تسفي عليهم الرياح وتنتابهم الذئاب والضّباع حتّى أتاح الله لهم قوماً أجنوهم. ومهما نسيتُ فما أنسى لك طرد الحسين (ع) من حرم الله ، وكتابك إلى ابن مرجانة أنْ يتلّقاه بالجيوش طمعاً في قتله. وإنّي لأرجو أنْ يأخذك الله حين قتلت ذرّيّة نبيّه (ص) ، [الذين] أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، لا كآبائك الأجلاف الجفاة ، أشباه الحمير. فطلب إليكم الحسين (ع) الموادعة ، فاغتنمتم قلّة أنصاره وأعوانه ، فتعاونتم عليه كأنّكم قتلتم أهل بيتٍ من التُرك.

ولا شيء أعجب عندي من طلبك وُدّي وقد قتلتَ وُلدَ أبي ، وسيفك يقطر من دمي ، وأنت أحد ثأري! فإنْ شاء الله لا يُطلّ لديك دمي ، ولا تسبقني بثأري ، وإنْ سبقتني في الدّنيا فقبل ذلك ما قُتل النبيّون وأبناء النبيّين ، والله الطالب بدمائهم ، وكفى بالله للمظلومين ناصراً ، ومن الظالمين منتقماً. إلى أنْ قال : ألا وإنّ من أعجب العجب ، وما عسى أنْ أعجب ، حملك آل رسول الله (ص) وأطفالاً صغاراً من ولده إليك إلى الشام كالاُسارى المجلوبين ، تُري الأوباش ومَن خرج عن ملّة جدّهم (ص) أنّك قهرتنا وأنك تمنّ علينا ، وبنا مَنّ الله عليك وعلى أبيك! ولَعمر الله ، لئن تُصبح آمناً من جراحة يدي فقد عظّم الله جرحك من لساني ، ونقضي وإبرامي. والله ، ما أنا بآيس من بعد قتلك عترة رسول الله (ص) أنْ يأخذك الله أخذاً أليماً ، ويُخرجك من الدّنيا

٤٤٨

مذموماً مدحوراً ، فعش لا أباً لك ما استطعت ، فقد والله ، أرداك ما اقترفت ، والسّلام على من اتّبع الهدى.

إذا ما ابنُ عبّاسٍ بدَا لكَ وجهُهُ

رأيتَ لهُ في كلِّ أحوالِهِ فَضْلا

إذا قالَ لمْ يتْرُكْ مقالاً لقائلٍ

بمُنتظماتٍ لا ترَى بينَها فَصْلا

كفَى وشفَى ما في النُّفوسِ فلَمْ يدعَ

لذي إربةٍ في القولِ جدَّاً ولا هَزْلا

٤٤٩

المجلس الثامن والثمانون بعد المئة

قال الله تعالى في كتابه العزيز : (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً) قال السّيوطي في كتاب الدرّ المنثور في تفسير كتاب الله بالمأثور : أخرج ابن جَرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن اُمّ سلمة ـ زوج النّبي (ص) ـ أنّ رسول الله (ص) كان ببيتها على منامة له ، عليه كساء خيبري ، فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة. وفي رواية للطبراني : جاءت فاطمة عليها‌السلام إلى أبيها بثريدة تحملها في طبق لها حتّى وضعتها بين يديه ، فقال (ص) لها : «أين ابنُ عمِّك؟». قالت : «هو في البيت». قال (ص) : «اذهبي ، فادعيه وابنيك حسناً وحسيناً». فجاءت تقود ابناها ، كلّ واحد منهما في يد ، وعليٌّ يمشي في إثرهما حتّى دخلوا على رسول الله (ص) ، فاجلسهما في حجره ، وجلس علي (ع) عن يمينه ، وجلست فاطمة عليها‌السلام عن يساره. فبينما هم يأكلون ، إذ نزلت على رسول الله (ص) : (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً) فأخذ النّبي (ص) بفضلة إزاره فغشاهم إيّاها ، ثمّ أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السّماء ، ثمّ قال : «هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي ، فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً». قالها ثلاث مرات. قالت اُمّ سلمة : فأدخلت رأسي في السّتر ، فقلت : يا رسول الله ، وأنا معكم؟ قال (ص) : «إنّك إلى خير». مرّتين. وفي رواية : فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبه من يدي ، وقال (ص) : «إنّك إلى خير». وفي رواية : قالت اُمّ سلمة : فأنا معكم يا رسول الله؟ قال (ص) : «أنت مكانك ، وإنّك على خير». قال : وأخرج ابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري قال : لمّا دخل علي بفاطمة عليهما‌السلام ، جاء النّبي (ص) أربعين صباحاً إلى بابها ، يقول : «السّلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته. الصلاة رحمكم الله ، إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً. أنا حربٌ لمَنْ حاربتم ، وأنا سلمٌ لمَنْ سالمتم». قال : وأخرج ابن جرير وابن مردويه ، عن أبي الحمراء: حفظت من رسول الله (ص) ثمانية أشهر بالمدينة ، ليس من مرّة يخرج إلى صلاة

