المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

المجلس الثاني والخمسون بعد المئة

لمّا كان يوم صفّين جاء علي أمير المؤمنين (ع) ، ومعه بنوه نحو رايات ربيعة ، فنادى (ع) بأعلى صوته : «لمَنْ هذه الرّايات؟». قالوا : هذه رايات ربيعة. فقال (ع) : «بل هي رايات الله ، عصم الله أهلَها ، وصبَّرهمْ وثبَّت أقدامهمْ». ثمّ قال (ع) للحضين بن المنذر : «يا فتى ، ألا تدني رايتك هذه ذراعاً؟». فقال له : نعم والله ، وعشرة أذرع. فأقبل بها حتّى أدناها ، فقال له : «حسبُك مكانك». وقال الحضين بن المنذر : أعطاني علي الراية ، وقال : «سِرْ على اسم الله يا حضين ، واعلم أنّه لا يخفق على رأسك راية مثلها أبداً ؛ لأنّها راية رسول الله (ص)». وزحف الحضين بن المنذر برايته ، وكانت حمراء ، فأعجب عليّاً زحفُه وثباته ، فأنشأ (ع) يقول :

لمَنْ رايةٌ حمراءُ يخْفقُ ظلُّها

إذا قِيل قدِّمهَا حُضينُ تَقدَّما

ويدنُو بها في الصَّفِّ حتّى يَديرها

حِمامُ المنايا تَقطُر الموتَ والدَّما

تراهُ إذا مَا كان يومُ عظيمةٍ

أبى فيهِ إلاّ عِزَّةً وتكرُّما

جزى اللهُ قوماً صابَرُوا في لقائِهمْ

لَدَى البأسِ حُرّاً ما أعفّ وأكرَما

وأحزمَ صبْراً حِينَ تُدعَى إلى الوغَى

إذا كانَ أصواتُ الكُماةِ تغمْغُما

ربيعةَ أعني إنّهُمْ أهلُ نجدةٍ

وبأسٍ إذا لاقَوا خميساً عرَمْرما

فلمّا أصبحوا في اليوم العاشر ، أصبحوا وربيعة محدقة بعلي (ع) ، إحداق بياض العين بسوادها. قال عتاب بن لقيط : إنْ اُصيب علي فيكم افتضحتم ؛ وقد لجأ إلى راياتكم. وقال لهم شقيق بن ثور : يا معشر ربيعة ، ليس لكم عذر في العرب إن اُصيب علي فيكم ومنكم رجل حيّ ، فقاتلوا قتالاً شديداً. وقام خالد بن المعمّر السَّدوسي ، فنادى : مَن يُبايع على الموت ويشري نفسه لله؟ فبايعه سبعة آلاف على أنْ لا ينظر رجل منهم خلفه حتّى يردوا سرادق معاوية. فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وقد كسروا جفون سيوفهم

٣٦١

فلمّا نظر إليهم معاوية قد أقبلوا ، قال :

إذا قلتُ قدْ ولَّتْ ربيعةُ أقبَلَتْ

كتائبُ منهُمْ كالجبالِ تُجالدُ

ثمّ خرج عن سرادقه هارباً إلى بعض مضارب العسكر فدخل فيه. ونذر معاوية سبي نساء ربيعة إنْ ظفر بهم ، وقتل رجالهم ، فقال في ذلك خالد بن المعمّر :

تمنَّى ابنُ حرْبٍ نذْرَةً في نِسْائِنا

ودونَ الذي ينْوي سيوفٌ قواضبْ

ولمْ يرث يزيد سبي نساء المسلمين عن كلالة ، بل ورث ذلك عن أبيه ، فكما نذر أبوه سبي نساء ربيعة إنْ ظفر بهم ، سبى هو نساء سادات المسلمين وعقائل بيت النّبوّة ، وأمر بحملهنّ إليه من العراق إلى الشام ، فحُملوا إليه على أقتاب الجمال ، وساروا بهنّ كما يُسار بسبايا الكفّار.

يُسار بها عُنْفاً بلا رِفقِ مَحْرَمٍ

بها غير مغلولٍ يحنُّ على صَعْبِ

ولمّا وردوا دمشق ، اُوقِفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي ، وبينهم زين العابدين (ع) وهو مغلول بغُلٍّ إلى عنقه ، وهو إمام أهل البيت الطاهر ، ووارث علوم جده الرسول (ص). ثمّ اُدخلوا على يزيد ، وهم مُقرَّنون في الحبال وزين العابدين (ع) مغلول ، فلمّا وقفوا بين يديه ، وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (ع) : «أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (ص) ، لو رآنا على هذه الصفة؟!». فلمْ يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (ع) :

خلتْ الحميَّةُ يا اُميّةُ فاخلَعِي

حُلَل الحَيا وبثوبِ بغْيكِ فارْفُلي

سوّدْتِ وجهَ حَفائظِ العَربِ التي

كرُمتْ إذا ظفرتْ برحلٍ مُفْضِلِ

٣٦٢

المجلس الثالث والخمسون بعد المئة

كان عبد الله بن بُديل الخزاعي مع علي (ع) يوم صفّين ، وعليه سيفان ودرعان ، وجعل يضرب النّاس بسيفه قُدُماً (١) وهو يقول :

لمْ يبقَ غيرُ الصَّبرِ والتَّوكُّلِ

والتِّرسِ والرُّمحِ وسيفٍ مِصقَلِ

ثُمّ التَّمشِّي في الرَّعيلِ الأوَّلِ

مَشِي الجمالِ في حِياضِ المنْهَلِ

فلمْ يزل يضرب بسيفه حتّى انتهى إلى معاوية ، فأزاله عن موقفه ، ومع معاوية عبد الله بن عامر واقفاً ، فأقبل أصحاب معاوية على عبد الله بن بديل يرضخونه بالصخر حتّى أثخنوه وقتلوه ، وأقبل إليه معاوية وعبد الله بن عامر ؛ فأمّا عبد الله بن عامر فألقى عمامته على وجهه وترحّم عليه ، وكان له أخاً وصديقاً. فقال له معاوية : اكشف عن وجهه. فقال عبد الله : والله ، لا يُمثّل به وفيّ الروح. فقال له معاوية : اكشف عن وجهه ، فقد وهبته لك. فكشف عن وجهه ، فقال معاوية : هذا كبش القوم وربّ الكعبة. اللهمّ ، ظفّرني بالأشتر النّخعي والأشعث الكندي ، والله ، ما مثل هذا إلاّ كما قال الشاعر :

