المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

ما إنْ بقيتَ مِن الهوانِ على الثَّرى

مُلقىً ثلاثاً في رُبىً ووهادِ

لكنْ لكَي تَقضي عليكَ صلاتَهَا

زُمَرُ المَلائكِ فوْقَ سبعِ شِدادِ

٣٨١

المجلس الحادي والستّون بعد المئة

في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : إنّ معاوية دعا بُسر بن أبي أرطأة ، وكان قاسي القلب ، فظّاً سفّاكاً للدماء ، لا رأفة عنده ولا رحمة ، فأمره أنْ يذهب إلى المدينة ومكّة واليمن ، وقال له : اقتل شيعة علي حيث كانوا. فمضى في ألفين وستمئة حتّى دخل المدينة ، وعامل علي (ع) عليها أبو أيوب الأنصاري ، فخرج عنها هارباً. ودخلها بُسر ، فشتمهم وهدّدهم وأحرق دوراً كثيرة ، ثمّ خرج إلى مكّة وقتل في طريقه رجالاًَ وأخذ أموالاً ، فلمّا قرب من مكّة ، هرب قثم بن العبّاس عامل علي (ع) عليها ، ودخل بُسر ، فشتم أهلها وأنّبهم ، ثمّ خرج إلى الطائف ، ثمّ خرج منها إلى اليمن ، فقتل أبا كرب الهمداني سيّدَ مَن بالبادية من همدان ، وكان يتّشيع. وكان الذين قتلهم بُسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفاً ، وحرق قوماً بالنّار ، وأتى صنعاء فهرب منها عبيد الله بن العبّاس ، ودخلها بُسر ، فأخذ ولدين صغيرين لعبيد الله بن العبّاس ، فذبحهما على درج صنعاء. قال المبرد في الكامل : فيقال : أنّه أخذهما من تحت ذيل اُمّهما فقتلهما ، فقالت اُمّهما :

ها مَنْ أحسَّ بابنَي اللَذَينِ هُمَا

كالدُّرَّتينِ تشظَّى عنهُما الصَّدَف

ها مَنْ أحسَّ بابنَي اللَذَينِ هُمَا

سمْعِي وقلبي فقلبي اليومَ مُختطَف ُ

ها مَنْ أحسَّ بابنَي اللَذَينِ هُمَا

مُخُّ العظامِ فمخِّي اليوم مزدهَف

نُبّئتُ بُسراً وما صدَّقتُ ما زَعِموا

منْ قِيلهمْ ومن الإفكِ الذي اقتَرفُوا

أنحَى على وَدَجَي طفلَيَّ مُرهَفةً

مَشحُوذةً وكذاك الإثمُ يُقتَرفُ

مَنْ دلَّ والهةً حرَّى مُفجَّعةً

على صبيَّين ضلاّ إذ مضَى السَّلفُ

وقد اتّخذ أتباع بني اُميّة ذبح الأطفال عادة لهم ؛ بغياً منهم وعتوّاً حتّى آل الأمر

٣٨٢

إلى يزيد بن معاوية ، وجهّز عبيد الله بن زياد الجيوش بأمره لقتال الحسين (ع) ، وقُتلت أنصار الحسين (ع) وأهل بيته ، وبقي وحيداً فريداً ، فتقدّم إلى باب الخيمة ، وقال لزينب : «ناوليني ولدي الرضيع حتّى اُودعه». فاُتي بابنه عبد الله ، فأخذه وأجلسه في حجره ، وأومأ إليه ليقبّله ، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه ، فقال (ع) لزينب : «خُذيه». ثمّ تلّقى الدم بكفّيه ، فلمّا امتلأتا ، رمى بالدم نحو السّماء ، ثمّ قال : «هوّن عليّ ما نزل به ، أنّه بعين الله». وفي رواية : أنّه قال : «اللهمّ ، لا يكون أهون عليك من فصيل ...». قال الإمام الباقر (ع) : «فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض». وفي رواية : أنّه صبّه في الأرض ، ثمّ قال : «يا ربّ ، إنْ كنتَ حسبتَ عنّا النَّصر من السّماء ، فاجعل ذلك لما هو خير منه ، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظالمين». ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهل بيته. وفي رواية : أنّه حفر له بجفن سيفه ، ورمّله بدمه فدفنه.

صبيٌ وهو بينَ يَدَي أبيهِ

اُصيبَ فأيُّ ذنبٍ للصبيِّ

ومن الأطفال الذين قتلهم أتباع بني اُميّة يوم طفّ كربلاء ؛ بغياً وعتوّاً وجرأة على الله ورسوله ، غلام خرج من خباء من أخبية الحسين (ع) ، فأخذ بعود من عيدان الخباء وهو مذعور ، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وقرطاه يتذبذبان ، فحمل عليه هانئ بن ثبيت الحضرمي فضربه بالسيف فقتله ، فصارت اُمّه شهربانويه تنظر إليه ولا تتكلم كالمدهوشة.

كَمْ لَكمْ منْ صِبيةٍ ما أبدَلتْ

ثَمّ منْ حاضنةٍ إلاّ رمَالا

سَلْ بحِجرِ الحربِ ماذا رَضَعتْ

فَثديُّ الحربِ قدْ كُنَّ نِصالا

رضَعتْ منْ دَمِها الموتَ فيَا

لرضاعٍ عادَ بالرّغمِ فِصالا

ومن الأطفال الذين قتلهم جيش يزيد يوم كربلاء ؛ بغياً وعناداً واجتراءً على الله تعالى ، عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وذلك لمّا ضعف الحسين (ع) عن القتال ، وجلس على الأرض ، فخرج عبد الله ، وهو غلام لمْ يراهق ، من عند النّساء ، فلحقته زينب بنت علي عليهما‌السلام لتحبسه ، فقال لها الحسين (ع) : «احبسيه يا اُختي» ؛ وذلك لعلمه ببغي أهل الكوفة وجرأتهم على قتل الأطفال. فأبى الطفل وامتنع عليها امتناعاً شديداً ، وجاء يشتدّ إلى عمّه الحسين (ع) حتّى وقف إلى جنبه ، وقال : لا اُفارق عمّي. فأهوى بحر بن كعب إلى الحسين (ع) بالسيف ، فقال الغلام : ويلك يابن الخبيثة! أتقتل عمّي؟! فضربه بحر بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد ، فإذا هي معلّقة ، فنادى