٤٥٠

الغداة إلاّ أتى إلى باب علي (ع) ، فوضع يده على جنبتي الباب ، ثمّ قال (ص) : «الصلاة الصلاة! إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً». قال : وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عبّاس [قال] : شهدنا رسول الله (ص) تسعة أشهر ، يأتي كلّ يوم باب علي بن أبي طالب (ع) وقت كلّ صلاة ، فيقول (ص) : «السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ، إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً. الصلاة رحمكم الله». كلّ يوم خمس مرّات. وفي أصحاب الكساء ، يقول الشاعر مخاطباً أمير المؤمنين (ع) :

أنتَ ثاني ذَوي الكِساءِ ولَعمْري

أفضلُ الخلقِ مَن حواهُ الكِساءُ

قال آخر :

يُزاحمُهُ جبْريلُ تحتَ عباءةٍ

لها قيلَ : كلُّ الصَّيدِ في جانبِ الفرَا

وفيهم يقول المؤلّف :

وكانَ لهُمْ جبريلُ في الفضلِ سادِساً

وهُمْ خمسةٌ مِنْ فوقِهمْ مُدَّتْ العَبا

وفيهم يقول الآخر :

ذُرِّيَّةٌ مثلُ ماءِ المُزنِ قدْ طَهُرُوا

وطُهِّروا فصفتْ أخلاقُ ذاتِهمُ

وكفى شرفاً وفضلاً لأهل البيت عليهم‌السلام نزول آية الطهارة فيهم ، شرف ما فوقه شرف ، وفضل لا يُدانيهِ فضل. فالويل ثمّ الويل لاُمّة أخّرتهم عن مقامهم! ودفعتهم عن مراتبهم التي رتَّبهم الله فيها! وظلمتهم وقتلتهم! فمضى أمير المؤمنين علي (ع) شهيداً بالسّيف في محرابه ، ومضت زوجتُه البضعة الزهراء ، سيّدة النّساء ، حزينة كئيبة مغضبة ، لَمْ تُرَ بعد وفاة أبيها ضاحكةً ولا كاشرةً :

وهيَ العُرْوةُ التي ليسَ ينجُو

غيرُ مُسْتعصمٍ بحبلِ وَلاهَا

لمْ يَرَ اللهُ الرِّسالةَ أجراً

غيرَ حفظِ الزَّهراءِ في قُرباهَا

فَمَضتْ وهيَ أعظمُ النّاسِ وجْدَاً

في فمِ الدَّهرِ غصةً منْ جواهَا

وثوَتْ لا يَرى لها النّاسُ مثوىً

أيُّ قُدسٍ يضمُّهُ مثْواهَا

ومضى ولداها الحسن والحسين عليهما‌السلام ، ريحانتا رسول الله (ص) وسيّدا شباب أهل

٤٥١

الجنة ، أحدهما شهيداً بالسُمّ ، ومُنع من دفنه عند جدّه (ص) ، ومضى أخوه الحسين شهيداً بالسّيف ، غريباً ظامياً بأرض كربٍ وبلاءٍ ، وسُبيت عيالُه وأطفالُه ، وداروا برأسه في البلدان مِنْ فوق عالي السّنان.

