المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

سفيان ـ ليكون أخاه ، مُدّعياً أنّ أبا سفيان قد عاشر اُمّه سميّة ، وهي زوجة رجل آخر ، فأنجب زياداً منها.

وأغرب ما في هذه القصّة ، إنّ ادّعاء هذه الإخوّة تمّ في مجلس علني رسمي حتّى يتحقق الإدّعاء على رؤوس الأشهاد ، فلم يخجل منه زياد ، موازناً بين مغانم هذه الإخوّة وبين ازداراء النّاس له ، ففضّل اخوّة الخليفة على سلامة العرض. وزياد كان في أوّل أمره مع علي (ع).

ثُمّ على يدي زياد لاقى العلويّون القتل والصّلب والتّقطيع بعد أنْ عمل لمعاوية ، وكان بينه وبين البشر ثأراً قديماً.

وزياد هو صاحب قصّة حجر المشهورة التّي قتل فيها ستّة من المسلمين الشّرفاء ؛ لأنّهم رفضوا أنْ يسبّوا عليّاً (ع) أمام النّاس ، فهذا الإنتهازي الغريب الذي كان إلى جانب علي (ع) كان يدعو النّاس فيأمرهم بأنْ يسبّوا عليّاً (ع) حتّى إذا امتنعوا أوقع بهم أبشع أنواع العذاب.

وقصّة حجر وأصحابه أخذت من كتب التّاريخ الإسلامي صفحات كثيرة ، فكان يؤتى بالرّجل منهم بعد أنْ يُحفر قبره أمامه ليعدل عن موقفه ، فإذا أبى قُتل ودُفن في قبره المحفور.

والذي فعله زياد هذا يقصر عمّا فعله بعده ولده عُبيد الله بن زياد.

على أنّ هناك حادثة اُخرى تُثير التأمّل ، وتكشف عمّا يستطيع أنْ يفعله الطّموح إلى السّلطة بالإنسان وكرامته ، كما تستطيع أنْ تكشف عن أخلاقيّات معاوية ووجهة نظره إلى الحياة.

فهناك رجل اسمه عبد الله بن سلام كان والياً لمعاوية على العراق ، تزوّج من امرأة هي اُرينب بنت إسحاق ، وقيل : إنّها كانت أجمل امرأة في عصرها ، وإنّ يزيد بن معاوية رآها فأحبّها حتّى أمرضه الحبُّ ، وعرف معاوية بهذه القصّة وأنّ المرأة امتنعت على ولده ، ففكّر في أنْ يُطلّقها من زوجها ليزوّجها من يزيد.

فأرسل معاوية إلى عبد الله بن سلام فاستدعاه ، وعندما جاء قرّبه إليه ثُمّ فاتحه في أنْ يزوّجه من ابنته ، فما كان من الرّجل إلاّ أنْ طار فرحاً ، ولكنّ معاوية عاد فقال : إنّه لا ينبغي أنْ يجمع إلى زواجه من ابنته زوجة اُخرى. ولم يُفكر عبد الله بن

٣٢١

سلام إلاّ قليلاً ، فطلّق امرأته اُرينب ، وبعد الطّلاق فوجئ بإنّ ابنة معاوية ترفض زواجه ، وأنّ معاوية رجل مُتحضّر يرفض أنْ يُرغم ابنته على زواجٍ تأباه.

أمّا اُرينب فقد رفضت طلب رسول معاوية ، وإنقاذاً للموقف سارع الحسين (ع) بزواجها ، حتّى اذا رجع عبد الله بن سلام خائباً ردّها الحسين (ع) دون أنْ يقربها.

مثل هذه القصّة تكشف عن المدى الذي وصلت إليه أخلاق النّاس ، وكيف استطاع الحُكم أنْ يُفسد هذه الأخلاق حتّى يهبط بها إلى هذا المستوى.

وسنجد أنّ الأخ يخذل أخاه ، والابن يعقُّ أباه ، وأنّ الخوف والطّمع هُما المُحرّكان الأساسيان في هذا المُجتمع.

وفي هذا الجوِّ المُخيف من انهيار القيم ، فكّر معاوية في أنْ يورّث الخلافة في بيته ، ولم ينقضِ نصف قرن على الإسلام.

وتروي الكتب القديمة : أنّ معاوية قد اُوحي إليه بهذه الفكرة من أحد الدّهاة المُتزلّفين هو المغيرة بن شعبة ، وكان الخليفة قد غضب عليه في أمر من الاُمور ، فاراد أنْ يشتري رضاءه بهذه الزّلفى ، وأنْ يضيف إليها إسهامه في انتزاع البيعة من الولاية التّي يحكمها.