٣٨٣

الغلام : يا عمّاه! ـ أو يا اُمّاه! ـ فأخذه الحسين (ع) فضمّه إلى صدره ، وقال : «يابن أخي ، اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين ؛ برسول الله وعلي وحمزة وجعفر والحسن صلّى الله عليهم أجمعين». فرماه حرملة بسهم فذبحه ، وهو في حجر عمّه ، فرفع الحسين (ع) يدَيه وقال : «اللهمّ ، امسك عنهم قطرَ السّماء ، وامنعهم بركات الأرض. اللهمّ ، فإنْ متّعتهم إلى حين ، ففرّقهم فرقاً ، واجعلهم طرائقَ قِدداً ، ولا تُرضِ الولاة منهم أبداً ؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا فقتلونا».

هَبُوا أنّكُمْ قاتلتمُ فقتلتُمُو

فما بالُ أطفال تُقاسي نبالَها

ودعا علي (ع) على بُسر ، فقال : «اللهمّ ، لا تمته حتّى تسلبه عقله ، ولا توجب له رحمتك ولا ساعة من نهار». فلم يلبث بعد ذلك ألا يسيراًً حتّى ذهب عقله ، وكان يهذي بالسيف ويقول : أعطوني سيفاً اُقتل به. ولا يزال يردّد ذلك حتّى اتّخذ سيفاً من خشب ، وكانوا يدنون منه المرفقة ، فلا يزال يضربها حتّى يغشى عليه ، فلبث كذلك إلى أنْ مات. وقد كان مسلم بن عقبة وعبيد الله بن زياد ليزيد ، كما كان بُسر لمعاوية ؛ أمّا مسلم بن عقبة ، فهو صاحب وقعة الحَرّة التي أباح فيها المدينة ثلاثاً ، وبايع النّاس على أنّهم عبيداً رقّاً ليزيد بن معاوية ؛ وأمّا عبيد الله بن زياد ، فهو الذي بعث العساكر لقتال الحسين (ع) ؛ إرضاءً ليزيد بن معاوية ، ولم يكفهِ ذلك حتّى أمرهم بمنع الحسين (ع) وأصحابه الماء ، فنفّذ ذلك ابن سعد ، ومنع الحسين (ع) وعياله وأطفاله الماء ، وجعل يطلب شربة من الماء فلا يجاب ، وكلّما حمل بفرسه على الفرات ، حملوا عليه حتّى كشفوه عنه إلى أنْ قتلوه عطشانَ ظامياً. ولم يكفهم ذلك ، حتّى أمر ابن زياد أنْ يُوطئوا الخيل صدرَ الحسين (ع) وظهره بعد القتل ، ففعل ابن سعد ذلك ، ولم يكفهم هذا كلّه حتّى حملوا رأسه الشريف ، ورؤوس أصحابه وأهل بيته على أطراف الرماح ، وسبوا نساءه وعياله وبنات رسول الله (ص) من بلد إلى بلد :

بَنى لَهُمُ الماضونَ آساسَ هَذِهِ

فَعَلّوا عَلى آساسِ تِلكَ القَواعِدِ

أَلا لَيسَ فِعلُ الأَوَّلينَ وَإِنْ عَلا

عَلى قُبحِ فِعلِ الأَخَرينَ بِزائِدِ

٣٨٤

المجلس الثاني والستّون بعد المئة

ذكر غير واحد من المؤرّخين : إنّ عليّاً (ع) لمّا عاد من صفّين إلى الكوفة بعد أمر الحكمين ، قام ينتظر انقضاء المدّة التي كانت بينه وبين معاوية ليرجع إلى حربه ، إذ انعزلت طائفة من أصحابه في أربعة آلاف ، وهم من العبّاد والنسّاك ، فخرجوا من الكوفة وأنكروا أمر التحكيم ، وقالوا : لا حكمَ إلاّ لله. فقال علي (ع) : «كلمة حقٍّ يُراد بها باطل». وانحاز إليهم نحو من ثمانية آلاف ، فصاروا في اثني عشر ألفاً ، ونزلوا مكاناً يُسمى حروراء ؛ فسُمّوا : الحروريّة. واحتجّ عليهم أمير المؤمنين (ع) ، فقال : «ألم اَقُلْ لكم في يوم رفع المصاحف : إنّ أهل الشام يخدعونكم بها ؛ فإنّ الحرب قد عضّتهم ، فذروني اُناجزهم فأبيتم؟ ألم اُردْ أنْ أبعث ابن عمّي عبد الله بن عباس ليكون حكماً ؛ فإنّه رجل لا يُخدع ، فأبيتم وجئتموني بأبي موسى وقلتم رضينا به؟ ثمّ شرطتُ على الحكمين أنْ يحكما بما أنزل الله في القرآن ، من فاتحته إلى خاتمته ، وأنّهما إنْ لمْ يفعلا فلا طاعة لهما عليَّ؟». قالوا : صدقت ، فلمَ لا ترجع إلى حرب القوم؟ قال (ع) : «حتّى تنقضي المدّة التي بيننا وبينهم». فرجع منهم طائفة. ثمّ اجتمعوا بالنهروان ، ولقيهم عبد الله بن خباب صاحب رسول الله (ص) ، وفي عنقه مصحف ، ومعه امرأته ، فقالوا : ما تقول في عليٍّ قبل التحكيم وبعده؟ قال : إنّه أعلم بالله منكم ، وأشدّ توقّياً على دينه ، وأنفذ بصيرة. قالوا : إنّك تتبع الهوى ، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها ، والله ، لنقتلنّك قتلةً ما قتلناها أحداً. فأخذوه وكتّفوه ، ثمّ أقبلوا به وبامرأته ، وهي حبلى متم ، فنزلوا تحت نخل ، فسقطت منه رطبة ، فوضعها أحدهم في فيه ، فقال له الآخر : أخذتها بغير ثمن! فألقاها. ومرّ بهم خنزير لأهل الذمّة ، فضربه أحدهم بسيفه ، فقالوا : هذا فساد في الأرض ، فارضِ صاحب الخنزير. فلمّا رأى ذلك عبد الله بن خباب ، قال : إنّي مسلم ، ما أحدثت في الإسلام حدثاً ، ولقد أمّنتموني قلتم لا روع عليك. فلم يلتفتوا إلى كلامه ، وقالوا له : هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك. ثمّ قرّبوه إلى شاطئ النّهر ، فأضجعوه