أخو الحربِ إنْ عضَّتْ بهِ الحرْبُ عَضَّها

وإنْ شمٍرتْ عنْ ساقِها الحربُ شمَّرا

ويحْمِي إذا ما الموتُ كان لقَاؤهُ

لدى الشرِّ يحْمِي الأنْفَ أنْ يتأخَّرا

كليثِ هِزْبرٍ كانَ يحْمِي ذِمارَهُ

رَمتْهُ المنايَا فصدَّها فتَقطَّرا

مع أنّ نساء خُزاعة لو قدرت على أن تقاتلني ـ فضلاً عن رجالها ـ فعلت. أمَا كان يوم كربلاء رجل مثل عبد الله بن عامر ، فيضع عمامته على وجه الحسين (ع)

_______________________

(١) قُدُماً ، بضمتين : المضي أمام أمام. كذا في القاموس. ـ المؤلّف ـ

٣٦٣

ليمنع أهل الكوفة من أن يمثّلوا به وبأصحابه ؛ وذلك لمّا أمر ابن سعد ـ لعنه الله ـ بقطع رأس الحسين (ع) ورؤوس أصحابه ، ففعل أهل الكوفة ما أمرهم به ، فقطعوا الرؤوس وحملوها على رؤوس الرماح ، وبعث بها من كربلاء إلى الكوفة ـ إلى عبيد الله بن زياد ـ مع خولي بن يزيد الأصبحي ، وحميد بن مسلم ، وشمر بن ذي الجوشن؟! ولمْ يكفهم ذلك حتّى نادى عمر بن سعد في أصحابه : مَن ينتدب للحسين ، فيوطئ الخيل صدره وظهره؟ فانتدب منهم عشرة فوارس ، فداسوا جسد الحسين (ع) بحوافر خيولهم حتّى رضّوا صدره وظهره ، وجاؤوا حتّى وقفوا على ابن زياد ـ لعنه الله ـ فقال أحدهم :

نحنُ رضَضْنا الصَّدرَ بعدَ الظَّهرِ

بكلِّ يَعْبُوبٍ شدِيدِ الأسْرِ

تطأُ الصَّواهلُ جسْمَهُ وعلى القنَا

منْ رأسِهِ المرْفُوعِ بدْرُ سمَاءِ

٣٦٤

المجلس الرابع والخمسون بعد المئة

روى غير واحد من المؤرخين ، عن أبي الأغر التميمي قال : إنّي لَواقف يوم صفّين ، إذ مرّ بي العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وهو شاكٍ في السّلاح ؛ على رأسه مغفر ، وبيده صفيحة يمانية يقلّبها ، وهو على فرس له أدهم ، وكأنّ عيناه عيني أفعى. فبينا هو يروّض فرسه ويلين من عريكته ، إذ هتف به هاتف من أهل الشام يُقال له غرار : هلمّ يا عبّاس إلى البزاز. قال : فالنّزول إذاً ؛ فإنّه أبأس من القفول. فنزل الشامي وهو يقول :

إنْ ترْكَبُوا فركوبُ الخيلِ عادتُنَا

أو تَنْزلُوا فإنّا معْشرٌ نُزُلُ

وثنى العبّاس رجله ، ثمّ عصب فضلات درعه في حجزته ودفع فرسه إلى غلام له أسود ، ودلف كلّ واحد منهما إلى صاحبه. قال أبو الأغر : فذكرت قول أبي ذؤيب :

فتَنازلا وتواقَفتْ خيلاهُمَا

وكلاهُمَا بطلُ اللّقاءِ مُجدِّع

ثمّ تكافحا بسيفهما مليّاً ، لا يصل واحد منهما إلى صاحبه ؛ لكمال لامته ، إلى أنْ لحظ العبّاس وهناً في درع الشامي ، فأهوى إليه بيده فهتكه إلى صدره ، ثمّ عاد لمجاولته وقد أصحر له مفتق الدرع ، فضربه العبّاس ضربة انتظم بها جوانح صدره ، وخرّ الشامي صريعاً لخلده ، وسما العبّاس في النّاس ، وكبّر النّاس تكبيرة ارتجّت لها الأرض. قال أبو الأغر : فسمعت قائلاً يقول من ورائي : (يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) فالتفت فإذا هو أمير المؤمنين (ع) ، فقال (ع) : «يا أبا الأغر ، مَن المبارز لعدوّنا؟». قلت : العبّاس بن ربيعة. قال (ع) : «يا عبّاس». قال : لبيك. قال (ع) : «ألمْ أنهك ، وحسناً وحسيناً

٣٦٥

وعبد الله بن جعفر ، أنْ تخلّوا بمراكزكم وأنْ تُباشروا حرباً؟». قال : أفاُدعى يا أمير المؤمنين إلى البزار ، فلا اُجيب جعلت فداك؟! قال (ع) : «نعم ، طاعةُ إمامِك أولى. ودّ معاوية أنّه ما بقي من بني هاشم نافخُ ضرمة إلاّ طُعن في قلبه ؛ إطفاءً لنور الله ، وَيَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ». وبلغ الخبر إلى معاوية ، فقال : ألا رجل يطلب بدم غرار؟ فانتدب له رجلان من لَخم ، فقال معاوية : أيّكما قتل العبّاس ، فله كذا. فأتيا العبّاس ، فقال : إنّ لي سيّداً اُؤامره. فأتى إلى أمير المؤمنين (ع) فأخبره ، فقال (ع) : «ناقلني سلاحك بسلاحي». فناقله ، وركب عليٌ فرس العبّاس ، فلم يشكّ الشاميان أنّه العبّاس ، فقالا له : أذنَ لك سيّدك؟ فقال : (أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنّ اللّهَ عَلَى‏ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). فبرز إليه أحدهما فكأنّما اختطفه ، ثمّ برز إليه الثاني فألحقه بالأوّل وانصرف ، وهو يقول : (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى‏ عَلَيْكُمْ) فبلغ ذلك معاوية ، فقال : قبّح الله اللجاج ؛ ما ركبته ألاّ خُذلت. فقال عمرو بن العاص : المخذول والله ، اللخميان لا أنت. أقول : إنّ الذي خفته يا أمير المؤمنين على بني هاشم يوم صفّين ، فكنت تقيهم بنفسك ، ولا تأذن لهم في المبارزة ؛ خوفاً عليهم ، قد أدركه منهم بنو اُميّة يوم كربلاء ، فأفنوهم قتلاً ، ولمْ يتركوا منهم نافخ ضرمة قتلوا ولدك الحسين (ع) وذبحوه كما يُذبح الكبش ، وقتلوا معه سبعة عشر رجلاً من أهل بيتك من بني هاشم ، ما لهم على وجه الأرض شبيه. ولئن نجا منهم ـ بسببك ـ ابن عمّك العبّاس بن ربيعة يوم صفّين ، فلم ينجُ منهم ولدك أبو الفضل العبّاس يوم كربلاء.