ليسَ هذا لرسولِ اللهِ يا

اُمَّةَ الطُّغيانِ والبغْي جَزَا

فَعلْتُم ْبأبناءِ النَّبيِّ ورهطِهِ

أفاعيلَ أدْناهَا الخيانةُ والغدْرُ

٤٥٢

المجلس التاسع والثمانون بعد المئة

روى مسلم في (صحيحه) ، وأحمد بن حنبل في (مسنده) بسنديهما ، عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله (ص) فينا خطيباً بماء يُدعى : خماساً ، بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ، ثمّ قال (ص) : «أمّا بعد ، أيّها النّاس ، فإنّما أنا بشر يوشك أنْ يأتيني رسول ربّي فاُجيب ، وأنا تاركٌ فيكم ثِقْلين ؛ أوّلهما كتاب الله فيه الهدى ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به». فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثمّ قال (ص) : «وأهل بيتي ، اُذكّركم الله في أهل بيتي! اُذكّركم الله في أهل بيتي! اُذكّركم الله في أهل بيتي!». فقال الراوي : ومَن أهل بيته يا زيد؟ نساؤه من أهل بيته؟ فقال : لا ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. وروى مسلم حديث الثقلين بثلاثة طرق اُخرى ، وفي أحدهما قلنا : منْ أهل بيته نساؤه؟ قال : لا ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثمّ يُطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصلُه وعصبته. وأخرج أحمد بن حنبل في (مسنده) حديث الثقلين بعدّة طرق ، عن النّبي (ص) أنّه قال : «إنّي قد تركتُ فيكم ما إنْ أخذتم به ـ أو تمسكتم به ـ لنْ تضلَوا بعدي ، الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ؛ كتاب الله عزَّ وجل حبلٌ ممدودٌ من السّماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لَنْ يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا بِمَ تُخلّفوني فيهما؟» أو «كيف تُخلّفوني فيهما؟». دلّت هذه الأحاديث على عصمة أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنّه عليه الصلاة والسّلام أوجب التمسك بالعترة كما أوجب التمسك بالكتاب ، وأخبر أنّ المتمسك بهما لنْ يضلّ ، وأنّهما لنْ يفترقا ، فلا يفارق الكتاب العترةَ ، ولا تفارق العترةُ الكتابَ إلى يوم القيامة ، ولا يكون ذلك إلاّ مع عصمة العترة. فدلّ على أنّ المراد بالعترة : ليس جميع بني هاشم ؛ لأنّ كثيراً منهم تصدر منهم الذنوب ، ويفارقون القرآن ، فالمتمسك بهم لا يأمن من الضلال ، بل هم الأئمة الاثنا عشر ؛ للاتّفاق على عدم عصمة غيرهم من بني هاشم. وقد دلّ قوله (ص) : «أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض». على وجود إمام معصوم من العترة في كلّ زمان ، ولا

٤٥٣

توجد هذه الصفة في غير الأئمة الاثني عشر بالاتّفاق. ولشدّة اهتمام النّبي (ص) بأهل بيته ، وتخوّفه من أنْ لا تقوم الاُمّة بواجب حقّهم ، كرّر قوله : «اُذكّركم الله في أهل بيتي» ثلاثاً. وقال (ص) : «فانظروا بِمَ تُخلّفوني فيهما؟». أنا اُخبرك يا رسول الله بما خلّفتك الاُمّة في أهل بيتك : قتلوا وصيَّك وصهرك وابن عمّك عليّاً (ع) ، وهو في محرابه بعدما دفعوه عن حقّه ، وحاربوه وجرّعوه الغصص ، وسمّوا ولدك الحسن (ع) حتّى تقيّأ كبده في الطست ، وقتلوا ولدك الحسين (ع) أفظع قتلةٍ وأفجعها ، وسبوا ذرّيّتك وبناتك على أقتاب الجمال من بلد إلى بلد حتّى صار جلساء يزيد يطلبون منه بعض بنات النّبوّة أنْ تكون خادمة لهم ؛ وحتى قال له طغام أهل الشام لمّا استشارهم ما يصنع بأهل بيتك؟ قالوا ممّا لا يطيق اللسان النّطق به. وحُملت رؤوس أبنائك وذرّيّتك على الرماح ، وجعل ابن مرجانة وابن هند ينكتان ثغر ولدك الحسين (ع) ، الذي طالما قبّلته وشممته ، بالخيزران.