٣٨٥

وذبحوه ، فسال دمه في الماء ، وأقبلوا إلى امرأته ، فقالت : أنا امرأة ، ألاَ تتّقون الله؟ فبقروا بطنها. وخرج علي (ع) بأصحابه حتّى نزل على فرسخين من النّهروان ، فأرسل إليهم أوّلاً ابن عبّاس ، ثمّ جاء إليهم بنفسه ، فقال (ع) : «ما الذي نقمتم به علي؟». قالوا : نقمنا عليك أنّك أبحتنا عسكر أهل البصرة ، ومنعتنا النّساء والذرّيّة. فقال (ع) لهم : «إنّ أهل البصرة قاتلونا ، فاقتسمتم سلب مَن قاتلكم ، والنّساء لم تُقاتل ، والذرّيّة ولدوا على الفطرة ، ولم ينكثوا ولا ذنب لهم ، ولقد مَنّ رسول الله (ص) على المشركين ، فلا تعجبوا إنْ مننتُ على نسائهم وذريّاتهم». قالوا : ونقمنا عليك أنّك حكمت في دين الله برأينا. فقال (ع) : «أما تعلمون أنّ الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته ، فقال : فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا وفي صيد اُصيب في الحرم كأرنب يساوي نصف درهم ، فقال : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ». قالوا : ونقمنا عليك أنّك محوت اسمك من إمارة المؤمنين يوم صفّين حين كُتب كتاب الصلح ؛ وذلك أنّه قال لكاتبه : «اكتب ، هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سفيان». فلم يقبل معاوية ، فقال أمير المؤمنين (ع) للكاتب : «اكتب ، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ، ومعاوية». فقال لهم : «أنا كنت كاتب رسول الله (ص) يوم الحديبيّة ، فقال لي : اكتب ، هذا ما اصطلح عليه محمّد رسول الله ، وسهيل بن عمرو. فقال سُهيل : لو علمنا أنّك رسول الله ، لمَا صددناك ولا قاتلناك. فأمرني رسول الله (ص) فمحوت ذلك وكتبت : هذا ما اصطلح عليه محمّد بن عبد الله ، وسهيل. وإنّما محوت اسمي من إمرة المؤمنين ، كما محا رسول الله (ص) اسمه من الرسالة ، وكان لي به اُسوة». قالوا : وإنّك قلت للحكمين : «انظرا في كتاب الله ، فإنْ كنتُ أفضل من معاوية ، فأثبتاني في الخلافة ، وإلاّ فأثبتاه». فإنْ كنت شاكّاً ، فنحن فيك أعظم شكّاً. فقال (ع) : «إنّما أردت بذلك النّصفة ، كما قال رسول الله (ص) لنصارى نجران : تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ». قالوا : ونقمنا عليك أنّك حكمت حُكماً في حقّ هو لك. فقال (ع) : «إنّ رسول الله (ص) حكّم سعد بن معاذ في بني قُريظة ، ولو شاء لم يفعل». فصاح منهم جماعة من كلّ ناحية : التوبة التوبة يا أمير المؤمنين! فاستأمن منهم ثمانية آلاف ، وبقي أربعة آلاف مصّرين على حربه ، فقاتلهم حتّى أفناهم ، ولم يَسلَم منهم غير تسعة أنفس. فياليت : أمير المؤمنين (ع) الذي أفنى الخوارج بسيفه ، لا غاب عن يوم كربلاء ، ليرى خوارج أهل الكوفة الذين حاربوا ولده الحسين (ع) ، بل كانوا شرّاً من الخوارج. ولم تفعل فرقة من الفرق الضالّة ، مهما بلغت في الضلال وقساوة القلب ، ما فعله أهل الكوفة مع أهل بيت رسول الله (ص) ، ولم يجرِ في

٣٨٦

حرب من حروب الدنيا من الفظاعة ما جرى من أهل الكوفة في حرب ذرّيّة رسول الله (ص) ؛ فكم من طفل بالسهام ذبحوه! وآخر بالسيوف قطعوه! ذبحوا عبد الله الرضيع بالسهم ، وهو بين يدي أبيه الحسين (ع) ، وذبحوا عبد الله بن الحسن بالسهم ، وهو في حجر عمّه الحسين (ع) ، بعدما ضربوه على يمينه بالسيف فقطعوها وبقيت معلّقة ، ومنعوا الحسين (ع) وعياله وأطفاله من ورود الماء ، وتركوه وأصحابه على وجه الصعيد جُثثاً بلا رؤوس ، تصهرهم الشمس ، وتسفي عليهم الرياح :

فيا وقعةً لمْ يُحدثْ الدَّهرُ مثْلَها

يَبيدُ الليالي ذكرُهَا وهو خالدُ

لألبستِ هذا الدِّينَ أثوابَ ذلَّةٍ

ترثُّ لها الأيامُ وهيَ جدَائدُ

٣٨٧

المجلس الثالث والستّون بعد المئة

في العقد الفريد وغيره ، عن الشعبي ، قال : وفدت سودة بنت عُمارة بن الأشتر الهمدانيّة على معاوية بن أبي سفيان ، فاستأذنت عليه فأذن لها ، فلمّا دخلت عليه سلّمت ، فقال لها : كيف أنت يابنة الأشتر؟ قالت : بخير يا أمير المؤمنين. قال لها : أنت القائلة لأخيك :

