المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

وقالت عائشة لمعاوية حين قتل حِجراً وأصحابه : أما والله ، لقد بلغني أنّه سيُقتل بعذراء سبعة نفر ، يغضب الله لهم وأهل السّماء. قال ابن الأثير : كان النّاس يقولون : أوّل ذلّ دخل الكوفة موت الحسن بن علي ، وقتل حِجر ، ودعوة زياد. وقيل : إنّ حِجراً لمّا قُدّم ليُقتل ، قيل له : مد عنقك. فقال : ما كنتُ لأعين الظالمين. ما أشبه ما جرى لحِجر بما جرى لهاني بن عُروة ، الذي قُتل في حبّ أهل البيت عليهم‌السلام ونصرتهم ؛ فإنّه لمّا جيء به ليُقتل ، قيل له : امدد عنقك. فقال : ما أنا بها سخي ، وما أنا بمعينكم على نفسي. فضربه مولى لعبيد الله بن زياد تركي ، اسمه رشيد ، بالسّيف فلم يصنع شيئاً ، فقال له هاني : إلى الله المعاد. اللهمّ ، إلى رحمتك ورضوانك. ثمّ ضربه اُخرى فقتله.

فإنْ كُنتِ لا تدرينَ ما الموتُ فانظُري

إلى هانئٍ في السّوقِ وابنِ عقيلِ

إلى بطلٍ قدْ هشَّمَ السَّيفُ وجهَهُ

وآخرَ يهوِي منْ طمارِ قتيلِ

تَرَي جسداً قدْ غيَّرَ الموتُ لونَهُ

ونضْحَ دمٍ قدْ سال كلَّ مسيلِ

فتىً كانَ أحَيا منْ فتاةٍ حييَّةٍ

وأقطعَ منْ ذي شفْرَتينِ صَقيلِ

٤٢١

المجلس السّابع والسّبعون بعد المئة

قال المُرزُباني : كان الأحنف بن قيس التميمي ـ رحمه الله ـ من خيار أصحاب علي (ع). روي : أنّ النّبي (ص) أنفذ رجلاً يدعو بني سعد إلى الإسلام ، والأحنف فيهم ، فقال : والله ، إنّه يدعو إلى خير ، وما أسمع إلاّ حسناً ، وإنّه ليدعو إلى مكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها. فذُكر ذلك الرجل للنبيِّ (ص) مقاله ، فقال (ص) : «اللهمّ ، اغفر للأحنف». وكان يقول : هذا منْ أرجى عملي عندي. وحضر عند معاية فتكلّم جلساؤه ، والأحنف ساكت ، فقال له معاوية : ما لك لا تتكلّم يا أبا بحر؟ فقال : أخاف الله إنْ كذبت ، وأخافكم إنْ صدقت. وقال له معاوية مرّة : أنت صاحبنا بصفّين ، ومخذّل النّاس عن اُمّ المؤمنين. فقال : والله ، إنّ قلوبنا التي أبغضناك بها يومئذ لفي صدورنا ، وإنّ سيوفنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن دنوت إلينا شبراً من غدر ، لندنونّ إليك ذراعاً من ختر ، ولئن شئت لتصفونّ لك قلوبنا بحلمك عنّا. قال : قد شئت. وكان عنده يوماً ، إذ دخل رجل من أهل الشام ، فقام خطيباً ، فكان آخر كلامه أنْ سبّ عليّاً (ع) ، فأطرق النّاس ، فتكلم الأحنف وقال مخاطباً لمعاوية : إنّ هذا القائل ما قال لو يعلم أنّ رضاك في شتم الأنبياء والمرسلين لما توقّف عن شتمهم ، فاتّقِ الله ودع عنك عليّاً ؛ فقد لقي ربّه بأحسن ما عمل عامل. كان والله ، المبرّز في سبقه ، الطاهر في خُلُقه ، الميمون النقيبة ، العظيم المصيبة ، أعلم العلماء وأحلم الحلماء ، وأفضل الفضلاء ، ووصي خير الأنبياء. فقال معاوية : لقد أغضيت العين عن القذى ، وقلت بما لا ترى ، وأيَم الله ، لتصعدنّ المنبر فتلعنه طوعاً أو كرهاً. فقال : إنْ تعفيني ، فهو خير لك ، وإنْ تجبرني على ذلك ، فوالله ، لا يجري به لساني أبداً. فقال : لا بدّ أنْ تركب المنبر وتلعن عليّاً. فقال : إذاً والله ، لأنصفنّك وأنصفنّ عليّاً. قال : تفعل ماذا؟ قال : أحمد الله واُثني عليه واُصلّي على نبيّه (ص) ، وأقول : أيها النّاس ، إنّ معاوية أمرني أنْ ألعن عليّاً ، وأنّ عليّاً ومعاوية اقتتلا وادّعى كلّ منهما أنّه كان مبغياً عليه وعلى فئته ، فإذا دعوت فأمّنوا على دعائي ، ثمّ أقول :