ومثل هذه الرّواية لا تستبعد في هذه الظّروف ، والواقع يؤكدها ؛ فقد انتهى الأمر فعلاً إلى خلافة يزيد بن معاوية. ولكنّ الغريب أنّ يزيد هذا كان سكّيراً عربيداً متبطّلاً ، وقصّة غرامه باُرينب بنت إسحق تكشف عن طبيعته المتبطّلة المتفسّخة ، وأنّها لجرأة في النّفاق من المغيرة بن شعبة هذا أنْ يقترحه على معاوية خليفة للمسلمين.

وبدأ معاوية يعمل لتنفيذ الفكرة ، غير عابئ بردّ الفعل الخطير الذي سيحدثه في الرّأى العام للمسلمين ، فما من مسلم إلاّ ويعلم سيرة يزيد ، وما من مسلم إلاّ ويرفض أنْ يتحوّل الإسلام إلى كسروية أو قيصرية.

ومع ذلك فقد فُرض يزيد خليفة على المسلمين وبويع بالخلافة في عهد أبيه! ولسنا في حاجة إلى تقصّي قصّة هذه البيعة ، ولا ما قيل من روايات كثيرة عن الاُسلوب الإرهابي الذي اتبعه معاوية ، إلاّ أنّ الواضح أنّ الشّعب كان في وادٍ والسّلطة في وادٍ آخر. وحين يحكم السّيف ، تضيع الكرامة ويستسلم النّاس ويستدعون من أنفسهم كلّ الكوامن الخبيثة ؛ ليعايشوا السّلطة القاهرة بأسلحة من طباعها.

٣٢٢

المجلس الثّامن والأربعون بعد المئة

في بعض فترات التّاريخ يبدو الواقع حادّاً شديد الحدّة ، فيُخيّل للإنسان الذي يُعايش هذا الواقع أنّ كلّ ما قرأه عن القيم الخيّرة ، والنّزوغ البشري إلى الخير ، إنْ هو إلاّ أوهام كتّابٍ حالمين لم يصطدموا بالواقع ، فعند احتدام هذا الواقع لا يستطيع الإنسان أنْ يُميّز بين الخطأ والصّواب.

وحين ينتصر الباطل في أفضع صوره ، في موقعة إثر موقعة ، ويكتسح الحكم الإرهابي أمامه كلّ العقبات ، يحدث ما يشبه الوباء العام ، وتصبح أغلبية النّاس جبناء وانتهازيين ، وقتلة ومُجرمين حتّى يصعب تصديق أنّ الطّبيعة الإنسانيّة تحتوي على أي أساس يمتّ للخير بصلة.

إنّ نفوس النّاس تنهار واحدة إثر الاُخرى ، والعدوى تنتقل انتقال الوباء المستشرى ، وتفقد البشرية إحساسها بالكرامة ، وكأنّها هي تحكُم على نفسها بالانّّحطاط إلى أبعد مدى ، تعاقب نفسها بما ترتكبه من آثام.

وليست بعد ذلك صراعاً بين قوى ظالمة وقوى مظلومة ، إنّما هي في الواقع صراع بين القيم الإنسانيّة العُليا والقيم السّفلى. ومهما تلبس القوى المُتحكّمة تصرفاتها من أردية المنطق والعدالة والسّياسة ، فإنّها في الواقع تنخر في صميم الكيان البشري ، وتوشك أنْ تودي بهذا الكيان إلى الفناء.

وكلّ سلطة متحكّمة ترى دائماً ـ إلى جانب السّيف والمال ـ مفكريها الذين يفلسفون التّسلط ويبررونه ، ولقد كان معاوية يُردّد كثيراً : (يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ) وكأنّ مُلكه قدر إلهي ، وأنّ هذا القدر قد اختاره ؛ وبناء على ذلك فكلّ سلوك له يستمد شرعيته من هذا الاختيار.

٣٢٣

ولنا أنْ نعجب وندهش من تلك الآراء التّي تعبّر عن نفسها بوقار العلم والموضوعية ، وبمنطق حتمية التّأريخ ، لتصور المرحلة على أنّها مرحلة بناء الدّولة وأنّ معاوية كان رجل دولة ، وفي سبيل هذا البناء التزم سياسة واقعية بارعة في مقابل سياسات خيالية اتّبعها خصومه من أصحاب الدّعوة إلى العدل الاجتماعي والكرامة الإنسانيّة.

وكثير من هؤلاء المؤرّخين يرون : أنّ منطق التّطور من الوضع القبلي إلى الدّولة المركزيّة هو الذي يبرّر كلّ ما حدث من جرائمٍ لإنشاء هذه الدّولة ، ومع ذلك فالدّولة لم تُعمّر بعد ذلك إلاّ ستّين عاماً ، ولم تلبث أنْ انهارت انهياراً كاملاً.