جاشَتْ على آلهِ ما ارتاحَ واحدُهُمْ

منْ قهرِ أعداه حتّى ماتَ مَقْهُورا

قضَى أخوهُ خضيبَ الرأسِ وابْنتُهُ

غَضْبَى وسبطاهُ مَسْموماً ومنْحُورا

٤٥٤

المجلس التسعون بعد المئة

قال ابن حجر في (صواعقه) : جاء من طرق عديدة كثيرة يقوّي بعضُها بعضاً ، عن النّبي (ص) أنّه قال : «إنّما مثل أهل بيتي فيكم ـ أو مثل أهل بيتي فيكم ـ كمثل سفينة نوح ، مَن ركبها نجا». وفي رواية مسلم : «ومَن تخلّف عنها غرق». وفي رواية : «هَلك». وأنّه قال : «إنّما مثل أهل بيتي فيكم ـ أو مثل أهل بيتي ـ مثل باب حطّة في بني إسرائيل ، مَن دخله غُفر له». وروى ابن حجر في (صواعقه) عن أحمد بن حنبل وغيره ، عن النّبي (ص) أنّه قال : «النّجوم أمانٌ لأهل السّماء ، إذا ذهبت النّجوم ذهبوا ، وأهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض ، إنْ ذهب أهلُ بيتي ذهب أهل الأرض». وقال ابن حجر : إنّه صحّ عن النّبي (ص) أنّه قال : «النّجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمانٌ لاُمّتي من الاختلاف». ولله در القائل :

هُمُ السَّفينةُ فازَ الرَّاكبُونَ بهَا

ومَنْ تخلَّفَ عنها ضلَّ في تَيهِ

وقد ورد في عدّة روايات ، عن النّبي (ص) أنّه قال : «إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسكتم به لنْ تضلّوا بعدي ، الثقلين ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا بما تُخلّفوني فيهما؟» أو «كيف تُخلّفوني فيهما؟». أنا اُخبرك يا رسول الله ، إنّ اُمّتك لم يُخلّفوك بخير في عترتك وأهل بيتك ، تركوهم بين قتيل وشريد ، وأعظم ما فعلوه يا رسول الله ، قتلهم ولدك الحسين (ع) ، ونساؤه ينظُرنّ إليه ، بعد أنْ منعوه من ماء الفرات الجاري ، تشربه اليهود والنّصارى ، وتلِغ فيه خنازير السّواد وكلابه ، وحملوا أبناءك ونساء أهل بيتك سبايا على أقتاب المطايا من بلد إلى بلد.

فَعلْتُم ْبأبناءِ النَّبيِّ ورهطِهِ

أفاعيلَ أدْناهَا الخيانةُ والغدْرُ

فجئتُمْ بها بكراً عواناً ولمْ يكنْ

لها قبلَها مَثلاً عونٌ ولا بكرُ

٤٥٥

المجلس الحادي والتسعون بعد المئة

ينبغ في الأزمان على تعاقبها نوابغ يمتازون عن سائر أهل زمانهم ، ولكن هؤلاء النوابغ متفاوتون في نبوغهم وصفاتهم التي ميّزتهم عمّن سواهم ، سُنّة الله في خلقه. ومهما تكثّر النابغون في الأزمان المتطاولة ، فنابغة الإسلام ، بل نابغة الكون المتفرّد في صفاته الفاضلة ومزاياه الكاملة ، في علمه وحلمه ، وسياسته وعدله ، وفصاحته وبلاغته ، وشجاعته وإقدامه ، وجهاده وصبره ، وجلده وقوته ، وأيده وزهده ، وعبادته واجتماع محاسن الأضداد فيه ؛ هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، ربيب رسول الله (ص) أكمل الخلائق ، وخرّيجُه.

ذات علي (ع) ذاتٌ فذّة ، يعسر أو يمتنع على الإنسان ، مهما أطال ومهما دقّق ، أنْ يُحيط بجميع ما فيها من سموٍّ وتميّز على سائر الخلق. ومهما حاول الإنسان أنْ يُحيط بجميع صفاته قعد به العجز ، واستولى عليه البهر ، ولكن لا يُترك الميسور بالمعسور.

نشأ علي (ع) في حجر رسول الله (ص) ، وتأدّب بآدابه ورُبّي بتربيته ، وسبق النّاس إلى الإسلام.