٤٢٢

اللهمّ ، العن أنت وملائكتك ، وأنبياؤك ورسلك ، وجميع خلقك ، الباغي منهما على الآخر ، والعن اللهمّ ، الفئة الباغية على الفئة المبغي عليها آمين ربّ العالمين. اللهمّ ، العنهم لعناً وبيلاً ، وجدد العذاب عليهم بكرة وأصيلاً. قال : بل أعفيناك يا أبا بحر. وقال يوماً معاوية لجلسائه : ألستم تعلمون كتاب الله؟ قالوا : بلى. فتلا قوله تعالى : (وَإِن مّن شَيْ‏ءٍ إِلاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومِ) فقال : كيف تلومونني بعد هذا؟ فقام الأحنف ، فقال : ما نلومك على ما في خزائن الله ، إنّما نلومك على ما أنزل الله لنا من خزائنه فأغلقت عليه بابك. فسكت معاوية ولم يحرِ جواباً. هكذا تكون حال المخلصين في ولائهم ، الذين أخذوا على أنفسهم نصرة الحقّ في حالتي الأمن والخوف ، والشدّة والرخاء ، أمثال الأحنف من أهل النفوس الكبيرة والهمم السامية ، وأمثال أنصار الحسين (ع) الذين تلقّوا السيوف والرماح والسّهام بنحورهم ووجوههم وصدورهم ، لم يثنهم عن نصرة الحقّ خوف الردى ، ولم تتغير حالهم في تلك المواقف الرهيبة المخيفة. ولمّا خطبهم الحسين (ع) بكربلاء ، فقال (ع) : «إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ، ولم يبقَ منها إلاّ صُبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألاَ ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً». قام زهير بن القين ، فقال : قد سمعنا ـ هداك الله ـ يابن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النّهوض معك على الإقامة فيها. ووثب نافع بن هلال الجملي ، فقال : والله ، ما كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نياتّنا وبصائرنا نوالي مَن والآك ، ونُعادي مَن عاداك. وقام برير بن خضير ، فقال : والله يابن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا أنْ نقاتل بين يديك ، وتُقطع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدك شفيعنا يوم القيامة. وخطبهم ليلة العاشر من المُحرّم فقال (ع) ـ من جملة خطبته ـ : «ألاّ وإنّي قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يُريدون غيري». فقال له إخوته وأبناؤه ، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن أمير المؤمنين (ع) ، وأتبعه الجماعة عليه ، فتكلّموا بمثله ونحوه. وقام مسلم بن عوسجة الأسدي فقال : أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدو؟! وبمَ نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟! لا والله ، لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، واُضاربهم بسيفي ما

٤٢٣

ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به ، لقذفتهم بالحجارة ولم اُفارقك أو أموت معك. وقام سعيد بن عبد الله الحنفي ، فقال : لا والله يابن رسول الله ، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله إنّا قد حفظنا فيك وصية رسول الله محمّد (ص). والله ، لو علمت أنّي اُقتل فيك ثمّ اُحيا ، ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرّى ، يُفعل فيَّ ذلك سبعين مرّة ، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟! وقام زهير بن القَين ، وقال : والله يابن رسول الله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هولاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك. وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً ، وقالوا : أنفسنا لك الفداء! نقيك بأيدينا ووجوهنا ، فإذا نحن قُتلنا بين يديك ، نكون قد وفّينا لربّنا وقضينا ما علينا.

قَلَّ الصّحابةُ غيرَ أنّ

قليلَهُمْ غيرُ القَليلِ

منْ كلِّ أبيضَ واضحِ الحَسَبينِ

مَعدُومِ المثيلِ

٤٢٤

المجلس الثامن والسّبعون بعد المئة

قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : لم يكن أحد أحبّ إلى معاوية أنْ يلقاه من أبي الطفيل الكناني ، وهو عامر بن وائلة ، وكان فارس أهل صفّين وشاعرهم ، وكان من أخصّ النّاس بعلي (ع). فقدم أبو الطفيل الشام يزور ابن أخ له من رجال معاوية ، فاُخبر معاوية بقدومه ، فأرسل إليه فأتاه ، وهو شيخ كبير ، فلمّا دخل عليه ، قال له معاوية : أنت أبو الطفيل عامر بن وائلة؟ قال : نعم. قال معاوية : أكنت ممّن قتل أمير المؤمنين عثمان؟ قال : لا ، ولكن ممّن شهده فلم ينصره. قال : ولمَ؟ قال : لم ينصره المهاجرون والأنصار. فقال معاوية : أما والله ، إنّ نُصرته كانت عليك وعليهم حقّاً واجباً ، وفرضاً لازماً ، فإذا ضيّعتموه فقد فعل الله بكم ما أنتم أهله ، وأصاركم إلى ما رأيتم. فقال أبو الطفيل : فما منعك يا أمير المؤمنين ، إذ تربّصت به ريب المنون ، أنْ تنصره ، ومعك أهل الشام؟ فقال معاوية : أوَما ترى طلبي لدمه؟! فضحك أبو الطفيل ، وقال : ويلي! ولكنّي وإيّاك كما قال عبيد بن الأبرص :

لأعرِفنّكَ بعدَ الموتِ تنْدبُني

وفي حَياتي ما زَوَّدتَني زادِي

فدخل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحكم ، فلمّا جلسوا نظر إليهم معاوية ، ثمّ قال : أتعرفون هذا الشيخ؟ قالوا : لا. فقال معاوية : هذا خليل علي بن أبي طالب ، وفارس صفّين ، وشاعر أهل العراق ، هذا أبو الطفيل. قال سعيد بن العاص : قد عرفناه ، فما يمنعك منه وشتمه القوم؟ فزجرهم معاوية ، وقال : مهلاً ، فربَّ يومٍ ارتفع عن السُّباب ، قد ضقتم به ذرعاً. ثمّ قال : أتعرف هؤلاء يا أبا الطفيل؟ قال : ما أنكرهم من سوء ، ولا أعرفهم بخير. وأنشد شعراً :

فإنْ تكنْ العداوةُ قدْ أكنَّتْ

فشرُّ عداوةِ المرءِ السُّبابُ

فقال معاوية : يا أبا الطفيل ، ما أبقى لك الدهر من حبّ علي؟ قال : حبّ اُمّ موسى

٤٢٥

وأشكو إلى الله التقصير. فضحك معاوية ، وقال : ولكن والله ، هؤلاء الذين حولك لو سُئلوا عنّي ما قالوا هذا. فقال مروان : أجل ، والله ، لا نقول الباطل. قال : ولا الحقّ تقولون؟ ثمّ جهّزه معاوية وألحقه بالكوفة. وسعيد بن العاص هذا ، هو والد عمرو بن سعيد بن العاص الذي كان والياً على المدينة من قِبل يزيد حين قُتل الحسين (ع) ؛ فلمّا بلغه قتله ، وسمع واعية بني هاشم في دورهم على الحسين (ع) حين سمعوا النداء بقتله ، ضحك وتمثّل بقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :

عجَّتْ نساءُ بني زيادٍ عجَّة

كعجيجِ نسوتُنا غداةَ الأرنَبِ

ثمّ قال عمرو : هذه واعية بواعية عثمان. ثمّ صعد المنبر وخطب النّاس ، وأعلمهم قتل الحسين (ع) ، وقال في خطبته : إنّها لدمَة بلدمة وصدمة بصدمة ، كم خطبة بعد خطبة وموعظة بعد موعظة ، حكمة بالغة فما تُغني النّذر ، والله ، لوددت أنّ رأسه في بدنه وروحه في جسده ، أحياناً كان يسبّنا ونمدحه ، ويقطعنا ونصله كعادتنا وعادته ، ولمْ يكن من أمره ما كان ، ولكن كيف نصنع بمَن سلّ سيفه يريد قتلنا إلاّ أنْ ندفعه عن أنفسنا. فقام عبد الله بن السائب ، فقال : لو كانت فاطمة حيّةً ، فرأت رأس الحسين (ع) لبكت عليه. فجبهه عمرو بن سعيد ، وقال : نحن أحقّ بفاطمة منك ؛ أبوها عمّنا ، وزوجها أخونا ، وابنها ابننا. لو كانت فاطمة حيّةً ، لبكت عينها ، وحرّت كبدها ، وما لامت مَن قتله ودفعه عن نفسه.

وأحالُوا على المقاديرِ في قَتْ

لِكَ لو أنّ عذرَهُمْ مقبولُ

ما أطاعُوا فيكَ النَّبيَّ وقدْ ما

لتْ بأسيافهمْ إليكَ الدُخولُ

٤٢٦

المجلس التاسع والسّبعون بعد المئة

كان خُزيمة بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ من أصحاب رسول الله (ص) الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (ع) ، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد ، وجعل رسول الله (ص) شهادته كشهادة رجلين ؛ فسُمّي : (ذو الشهادتين). شهد مع أمير المؤمنين (ع) الجمل وصفّين واستشهد بين يديه بصفّين. قال المُرزُباني : روي : أنّ ابن أبي ليلى قال : كنت بصفّين ، فرأيت رجلاً أبيض اللحية معتمّاً متلثّماً ، لا يُرى منه إلاّ أطراف لحيته ، يُقاتل أشدّ قتال ، فقلت : يا شيخ ، تُقاتل المسلمين؟! فحسر لثامه ، وقال : أنا خُزيمة ، سمعت رسول الله (ص) يقول : «قاتل مع عليٍّ جميعَ مَن يقاتل». ولخُزيمة :

إذا نحنُ بايَعْنا عليّاً فحسبُنا

أبو حسنٍ ممَّا نخافُ منَ الفِتَنْ

وجدناهُ أولَى النّاسِ بالنّاسِ إنّهُ

أطبُّ قُريشٍ بالكتابِ وبالسُّننْ

وفيه الذي فيهمْ من الخيرِ كلِّهِ

وما فيهمُ بعضُ الذي فيهِ منْ حَسَنْ

وله أيضاً :

ما كنتُ أحسبُ هذا الأمرَ مُنتقلاً

عنْ هاشمٍ ثُمَّ منها عنْ أبي حَسنِ

أليسَ أوّلَ مَنْ صلَّى لقبلتِهمْ

وأعلمَ النّاسِ بالقُرآن والسُّننِ

وآخرَ النّاسِ عَهداً بالنَّبيِّ ومَنْ

جبريلُ عونٌ لهُ في الغُسلِ والكَفَنِ

وفيهِ ما فيهمُ لا يَمتَرون بهِ

وليس في القومِ ما فيهِ منَ الحَسَنِ

ماذا الذي ردَّكُمْ عنهُ فنعلَمُهُ

ها إنَّ بيعتكُمْ منْ أغبنِ الغبَنِ

ها ان ذا غبن من أعظم الغبن خ ل

وعن الأصبغ بن نباتة ، قال : نشد علي (ع) النّاس : «مَن سمع النبيَّ (ص) قال يوم غدير خُمٍّ ما قال إلاّ قام». فقام بضعة عشر رجلاً ، فيهم : أبو أيوب الأنصاري ، وخُزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وسهل بن حنيف الأنصاري وغيرهم ، فقالوا : نشهد إنّا

٤٢٧

سمعنا رسول الله (ص) ، يقول : «ألاَ إنّ الله عزّ وجل وليِّي ، وأنا وليُّ المؤمنين ، ألاَ فمَن كنتُ مولاه ، فعليٌّ مولاه. اللهمّ ، والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه ، وأحبَّ مَن أحبَّه ، وأبغض مَن أبغضه ، وأعنْ مَن أعانه». كما عن اُسد الغابة في أحوال الصحابة وغيره. ومن الصحابة الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (ع) قرظة بن كعب الأنصاري ، كان من الرّواة ، وحارب مع أمير المؤمنين (ع) وولاّه فارس. وولدُهُ عمرو بن قرظة الأنصاري كان من أنصار الحسين (ع) الذين بالغوا في نصرته ، ولمّا كان يوم عاشوراء ، استأذن الحسين (ع) في القتال فأذن له ، فبرز وهو يقول :

قدْ عَلمَتْ كتيبَةُ الأنصارِ

أنّي سأحمي حوزةَ الذُّمّارِ

ضربَ غُلامٍ غيرِ نكسٍ شاري

دونَ حُسينٍ مُهجَتي وداري

فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السّماء حتّى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد ، وجمع بين سداد وجهاد. وكان لا يأتي إلى الحسين (ع) سهمٌ إلاّ اتّقاه بيده ، ولا سيف إلا تلقّاه بمهجته ، فلم يكن يصل إلى الحسين (ع) سوء حتّى اُثخن بالجراح ، فالتفت إلى الحسين (ع) ، وقال : يابن رسول الله ، أوَفيت؟ قال (ع) : «نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فاقرأ رسول الله (ص) عنّي السّلام ، وأعلمه أنّي في الأثر». فقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه.