كان (صن بات صن) الزّعيم الرّوحي للصين الحديثة يقول عقب كلّ فشل لثورته الوطنية : هذا هو فشلنا الرّابع أو الخامس أو العاشر ... إلى آخر سلسلة الفشل التّي تعرّضت لها الثّورة الصّينية قبل أنْ تنتصر.

والواقع أنّ تأريخ البشرية جميعاً هو سلسلة من الثّورات الفاشلة ؛ حتّى تتحقّق ثورة ناضجة لا تلبث هي الاُخرى أنْ تتجمّد أو تُغتصب لتظهر ثورات اُخرى تُتابع في فشلها حتّى يتحقّق النّصر الحاسم.

والثّورة ليست سابقة لأونها أبداً ؛ فالشّرارة الاُولى هي دائماً الإعلان الحاسم بوجوب نقلة اُخرى ، وهذه النّقلة قد تُنتظر طويلاً حتّى تتحقّق ، ولكن دون أنْ تظهر هذه الشّرارة فإنّ الثّورة لا تولد ، بل تصبح في حكم العدم.

والثّورة ليست مجرّد تغيير تُنشده وتعمل له مجموعة مقهورة لتلقي قهرها وتسترد حقوقها ؛ بل هي أعمق من هذا ، إنّها طريق في سلّم التّطور الأخلاقي للمجموعة البشرية ، وهذا السلّم يبدأ من السّلوك الفردي في أبسط صوره إلى السّلوك الجماعي للاُمّة والإنسانيّة بشكل عام.

وكان الصّراع من أجل توزيع الثّورة هو ذريعة قانون التّطور للوصول إلى مُستوى أخلاقي أعلى للمجموعة البشرية.

وآية ذلك إنّ قادة الثّورات لا تُحرّكهم إلى الثّورة ضغوط الحرمان أو القهر وحدها ، بل قيم إنسانيّة أعلى من القيم السّائدة ؛ بل إنّ هؤلاء القادة غالباً ما يكونون واقعين تحت ضغوط غير مادّية ، بل لعلّهم في الأغلب لا يُعانون من أي

٣٢٤

ضغط أو حُرمان مادّي. إنّ التركيبة النّفسية لقادة الثّورة تتناقض مع القيم الأخلاقيّة السّائدة في مجتمعهم ، فهم يحسّون بدوافع قويّة للدفاع عن المُثل التّي اُهدرت ، ويشعرون باختلال الطّريق البشري إلى الارتقاء الرّوحي ، وأنّهم ينذرون لإعادة الجماعة الإنسانيّة إلى الطّريق السّوي. وكثيراً ما يكون القائد الثّوري محكوماً عليه بالإندفاع في طريق الثّورة ؛ بحيث لا يملك التّراجع حتّى ولو أراد. إنّ طبيعته تدفعه إلى الثّورة حتّى لحظات الخطر الماحق والعذاب الرّهيب.

ولسنا ندري لماذا يختار البطل الثّوري الجانب الخاسر في اللحظات الحاسمة حين يكون الإختيار بين أمرين : التّراجع الآمن ، والعذاب المحقّق

وكما ينطبق هذا على الثّائر القائد ينطبق على الثّائر الجندي. وعلى المشانق والمقاصل والصّلبان ، وفي حجرات التعذيب الحديثة والقديمة يظهر هذا الجنون المصمّم المنتحر ؛ وهو جنون يُقابل جنوناً من نوع آخر ، جنون السّلطة الذي يُجافي كلّ قيمة من القيم الإنسانيّة ، جنون وحشي مصمّم يثير من الدّهشة ما يثيره من ثبات الثّائر وإصراره.

وأروع لحظات الاستشهاد لا تظهر إلاّ في لحظات الإنحدار الرّوحيّة الشّديدة ، وكأنّ المجموعة البشرية تطلق كلّ امكانياتها في هذه اللحظات الشّديدة الخطورة.

عندئذٍ يصبح الصّراع الطّبقي مُجرّد ذريعة لتتخطّى البشرية هوّة الإنحدار الأخلاقي.

وأمامنا الكثير من قصص الغدر والخيانة والتّوحش في تلك الفترة ، لتدلّنا على مدى ما وصل إليه الإنهيار الأخلاقي في تلك الفترة التّي عزم فيها الحسين بن علي (ع) على التّصدي للنظام.

فلقد رأى الحسين (ع) كيف تخاذل الأنصار عن أبيه (ع) ، ورأى ضعف النّاس إزاء السّلطة والإغراء ، ورأى غير ذلك من الحوادث الغريبة التّي تشكك الرّجل في نفسه.

ومع ذلك خرج الحسين (ع) وهو يحسب أنّ النّاس ما زالوا يطلبون العدل الإجتماعي ، وأنّه من الطّبيعي أنْ ترفض الكرامة البشرية أنْ يُفرض عليها حاكم سكّير عربيد في مجتمع يعتبر السّكر والعربدة معصية تستوجب عقاب الله والمُجتمع.