قطَعُوا يَديهِ وهامُهُ فَلَقُوهُ في

عَمَدِ الحديدِ فَخرَّ خيرُ طَعينِ

ومشَى إليهِ السّبطُ ينْعاهُ كسَرْ

تَ الآنَ ظهْري يا أخي ومُعيني

عباسُ كبشَ كَتيْبَتي وكِنانَتي

وسريَّ قومي بلْ أعزّ حُصوني

فرسٌ ملكتَ بها الشَّريعةَ إنّها

عادَتْ إليَّ بصفقةِ المغْبُونِ

٣٦٦

المجلس الخامس والخمسون بعد المئة

روى نصر بن مزاحم في كتاب صفّين ، عن عمّار بن ربيعة قال : صلّى علي (ع) بالنّاس صلاةَ الغَداة بصفّين ، ثمّ زحف إلى أهل الشام ، وكانت الحرب أكلت الفريقين ، ولكنّها في أهل الشام أشدّ نكايةً وأعظم وقعاً ، فقد ملّوا الحرب وكرهوا القتال ، وتضعضعت أركانهم. فخرج من أهل العراق رجل على فرس كميت ذَنوب ، عليه السّلاح ، لا يرى منه إلاّ عيناه ، وبيده الرمح ، فجعل يضرب رؤوس أصحاب علي بالقناة ويقول : سوّوا صفوفكم. حتّى إذا عدّل الصفوف والرايات ، استقبلهم بوجهه وولّى أهل الشام ظهره ، ثمّ حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : الحمد لله الذي جعل فيكم ابن عم نبيّكم ، أقدمهم هجرة وأوّلهم إسلاماً ، سيفٌ من سيوف الله صبّه على أعدائه. فانظروا إليّ : إذا حمي الوطيس ، وثار القتام ، وتكسّر المرّان ، وجالت الخيل بالأبطال ، فلا أسمع إلاّ غمغمة أو همهمة ، [فاتبعوني وكوني في إثري]. ثمّ حمل على أهل الشام وكسر فيهم رمحه ثمّ رجع ، فإذا هو الأشتر. وزحف النّاس بعضهم إلى بعض ، فارتموا بالنّبل حتّى فنيت ، ثمّ تطاعنوا بالرماح حتّى كُسرت واندقّت ، ثمّ مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسّيوف وعمد الحديد ، فلم يسمع السّامع إلاّ وقع الحديد على الحديد. قال : وانكسفت الشمس ، وثار القتام ، وضلّت الألوية والرايات ، والأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة ، فيأمر كلّ قبيلة أو كتيبة من القرّاء بالإقدام على التي تليها. قال : فاجتلدوا بالسّيوف وعمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل ، لمْ يُصلّوا لله صلاة ، فلمْ يزل يفعل ذلك الأشتر بالنّاس ، وافترقوا على سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم وتلك الليلة ، وهي ليلة الهرير. وقُتل يوم صفّين عبد الله بن كعب ، فمرّ به الأسود بن قيس بآخر رمق ، فقال : عزّ والله ، عليَّ مصرعك. أما والله ، لو شهدتك لآسيتك ولدافعت عنك ، ولو أعرف الذي صرعك ، لأحببت أن لا يزايلني حتّى يُلحقني بك. ثمّ نزل إليه ، فقال : والله ، إنْ كان جارك ليأمن بواثقك ، وإنْ كنت من الذاكرين الله كثيراً ، أوصني رحمك الله. قال : اُوصيك بتقوى الله ، وأن تناصح

٣٦٧

أمير المؤمنين ، وأنْ تُقاتل معه المحلّين حتّى يظهر الحقّ أو تلحق بالله. وأبلغه عنّي السّلام ، وقُل له : قاتل على المعركة حتّى تجعلها خلف ظهرك ؛ فإنّه من أصبح والمعركة خلف ظهره كان الغالب. ثمّ لم يلبث أنْ مات. فأقبل الأسود إلى علي (ع) فأخبره ، فقال (ع) : «رحمه الله ، جاهد معنا عدونا في الحياة ، ونصح لنا في الوفاة». ما أشبه وصيّة عبد الله للأسود بوصية مسلم بن عوسجة لحبيب بن مظاهر ؛ وذلك لمّا صرع ابن عوسجة فمشى إليه الحسين (ع) ، ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال الحسين (ع) : «رحمك الله يا مسلم ، (فَمِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً). ودنا منه حبيب ، فقال : عزّ عليَّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة. فقال له مسلم قولاً ضعيفاً : بشرّك الله بخير. ثمّ قال له حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي في الأثر من ساعتي هذه ، لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك. فقال له مسلم : فإنّي اُوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين (ع) ـ فقاتل دونه حتّى تموت. فقال له حبيب : لأنعمنّك عيناً. ثمّ مات رضوان الله عليه :

إنّ امرأً يمشِي لمصرَعِهِ

سبطُ النَّبيِّ لَفاقدُ التِّربِ

أوصَى حبيباً أنْ يجُودَ لهُ

بالنَّفسِ من مِقَةٍ ومنْ حُبِّ

أعززْ علينا يابنَ عَوْسجةٍ

منْ أنْ تفارقَ ساحةَ الحربِ

عانقْتَ بيضَهُمُ وسمرهُمُ

ورجعتَ بعدُ مُعانقَ التَّربِ

أبكي عليكّ وما يُفيدُ بُكا

عيني وقدْ أكلَ الأسَى قلبي

٣٦٨

المجلس السّادس والخمسون بعد المئة

عن ابن عبّاس ، قال : عقمُت النّساء أنْ يأتين بمثل علي بن أبي طالب (ع)! فوالله ، ما كشفت ذيولهنّ عن مثله ، وقد شهدته يوم صفّين وعلى رأسه عمامة سوداء ، وعيناه كأنّهما سراجاً سليطاً يتوقّدان من تحتها ، وهو يقف على كلّ شِرْذِمة يحرّضهم على الحرب ، إذْ طلعت علينا خيل لمعاوية ، وهي عشرة آلاف دارع على عشرة آلاف أشهب ، فاقشعرّ النّاس لمّا رآوها ، وانحاز بعضهم إلى بعض. قال أمير المؤمنين (ع) : «فيمَ الهلعُ والنَّخعُ يا أهل العراق! هل هي إلاّ أشخاصٌ ماثلة فيها قلوبٌ طائرة ، لو مسّتها سيوف أهل الحقِّ لتهافتت تهافت الفراش في النّار ، سفّتها الريح في يوم عاصف ، فادَّرعوا الصَّبر وغُضّوا الأصوات ، وقلقلوا الأسياف في الأغماد ، وصلوا السّيوف بالخُطا ، والرماح بالنّبال ؛ فإنّكم بعين الله ومع أخي رسول الله (ص). وعليكم بهذا السّرادق الأدلم ، والرواق المُظلم ، فاضربوا ثبجه ؛ فإنّ الشيطان راقد في كسره ، نافج حضنيه ، مفترش ذراعيه ، قد قدّم للوثبة يداً ، وأخَّر للنكوص رجلاً. ألا إنّ خِضاب النّساء الحَنّاء ، وخضاب الرجال الدماء ، فصمداً صمداً حتّى ينجلي لكم عمود الحقِّ وأنتم الأعلَون ، فشِدّوا على اسم الله تعالى». ثمّ حمل (ع) وتبعته خويلة لم تبلغ المئة فارس ، وهو (ع) يقول :