شَمِّر كفعلِ أبيكَ يابنَ عُمارةٍ

يومَ الطَّعانِ ومُلتقَى الأقرانِ

وانصُر عليّاً والحُسينَ ورهطَهُ

واقْصُدْ لهندٍ وابنِها بهوانِ

إنّ الإمامَ أخا النّبيِّ محمّدٍ

عَلمُ الهُدى ومنارةُ الإيمانِ

فَقُدِ الجيوشَ وسُرْ أمامَ لوائِهِ

قُدُماً بأبيضَ صارمٍ وسنانِ

قالت : مات الرأس ، وبُتر الذنب ، فدَعْ عنك تذكار ما قد نسي. قال : هيهات! ليس مثل مقام أخيك يُنسى. قالت : صدقت والله ، ما كان أخي خفي المقام ، ذليل المكان ، ولكن كما قالت الخنساء

وإنّ صَخْراً لتأتمُّ الهُداةُ بهِ

كأنّهُ عَلمٌ في رأسهِ نارُ

وبالله أسأل اعفائي ممّا استعفيته. قال : قد فعلت ، فقولي حاجتك. قالت : إنّ الله سائلك عمّا افترض عليك من حقّنا ، ولا تزال تُقدّم علينا مَن ينهض بعزّك ، ويبسط بسلطانك ، فيحصدنا حصاد السُّنبل ويدوسنا دياس البقر ، ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة ؛ هذا ابن أبي أرطأة قدم بلادي ، وقتل رجالي وأخذ مالي ، ولولا الطاعة ، لكان فينا عزٌّ ومنعة ، فإمّا عزلته فشكرناك ، وإمّا لا ، فعرفناك. فقال معاوية : إيّاي تهدّدين بقومك! والله ، لقد هممت أنْ أردّك إليه على قتب أشرس ، فينفذ حكمه فيك. فسكتت ، ثمّ قالت :

صلَّى الإلهُ على روحٍ تضمَّنهُ

قبرٌ فأصبحَ فيه العدلُ مدْفُونا

٣٨٨

قدْ حالفَ الحقَّ لا يبغِي به ثَمناً

فصارَ بالحقِّ والإيمانِ مقرُونا

قال : ومَن ذلك؟ قالت : علي بن أبي طالب (ع). قال : ما أرى عليك منه أثراً؟ قالت : بلى ، أتيته يوماً في رجل ولاّه صدقاتنا ، فكان بيننا وبينه ما بين الغثّ والسّمين ، فوجدته قائماً يُصلّي ، فانفتل من الصلاة ، وقال برأفة وتعطّف : «ألك حاجة؟». فأخبرته خبر الرجل ، فبكى ، ثم رفع يديه إلى السّماء ، فقال : «اللهمّ ، إنّي لمْ آمرهمْ بظُلم خلقك ، وترك حقّك». ثمّ أخرج من جيبه قطعة من جراب ، فكتب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ). إذا أتاك كتابي هذا ، فاحتفظ بما في يديك حتّى يأتي مَن يقبضه منك ، والسّلام». فعزله. فقال معاوية : اكتبوا لها بالإنصاف لها ، والعدل عليها. فقالت : ألي خاصة أم لقومي عامّة؟ قال : وما أنت وغيرك؟ قالت : والله ، هي إذاً الفحشاء واللؤم. إنْ كان عدلاً شاملاً ، وإلاّ يسعني ما يسع قومي. قال : هيهات! علّمكم ابن أبي طالب الجُرأة ، وغرّكم قوله :

فلو كُنتُ بوَّاباً على بابِ جنَّةٍ

لقلتُ لهمدانَ ادخُلي بسلامِ

وقوله :

ناديتَ همدانَ والأبوابُ مُغلقةٌ

ومثلُ همدان سنَّى فتحةَ البابِ

كالهُندُوانيِّ لمْ تُغلَلْ مضاربُهُ

وجهٌ جميلٌ وقلبٌ غيرُ وجَّابِ

اكتبوا لها حاجتها هكذا كانت عادة الملوك والاُمراء في الحلم عن النّساء ، وإكرامهنّ والرأفة بهنّ ، وعدم مؤاخذتهنّ بشيء من القول ؛ لأنّهن ضعيفات ، إلى أنْ آل الأمر إلى ابن زياد ، واُدخلت عليه حوراء النّساء زينب بنت علي عليهما‌السلام ، فإنّه لم يُكرمها بشيء ، إلاّ أنّه التفت إليها ، وقال لها : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت عليها‌السلام : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (ص) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا. فقال لها : كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين ، وأهل بيتك؟ قالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ، فانظر لمَن الفلج يومئذ ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة! فغضب ابن زياد واستشاط ، وكأنّه همّ بها ، فقام اليه عمرو بن حريث ، وقال : إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها. فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين ، والعصاة المَرَدة من أهل بيتك

٣٨٩

فرقّتْ زينب وبكتْ ، وقالت له : لعمري ، لقد قتلتَ كهلي وأبرزتَ أهلي ، وقطعتَ فرعي واجتثثتَ أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت. فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ، ولَعمري ، لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فقالت : يابن زياد ، ما للمرأة وللسجعْ؟!