وتبادَرتْ تلْقَى الأسنَّةَ لا تَرى الْ

غمرات إلاّ المائِساتِ الغيدَا

وكأنّما قصدَ القنّا بنحورِهمْ

دُرراً يُفصِّلُها الفناءُ عُقودَا

٤٢٨

المجلس الثمانون بعد المئة

كان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري من أجلاّء الصحابة ، ومن المتفانين في حبّ علي (ع) ونصره. وفي الإستيعاب ، قال الواقدي : كان قيس بن سعد من كرام أصحاب رسول الله (ص) ، وأسخيائهم ودهاتهم. قال أبو عمرو : كان أحد الفضلاء الأجلّة ، وأحد دهاة العرب ، وأهل الرأي والمكيدة في الحرب ، مع النّجدة والبسالة ، والسخاء والكرم ، وكان شريف قومه غير مدافع ، وكان يقول : اللهمّ ، ارزقني حمداً ومجداً ؛ فإنّه لا حمد إلاّ بفعال ، ولا مجد إلاّ بمال. واستقرض منه رجل ثلاثين ألفاً ، فلمّا ردّها عليه أبى أنْ يقبلها ، وقال : إنّا لا نعود في شيء أعطيناه. وشكت إليه عجوز أنّه ليس في بيتها جرذ ، فقال : ما أحسن ما سألت! أما والله ، لأكثرنّ جرذان بيتك ، فملأ بيتها طعاماً وأداماً. ولمّا خرج أبوه من المدينة ، قسّم ماله بين أولاده ، وكان له حمل لا يعلم به ، فلمّا توفي أبوه ، طلبوا إلى قيس أنْ ينقض القسمة ، فقال : نصيبي للمولود ، ولا أنقض ما صنع أبي. وكان لقيس دَينٌ كثيرعلى النّاس ، فمرض واستبطأ عوّاده ، فقيل : إنّهم يستحون من أجل دينك. فأمر فنودي : مَن كان لقيس عليه دَين فهو له ، فتزاحم النّاس على عيادته حتّى هدموا درجة كانوا يصعدون عليها إليه. وقال أنس بن مالك : كان قيس من النبيّ (ص) بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. صحب قيس علي بن أبي طالب (ع) ، وشهد معه الجمل وصفّين والنّهروان هو وقومه ، ولم يفارقه حتّى قُتل. وكان علي (ع) قد ولاّه على مصر ، فضاق به معاوية وكايد فيه عليّاً ففطن له ، فلم يزل به الأشعث وأهل الكوفة حتّى عزله ، وولّى محمّد بن أبي بكر ففسدت عليه مصر. وكان قيس مع الحسن (ع) على مقدّمته ، ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم وتبايعوا على الموت ، فلمّا دخل الحسن (ع) في بيعة معاوية أبى قيس أنْ يدخل. قال أبو الفرج : إنّه نهض بمَن معه لقتال معاوية ، وخرج إليهم بُسر

٤٢٩

بن أرطأة في عشرين ألفاً ، فصاحوا بهم : هذا أميركم قد بايع ، وهذا الحسن (ع) قد صالح ، فعَلامَ تقتلون أنفسكم؟ فقال لهم قيس ـ أي : لأصحابه ـ : اختاروا أحد اثنين ؛ إمّا القتال مع غير إمام ، أو تبايعون بيعة ضلال؟ فقالوا : بل نُقاتل بلا إمام. فخرجوا وضربوا أهل الشام حتّى ردّوهم إلى مصافهم. وكتب معاوية إلى قيس يدعوه ويمنّيه ، فكتب إليه قيس : لا والله ، لا تلقاني أبداً إلاّ وبيني وبينك السّيف والرمح. وجرت بنيهما مكاتبات أغلظ كلّ منهما فيها لصاحبه ، فقال عمرو بن العاص لمعاوية : مهلاً ، إنْ كاتبته أجابك بأشدّ من هذا ، وإنْ تركته دخل فيما يدخل فيه النّاس. وقال قيس لأصحابه : إنْ شئتم جالدت بكم ، وإنْ شئتم أخذت لكم أماناً؟ فقالوا : خذ لنا أماناً. فأخذ لهم وله أماناً ، ولم يأخذ لنفسه خاصّة شيئاً ، ثمّ لزم المدينة وأقبل على العبادة حتّى مات. أقول : شتّان بين عبيد الله بن العبّاس وقيس بن سعد ، فهذا يسالم معاوية بعدما ذبح بُسر بن أرطأة أولاده الصغار على درج صنعاء حين أرسله معاوية ، ويبيع شرفه بالمال ، ويرضى بالذلّ والعار ، وقيس بن سعد يحلف أنْ لا يلقى معاوية إلاّ بينه الرمح والسيف ، بعد ما بلغه أنّ الحسن قد صالح.

أبتْ الحميَّةُ أنْ تُفارقَ أهلَهَا

وأبَى العزِيزُ بأنْ يعيشَ ذلِيلا

ولمّا نشر علي (ع) لواءه يوم صفّين ، قال قيس : هذا والله ، اللواء الذي كنّا نحفّ به مع رسول الله (ص) ، وجبرائيل لنا مدد. ثمّ قال :

هذا اللّواءُ الذي كُنّا نحفُّ بهِ

معَ النّبيِّ وجبرائيلٌ لنا مددُ

ما ضرَّ مَن كانَت الأنصارُ عَيبَتَهُ

أنْ لا يكونَ لهُ منْ غيرِهمْ أحدُ

قومٌ إذا حارَبُوا طالتْ أكفُّهُمُ

بالمشرفيَّةِ حتّى يُفتحَ البلدُ

يقول قيس ـ رحمه الله ـ كما سمعت :