دبُّوا دَبيْبَ النَّملِ لا تفُوتُوا

وأصبِحُوا بحربِكُمْ وبيتُوا

حتّى تنالُوا الثأرَ أو تَموتُوا

أو لا فإنّي طالما عُصِيت

قال : فأجالها أبو الحسن جَوَلان الرّحا ، فارتفعت عجاجة منعتني النّظر ، فلم أرَ إلاّ رأساً نادراً ويداً طائحة ، فما كان أسرع من أنْ ولّى أهل الشام مدبرين : كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ وإذا بأمير المؤمنين (ع) يمسح العلق عن ذراعيه ، وسيفه ينطف دماً ، ووجهه كشقة القمر الطالع ، وهو يقول : «فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ

٣٦٩

أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ».

فلا سيْفَ إلاّ ذُو الفقَارِ ولا فَتَى

سوى حيدرِ الكرْارِ مُردي القسَاورِ

فيا ليتَهُ لا غابَ عنْ يومِ كربَلا

فتلكَ لعَمْرُ اللهِ اُمُّ الكبائِرِ

إي والله ، يا ليته لا غاب عن يوم كربلاء ليرى عزيزه الحسين (ع) ، وقد أحاط به ثلاثون ألفاً من أهل الكوفة ، وهو ينادي : «هل منْ ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله (ص)؟ هل منْ مُوحد يخاف الله فينا؟ هل منْ مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ هل منْ مُعين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟». فارتفعت أصوات النّساء بالعويل ، وحمل النّاس عليه عن يمينه وشماله ، فحمل على الذين عن يمينه فتفرّقوا ، ثمّ حمل على الذين عن يساره فتفرّقوا. قال بعض الرواة : فوالله ، ما رأيت مكثوراً (أي : مغلوباً) قطْ قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشاً ، ولا أمضى جناناً ، ولا أجرأ مقدماً منه. والله ، ما رأيت قبله ولا بعده مثله ؛ إنْ كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إنْ شدّ فيها الذئب. ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون من بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : «لا حول ولا قوّة إلا بالله». وهو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد ، وكلمّا حمل بفرسه على الفرات ، حملوا عليه بأجمعهم حتّى أجلوه عنه.

وعادَ ريحانَةُ المُختارِ مُنفرِداً

بينَ العِدى ما لَهُ حامٍ ولا عَضد

يكرُّ فيهِمْ بماضِيهِ فيهزمُهُمْ

وهُمْ ثلاثُون ألفاً وهوَ مُنفَرد

٣٧٠

المجلس السّابع والخمسون بعد المئة

كان عمّار بن ياسر رضوان الله عليه من السّابقين الأوّلين ، هاجر الهجرتين إلى الحبشة والمدينة ، وصلّى إلى القبلتين ، وشهد بدراً واليمامة وأبلى فيهما بلاءً حسناً. وكان هو واُمّه ممّن يُعذَّب في الله ، فأعطاهم عمّار ما أرادوا بلسانه ، فنزل فيه : (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ) وقال رسول الله (ص) ـ كما رواه ابن حجر في الإصابة ـ : «مَن عادى عمّاراً عاداه الله ، ومَن أبغض عمّاراً أبغضه الله». قال : وتواترت الأحاديث عن النّبي (ص) : «إنّ عمّاراً تقتله الفئة الباغية». وأجمعوا على أنّه قُتل مع علي (ع) بصفّين. وفي الإستيعاب : هذا من إخباره (ص) بالغيب وإعلام نبوّته ، وهو من أصحّ الأحاديث. وقال رسول الله (ص) : «إنّ عمّاراً مُلئَ إيماناً إلى مشاشه (١)». ويُروى : «إلى أخمص قدميه». وقال (ص) : «عمّارٌ جلدةٌ ما بين عيني». ورآه النّبي (ص) يوم بناء المسجد يحمل لبنتين لبنتين ، وغيره لبنة لبنة ، فجعل ينفض التراب عنه ، ويقول : «ويح عمّار! يدعوهم إلى الجنّة ، ويدعونه إلى النّار». وقيل لحذيفة حين احتضر ـ وقد ذكر الفتنة ـ : إذا اختلف النّاس بمَن تأمرنا؟ قال : عليكم بابن سُميّة ـ يعني : عمّاراً ـ ؛ فإنّه لنْ يفارق الحقّ حتّى يموت. وروى نصر بن مزاحم : أنّه لمّا كانت وقعة صفّين ، ونظر عمّار إلى راية عمرو بن العاص ، قال : والله ، هذه الراية قد قاتلتها ثلاث عركات ، وما هذه بأرشدهن. ولمّا كان يوم صفّين خرج عمّار إلى أمير المؤمنين (ع) ، فقال : يا أخا رسول الله ، أتأذن لي في القتال؟ فقال (ع) : «مهلاً ، رحمك الله». فلمّا كان بعد ساعة ، أعاد عليه الكلام ، فأجابه بمثله ، فأعاده ثالثاً ، فبكى أمير المؤمنين (ع) ، فنظر إليه عمّار ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّه اليوم الذي وصفه لي رسول الله (ص)؟ فنزل أمير المؤمنين (ع)