احْتَجْنَ تكلِيمَ الأجانبِ وهي لمْ

تُفكّكْ لهُمْ أفْواهَها بشظاظِ

كمْ حُرمةٍ للمُصطفَى هُتكتْ على

أيدي شِدادٍ في العتوِّ غِلاظ

٣٩٠

المجلس الرابع والستّون بعد المئة

في العقد الفريد : عن الشعبي ، قال : استأذنت بكارة الهلاليّة على معاوية ابن أبي سفيان ، فأذن لها ، وهو يومئذ بالمدينة ، فدخلت عليه ، وكانت امرأة قد أسنّت ، وغشي بصرها وضعفت قوّتها ، ترعش بين خادمين لها ، فسلّمت وجلست ، فردّ عليها معاوية السّلام ، وقال : كيف أنت يا خالة؟ فقالت : بخير. قال : غيّرك الدهر. قالت : كذلك هو ذو غِيَر ، مَن عاش كبُر ، ومَن مات فُقد. قال عمرو بن العاص : هي والله ، القائلة :

يا زيدُ دونَكَ فاحتفِرْ منْ دارِنا

سيْفاً حُساماً في التُّرابِ دَفينا

قدْ كُنتُ أذخرُهُ ليومِ كريهةٍ

فاليومَ أبرزَهُ الزَّمانُ مَصُونا

قال مروان : وهي والله ، القائلة :

أترَى ابن هندٍ للخلافةِ مالكاً

هيهاتَ ذاك وإنْ أرادَ بعيدُ

منَّتكَ نفسُكَ في الخلاءِ ضلالةً

أغراكَ عمرٌو للشقا وسَعيدُ

قال سعيد بن العاص : هي والله ، القائلة :

قدْ كنتُ أطمعُ أنْ أموتَ ولا أرَى

فوقَ المَنابرِ من اُميّةَ خاطِبا

فالله ُ أخّرَ مُدّتي فتطاوَلَتْ حتّى

رأيتُ منَ الزمانِ عجائِبا

في كلِّ يومٍ لا يزالُ خطيبُهُمْ

بين الجميعِ لآلِ أحمدَ عائِبا

ثمّ سكتوا ، فقالت : يا معاوية ، أنا والله ، قائلة ما قالوا ، وما خفي عليك منّي أكثر. فضحك ، وقال : ليس يمنعنا ذلك من برّك ، اذكري حاجتك. قالت : أمّا الآن ، فلا. هكذا يكون الإباء وعزّة النّفس ، هذه بكارة الهلاليّة ، بعد أنْ أجابت معاوية بما أجابته ، لم تقبل منه برّاً ولا عطاءً ؛ أنفة منها وحمية ؛ لأنّها علمت أنّه أراد بذلك اسكاتها ، ومع ذلك فقد أظهر الحلم عنها ، كما هي عادة الاُمراء في الإحسان إلى النّساء ولو كانت المرأة من

٣٩١

أعدى الأعداء ، وكثيراً ما كان الأمير يحلم عن المرأة وإنْ سبّته وشتمته ، ويرى من العار أنْ يضربها أو يشتمها ، حتّى آل الأمر إلى ابن مرجانة وابن هند ، فإنّه ما كفاهما حمل بنات رسول الله (ص) سبايا على أقتاب المطايا من بلد إلى بلد ، كما تُحمل سبايا الروم ، حتّى قابلوهنّ من الشتم والجفاء والغلظة ، بما تقشعرّ منه الجلود ، وتنفطر له القلوب. أمّا عبيد الله بن زياد ، فإنّه لمّا اُدخلت عليه سبايا آل الرسول (ص) ، قال لزينب بنت علي عليهما‌السلام ـ في جملة ما قال ـ : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت زينب : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (ص) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا. فقال : كيف رأيت فعل الله بأخيك ، وأهل بيتك؟ قالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ، فانظر لمَن الفلج ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة! فاستشاط غضباً ، وكأنّه همّ بضربها ، فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها. فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين ، والعصاة المَرَدة من أهل بيتك. فرقّتْ زينب وبكتْ ، وقالت له : لَعمري ، لقد قتلتَ كهلي وأبرزت أهلي ، وقطعت فرعي واجتثثت أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك ، فقد اشتفيت. وأمّا يزيد ، فإنّه لمّا اُدخلت عليه نساء الحسين (ع) ، التفت إلى سكينة بنت الحسين (ع) ، وقال لها : كيف رأيتِ صُنع الله بكم؟ قالت : أقصر عن كلامك يابن الطليق ، حرمُك وجوارك خلف السّتور ، وبنات رسول الله سبايا!

فقُلْ لسرايا شَيبةِ الحَمدِ ما لكمْ

قعدتُمْ وقدْ ساروا بنسوتِكُمْ أسرَى

وأعظمُ ما يُشجي الغيورَ دخولُها

إلى مجلسٍ ما بارحَ اللهوَ والخمْرا

يُقارضُها فيهِ يزيدُ مَسبَّةً

ويصرف عنها وجهه معرضاً كبرا

٣٩٢

المجلس الخامس والستّون بعد المئة

في كتاب المستطرف : إنّ معاوية لمّا ولي الخلافة ، وانتظمت له الاُمور ، وامتلأت منه الصدور ، واُذعن لأمره الجمهور ، وساعده في مراده القَدر المقدور ، استحضر ليلةً خواصّ أصحابه وذاكرهم وقائع صفّين ، ومَن كان يتولّى كبر الكراهية من المعروفين ، فانهمكوا في القول الصحيح والمريض ، وآلَ حديثهم إلى م‍َن كان يجتهد في إيقاد نار الحرب عليه بزيادة التحريض ، فقالوا : امرأة من أهل الكوفة تُسمّى : الزرقاء بنت عدي. كانت تتعمّد الوقوف بين الصفّين ، وترفع صوتها صارخةً بأصحاب علي (ع) ، تُسمعهم كلاماً كالصوارم ، مستحثّة لهم بقولٍ لو سمعه الجبان لقاتل ، والمُدبر لأقبل ، والمُسالم لحارب ، والفارّ لكرّ ، والمتزلزل لاستقرّ. فقال لهم معاوية : أيّكم يحفظ كلامها؟ فقالوا : كلّنا نحفظه. قال : فما تشيرون عليّ فيها؟ قالوا : نشير بقتلها ؛ فإنّها أهل لذلك. فقال لهم : بئس ما أشرتم! وقبحاً لِما قلتم! أيحسن أن يشتهر عنّي ، أنّني بعد ما ضفرت وقدرت ، قتلت امرأة قد وفت لصاحبها؟ إنّي إذاً للئيم. ثمّ دعا بكاتبه ، فكتب كتاباً إلى واليه بالكوفة : أنْ أنفذ إليّ الزّرقاء بنت عدي مع نفر من عشيرتها ، وفرسان من قومها ، ومهّد لها وطاءً ليّناً ، ومركباً ذلولاً. فلمّا ورد عليه الكتاب ، ركب إليها وقرأه عليها ، فقالت : ما أنا بزائغة عن الطاعة. فحملها في هودج ، وجعل غشاءه خزّاً مُبطّناً ، ثمّ أحسن صحبتها. فلمّا قدمت على معاوية ، قال لها : مرحباً وأهلاً ، قدمتِ خيرَ مقدمٍ قدمهُ وافد ، كيف حالك يا خالة؟ وكيف رأيت مسيرك؟ قالت : خيرُ مسير. فقال : هل تعلمين لِمَ بعثتُ إليك؟ قالت : لا يعلم الغيب إلاّ الله سبحانه وتعالى. قال : ألستَ راكبة الجمل الأحمر يوم صفّين ، وأنت بين الصفوف توقدين نار الحرب ، وتحرّضين على القتال؟ قالت : نعم. قال : فما حملك على ذلك؟ قالت : إنّه قد مات الرأس ، وبُتر الذنب ، والدّهر ذو غِيَر ، ومَن تفكّر أبصر ، والأمر يحدث بعده الأمر. فقال : صدقتِ ، فهل تحفظين ما قلتِ؟ قالت : لا والله. قال : لله أبوك! فلقد سمعتك تقولين : أيها