٣٢٥

والحسين (ع) من اللحظة الاُولى قد اختار دوره ، أو على الأصح قد اختاره دوره ، فطبيعته ترفض كلّ ما يحدث ، وهي ترفضه لحد الأزمة. إنّ السّيف والإرهاب يُطالبانه بالبيعة ليزيد فلا يُبايع ويأوي إلى مكّة. وفي مكّة يتقاطر حوله النّاس يدعونه إلى الخروج وطلب البيعة ، ولو لم يطلب إليه النّاس ذلك لكان قد خرج أيضاً أو لمات قهراً ، فإلى جانب الذين حضّوه على الخروج كان هناك الذين يحضّونه على ايثار السّلامة ، وكانوا من أخلص النّاصحين له ، ومع ذلك لم يقبل السّلامة.

جاءته الكتب من العراق بأنّه لو وفد عليهم لبايعوه ، فاتّخذ هذه الكتب ذريعة ليلعب دوره المقدور عليه. أرسل ابن عمّه مُسلم بن عقيل إلى أصحاب هذه الكتب يستطلع الأمر ، واستُقبل مُسلم استقبالاً حسناً ، ولم يملك الوالي هُناك أنْ يتصدى له ، بل كلّ ما فعله هو النّصح. فما إنْ علم مُستشارو الخلافة الدّهاة بموقف الوالي حتّى اقترحوا عزله وتعيين عُبيد الله بن زياد بن أبيه مكانه ، فجاء عبيد الله هذا ، وهو النّموذج المُقابل لمُسلم وللثّوار ، رجل السّلطة الذي تحكمه طبيعته أيضاً ليوغل في الإثم إلى الدّرك الأسفل. ونشبت المعركة سجالاً بين الجُبن والشّجاعة ، وبين اللؤم والنّبالة ، فهو يفرّ من وجه الجماهير ويحتمي بالقصر ، ثُمّ يظهر في صورة الجبّار حين تتفرّق الجماهير ، ويخلف العهد ويغري بالمال ويغري بالسّلطة ، ويستعمل سلاح الإرهاب والتخويف حتّى يستطيع أخيراً الظّفر بمُسلم فيقتله قتلة شنعاء ، ويُلقي بجثّته من أعلى القصر.

وتأتي كُتب مُسلم إلى الحسين (ع) بأنّ عشرات الاُلوف ينتظرونه لمبايعته ، ويتحرك الحسين (ع) فيبلغه ما حدث لمسلم ، وبدلاً من أنْ يتراجع مؤثراً السّلامة يُقرّر المُضي إلى العراق ؛ مُحتجّاً لنفسه ولأهله ونفره القليل بأنّه حين يدخل العراق سيلتفّ النّاس حوله ، وكان يعني أنّ وجوده بينهم سيقضي على خوفهم وتخاذلهم ويردّهم إلى آدميتهم ، وهو بذلك يُحدّد دوره ؛ أنّه بعث الرّوح من جديد ليس أكثر.

ويمضي الحسين (ع) وليس معه إلاّ سبعون رجُلاً ونساؤه وأطفاله.

وفي هذه اللحظة يكون الحسين (ع) قد أدرك الموقف كلّه ، فهو يعلم أنّ جيوش عُبيد الله بن زياد قد تعترضه ، بل هي تعترضه قطعاً ، وعندئذٍ تكون النّهاية.

ولكن الحسين (ع) كان يعلم أنّه لا بُدّ من فدية شخصيّة ، فدية تتوهّج بالدّم ، وكان هو الوحيد الذي يملك أنْ يتقدّم كفدية تهزّ الضّمير ـ شبه الميّت ـ في قلب الاُمّة.

٣٢٦

المجلس التّاسع والأربعون بعد المئة

إنّ أمر الحسين (ع) ليس حنكة سياسية وليس غفلة سياسية ، ليس واقعية اورومانتيكية ، إنّه أمر واضح تماماً يرتفع عن مستوى الغفلة أو الخيال. أذكى وأشرف رجل في عصره يقدّم نفسه ليوغل فيه أعداء القيم العليا ما شاء لهم انحدارهم ، كآخر ما يستطيع أنْ يصل إليه الشرّ ، فتكون الصّرخة التّي توقظ ضميراً خربوه بكلّ الوسائل.

وهكذا مضى الحسين (ع) في طريقه إلى العراق ، فتخاذل عنه مَن تخاذل ، واختفى حوله صغار النّاس الذين ساروا في موكبه أول الطّريق حين علموا بخروجه إلى البيعة. لم يمضِ معه إلاّ هؤلاء الذين تمثّلت فيهم الثّورية بمعناها العميق ، ثورية التغيير الجذري للقيم ذاتها.