هذا اللّواءُ الذي كُنّا نحفُّ بهِ

معَ النّبيِّ وجبرائيلٌ لنا مددُ

أجل ، إنّ اللّواء الذي حفّت به الأنصار يوم بدر هو الذي حفّت به يوم صفّين ؛ ولهذا كانت تقول عكرشة بنت الأطرش يوم صفّين ـ وكانت مع أمير المؤمنين (ع) ـ : هذه بدر الصغرى والعقبة الكبرى. واللّواء الذي حفّت به جماعة من الأنصار مع الحسين (ع) يوم كربلاء ، هو الذي حفّوا به مع أبيه أمير المؤمنين (ع) يوم صفّين ، وحفّوا به مع جدّه رسول الله (ص) يوم بدر ، ولولا تلك الإحن البدريّة ، والأحقاد الجاهليّة لما كان حرب صفّين وواقعة كربلاء. قالت اُمّ الخير البارقيّة يوم صفّين ـ وكانت مع علي (ع) ـ : إنّها إحن بدريّة ، وأحقاد جاهليّة وثب

٤٣٠

بها واثب حين الغفلة ، ليُدرك ثارات بني عبد شمس. وصرّح بذلك يزيد بن معاوية لمّا وضع رأس الحسين (ع) بين يديه ، فجعل ينكت ثناياه بقضيب خيزران ، ويقول : يوم بيوم بدر. وقال أيضاً :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدوا

جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ

لأهلّوا واسْتهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

قدْ قتلْنا القَرمَ منْ ساداتِهمْ

وعَدلْناهُ ببدْرٍ فاعتَدَلْ

لعبتْ هاشمُ بالمُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزلْ

ثاراتُ بدرٍ اُدرِكتْ في كرْبَلا

لبني اُميّةَ من بني الزهراءِ

٤٣١

المجلس الحادي والثمانون بعد المئة

قال ابن أبي الحديد : روي أنّ الوليد بن جابر بن ظالم الطائي كان ممّن وفد على رسول الله (ص) فأسلم ، ثمّ صحب عليّاً (ع) وشهد معه صفّين ، وكان من رجاله المشهورين ، ثمّ وفد على معاوية بعد وفاة أمير المؤمنين (ع) ودخل عليه في جملة النّاس ، فاستنسبه فانتسب له ، فعرفه معاوية ، فقال له : أنت صاحب ليلة الهرير؟ قال : نعم. قال : والله ، لا تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة ، وقد علا صوتك أصوات النّاس ، وأنت تقول :

شُدّوا فداءً لكُمُ اُمِّي وأبِ

فإنّما الأمرُ غَداً لمَنْ غلَبْ

هذا ابنُ عمِّ المُصطفَى والمُنتَجبْ

تنْميهِ للعلياءِ ساداتُ العربْ

ليسَ بموصُومٍ إذا نُصَّ النَّسبْ

أوّلُ مَنْ صلَّى وصامَ واقتَرَبْ

قال : نعم ، أنا قائلها. قال : فلماذا قلتها؟ قال : لأنّا كنّا مع رجل لا نعلم خصلة توجب الخلافة ، ولا فضيلة تصير إلى التقدمة إلاّ وهي مجموعة له. كان أوّل النّاس سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأرجحهم حلماً. فات الجياد فلا يشقّ غباره ، واستولى على الأمد فلا يخاف عثاره ، وأوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره ، وسلك القصد فلا تدرس آثاره. فلمّا ابتلانا الله تعالى بافتقاده ، وحوّل الأمر إلى مَن يشاء من عباده ، دخلنا في جملة المسلمين ، فلم ننزع يداً عن طاعة ، ولم نصدع صفاة جماعة ، على أنّ لك منّا ما ظهر ، وقلوبنا بيد الله وهو أملك بها منك ، فاقبل صفونا وأعرض عن كدرنا ، ولا تُثر كوامن الأحقاد ؛ فإنّ النار تقدح بالزناد. قال معاوية : وإنّك لتهددني يا أخا طيء ، بأوباش العراق؟! أهل النفاق ومعدن الشقاق. فقال : يا معاوية ، هم الذين أشرقوك بالرّيق ، وحبسوك بالمضيق ، وذادوك عن سُنن الطريق حتّى لذت منهم بالمصاحف ، ودعوت إليها مَن صدّق بها وكذّبت ، وآمن بمنزلها وكفرت ، وعرف من تأويلها ما أنكرت. فغضب معاوية ، وأدار طرفه