٣٩٣

النّاس ، إنّ المصباح لا يضيء في الشمس ، وإنّ الكواكب لا تُضيء مع القمر ، وإنّ البغل لا يسبق الفرس ، ولا يقطع الحديد إلاّ الحديد. ألا مَن استرشد أرشدناه ، ومَن سألنا أخبرناه ، إنّ الحقّ كان يطلب ضالّة فأصابها ، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار ، فكأنّكم وقد التأم شمل الشتات ، وظهرت كلمة العدل ، وغلب الحقُّ باطله ، فإنّه لا يستوي المحقُّ والمبطل. (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ) فالنّزال النّزال! والصبر الصبر! ألا وإنّ خضاب النّساء الحنّاء ، وخضاب الرجال الدماء ، والصبر خير الاُمور عاقبةً. ائتوا الحرب غير ناكصين ، فهذا يوم له ما بعده. يا زرقاء ، أليس هذا قولك وتحريضك؟ قالت : لقد كان ذلك. قال : لقد شاركت عليّاً في كلّ دم سفكه. فقالت : أحسن الله بشارتك ، مثلك مَن يُبشّر ويسرّ جليسه. فقال معاوية : وقد سرّك ذلك؟! قالت : أي والله ، وأنّى لي بتصديقه؟ فقال : والله ، لوفاؤكم لعلي بعد موته ، أعجب إليّ من حبكم له في حياته ، فاذكري حوائجك ، تُقضى. فقالت : إنّي آليت على نفسي أنْ لا أسأل أحداً بعد عليٍّ (ع) حاجة ، ومثلك مَن أعطى من غير مسألة. قال : فأعطاها كسوةً ودراهم ، وأعادها إلى وطنها سالمةً مكرمة. هكذا جرت عادة الملوك والاُمراء ، إنّهم إذا قدمت عليهم امرأة جليلة القدر ، يأمرون بإكرامها. أجل ، أيّ نساء أجلّ قدراً من بنات رسول الله (ص) ، ونساء ولده أبي عبدالله الحسين (ع)؟! وأيّ امرأة أجلّ قدراً ، وأرفع شأناً من زينب بنت أمير المؤمنين عليهما‌السلام؟! جدّها رسول الله (ص) ، أبوها أمير المؤمنين (ع) ، اُمّها فاطمة الزهراء بنت محمّد (ص) ، أخواها وشقيقاها الحسن والحسين عليهما‌السلام ، مع ما لها من الفضل في نفسها. ومع ذلك فإنّ الدعي ابن الدعي ، عبيد الله بن زياد ـ لعنه الله ـ لمْ يُكرّمها بشيء ، بل أمر بإحضارها في مجلسه مع سائر عيالات أبي عبد الله الحسين (ع) ، وأسمعها أخشن الكلام وأسوأه ، فكان ممّا قاله لها : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت عليها‌السلام : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (ص) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا. فقال لها : كيف رأيت صنع الله بأخيك ، وأهل بيتك؟ فقالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ، فانظر لمَن الفلج يومئذ ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة! فغضب ابن زياد واستشاط ، وكأنّه همّ بها ، فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها. فاراد ابن زياد ان يُحرق قلبها ، فقال لها : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين ، والعصاة المَرَدة. فرقّتْ زينب وبكتْ ، وقالت له : لَعمري ، لقد قتلتَ كهلي وأبرزتَ أهلي ، وقطعتَ فرعي واجتثثتَ أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت.

٣٩٤

تُصانُ بنتُ الدَّعيِّ في كللِ المُلْكِ

وبنتُ الرَّسولِ تُبتَذل ُ

يُرجى رضَى المُصطَفَى فواعجباً

تُقتَلُ أولادُهُ ويحتَمل

٣٩٥

المجلس السّادس والستّون بعد المئة

في العقد الفريد ، وبلاغات النّساء ، قال : حبس مروان ، وهو والي المدينة ، غلاماً في جناية ، فأتته اُمّ سنان بنت خيثمة المذحجيّة ، جدّة الغلام : اُمّ أبيه ، فكلّمته فيه ، فأغلظ لها ، فخرجت إلى معاوية ، فدخلت عليه فعرفها ، فقال لها : مرحباً يابنة خيثمة ، ما أقدمك أرضنا ، وقد عهدتك تشتميننا ، وتحضّين علينا عدونا؟! قالت : إنّ لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرةً ، وأحلاماً وافرةً ، لا يجهلون بعد علم ، ولا يسفهون بعد حلم ، ولا ينتقمون بعد عفو ، وإنّ أولى النّاس باتّباع ما سَنّ آباؤه لأنت. قال : صدقت ، فكيف قولك :