_________________

(١) المشاش ، جمع مشاشة : وهي رأس العظم الممكن المضغ. ـ المؤلّف ـ

٣٧١

عن بغلته ، وعانق عمّاراً وودّعه ، ثمّ قال : «يا أبا القيظان ، جزاك الله عن الله وعن نبيك خيراً ، فنعمَ الأخُ كُنتْ! ونعمَ الصاحبُ كُنتْ!». ثمّ بكى أمير المؤمنين (ع) وبكى عمّار ، ثمّ ركب أمير المؤمنين (ع) وركب عمّار. ما أشبه حالة أمير المؤمنين (ع) حين استأذنه عمّار في المبارزة ، بحالة الحسين (ع) حين استأذنه ولده علي الأكبر في المبارزة ؛ وكان علي من أصبح النّاس وجهاً وأحسنهم خلقاً ، وكان عمره تسع عشرة سنة ، فاستأذن أباه في القتال فأذن له ، ثمّ نظر إليه نظرة آيس منه ، وأرخى عينيه فبكى ، ثمّ رفع سبابتيه نحو السّماء ، وقال (ع) : «اللهمّ ، كُنْ أنت الشهيد عليهم ، فقد برز إليهم غُلام أشبه النّاس خَلْقاً وخُلْقاً ومَنْطقاً بنبيّك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه. اللهمّ ، امنعهم بركات الأرض ، وفرِّقهم تفريقاً ومزِّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قِدداً ، ولا تُرضِ الولاةَ عنهم أبداً ؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ، ثمّ عدوا علينا يُقاتلوننا». قال : وبرز عمّار إلى القتال ، وكان قد جاوز التسعين ، وأنشأ يقول :

نحنُ ضربناكُمْ على تَنْزيلِهِ

فاليوم نضربكُمْ على تأويلِهِ

ضرباً يُزيلُ الهامَ عنْ مَقيلِهِ

ويُذهلُ الخليلَ عنْ خليلِهِ

أو يَرجِع الحقُّ إلى سبيلِهِ

ثمّ قال : والله ، لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هَجَر ، لعلمنا أنّا على الحقِّ وأنّهم على الباطل. ثمّ قال : الجنّة تحت ظلال الأسنّة. اليومَ ألقَى الأحبَّهْ مُحمّداً ثُمّ حزْبَهْ واشتدّ به العطش فاستسقى ، فاُتي إليه بلبن فشربه ، ثمّ قال : هكذا عَهد إليّ رسول الله (ص) أنْ يكون آخر زادي من الدّنيا شربة من لبن. وحمل عليه ابن جون السكسكي ، وأبو العادية الفزاري ؛ فأمّا أبو العادية فطعنه ؛ وأمّا ابن جون فاحتزّ رأسه. وكما حمل عمّار على النّاس وارتجز ، حمل علي بن الحسين عليهما‌السلام على النّاس ، وجعل يرتجز ويقول :

أنا عليُ بنُ الحُسينِ بنِ عليْ

نحنُ وبيتِ اللهِ أوْلَى بالنَّبيْ

تاللهِ لا يحكُمُ فيْنا ابنُ الدَّعيْ

أضربُ بالسَّيفِ اُحامِي عنْ أبي

ضربَ غُلامٍ هاشِميٍّ عَلَوي

ولكن لمّا اشتدّ العطش بعمّار رجع واستسقى فسُقي اللّبن ، ولمّا اشتدّ العطش بعلي الأكبر رجع إلى أبيه ، وهو يقول : يا أبتِ ، العطش قتلني ، وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربةٍ من الماء سبيل؟ فبكى الحسين (ع) وقال : «وآ غوثاه! يا بُنَي ، من أين آتي لك بالماء؟ قاتِل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمّد (ص) ، فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً

٣٧٢

لا تظمأ بعدها أبداً». فجعل يكرّ كرّة بعد كرّة والأعداء يتّقون قتله ، فطعنه مُرّة بن منقذ فصرعه ، فنادى يا أبتاه عليك السّلام ، هذا جدّي يُقرِئك السّلام ، ويقول لك : «عجّل القدوم علينا». واعتوره النّاس فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين (ع) حتّى وقف عليه وقال : «قتل الله قوماً قتلوك يا بُنَي ، ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول! على الدّنيا بعدك العفا». وخرجت زينب بنت علي عليهما‌السلام وهي تنادي : يا حبيباه! ويابن أخاه! فأكبّت عليه ، فجاء الحسين (ع) فأخذ بيدها وردّها إلى الفسطاط ، وأقبل بفتيانه ، وقال : «احملوا أخاكم». فحملوه من مصرعه حتّى وضعوه بين يدَي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.

يا كوكباً مَا كان أقصرَ عُمرَهُ

وكذا تكونُ كواكِبُ الأسْحارِ

جاورتُ أعْدائي وجاوَر ربَّهُ

شتّان بينَ جِوارِهِ وجِواري

ولمّا قُتل عمّار صلّى عليه أمير المؤمنين (ع) ودفنه بثيابه ، وهو مقطوع الرأس ؛ وذلك لأنّ الشهيد يُدفن بثيابه ودمائه ، ولا تُنزع عنه ثيابه ولا يُغسّل ؛ ليخاصم مَن قتله بين يدي ربّه وهو كذلك. أجل ، فمَن صلّى على شهيد كربلاء أبي عبد الله الحسين (ع) ، وهو مقطوع الرأس ، ودفَنه؟ لمْ يُصلِّ عليه أحد ولم يدفنه ، بل تُرِك ثلاثاً على وجه الصعيد بغير دفن ، ولمّا دُفن لمْ يُدفن بثيابه ، لماذا؟ لأنّه لم يكن عليه ثياب ، بل كان عارياً ، قد سُلبت منه ثيابُه كلُّها حتّى الثوب الذي خرقه ووضعه تحت ثيابه ؛ لئلاّ يُسلب منه ، فلم يتركوه له ، وسلبوه إيّاه وتركوه عارياً :

للهِ مُلقىً علَى الرَّمضاءِ غصَّ بهِ

فَمُ الرَّدَى بين أقدامٍ وتشْمِيرِ

تحنُو عليهِ الرُّبى ظلاّ ًوتسْترُهُ

عنْ النَّواظرِ أذيالُ الأعاصِيرِ

تهابُهُ الوحشُ أنْ تدنُوا لمصرَعِهِ

وقدْ أقامَ ثلاثاً غيرَ مقْبُور

٣٧٣

المجلس الثامن والخمسون بعد المئة

لمّا كان يوم صفّين دفع علي (ع) الراية إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص ، ويُسمّى : المرقال ؛ لأنّه كان يرقل بالراية إرقالاً. وكان عليه درعان ، وكان من خيار أصحاب أمير المؤمنين (ع) وشجعانهم ، وكان أعور ، فقال له علي (ع) كالمُمازح : «أمَا تخشى أنْ تكون أعورَ جباناً؟». قال : ستعلم يا أمير المؤمنين ، والله ، لألفنّ بين جماجم القوم لفّ رجل ينوي الآخرة. فأخذ رمحاً فهزّه فانكسر ، ثمّ أخذ آخر فوجده جاسياً فألقاه ، ثمّ أخذ رمحاً ليّناً فشدّ به اللواء وهزّه ، وقال :