٤٣٢

فيمَن حوله فإذا جلّهم من مضر ، ونفر قليل من اليمن ، وحيث إنّ الوليد يمانيّ ، واليمانيّون قليلون في مجلسه ، لم يخف من الوليد ، فقال : أيها الشقي الخائن ، إنّي لأخال أنّ هذا آخر كلام تفوّهت به. وكان عفير بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذٍ ، وكان يمانيّاً ، فعرف موقف الطائي ومراد معاوية ، فخافه عليه ، فهجمَ عليهم الدار وأقبل على اليمانيّة ، فقال : شاهت الوجوه ذلاّ ًوقلاّ ً ، وجدعاً وفلاّ ً. ثمّ التفت إلى معاوية ، فقال : لقد رأيتك بالأمس خاطبت أخا ربيعة ـ يعني : صعصعة بن صوحان ـ وهو أعظم جرماً عندك من هذا ، ثمّ أثبتّه وسرّحته ، وأنت الآن مجمع على قتل هذا زعمت استصغاراً لجماعتنا ، ولَعمري ، لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك ، لكان جدّك العاثر وذكرك الداثر ، وحدّك المفلول وعرشك المثلول ، فأربع على ظلعك (١) ؛ فإنّا لا نرام بوقع الضيم ، ولا نتلمّط جرع الخسف (٢). فقال معاوية : الغضب شيطان ، فأربع على نفسك أيّها الإنسان ؛ فإنّا لم نؤتِ إلى صاحبك مكروهاً ، فدونكه ؛ فإنّه لم يضق عنه حلمنا ويسع غيره. فأخذ عفير بيد الوليد وخرج به إلى منزله ، ثمّ جمع مَن بدمشق من اليمانيّة ، وفرض على كلّ رجل دينارين في عطائه ، فبلغت أربعين ألفاً ، فجعلها من بيت المال ودفعها إلى الوليد وردّه إلى العراق. ولو كان معاوية حليماً ـ كما يدّعي ويُدّعى له ـ ، لما قَتل حِجراً وأصحاب حِجر حيث لم يتبرّؤوا من أمير المؤمنين (ع) ، لمَا قتل عمرو بن الحمق الخزاعي بعد ما حبس زوجته سنتين في سجن دمشق. ولمّا جاءه رأسه ، أرسله إليها ووضعه في حجرها ، هذا بعد ما أعطى الحسن بن علي (ع) العهود والمواثيق أنْ لا يتعرض لشيعته. وإنّما كان يظهر الحلم حين يرى فيه مصلحة لدنياه ، وحين يخاف من عاقبة البطش ، فيدعه ويُظهر أنّ ذلك عن حلم ، وإنّما هو عن خوف ، وإلاّ فما باله وقد ملك الأمر ، وانقادت له النّاس بعد صلح الحسن (ع) ، يسلّط زياد بن أبيه على شيعة علي (ع) ، فيسومهم سوء العذاب بالقتل والنّفي ، وسلب الأموال وهدم الدور؟ وما بالُه يستحضر مَن يعرفهم بحبّ علي (ع) ، من نساء ورجال ، من الأمكنة البعيدة ، فيتهدّدهم ويتوعّدهم ويؤنّبهم ، ثمّ يُظهر الحلم عنهم حينما يخاف عاقبة البطش؟ وما بالُه يُحمل عبد الله بن هاشم المرقال إليه أسيراً ، بعد صلح الحسن (ع) ، فيسجنه ويُهدّده بالقتل؟ ولو كان حليماً ـ كما يقول ويُقال فيه ـ لفعل كما فعل أمير المؤمنين (ع) ، فعفا عن أهل الجمل لمّا ظفر بهم ، وفيهم أعدى النّاس له ، ولم يجازهم بشيء ، وأصدر عفواً عامّاً عن جميع أهل البصرة الذين

_______________________

(١) أي : إنّك ضعيف ، فانته عمّا لا تطيقه.

(٢) أي : الذّل. ـ المؤلّف ـ

٤٣٣

حاربوه. وما حلمُ معاوية الذي يظهر إلاّ كحلم ولده يزيد عن أهل بيت الرسالة ، فإنّه بعدما قتل الحسين (ع) ، وسبى نساءه وأطفاله ، وحملهم إليه من الكوفة إلى الشام ، وأدخل النّساء إلى مجلسه العام ، أراد أنْ يتلافى ما فرّط منه حين خشي سوء العاقبة في الدنيا ، لمّا رأى النّاس تنقم عليه ، فقال لزين العابدين (ع) : إنْ شئت أقمت عندنا فبررناك ، وإنْ شئت رددناك الى المدينة. فقال (ع) : «لا اُريد إلاّ المدينة». فأرسلهم إليها ، وأرسل معهم النّعمان بن بشير الأنصاري في جماعة وأمره بالرّفق بهم ، وأنْ ينزل بعيداً عنهم حين ينزلون. ولكن ما يفيده ذلك بعد أنْ فعل ما فعل ، وارتكب ما ارتكب؟!

وودَّ أنْ يتلافَى ما جنتْ يدُهُ

وكانَ ذلك كسْراً غيرَ مَجْبُورِ

تُسبَى بناتُ رسولِ الله بينَهُمُ

والدِّينُ غضُّ المبادي غيرُ مستورِ

٤٣٤

المجلس الثاني والثمانون بعد المئة

قال المُرزُباني : دخل عدي بن حاتم الطائي ـ رحمه الله ، وكانت عينه ذهبت يوم الجمل ـ على معاوية وعنده ابن الزّبير ، فقال ابن الزّبير : يا أبا طريف ، متى ذهبت عينُك؟ قال : يوم فرّ أبوك مُنهزماً فقُتل ، وضُربتَ على قفاك وأنت هارب ، وأنا مع الحقّ وأنت مع الباطل. فقال معاوية : ما فعل الطُّرفات؟ ـ يعني : طريفاً وطُرافاً وطُرْفة أبناءه ـ قال : قُتلوا مع أمير المؤمنين علي (ع). فقال له : ما أنصفك علي ؛ إذ قدّم أبناءك وأخّر أبناءه. قال : بل أنا ما أنصفته ؛ إذ قُتل وبقيت بعده. قال له معاوية : أما أنّه قد بقيت قطرة من دم عثمان ، ما لها إلاّ كذا ، وأومأ بيده إليه. فقال له عدي : إنّ السّيوف التي اُغمدتْ اُغمدتْ على حسّك في الصدور ، ولعلّك تسلُّ سيفاً تسلُّ به سيوفاً. فالتفت معاوية إلى عمرو بن العاص ، فقال : كلمة شدَّها في قَرنك. ثمّ خرج عدي ، وهو يقول :

يحاولُنِي مُعاويةُ بن صخْرٍ

وليسَ إلى التي يَبغِي سبيل

يُذكِّرُني أبا حَسنٍ عليّاً

وخَطْبي في أبي حسنٍ جليل

وقال ابنُ الزُّبيرِ وقال عمرٌو

عديٌّ بعدَ صفّين ذليل

فقُلتُ صدقتُما قدْ هدَّ رُكني

وفارقَني الذينَ بهِمْ أصول

ولكنّي على ما كانَ منِّي

اُخبِّرُ صاحبيَّ بما أقول

اُخبِّرُ صاحبيَّ بما أقول

من الأيامِ محمِلُهُ ثقيلُ

أقول : كلّ مَن كان عريقاً في ولاء أهل البيت عليهم‌السلام يهون عليه فداء نفسه وولده في محبّتهم ؛ ألاَ ترى إلى بشر بن عمرو الحضرمي حين قيل له يوم الطفِّ : إنّ ابنه اُسّر بثغر الري ، فقال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنت أحبّ أنْ يُؤسر وأبقى بعده. فسمع الحسين (ع) قوله ، فقال له : «رحمك الله ، أنت في حلٍّ من بيعتي ، فاذهب واعمل في فكاك ابنك». فقال : أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك. قال (ع) : «فأعطِ ابنك هذا هذه الأثواب

٤٣٥

البُرود ؛ يستعين بها في فداء أخيه». فأعطاه خمسة أثواب بُرود قيمتها ألف دينار ، فحملها مع ولده. فحيّا الله هذه النّفوس الكريمة التي سخت بدمائها وأبنائها في فداء أهل بيت نبيّها عليهم‌السلام ، وحفظت وصية رسول الله (ص) في آله وذرّيّته.