وتبلورت القوى الثّورية هُنا في هذه الجماعة الصّغيرة التّي تقطع الصّحراء ، مُتحدّية مُصمّمة ، ليس لها من أمل إلاّ في أنْ تعدى النّاس بالثّورة وإنْ تعدى بالذّات تلك الجيوش التّي قد تقطع عليها طريقها إلى العراق.

وهذا الأمل هو الذّريعة التّي يتذرّع بها الحسين (ع) ليُحقق هدفه ، وهو الشّهادة في أكمل صوره.

وفي الطّريق يسأل (ع) مجمعاً بن عبيد العامري ويجيبه : أمّا أشراف النّاس ، فقد اُعظمت رشوتهم ومُلئت فرائرهم ، فهم ألب واحد عليك ؛ وأمّا سائر النّاس فإنّ قلوبهم تهوي إليك ، وسيوفهم غداً مشهورة عليك.

وفي هذه الجملة تلخيص ذكي للقوى القائمة ، فكُبراء النّاس ، هؤلاء الذين يملكون الثّروة ، لم يعد يهمّهم في شيء أنْ يخرج حفيد النّبي ، بل لعلّ خروجه يهمّهم

٣٢٧

من زاوية اُخرى ؛ وهو أنّ هذا الحفيد يُريد أنْ يُغيّر مراكز القوى ، وأنْ يُعيد توزيع الثّروة ، وأنْ يمضي في نفس الطّريق الذي مضى فيه أبوه (ع) ، فهو من هذه النّاحية عدو طبقي لا يُهمل خروجه في طلب البيعة ، إنّه الحسين بن علي ، ابن فاطمة الزّهراء ابنة رسول الله عليهم‌السلام ، والسّلطة قوية ولتفعل ما تشاء.

ولكن السّلطة ليست بهذه البلاهة ، إنّها لا تُلقي بدمّ الحسين (ع) على عاتقها وحدها ، فمَن أراد أنْ يُدافع عن ثروته ، وعن مركزه الإجتماعي فليشترك في دمّ الحسين (ع).

وسنرى أنّ رجالاً من هذه الطبقة اُهيب بهم أنْ يشتركوا في قتل الحسين (ع) ، وكانوا بين خوف من غضب السّلطة والشّك في ولائهم للمصلحة الطّبقية الواضحة ، وبين أنْ يأثموا بدمّ الحسين (ع). على أنّ الأمر لم تكن له هذه الخطورة ؛ فمن قبل قُتل علي (ع) نفسه ، ومن بعده قُتل الحسن (ع) مسموماً ، كما قُتل محمّد بن أبي بكر. إنّ الإحساس بالإثم كان إحساساً هيّناً يمرّ بالخاطر مرّاً سريعاً ، ولولا أنّ الحسين (ع) بالذّات تربّى في حجر النّبي ، ولولا أنّه رجل يُمثّل الصّورة المُثلى للإسلام ، لما مرّ مثل هذا الخاطر بأحد.

ومن النّاحية الاُخرى فإنّ سائر طبقات الشّعب قد بلغ بها القهر والشّك والخوف ما يجعلها تتردّد ألف مرّة في الثّورة ، وفي العراق بالذّات كان الرّجل يؤخذ بمجرد الشّبهة ، وسيرة زياد بن أبيه لم تُنسَ بعد ، فقد خطب فيهم خطبة خطيرة وردَ فيها أنّه سيأخذ البريء بالمُسيء.

لاقى شعب العراق صنوفاً من الضّغط لم يلقها شعب آخر ، جيلاً وراء جيل ، فكيف كان يُمكن لهذا الشّعب المطعون أنْ يهب لمُساندة الحسين (ع) والخوف يقضي على كلّ كرامة ، وقد استطاع الحُكم الاُموي أنْ يزرع الخوف وأنْ يجعله القوت اليومي للشعب العراقي.

وبهذه الصّورة لم يكن لخروج الحسين (ع) إلاّ معنى واحد هو الشّهادة.

وأي سياسي آخر غير الحسين (ع) كان يستطيع تقدير الموقف ، وأنْ يتراجع في الوقت المُناسب ، أو يرى طريقاً آخر للكفاح؟ أمّا التراجع ، فقد كانت فرصته أمامه حين شارف أرض العراق وجاءته أنباء مقتل رسوله مُسلم بن عقيل وانفضاض النّاس من حوله.

ومع ذلك فقد استمع باهتمام إلى واحد من صحبه يقول : ما أنت مثل

٣٢٨

مسلم بن عقيل ، ولو قدمت الكوفة لكان النّاس إليك أسرع.

واقتنع الحسين (ع) ، لم يفكّر ولم يتدبّر موقفه. أكان ذلك عن سوء تدبير؟

لا يستطيع أحد أنْ يحكم هُنا بسوء تدبير الحسين (ع) ؛ فهو مُنذ تحرّك من مكّة كان يعلم أنّ الوضع قد بلغ الحدّ الذي يدفع إلى المواجهة إلى القتال الصّريح مهما تكن القوّة التّي تُجابهه.