بُعث النّبي (ص) يوم الاثنين ، وأسلم عليٌّ (ع) يوم الثلاثاء ، ثمّ أسلمت خديجة ، وأقام مع النّبي (ص) بعد البعثة ثلاثاً وعشرين سنة ، منها : ثلاث عشرة سنة في مكّة قبل الهجرة ، مشاركاً له في مِحنه كلّها ، متحملاً عنه أكثر أثقاله ، وعشر سنين بالمدينة بعد الهجرة يُكافح عنه ويُجاهد دونه ، وقتل الأبطال ، وضرب بالسيف بين يدي رسول الله (ص) ، وهو بين العشرين إلى الخمس والعشرين سنة. هاجر إلى المدينة في المهاجرين الأوّلين ، وشهد بدراً واُحداً ، والخندق وبيعة الرّضوان ، وجميع المشاهد مع

٤٥٦

رسول الله (ص) إلاّ تبوك ، وله في الجميع بلاء عظيم وأثر لم يكن لأحد من النّاس.

وإذا نظرنا إلى علمه ، وجدناه العالم الربّاني الذي يقول على ملاء من النّاس : «سلوني قبل أنْ تفقدوني». ومَن ذا الذي يجرؤ من النّاس أنْ يقول هذا الكلام ، فوق المنبر ، على حشدٍ من اُلوف الخلق؟ وما يُؤمنه أنْ يسأله سائل سؤالاً لا يكون عنده جوابه فيخجله فيه ، لا يجرؤ على هذا القول إلاّ مَن يكون واثقاً من نفسه بأنّ عنده جواب كلّ ما يُسأل عنه. وهل تنحصر المسألة في علم من العلوم ، أو ناحية من النّواحي حتّى يجرؤ أحد على هذا القول ، لا يكون مؤيَّداً بتأييد إلهي ، وواثقاً من نفسه كلّ الوثوق بأنّه لا يغيب عنه جواب مسألة مهما دقّت واُشكلت؟ إنّ هذا المقام يقصر العقل عن الإحاطة به. ويُسأل ، وهو على المنبر ، عن مسافة ما بين المشرق والمغرب ، فيُجيب بـ «إنّه مسير يوم للشمس». ويُسأل عمّا بين الحقّ والباطل ، فيقول : «مسافة أربع أصابع ؛ الحقّ أنْ تقول رأيت بعيني ، والباطل أنْ تقول سمعت باُذني». ويُسأل عن رجلين جلسا يتغدّيان ، ومع أحدهما خمسة أرغفة ، ومع الآخر ثلاثة. فجلس معهما رجل وأكلوا الأرغفة الثمانية ، فطرح إليهما الرجل ثمانية دراهم عوضاً عمّا أكل. فقال صاحب الخمسة الأرغفة : لي خمسة دراهم ولك ثلاثة. فقال صاحب الثلاثة الأرغفة : لا أرضى إلاّ أنْ تكون الدراهم بيننا نصفّين. فيحكم علي (ع) : «إنّ لصاحب الثلاثة درهماً واحداً ، ولصاحب الخمسة سبعة دراهم» ؛ وذلك لأنّ الثمانية الأرغفة : أربعة وعشرون ثُلثاً ، لصاحب الثلاثة منها تسعة أثلاث ، أكل منها ثمانية وأكل الضيف واحداً ، ولصاحب الخمسة خمسة عشر ثُلثاً ، أكل منها ثمانية وأكل الضيف سبعة. فهذه المسألة لو أجاب عنها أمهر رجل في الحساب بعد طول الفكرة والرويّة ، وأصاب فيها ، لكان له الفخر. ويُؤتى عمر بن الخطاب بامرأة ولدت لستّة أشهر ، فيهّم برجمها ، فيقول له علي (ع) : «إنْ خاصمتك بكتاب الله خصمتك ؛ إنّ الله تعالى يقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً). ويقول : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ). فإنْ كانت مدّة الرّضاعة حولين كاملين ، والحمل والفصال ثلاثون شهراً ، كان الحمل فيها ستّة أشهر». فخلّى عمر سبيلها ، وثبت الحكم بذلك ، فعمل به الصحابة والتابعون ، ومَن أخذ عنهم إلى يومنا هذا.

ويُؤتى عمر بمجنونة زنت ، فيأمر بجلدها الحدّ ، فيقول له علي (ع) : «إنّ النّبي (ص) قد رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق». فيقول عمر : فرّج الله عنك ، لقد كدتُ

٤٥٧

أهلك في جلدها.