عَزَب الرُّقادُ فمقْلَتي لا تَرقدُ

والليلُ يُصدِرُ بالهُمومِ ويُورد ُ

يا آلَ مَذْحجَ لا مُقامَ فشَمِّروا

إنّ العدوَّ لآلِ أحمدَ يَقصد

هذا عليٌّ كالهِلالِ تَحُفُّهُ

وسطَ السَّماءِ منَ الكواكبِ أسعد

خيرُ الخلائقِ وابنُ عمِّ محمّدٍ

إنْ يهدكُمْ بالنُّورِ منهُ تَهتَدُوا

ما زالَ مُذْ عرفَ الحُروبَ مُظَفَّراً

والنَّصرُ فوقَ لِوائِهِ ما يُفْقَد ُ

قالت : كان ذلك ، وأرجو أنْ تكون لنا خَلفاً. فقال رجل من جلسائه : كيف ، وهي القائلة :

إمَّا هلكتَ أبا الحُسينِ فلَمْ تَزلْ

بالحقِّ تُعْرَفُ هادياً مهْدِيّا ُ

فاذهَبْ عليك صلاةُ ربِّكَ ما دَعَتْ

فوقَ الغُصونِ حمامةٌ قُمْريّا

قدْ كُنتَ بعدَ مُحمّدٍ خَلَفاً كما

أوصَى إليكَ بنا فكُنتَ وفيّا

فاليوم لا خلفاً نُؤمِّلُ بعدَهُ

هيهات نمدحُ بعدَهُ إنسيّا

قالت : لسان نطق وقول صدق ، ولئن تحقق ما ظننّا ، فحظّك الأوفر. والله ، ما ورثك الشنآن في قلوب المسلمين إلاّ هؤلاء ، فادحض مقالتهم وأبعد منزلتهم ؛ فإنّك إنْ فعلت

٣٩٦

ذلك ، تزدد من الله قُرباً ، ومن المؤمنين حبّاً. قال : وإنّكِ لتقولين ذلك؟! قالت : سبحان الله! والله ، ما مثلك مُدح بباطل ، ولا اعتُذر إليه بكذب ، وإنّك لتعلم ذلك من رأينا. كان والله ، عليٌّ أحبّ إلينا منك ، وأنت أحبّ إلينا من غيرك. قال : فما حاجتك؟ قالت : إنّ مروان تبنَّك بالمدينة تبنُّك مَن لا يُريد منها البراح ؛ لا يحكم بعدل ، ولا يقضي بسُنّة ، حبس ابن ابني فأتيته ، فقال : كيت وكيت ، فأسمعته أخشن من الحجر ، وألقمته أمرّ من الصّاب ، ثمّ رجعت إلى نفسي باللائمة ، وقلت : لمَ لا أصرف ذلك إلى مَن هو أولى بالعفو منه ، فأتيتك. قال : صدقتِ ، لا أسألك عن ذنبه ، والقيام بحجّته ، اكتبوا لها بإطلاقه. قالت : يا أمير المؤمنين ، وأنّى لي بالرجعة ، وقد نفد زادي وكلّت راحلتي؟! فأمر لها براحلة ، وخمسة آلاف درهم. وولده يزيد ، لمّا قَدمت عليه نساء الحسين (ع) ، كان إكرامه لهنّ أنْ التفت إلى سكينة بنت الحسين (ع) ، وقال لها : كيف رأيت صنع الله بكم؟ قالت له : اقصر عن كلامك يا بن الطليق ، حرمُك وجوارك خلف السّتور ، وبنات رسول الله سبايا! ثمّ التفت إلى اُمّ كلثوم ، وقال : كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين ، الذي أراد أن يأخذ مُلكي ، فخيّب الله أمله وقطع رجاه؟ فقالت : يا يزيد ، لا تفرح بقتل أخي الحسين ؛ فإنّه كان مطيعاً لله ولرسوله ، ودعاه الله إليه فأجابه ؛ وأمّا أنت يا يزيد ، فاستعدَّ للمسألة جواباً ، وأنّى لك بالجواب؟!