وقد تأكّد له الموقف بعد ذلك حين أرسل قيساً بن مسهر الصّيداوي فقُتل هو الآخر ، ثُمّ عاد فأرسل عبد الله بن يقطر فاُلقي من شُرفات القصر. أيّ شيء إذن كان يتوقّعه؟!

إنّه يلحّ في الإتصال بالشّعب ، فقد وضع أمله فيه وإنْ لم يستطع الاتصال به عن طريق الكتب ؛ إذ كان رُسله يُقتلون واحداً بعد الآخر ، فليس هُناك إلاّ أنْ يتصل بهم بحدث يُزلزل كيانهم.

أهذا كان تفكير الحسين (ع)؟

ليس من الضّروري أنْ تكون هذه الفكرة واضحة في الذّهن ، يكفي أنْ تكون هي الموجّه لكلّ تصرّف ، وجميع تصرّفات الحسين (ع) تؤكد أنّ مثل هذه الفكرة وراءها.

لم يكن أمامه إلاّ أنْ يتراجع ، وكان له أكثر من مُبرّر للتراجع ؛ فهؤلاء الذين كتبوا إليه يستقدمونه انفضّوا عن رسوله حتّى قُتل. وها هو ذا يرسل رُسلاً آخرين فلا يكون حظّهم خيراً من حظّه.

فلماذا لم يتراجع؟ إلاّ أنّه كان عليه عندئذ أنْ يمنح البيعة ليزيد ، وكانت هذه في رأيه أكبر الكبائر. أيعتكف في حرم الكعبة؟ وهل كان ليزيد أنْ يتحرّج عن قتله في قلب الحرم.

ليس أمامه إلاّ أنْ يمضي في طريقه ، فهو يعلم تماماً أنّ ظهوره أمام الشّعب سوف يجمعهم حوله ، يعلم كيف يُحدّثهم وكيف ينزع الخوف من قلوبهم ، ولكن كيف يصل إلى مداخل العراق وعبيد الله بن زياد يرصد له الجيوش الآن؟

إنّ الموقف لا يصعب تقديره على الرّجل العادي.

٣٢٩

ومن المؤكّد أنّ الحسين (ع) كان محيطاً به من كُلّ جوانبه ، وربّما خالجه ظنّ بأنّ أيّ جيش سيعترض طريقه لا يلبث أنْ يلين له حين يُخاطبه فيُزيل الغشاوة عن عينيه. هذا خاطر لازمه مع خاطر آخر لم يُفارقه ، وهو أنّه مقتول بغير شك ؛ إذ كان يُردّد أنّ الموت كُتب على ابن آدم ...

كان يضع موته في كفّة وثقته في النّاس في كفة ، فهو لم يفقد الثّقة في الجوهر الكامن في النّفس الإنسانيّة ؛ ذلك الجوهر النّازع إلى الإرتقاء الرّوحي.

ومرّة اُخرى لم يتراجع الحسين (ع) بل مضى في طريقه.

٣٣٠

المجلس الخمسون بعد المئة

لم يكد الحسين (ع) يمضي إلاّ قليلاً حتّى التّقى ـ عند جبل ذي حسم ـ بجيش من ألف فارس يقوده الحرّ بن يزيد ، وهو أحد الأشراف الذين أشار إليهم مجمع بن عبيد العامري ، بل سنرى أيضاً أنّ اختيار الرّجال الذين سيحاربون الحسين (ع) تم بدقّة حتّى تتبلبل أفكار الشّعب ؛ فالقائد الذي قاتل الحسين (ع) في معركته الأخيرة كان عمر بن سعد بن أبي وقاص ، ابن صحابي كبير.

ماذا يقول الشّعب عندئذ؟ ابن علي بن أبي طالب يُقاتله ابن سعد بن أبي وقاص ..

وأنّه لأمر مُثير للدّهشة أنْ يأتمر عمر بن سعد بن أبي وقاص بأوامر عبيد الله بن زياد ، ابن فاتح فارس وصحابي رسول الله ، يأتمر بامر ابن زياد مجهول الأب ، المشكوك في نسبه.

بل إنّ عمر لا يأتمر بامر عبيد الله فحسب ، بل يتملّق ويُدهن إليه! فحين جيء بمُسلم بن عقيل بين يدي عبيد الله ، طلب مُسلم أنْ يفضي بكلمة إلى عمر ، وتقدّم إليه عمر ، فهمس مُسلم في اُذنه مُناشداً قرابته أنْ ينفذ وصيته التي سيفضي بها إليه ؛ وهي أنْ يردّ دَيناً عليه قد اقترضه من رجل بالكوفة ، فيبيع سيفه ودرعه ويوفي دينه ، وأنْ يرسل إلى الحسين (ع) مَن يمنعه من المجيء ؛ مُصححاً رسالة سابقة بأنّ النّاس معه.