مِنْ كُلِّ مُكتهلٍ في عزمِ مُقتَبلِ

وكُلِّ مُقتَبلٍ في حزمِ مُكتَهلِ

يُذكِّرُني أبا حَسنٍ عليّاً

ثنّى لهُ عطفَ مسْرورٍ بهِ جذلِ

أبتْ لهُ نفسُهُ يومَ الوغَى شرَفاً

أنْ لا تسيلَ على الخِرصانِ والأسَلِ

٤٣٦

المجلس الثالث والثمانون بعد المئة

في الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ، عن الأصبغ بن نباتة ، قال : دخل ضرار بن ضمرة على معاوية بعد وفاة أمير المؤمنين (ع) ، فقال له : يا ضرار ، صف لي عليّاً. فقال : أعفني من ذلك. فقال : أقسمتُ عليك لتصفنّه لي. فقال : إنْ كان لا بُدّ من ذلك ، فإنّه كان والله ، بعيد المدى شديد القوى ، يقول فصلاً ويحكم عدلاً ، يتفجّر العلم من جوانبه وتُنطق الحكمة من لسانه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل ووحشته ، وكان غزير الدمعة طويل الفكرة ، يُعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب ، وكان فينا كأحدنا ؛ يُجيبنا إنْ سألناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ونحن والله ، مع قُربنا منه وقربه منّا لا نكاد نُكلّمه ؛ هيبة له ، يُعظّم أهل الدّين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله. وأشهد بالله يا معاوية ، لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه ، قابضاً على لحيته الشريفة ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، وهو يقول : «إليك عنّي يا دُنيا ، غرّي غيري ، ألي تعرضتِ أمْ إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات! فإنّي قد طلقتُك ثلاثاً لا رجعة لي فيك ؛ فعمرك قصير ، وخطرك كبير ، وعيشك حقير». ثمّ قال (ع) : «آهٍ آهٍ! من قلة الزاد ، وبُعد السّفر ، ووحشة الطّريق». ثمّ بكى ضرار ، وبكى معاوية وقال : رحم الله أبا الحسن ، كان والله ، كذلك. ثمّ قال : فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال : حزن مَن ذُبح ولدُها في حِجرها ؛ فهي لا ترقى لها دمعة ، ولا تسكن لها زفرة. وفي خبر : ترصّد عمرو بن حريث غذاء أمير المؤمنين (ع) ، فأتته فضّة بجراب مختوم ، ففكّه واستخرج منه خبزاً متغير اللّون ، خشناً جشباً ، فقال عمرو : يا فضة ، ألاَ تتّقين الله في هذا الشيخ؟ ألاَ تنخلين له دقيق هذا الخبز وتُطيّبينه؟ فقالت : قد كنت أفعل ذلك فنهاني ، وكنتُ أضع في جرابه طعاماً طيّباً فختم جرابه. قال : ثمّ إنّ أمير المؤمنين (ع) فتّ ذلك الخبز في قصعة ، وصبّ عليه الماء ، وحسّر عن ذراعيه وجعل يأكل حتّى اكتفى ، فلمّا فرغ من

٤٣٧

الأكل ، التفت إليّ ، وقال : «لقد خابت هذه ـ ومدّ يده إلى لحيته الكريمة ـ وخسرت هذه ، إنْ أدخلتُها النّار من أجل الطعام». ورآه عدي بن حاتم ، وبين يديه شُنّة وفيها قراح ماء وكسرات من خبز الشعير ، فقال له : أرى لك ذلك يا أمير المؤمنين ، أنْ تظلّ نهارك صائماً مجاهداً ، وبالليل ساهراً مكابداً ، ثمّ يكون هذا فطورك! فقال (ع) :

علِّلْ النَّفسَ بالقنُوعِ وإلاّ

طلَبتْ منكَ فوقَ ما يكْفِيها

ولمْ يزلْ هذا دأبه ، وهذه سجيّته حتّى أتى إليه ابن ملجم المرادي ، وضربه بالسّيف على اُمّ رأسه.

ألمْ يعْلَمِ الْجاني على اللّيثِ أنّه

أتَى اللّيثَ في محرابِهِ وهو ساجدُ

ولو جاءهُ من حيثُ ما اللّيثُ مُبصرٌ

ولو جاءهُ من حيثُ ما اللّيثُ مُبصرٌ

فلمّا حضرته الوفاة ، دعا أولاده كلّهم صغيراً وكبيراً ، وجعل يودّعهم ويقول : «الله خليفتي عليكم ، أستودعكم الله». وهم يبكون ، ثمّ التفت إلى ولده الحسن (ع) ، فقال : «يا أبا محمّد ، اُوصيك بأبي عبد الله خيراً ؛ فأنتما منّي وأنا منكُما». ثمّ قال : «كأنّي بكم وقد خرجت عليكم الفتن من ها هنا وها هنا ، فعليكم بالصبر ؛ فهو محمود العاقبة». ثمّ قال : «يا أبا عبد الله ، أنت شهيد هذه الاُمّة ، فعليك بتقوى الله ، والصبر على بلائه».