ويُؤتى عمر بحامل قد زنت ، فيأمر برجمها ، فيقول له علي (ع) : «هبْ أنّ لك سبيلاً عليها ، أي سبيل لك على ما في بطنها؟ احتط عليها حتّى تلد ، فإذا ولدت ، ووجدت لولدها مَن يكفّله ، فأقم عليها الحدّ». فيقول عمر : لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن.

ويجيء أبو الأسود الدُّؤلي فيُخبره بأنّه سمع مَن يُلحن في القرآن ، فيضع له أصول النّحو في كلمات معروفة ، ويقول له : «انحُ هذا النّحو». فيزيد عليها أبو الأسود ، وتُضبط لغة العرب بعلم النَّحو إلى اليوم.

وإذا نظرنا إلى شجاعته ، وقد ضُربت بها الأمثال ، وجدنا أنّه باشر الحرب وعمره عشرون سنة أو فوقها بقليل ، وظهرت شجاعته الخارقة في مبيته على الفراش ليلة الغار ، والنّفر من قريش محيطون بالدار ليفتكوا بمَن في الفراش ، وظهرت شجاعته الخارقة أيضاً لمّا سار بالفواطم عند الهجرة ، وليس معه إلاّ أيمن بن اُمّ أيمن وأبو واقد الليثي ، فلحقه سبعة فرسان من قريش أمامهم جناح مولى حرب بن اُميّة ، فأهوى إليه جناح بالسّيف ، وهو فارس وعلي راجل ، فحاد علي (ع) عن ضربته ، وضربه لمّا انحنى على كتفه فقطعه نصفّين حتّى وصلت الضربة إلى قربوس فرسه ، وانهزم الباقون. وقتل يوم بدر الوليد بن عتبة ، وشرك في قتل عتبة ، وقتل جماعة من صناديد المشركين حتّى رُوي أنّه قتل نصف المقتولين. وفي يوم أحد قتل أصحاب اللواء ، وهم سبعة. ولمّا فرّ المسلمون ، ثبت فيمن ثبت مع النّبي (ص) يحامي عنه ، وكلّما شدّ جماعة على النّبي (ص) ، تقدّم إليهم فقاتلهم وقتل فيهم. وفي يوم الخندق بارز عمرو بن عبد ود بعدما جبن عنه النّاس جميعاً ، وانهزم المشركون بقتله. وفي يوم خيبر قتل مرحباً وهزم اليهود ، واقتلع الباب وفتح الحصن ، وكان الفتح على يديه.

وفي جميع الوقائع والغزوات كان له المقام الأسمى في الشجاعة والثبات. وفي يوم الجمل وصفّين والنّهروان باشر الحرب بنفسه ، وقتل صناديد الأبطال وجدّل أبطال الرجال ، ولم يهرب في موطن قط. وكانت ضرباته وتراً ، إذا علا قدَّ ، وإذا اعترض قطَّ. ولم يُبارز قَرناً فسلم القرن منه ، ولا دُعي إلى مبارزة فنكل ، وهذا كلّه من الاُمور العجيبة التي لمْ تتفق لغير علي بن أبي طالب (ع). وشجاعته ملحقة بالبديهات ، يقبح بالإنسان إطالة الكلام فيها ، وإكثار الشواهد عليها.

٤٥٨

وإذا نظرنا إلى حلمه ، كفانا لإثبات بلوغه أعلى درجات الحلم حلمه عن أهل الجمل عموماً ، وعن مروان بن الحكم وعبد الله بن الزّبير خصوصاً ، وشدّة عداوتهما له معلومة ، وإيصاؤه جيوشه بأنْ لا يتبعوا مُدبراً ، ولا يجهزوا على جريح ، وعدم منعه الماء لعسكر معاوية يوم صفّين لمّا استولى عليه بعدما منعوه منه.

وإذا نظرنا إلى عدله لمْ نجد له نظيراً. وفي (الإستيعاب) : إنّه كان إذا ورد عليه مال لمْ يُبقِ منه شيئاً إلاّ قسّمه ، ولا يترك في بيت المال منه إلاّ ما يعجزعن قسمته في يومه ذلك ، ولمْ يكن يستأثر من الفيء بشيء ، ولا يخصّ به حميماً ولا قريباً ، ولا يخصّ بالولايات ألاّ أهل الديانات والأمانات ، واذا بلغه عن أحدهم خيانة ، كتب إليه : «قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ. أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أذا أتاك كتابي هذا ، فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتّى نبعث إليك مَن يتسلّمه منك».