إنّ عمر بن سعد بن أبي وقاص لم يكتُم السرّ الأخير ، بل بادر فأفشاه لعبيد الله بن زياد.

إلى هذا المدى فقد أعاظم الرّجال كرامتهم! فإلى أي مدى فقد الشّعب المقهور

٣٣١

هذه الكرامة؟

وتقدّم الحرّ بن يزيد ، فقال للحسين (ع) أنّه اُمر بأنْ يقدم به على عبيد الله بن زياد. لم يجبه الحسين (ع) ، بل أمر مؤذّنه أنْ يؤذّن لصلاة الظّهر ، ثُمّ خطب الجميع ؛ أصحابه وخصومه على السّواء ، أو خصومه بوجه خاص.

«أيّها النّاس ، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم ورسلكم أنْ اقدم علينا فليس علينا إمام ، لعلّ الله يجمعنا بك على الهُدى والحقّ. فقد جئتكم ، فإنْ تعطوني ما اطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم ، وإنْ لم تفعلوا ، أو كنتم لقدومي كارهين ، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه».

وكانت لحظة صمت جماعية لا يدري أحد ما جرى في أذهانهم ، ولعلّهم كانوا جميعاً يودّون لو يُقاتلون من أجله ، ولكن الخوف والمصلحة وكلّ عروض الدّنيا كانت تقف دون ذلك.

عندئذٍ التفت الحسين (ع) وقال للمؤذّن : «اقم الصّلاة». ثُمّ التفت للحرّ بن يزيد وسأله : «هل يُصلّي كلّ فريق على حِدة؟». فقال الحرّ : بل نُصلّي بصلاتك.

وانتهت الصّلاة خلف الحسين (ع) ، وبدأ ركب الحسين (ع) يتّجه وجهته ، وبدأ الحرّ يتعقّبه ، وكلّما اتجه وجهة اُخرى ، حاصره وردّه إلى طريق الكوفة. وأخيراً وقف الحسين (ع) مرّة اُخرى يعظهم.

«أيّها النّاس ، إنّ رسول الله (ص) قال : مَن رأى سُلطاناً جائراً ؛ مُستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مُخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يُغيّر ما عليه بعمل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله. ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشّيطان وتركوا طاعة الرّحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله. وأنا أحقّ من غيري وقد أتتني كُتبكم ورُسلكم ببيعتكم ، وأنّكم لا تُسلّمونني ولا تخذلونني ؛ فإنْ بقيتم على بيعتكم ، تصيبوا رشدكم ، وأنا الحسين بن علي ، ابن فاطمة بنت رسول الله (ص) ، نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهلكم فلكم فيّ اُسوة ، وإنْ لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكير ، والمغرور من اغترّ بكم ؛ فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم. ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، وسيغنيني الله عنكم».

٣٣٢

ولكن الخطبة أعقبها صمت تام ، ثُمّ تقدّم الحرّ يُحذّره بأنّه إذا قاتل فسيُقتل. فصاح فيه الحسين (ع) : «أبالموت تخوفني؟».

واصطبر الحسين (ع) ومضى ، والحرّ وراءه يمنعه كلّما ابتعد عن طريق الكوفة ، والحسين (ع) يرفض أنْ يبدأ بالقتال.

وأخيراً ظهرت طلائع جيش جديد من أربعة الآف رجل مع رأسهم عمر بن سعد بن أبي وقاص لا أحد غيره ، وانتهى الأمر بين الطّرفين إلى أنْ حُصر الحسين (ع) وصحبه في كربلاء ، وبدا أنّ الحرب لا بدّ أنْ تقع ؛ فبعد قليل وصل شمر بن ذي الجوشن ليكون رقيباً على عمر بن سعد بن أبي وقاص إذا تخاذل.

وهُنا جمع الحسين (ع) أصحابه ، وقال لهم : «لقد بررتم وعاونتم ، والقوم لا يريدون غيري ، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحداً ؛ فإذا جنّكم الليل ، فتفرّقوا في سواده وانجَوا بانفسكم».

ولم يقبل واحد منهم أنْ يترك الحسين (ع) ويهرب بحياته.

ويعود الحسين (ع) فيلحّ في هذا ، فلا يخرج من معسكره رجل واحد. وكانوا سبعين رجلاً بازاء خمسة آلاف رجل.

عرض عمر بن سعد التّسليم فرفض الحسين (ع) ، بل الاحتكام إلى الشّعب.