فويلُ يزيدٍ منْ عذابِ جهنَّمِ

إذا أقبلَتْ في الحشرِ فاطمةُ الطّهرُ

ملابِسُها ثوبٌ منَ السُّمِ أخضرُ

وآخرُ قانٍ منْ دمِ السِّبطِ مُحمَرُ

٣٩٧

المجلس السّابع والستّون بعد المئة

في العقد الفريد : دخلت عكرشة بنت الأطرش على معاوية متوكّئة على عكّاز ، فسلّمت عليه بالخلافة ، ثمّ جلست ، فقال معاوية : الآن صرتُ عندكِ أمير المؤمنين! قالت : نعم ، إذ لا عليٌّ حيٌّ. قال : ألستِ المتقلّدة حمائل السّيوف بصفّين ، وأنت واقفة بين الصفّين تقولين : أيها النّاس ، عليكم أنفسكم ، لا يضرّكم مَن ضلَّ إذا اهتديتم. إنّ الجنّة لا يرحل مَن أوطنها ، ولا يهرم مَن سكنها ، ولا يموت مَن دخلها ، فابتاعوها بدارٍ لا يدوم نعيمُها ، ولا تنصرم همومُها ، وكونوا قوماً مستبصرين في دينهم ، مستظهرين بالصبر على طلب حقّهم. إنّ معاوية دَلف إليكم بعجم العرب ، غُلف القلوب ، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة ؛ دعاهم بالدّنيا فأجابوه ، واستدعاهم إلى الباطل فلبّوه. فالله الله عباد الله في دين الله! إيّاكم والتواكل ؛ فإنّ ذلك ينقض عُرى الإسلام ، ويُطفئ نور الحقّ. هذه بدر الصغرى ، والعقبة الاُخرى يا معشر المهاجرين والأنصار ، امضوا على بصيرتكم ، واصبروا على عزيمتكم ، فكأنّي بكم غداً وقد لقيتم أهل الشام كالحُمُر الناهقة فكأني أراكِ على عصاك هذه ، وقد انكفأ عليك العسكران يقولون : هذه عكرشة بنت الأطرش ، فإنْ كدتِ لتقتلين أهل الشام ، لولا قدّر الله ، وكان أمر الله قدَراً مقدوراً. فما حملك على ذلك؟ قالت : إنّ اللبيب إذا كره أمراً لا يُحب إعادته. قال : صدقت ، اذكري حاجتك. قالت : إنّها كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فتُردّ على فقرائنا ، وإنّا قد فقدنا ذلك ؛ فما يجير لنا كسير ، ولا ينعش لنا فقير ، فإنْ كان ذلك عن رأيك ، فمثلك تنبّه عن الغفلة وراجع التوبة ، وإنْ كان عن غير رأيك ، فما مثلك استعان بالخَوَنة ولا استعمل الظَّلَمة. قال : يا هذه ، إنّه ينوبنا من اُمور رعيتنا اُمور. قالت : يا سبحان الله! والله ، ما فرض الله لنا حقّاً ، فجعل فيه ضرراً على غيرنا ، وهو علاّم الغيوب. قال معاوية : يا أهل العراق ، نبّهكم علي بن أبي طالب فلم تُطاقوا. ثمّ أمر بردّ صدقاتهم فيهم ، وأنصفها وهكذا جرت عادة الملوك والحكّام ـ وإنْ كانوا من الظلمة ـ في الإحسان إلى النّساء ، وإنْ كُنّ من أعدى

٣٩٨

الأعداء ، حتّى آل الأمر إلى يزيد بن معاوية ، وعامله عبيد الله بن زياد ، فلم يجريا على ما يوجبه الدّين الإسلامي من إكرام نساء آل الرسول (ص) ، ولا على ما تقتضيه الشيمة العربيّة حتّى قابلوا بنات رسول الله (ص) بما تقشعرّ منه الجلود ، وينفطر منه قلب كلّ مسلم. فمن ذلك ، قول عبيد الله بن زياد لزينب بنت أمير المؤمنين عليهما‌السلام : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت زينب : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (ص) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا. ومن ذلك ، قول يزيد لسكينة بنت الحسين (ع) : كيف رأيت صنع الله بكم؟ قالت له : اقصر عن كلامك يا بن الطليق ، حرمُك وجوارك خلف الستور ، وبنات رسول الله سبايا! ثمّ التفت إلى اُمّ كلثوم ، وقال : كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين ، الذي أراد أن يأخذ مُلكي ، فخيّب الله أمله وقطع رجاه؟ فقالت : يا يزيد ، لا تفرح بقتل أخي الحسين ؛ فإنّه كان مطيعاً لله ولرسوله ، ودعاه الله إليه فأجابه ؛ وأمّا أنت يا يزيد ، فاستعدَّ للمسألة جواباً ، وأنّى لك بالجواب؟!

وأعظمُ ما يُشجي الغيورَ دخولُها

إلى مجلسٍ ما بارحَ اللهوَ والخمْرا

يُقارضُها فيهِ يزيدُ مَسبَّةً

ويَصرفُ عنها وجهَهُ مُعرضاً كِبرا

٣٩٩

المجلس الثامن والستّون بعد المئة

في العقد الفريد : حجّ معاوية ، فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحُجون ، يقال لها : دارميّة الحجونيّة ، وكانت سوداء كثيرة اللحم. فاُخبر بسلامتها ، فبعث إليها فجيء بها ، فقال : ما جاء بك يابنة حام؟ فقالت : لستُ لحامٍ إنْ عبتني ؛ أنا امرأة من بني كنانة. قال : صدقت ، أتدرين لمَ بعثت إليك؟ قالت : لا يعلم الغيب إلاّ الله. قال : بعثت إليك لأسألك : عَلامَ أحببتِ عليّاً وأبغضتني؟ وواليته وعاديتني؟ قالت : أوَتعفيني؟ قال : لا أعفيك. قالت : أمّا إذا أبيت ، فإنّي أحببتُ عليّاً على عدله في الرعيّة ، وقسمه بالسويّة ، وأبغضتك على قتال مَن هو أولى منك بالأمر ، وطلبتك ما ليس لك بحقّ. وواليتُ عليّاً على ما عقد له رسول الله (ص) من الولاء ، وحبّه المساكين ، وإعظامه لأهل الدين ، وعاديتك على سفك الدماء ، وجورك في القضاء ، وحكمك في الهوى. قال : فلذلك انتفخ بطنك ، وعظم ثدياك ، وربت عجيزتك. قالت : يا هذا ، بهند والله ، كان يُضرب المثل في ذلك لا بي. قال معاوية : يا هذه ، أربعي فإنّا لم نقلْ إلاّ خيراً ، إنّه إذا انتفخ بطن المرأة تمّ خلق ولدها ، وإذا عظم ثدياها تروّى رضيعها ، وإذا عظمت عجيزتها رَزن مجلسها. فرجعت وسكتت. قال لها : يا هذه ، هل رأيت عليّاً؟ قالت : إي والله. قال : فكيف رأيته؟ قالت : رأيته والله ، لم يفتنه الملك الذي فتنك ، ولم تشغله النّعمة التي شغلتك. قال : فهل سمعت كلامه؟ قالت : نعم والله ، فكان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيتُ صدأ الطست. قال : صدقت ، فهل لك من حاجة؟ قالت : أوَتفعل إذا سألتك؟ قال : نعم. قالت : تعطيني مئة ناقة حمراء ، فيها فحلها وراعيها. قال : تصنعين بها ماذا؟ قالت : أغذو بألبانها الصغار واستحيي بها الكبار ، واكتسب بها المكارم وأصلح بها بين العشائر. قال : فإنْ أعطيتك ذلك ، فهل أحلُّ عندكِ محلَّ علي بن أبي طالب؟ قالت : سبحان الله! أوَ دونه؟! فأنشأ معاوية يقول :

٤٠٠