أعْوَرُ يبْغي رُمْحهُ محَلاَّ

قَدْ عالجَ الحياةَ حتّى ملاَّ

لا بُدَّ أنْ يَغُلَّ أو يُغلاَّ

أشلُّهُمْ بذي الكُعوبِ شَلاَّ

معَ ابنِ عمِّ أحمدَ المُعلَّى

فيهِ الرَّسولُ بالهُدَى استَهلاَّ

أوّلُ مَنْ صَدَّقهُ وصلَّى

فجاهدَ الكُفّارَ حتّى أبلَى

وجعل عمّار بن ياسر يتناوله بالرمح ، ويقول : اقدم يا أعور ، لا خيرَ في أعور لا يأتي الفزعْ. وكان هاشم عالماً بالحرب ، فجعل عمرو بن العاص يقول : إنّي لأرى لصاحب الراية السّوداء عملاً ، لئن دام على هذا ، ليفنينّ العرب اليوم. وزحف هاشم بالراية ، واقتتل النّاس قتالاً شديداً لم يُسمع بمثله ، وجعل هاشم يقول :

أعْوَرُ يبْغي نفسَهُ خَلاصَا

مثلُ الفنِيقِ لابِساً دِلاصَا

قدْ جرَّبَ الحربَ ولا أناصَا

لا ديَّةً يخْشَى ولا قِصاصَا

كلُّ إمرئٍ وإنْ كبَا وحاصَا

ليسَ يرَى منْ مَوتِهِ مَناصَا

وقاتل هاشم وأصحابه قتالاً شديداً ، فحمل عليه الحارث التنوخي فطعنه فسقط ، وبعث إليه علي (ع) : «أنْ قدّم لواءَك». فقال للرسول : انظر إلى بطني ، فإذا هو قد

٣٧٤

انشق. ومرّ عليه رجل وهو صريع ، فقال له : اقرأ أمير المؤمنين السّلام ، وقُل له : أنشدك بالله ، إلاّ أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى ؛ فإنّ الغلبة تكون لمَن غلب على القتلى. فسار علي (ع) في الليل حتّى جعل القتلى خلف ظهره ، وكانت له الغلبة عليهم. ولمّا قُتل هاشم ، جزع النّاس عليه جزعاً شديداً ، وقُتل معه جماعة من أسلَم من القُرّاء ، فمرّ بهم علي (ع) وهم قتلى ، فقال :

جزَى اللهُ خَيراً عُصبةً أسلميَّةً

صِباحَ الوجوهِ صُرِّعُوا حولَ هاشمِ

يزيدٌ وعبدُ اللهِ بشرٌ ومعْبدٌ

وسُفيانَ وابنا هاشمٍ ذي المكَارمِ

وعُرْوةُ لا يُبعَدْ ثَناهُ وذكْرُهُ

إذا اختَرطتْ يوماً خفافُ الصَّوارمِ

لله درّ هاشم المرقال! ما أشد حبّه لأمير المؤمنين ، وأصدق ولاءه! نصر أمير المؤمنين في حياته وعند مماته. ويُشبهه في ذلك من أنصار الحسين (ع) مسلم بن عوسجة الأسدي ؛ فإنّه لمّا صُرع وبقي به رمق ، فمشى إليه الحسين (ع) ومعه حبيب بن مظاهر فقال الحسين (ع) : رحمك الله يا مسلم ، (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). ودنا منه حبيب فقال : عزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة. فقال له مسلم قولاً ضعيفاً : بشّرك الله بخير. ثمّ قال له حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي في الأثر من ساعتي هذه لأحببتُ أنْ توصيني بكلِّ ما أهمّك. فقال له مسلم : فإنّي اُوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين (ع) ـ فقاتِل دونه حتّى تموت. فقال له حبيب : لأنعمنّك عيناً. ثمّ مات رضوان الله عليه.

عانَقُوا المُرْهفاتِ حتّى تهاوَوا

صَرعَى في الثَّرى بحرِّ الصِّيوفِ

٣٧٥

المجلس التاسع والخمسون بعد المئة

لمّا كان يوم صفّين ، وقُتل هاشم بن عتبة المرقال ، وكانت معه راية أمير المؤمنين (ع) ، أخذ الراية ولده عبد الله بن هاشم ، وجعل يقول :

أهاشمُ بنَ عُتبَةِ بنِ مالِكْ

أعززْ بشيخٍ منْ قُريشٍ هالِكْ

تَخبطُهُ الخيْلاتُ بالسَّنابِكْ

في أسْوَدٍ منْ نقْعهِنَّ حالِكْ

أبشرْ بحورِ العِينِ في الأرائِكْ

والرَّوحِ والرَّيحانِ عندَ ذلكْ

ثمّ إنّ عبد الله حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيها النّاس ، إنّ هاشماً كان عبداً من عباد الله الذين قدّر أرزاقهم ، وأحصى أعمالهم ، وقضى آجالهم ، فدعاه الله ربّه الذي لا يُعصى ، فأجابه وسلّم لأمر الله ، وجاهد في طاعة ابن عمِّ رسول الله ، وأوّل مَن آمن به ، وأفقههم في دين الله ، المخالف لأعداء الله المستحلّين ما حرّم الله ، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد ، واستحوذ عليهم الشيطان فزيّن لهم الإثم والعدوان ، فحقّ عليكم جهاد مَن خالف سُنّة رسول الله (ص) ، وعطّل حدود الله ، وخالف أولياء الله. فجُودوا بمُهج أنفسكم في طاعة الله في هذه الدنيا ؛ تُصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى والمُلك الذي لا يبلى ، فلو لم يكن ثوابٌ ولا عقاب ، ولا جنّةٌ ولا نار ، لكان القتال مع عليٍّ أفضل من القتال مع معاوية ابن آكلة الأكباد ، فكيف وأنتم ترجون ما ترجون؟! فلمّا انقضى أمر صفّين ، وسلّم الحسن (ع) الأمر لمعاوية ، نادى منادي معاوية : أمِنَ الأسود والأحمر بأمان الله ، إلاّ عبد الله بن هاشم. فاختفى عبد الله عند امرأة بالبصرة من بني مخزوم ، فدُلّ عليه معاوية ، فبعث إلى زياد : أنْ ائتِ دار فلانة المخزوميّة ، فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها ، فاحلق رأسه ، والبسه جُبّة شعر ، وقيّده وغلّ يده إلى عنقه ، وأحمله على قتب بعيرٍ بغير وطاء ولا غطاء ، وأنفذ به إليّ. ففعل به زياد ذلك وأنفذه إلى معاوية ، فوصل إليه وقد لاقى تعباً كثيراً ، وغيّرت الشمس وجهه ، فعرفه