أبا حَسنٍ أبناؤكَ اليومَ حلَّقْتْ

بقادمةِ الأسيافِ عن خطَّةِ الخسْفِ

سلْ الطَّفَّ عنهُمْ أينَ بالأمسِ طنَّبُوا

وأينَ اسْتَقلُّوا اليومَ عنْ عرْصَةِ الطَّفِّ

٤٣٨

المجلس الرابع والثمانون بعد المئة

روى الشيخ المفيد ـ عليه الرحمة ـ في كتاب الإختصاص ، بسنده قال : قَدِم وفد العراقيّين على معاوية ، فقدم في وفد أهل الكوفة عدي بن حاتم الطائي ، وفي وفد أهل البصرة الأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان ، فقال عمرو بن العاص لمعاوية : هؤلاء رجال الدّنيا ، وهم شيعة علي الذين قاتلوا معه يوم الجمل ويوم صفّين ، فكن منهم على حذر. فأمر لكلِّ رجل منهم بمجلس سري واستقبل القوم بالكرامة ، فلمّا دخلوا عليه ، قال لهم : أهلاً وسهلاً ، قدمتم الأرض المقدّسة ، وأرض الأنبياء والرُّسل ، والحشر والنّشر. فتكلّم صعصعة ، وكان من أحضر النّاس جواباً ، فقال : أمّا قولك الأرض المقدّسة ، فإنّ الأرض لا تُقدّس أهلها ، وإنّما تُقدّسهم الأعمال الصالحة ؛ وأمّا قولك أرض الأنبياء والرسل ، فمَنْ بها من أهل النّفاق والشرك ، والفراعنة والجبابرة ، أكثر من الأنبياء والرسل ؛ وأمّا قولك أرض الحشر والنّشر ، فإنّ المؤمن لا يضرّه بُعد المحشر ، والمنافق لا ينفعه قربُه. فقال معاوية : لو كان النّاس كلّهم أولدهم أبو سفيان ، لا كان فيهم إلاّ كيّساً رشيداً. فقال صعصعة : قد أولد النّاس مَن كان خيراً من أبي سفيان ، وهو آدم أبو البشر ، فأولد الأحمق ، والفاجر والفاسق ، والمعتوه والمجنون. فخجل معاوية. وروى المفيد أيضاً في الكتاب المذكور ، بسنده عن السائب قال : خطب النّاس يوماً معاوية بمسجد دمشق ـ وفي الجامع يومئذ من الوفود علماء قريش ، وخطباء ربيعة ، وصناديد اليمن وملوكها ـ فقال : إنّ الله تعالى أكرم خلفاءه ، فأوجب لهم الجنّة وأنقذهم من النّار ، ثمّ جعلني منهم ، وجعل أنصاري أهل الشام الذابّين عن حرم الله ، المؤيَّدين بظفر الله ، المنصورين على أعداء الله. وكان في الجامع من أهل العراق الأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان ، فقال الأحنف لصعصعة : أتكفيني ، أمْ أقوم إليه أنا؟ فقال صعصعة : بل أكفيكه أنا. فقام صعصعة ، فقال : يابن أبي سفيان ، تكلّمت فأبلغت ولم تقصر دون ما أردت ، وكيف يكون ما تقول وقد غلبتنا قسراً ، وملكتنا تجبّراً ، ودِنتنا بغير

٤٣٩

الحقّ؟ فأمّا إطراؤك لأهل الشام ، فما رأيت أطوع لمخلوق ولا أعصى لخالق منهم ، ابتعت منهم دينهم وأبدانهم بالمال ، فإنْ أعطيتهم حاموا عنك ونصروك ، وإنْ منعتهم قعدوا عنك ورفضوك. قال معاوية : اسكت يابن صوحان ، فوالله ، لولا أنّي لمْ اتجرّع غصةَ غيظٍ قط أفضل من حلم ، لَما عدتَ إلى مثل مقالتك. فقعد صعصعة ، فأنشأ معاوية يقول :

قبِلتُ جاهلَهُمْ حِلماً ومكْرُمةً

والحلمُ عنْ قُدرةٍ فضلٌ مِنَ الكَرَمِ

وهذا الحلم الذي كان يظهره معاوية ، إنّما كان حيث تقتضيه السّياسة ويخاف من عاقبة البطش ، وإلاّ فما باله قتل حِجر بن عدي وأصحابه؟ وعمرو بن الحمق وأمثاله؟ وبعث أحد أصحاب حِجر إلى زياد فدفنه حيّاً ـ كما رواه ابن الأثير ـ بعدما كان أمّن هؤلاء كلّهم؟ وحُمل عبد الله بن هاشم المرقال إليه مُكبّلاً بالحديد؟ ونادى مناديه بعد صلح الحسن (ع) : أنْ برئت الذمّة ممّن يروي حديثاً من مناقب علي وفضل أهل بيته؟! واستعمل زياداً على الكوفة والبصرة ، فجعل يتتبّع الشيعة ويقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطّع الأيدي والأرجل ، وصلبهم في جذوع النخل ، وسَمل أعينهم ، وطردهم وشرّدهم حتّى نُفوا من العراق ، فلم يبقَ بها أحد معروف ، وكتب إلى عمّاله بقتلهم على التهمة والظنّة. واقتدى به ولده يزيد ، فولّى الكوفة والبصرة عبيد الله بن زياد ، كما ولاّهما أبوه زياداً ، فقتل الشيعة وأخافهم ، وصلبهم في جذوع النخل ، كما فعل بميثم التمّار وأمثاله ، حتّى آل أمره إلى قتل مسلم بن عقيل ورميه من أعلى القصر ، وإلى قتل ريحانة رسول الله (ص) الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه ، ومنعه من الماء ، ورضّ جسده الشريف بعد القتل بحوافر الخيل ، وحمل رأسه ورؤوس أصحابه من بلد إلى بلد ، وسبي نساء بيت النّبوّة والرسالة ، ومقابلته لهنّ بأفظِّ القول وأجفاه.

بَنى لَهُمُ الماضونَ آساسَ هَذِهِ

فَعَلّوا عَلى آساسِ تِلكَ القَواعِدِ

أَلا لَيسَ فِعلُ الأَوَّلينَ وَإِنْ عَلا

عَلى قُبحِ فِعلِ الأَخَرينَ بِزائِدِ

٤٤٠