وإذا نظرنا إلى فصاحته وبلاغته ، وجدناه إمام الفصحاء وسيّد البلغاء ، وحسبُك أنْ يُقال في كلامه : إنّه بعد كلام الرسول (ص) ، فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق.

ويقبح بنا أنْ نُقيم شيئاً من الشواهد والأدلّة على ذلك ؛ فإنّه كإقامة الدليل على الشمس الضاحية.

وليسَ يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ

إذا احتاجَ النَّهارُ الى دليلِ

ولا أدلّ على ذلك ممّا اُثر عنه وجمع من كلامه ، كنهج البلاغة وغيره.

وإذا نظرنا إلى زهده في الدّنيا ، أخذَنا العجب والبهر من رجل في يده الدنيا كلّها ـ عدا الشام ـ ؛ العراق وفارس ، والحجاز ومصر ، وهو يلبس الخشن ويأكل الجشب ؛ مواساة للفقراء ، ويقول «يا دُنيا غرِّي غيري»!

ومِن عجيب أحواله ، إنّه اجتمعت في صفاته الأضداد ، فبينما هو يمارس الحروب ، ويبارز الأقران ويقتل الشجعان ، ومَن تكون هذه صفته لابدّ أنْ يكون قاسي القلب شرس الخُلق ، بينا نراه كذلك ، إذا به أعبد العُبّاد ؛ يقضي ليله بالصلاة والعبادة ، والتضرع والإبتهال والخشوع لله تعالى ، وإذا به أحسن النّاس خُلقاً ، وأرقّهم طبعاً

٤٥٩

وألينهم عَريكة.

لمْ يكن جهاد أمير المؤمنين علي (ع) وحروبه في الإسلام لغاية دنيويّة ؛ من طلب إمارة أو شهرة بين النّاس أو منزلة عندهم. ما كان جهاده ولا كانت حروبه إلاّ نصرة للحقّ ومحاماة عن الدين. ولم يكن زهده في الدنيا طلباً لمدح أو منزلة في قلوب النّاس ، بل إرشاداً للاُمّة إلى ما يُصلحها ، وتعليماً لها ما ينفعها ، كيف لا ، وهو القائل لابن عبّاس في نعل كان يخصفها : «والله ، لهي ـ أي : النعل ـ أحبّ إليّ منْ إمرتكم هذه ، إلاّ أنْ اُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً». لكن هذه الاُمّة لمْ تعرف لعلي (ع) حقّه في جهاده ، ومحاماته عن الدّين في سبيل سعادتها ، وإرشادها إلى ما يُصلحها ، ولمْ تحفظه في أولاده وذرّيّته ، ولمْ ترعَ لهم حرمة من بعده ، فأخّرته عن مقامه ، وآل بها الأمر إلى أنْ قتلته وهو يُصلّي في محرابه ، بيد أشقى الأوّلين والآخرين ؛ عبد الرحمن بن ملجم المرادي. وتركت ولديه من بعده ، سيّدي شباب أهل الجنّة ، بين قتيل بالسُّم ، ومُضرّج بالدّم ، فدسّت إلى ولده الحسن (ع) ، أحد السّبطين والريحانتين ، السُّمَّ على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس حتّى لفظ كبده في الطست قطعاً ، وجهّزت الجيوش إلى أخيه الحسين (ع) ، ثاني السّبطين والريحانتين ، بعدما قدّمت عليه يزيد الخمور والفجور ، اللاعب بالقرود والفهود ، وأحاطت به من كلّ جانب ، ومنعته الذهاب في بلاد الله العريضة ، وقتلت آله وأنصاره ، ومنعته من ورود الماء حتّى قتلته عطشان ظامياً ، وذبحت أطفاله ، وسبت نساءه وعياله :

يا اُمّةً باعتْ بضائعَ ديْنِها

يومَ الطُّفوفِ بخيْبةٍ وشَقاءِ

خانتْ عهودَ محمّدٍ في آلهِ

من بعدِهِ وجزتْهُ شرَّ جزاءِ

٤٦٠