٣٧٦

معاوية ولمْ يعرفه عمرو بن العاص ، فقال معاوية : يا أبا عبد الله ، أتعرف هذا الفتى؟ قال : لا. قال : هذا ابن الذين كان يقول في صفّين :

أعْورُ يبْغِي أهلَهُ مَحَلاّ

قدْ عالجَ الحياةَ حتّى مَلاّ

لا بُدَّ أنْ يَغُلَّ أو يُغلاّ

فقال عمرو : يا أمير المؤمنين ، هذا المحتال ابن المرقال ، فدونك الضبّ المضب ، فإنّ العصا من العصية ، وإنّما تَلد الحيّة حيّة ، وجزاء السيئة سيئة مثلها. فقال له ابن هاشم : ما أنا بأوّل رجل خذله قومه وأدركه يومه. فقال معاوية : تلك ضغائن صفّين ، وما جنى عليك أبوك. فقال عمرو : يا أمير المؤمنين ، أمكني فأشخب أوداجه على أثباجه. فقال له ابن هاشم : فهلاّ كانت هذه الشجاعة منك يابن العاص أيام صفّين ، حين ندعوك إلى النّزال ، وقد ابتلّت أقدام الرجال من نقع الجريال (١) ، وقد تضايقتْ بك المسالك ، وأشرفتَ فيها على المهالك؟ فاُعجب معاوية ما سمع من كلام ابن هاشم ، فأمر به إلى السجن ، وكفّ عن قتله ، فقال عمرو :

أمرتُكَ أمراً حازِماً فعَصَيْتَني

وكانَ منَ التَّوفيقِ قتلُ ابنِ هاشمِ

أليسَ أبوُهُ يا مُعاويةُ الَّذِي

رَماكَ علَى جدٍّ بحزِّ الغلاصمِ

فما بَرحُوا حتّى جرتْ منْ دمائِنا

بصفّين أمثالِ البُحورِ الخضَارمِ

وهذا ابنُهُ والمرءُ يُشْبهُ أصلَهُ

سنقرعُ إنْ أبقيتَهُ سِنَّ نادمِ

فقال ابن هاشم يجيبه :

معاويَ إنّ المرْءَ عَمراً أبتْ لهُ

ضَغينةُ صَدْرٍ غِشُّها غيرُ سالمِ

يَرى لكَ قتْلي يابنَ حرْبٍ وإنّما

يَرى ما يَرَى عمرٌو مُلوكُ الأعاجمِ

على أنّهُم لا يَقتلُونَ أسيرَهُمْ

إذا أثقلَ الأعْناقَ حَملُ المغَارمِ

وقدْ كانَ منَّا يومَ صفّين نغْزةٌ

عليكَ جناهَا هاشمٌ وابنُ هاشمِ

قَضى الله ُ فيها ما قَضى ثَمّة انْقَضى

ومَا ما مَضى إلاّ كأضغاثِ حالمِ

هي الوقعةُ العُظْمَى الَّتي تعْرفونَها

وكلٌّ على ما قدْ مَضى غيرُ نادمِ

فإنْ تعفُ عنَّي تعفُ عنْ ذِي قرَابةٍ

وإنْ تَرَ قَتلي تَسْتحلُ مَحارمي

وهكذا كانت معاملة معاوية لشيعة أمير المؤمنين (ع) بعد ما تمّ له الأمر

________________

(١) الجريال : صبغ أحمر ، وأراد به هنا : الدّم ، تشبيهاً له بذلك الصبغ. ـ المؤلّف ـ

٣٧٧

فإنّه بعد ما شرط عليه الحسن (ع) أنْ لا يتعرّض لشيعته وشيعة أبيه ، قتل حجرَ بن عدي وأصحابه ، وعمرو بن الحمق ، وتتبَّع شيعة علي (ع) ؛ يُخيفهم ، ويسجنهم ، ويسومهم سوء العذاب ، وسلّط عليهم زياد بن أبيه ففعل بهم الأفاعيل. ولقد أشار جلساء السّوء على يزيد بن معاوية ـ لمّا جيء إليه باُسارى آل الرسول (ص) ـ بمثل ما أشار به عمرو بن العاص على أبيه معاوية ، وذلك أنّ يزيد لمّا جيء إليه بالسبايا والاُسارى يوم كربلاء ، استشار أهلَ الشام فيما يصنع بهم ، فأشار بعضهم بقتلهم ، وتكلّم بكلمة لا يطيق اللسان التكلّم بها ، فقال له النّعمان بن بشير : انظر ما كان رسول الله (ص) يصنعه بهم ، فاصنعه بهم. ونظر رجل من أهل الشام أحمر إلى فاطمة بنت الحسين عليهما‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي هذه الجارية. قالت فاطمة : فارتعدت وظننت أنّ ذلك جائز عندهم ، فأخذت بثياب عمّتي زينب ، وقلت : يا عمّتاه! أوتمت واُستخدم؟! وكانت عمّتي تعلم أنّ ذلك لا يكون ، فقالت عمّتي : لا حبّاً ولا كرامة لهذا الفاسق. وقالت للشامي : كذبت والله ولؤمت ، والله ما ذاك لك ولا له. فغضب يزيد وقال : كذبت ، إنّ ذلك لي ولو شئت أنْ أفعل لفعلت. قالت زينب : كلاّ والله ، ما جعل الله لك ذلك إلاّ أنْ تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها. فاستطار يزيد غضباً وقال : إيّاي تستقبلين بهذا! إنّما خرج من الدّين أبوك وأخوك. قالت زينب : بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إنْ كنت مسلماً. قال : كذبتِ يا عدوّة الله. قالت له : أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك. فكأنّه استحيا وسكت. فعاد الشامي فقال : هب لي هذه الجارية. فقال له يزيد : اعزب ، وهب الله لك حتفاً قاضياً. وفي رواية : فقال الشامي : مَن هذه الجارية؟ فقال : هذه فاطمة بنت الحسين ، وتلك زينب بنت علي. فقال الشامي : الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب؟! فقال : نعم. فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد ، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته! والله ، ما توهّمت إلاّ أنّهم من سبي الروم. فقال يزيد : والله لألحقنّك بهم. ثمّ أمر به فضُربت عنقه.

فقُلْ لسرايا شَيبةِ الحَمدِ ما لكمْ

قعدتُمْ وقدْ ساروا بنسوتِكُمْ أسرَى

وأعظمُ ما يُشجي الغيورَ دخولُها

إلى مجلسٍ ما بارحَ اللهوَ والخمْرا

يُقارضُها فيهِ يزيدُ مَسبَّةً

ويَصرفُ عنها وجهَهُ مُعرضاً كِبرا

٣٧٨

المجلس الستّون بعد المئة

لمّا كان يوم صفّين ، نادى أبو شجاع الحِميري ، وكان من ذوي البصائر ، وكان مع علي (ع) ، فقال : يا معشر حِمْيَر ، أترون معاوية خيراً من علي؟! أضلّ الله سعيكم. ثمّ أنت يا ذا الكلاع ، فوالله ، إنْ كنّا نرى أنّ لك نيّة في الدين. فقال ذو الكلاع : إيهاً يا أبا شجاع ، والله ، ما معاوية بأفضل من علي ، ولكن إنّما اُقاتل على دم عثمان. وعُبّئت قبائل حمير مع ذي الكلاع ، وفيهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، لتقاتل قبيلة بكر بن وائل من قبائل ربيعة ، وكانت مع علي (ع) ، فقاتلوا قتالاً شديداً حتّى خافوا الهلاك ، فقال رجل لعبد القيس : لا بكر بعد اليوم ؛ إنّ ذا الكلاع وعبيد الله أبادا ربيعة! فانهضوا لهم وإلاّ هلكوا. فركبت عبد القيس وجاءت كأنها غمامة سوداء ، فشدّت إزاء الميسرة ، فعظم القتال ، وقُتل ذو الكلاع الحميري ، قتله رجل من بكر بن وائل ، اسمه خندف. وتضعضعت أركان حمير ، وثبتت بعد ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر ، وبعث عبيد الله بن عمر إلى الحسن بن علي عليهما‌السلام ، فقال : إنّ لي إليك حاجة فالقني. فلقيه الحسن (ع) ، فقال له عبيد الله : إنّ أباك قد وتر قريشاً أوّلاً وآخراً ، وقد أبغضوه ، فهل لك إلى أنْ تخلعه ونولّيك هذا الأمر؟ قال : «كلاّ والله ، لا يكون ذلك». ثمّ قال له الحسن (ع) «لكأنّي أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك ، أما إنّ الشيطانَ قد زيّن لك ، وخدعك حتّى أخرجك مخلَّقاً بالخلوق ، تُري نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً». قال : فوالله ، ما كان إلاّ كيوم أو كالغد ، وكان القتال ، فخرج عبيد الله في كتيبة رقطاء ، وهي الخُضريّة ، كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر ، إذ مرّ الحسن (ع) فإذا هو برجل متوسّد رجلاً قتيلاً ، قد ركز رمحه في عينه ، وربط فرسه برجله ، فقال الحسن (ع) لمَن معه : «انظروا مَن هذا؟». فإذا هو برجل من همدان ، فإذا القتيل عبيد الله ، قد قتله وبات عليه حتّى أصبح ، ثمّ سلبه. وكان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص

٣٧٩

يقول : قال رسول الله (ص) لعمّار : «تقتلك الفئة الباغية». فلمّا سمع ذو الكلاع أنّ عمّاراً مع علي (ع) اضطرب ، فقال له عمرو : إنّه سيرجع إلينا. ثمّ قُتل ذو الكلاع في اليوم الذي قُتل فيه عمّار ، فقال عمرو : والله يا معاوية ، ما أدري بقتل أيّهما أنا أشدّ فرحاً ، والله ، لو بقي ذو الكلاع حتّى يُقتل عمّار ، لمال بعامّة قومه إلى علي ، ولأفسد علينا جندنا. وقال معاوية : لأنا أشدّ فرحاً بقتل ذي الكلاع مني بفتح مصر لو فُتحت. ولمّا قُتل ذو الكلاع ، أقبل ولده إلى سعيد بن قيس الهمداني ، واستأذنه في أخذ جُثّة أبيه فأذن له ، فدخل من قِبل الميمنة ، فطاف في العسكر فلم يجده ، ثمّ أتى الميسرة فطاف في العسكر ، فوجده قد ربط رجله بطنب من أطناب فساطيط العسكر ، فوقف على باب الفسطاط ، فقال : السّلام عليكم يا أهل البيت. فقيل له : وعليك السّلام. وكان معه عبد له أسود لم يكن معه غيره ، فقال : أتأذنون لنا في طنب من أطناب فسطاطكم؟ قالوا : قد أذنّا لكم. ثمّ قالوا : معذرة إلى ربّنا عزّ وجل وإليكم ، أما إنّه لولا بغيه علينا ما صنعنا به ما ترَون. فنزل ابنه والعبد الذي معه إليه ـ وكان من أعظم النّاس خلقاً ، وقد انتفخ شيئاً ـ فلم يستطيعا احتماله ، فقال ابنه : هل من فتىً مِعوان؟ فخرج إليه خندف البكري ، فقال : تنحّوا. فقال له ابن ذي الكلاع : ومَن يحمله إذا تنحّينا؟ قال : يحمله الذي قتله. فاحتمله خندف ، ثمّ رمى به على ظهر البغل ، ثمّ شدّه بالحبال فانطلقوا به. يمثّل خِطاب ابن ذي الكلاع لأهل الفسطاط ، واعتذارهم إليه ، الرقَّة والشهامة ، والآداب والأخلاق الكريمة العربيّة ، وكانت النّاس ـ لا سيّما العرب ـ تحافظ على الميّت أو القتيل ، فتتوسل بكلّ وسيلة إلى دفنه وحفظ جسده ، لا سيّما إذا كان من أجلاّء النّاس. وجاء الدين الإسلامي بذلك ، فجعل حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حيّاً ، لكنّ ابن سعد وابن زياد وحزبهما ، لمّا قتلوا الحسين (ع) وأصحابه ، شوّهوا وجه الأخلاق العربيّة ، ولم يراعوا حرمة الدّين وحرمة الإسلام ، ولا حرمة رسول الله (ص) ، وهم يدّعون الإسلام. فأقبل ابن سعد على قتلاه فدفنهم ، وترك الحسين (ع) وأصحابه بلا دفن ، مطرّحين على وجه الأرض جثثاً بلا رؤوس ، تصهرهم الشمس ، وتسفي عليهم السّوافي من الرمال حتّى بقوا على هذه الحالة ثلاثة أيام ، إلى أن جاء بنو أسد فدفنوهم :

ثَوَوا عَطاشَى على البوغاءِ تحسَبُهُمْ

تحتَ الدُّجَى في الفيافي الأنجُمَ الشُّهبَا

مُجرَّدينَ على الرمضاءِ قدْ لبسُوا

منَ المَهابةِ أبراداً لها قُشبا

مُضرَّجينَ بمُحْمرِّ النَّجيعِ بنَى

نَبلُ العِدى والقنَا منْ فوقِهمْ قُبَبا

٣٨٠