وحُصر الحسين (ع) وصحبه عند كربلاء بعيداً عن الماء ؛ حيث يحميه جيش عمر بن سعد ، واشتدّ الظّمأ بالأطفال والنّساء ، وحمل الحسين (ع) ولده عبد الله ليسقيه بنفسه ظانّاً أنّ وجوده ومعه الطّفل قد يمنع مُحاصريه من إيذائه ، ولكنّهم رشقوا الطّفل بسهم فسقط صريعاً بين يدي أبيه (ع). وتمالك الحسين (ع) أمام هذا كلّه نفسه ، فإلى آخر لحظة كان يأمل في أنْ يبعث الرّوح في هذه الضّمائر الميتة.

وتقدّم الحسين (ع) يخطب الجيش ، وهو في رداء النّبي (ص) ، فإذا بالجيش يحدث من الضّجيج والضّوضاء ما يُغطّي على كلامه ، ولم يتراجع الحسين (ع) بل ظلّ صامتاً حتّى هدأت ضجّتهم ، ثُمّ انفجر قائلاً : «أنسبوني من أنا؟ هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حُرمتي؟ ألسّت ابن بنت نبيكم؟ أو لم يبلغكم ما قاله رسول الله لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة. ويحكم! أتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم استهلكته؟».

٣٣٣

وقد أحدثت هذه الكلمات أثرها كالسّحر ، وبدأت الرّجال من جيش عمر بن سعد تنضمّ إلى جانب الحسين (ع) ، وكان أوّلهم الحرّ بن يزيد.

وكان الموقف خطيراً ، فلو انتظر عمر قليلاً لانفرط الجيش كلّه ، كما أنّه خشي الرّقباء أنْ يبلغوا يزيد بما حدث ، فما كان إلاّ أنْ تناول سهمه ورمى به جماعة الحسين (ع) وهو يصيح : اشهدوا لي عند الأمير أنّني أوّل من رمى الحسين.

وهكذا بدأ القتال في توتّر وسرعة لا تُتيح لكلمات الحسين (ع) أنْ تفعل أثرها.

وقاتل الحسين (ع) وصحبه قتالاً مجيداً حتّى سقطوا جميعاً ، وسقط الحسين (ع) مُثقلاً بجراحه ؛ مُصاباً بمئة وعشرين طعنة. ثُمّ تقدّم شمر بن ذي الجوشن فاحتزّ رأسه ، ثُمّ وطؤوا جسده الشّريف بخيولهم حتّى رضّوا ضلوعه ومثّلوا به أشنع تمثيل ، وحملوا الرّؤوس ومضوا بها على أسنّة الرّماح إلى عبيد الله بن زياد ، ثُمّ إلى يزيد بن معاوية.

وبذلك انتهت أوّل جولة للعدل مع الظّلم ، انتهت باروع استشهاد وأعظم بطولة. وكانت شهادة الحسين (ع) أعظم انتصار للثورة ؛ لأنّها تغلغلت في الضّمير العربي والإسلامي ، وأحيت الضّمائر التّي خنقها الإرهاب ؛ لتسقط بعد ذلك بستين عاماً ـ فقط ـ دولة بني اُميّة.

٣٣٤

خاتمة الطبعة الثانية

تمّ الجزء الثّاني من كتاب المجالس السَّنيّة في مصائب العترة النّبوية ، ويليه الجزء الثّالثّ ، وكان الفراغ منه أوّلاً في أوائل سنة ألف وثلثمئة وأربعين بمدينة دمشق الشّام ، صانها الله من طوارق الحدثان ، ووافق الفراغ من إعادة النّظر فيه ثانياً عند إرادة تمثيله للطبع هذه المرة ، وتغيير بعض ترتيبه والزّيادة عليه والإنقاص منه مُنتصف ليلة الأحد الحادية والعشرين من شهر شوال المُبارك عام ١٣٥٣ ، بقرية شقراء من جبل عامل حماه من الغوائل ، ونسأله تعالى أنْ ينفع به المؤمنين ، ويحشرنا في زمرة محمّد وآله الطّاهرين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. وكتب بيده الفانية مؤلفه الفقير إلى عفو ربّه الغني محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي نزيل دمشق ، تجاوز الله عن سيئاته ، حامداً مُصليّاً مُسلّماً.

٣٣٥
٣٣٦

٣٣٧
٣٣٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين. وبعد : فهذا هو الجزء الثالث من كتاب : (المجالس السَّنيّة) في ذكرى مصائب ومناقب العترة النبويّة ، تأليف أفقر العباد إلى عفو ربّه الغني ، محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي نزيل دمشق ، عفا الله عن جرائمه ، وحشره مع محمّد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

٣٣٩

المجلس الرابع والأربعون بعد المئة

روى المسعودي في مروج الذهب ، بسنده عن المنذر بن الجارود قال : لمّا قدم علي (ع) البصرة خرجت أنظر إليه ، فورد موكب نحو ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة وثياب بيض متقلّد سيفاً ومعه راية ، وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصُّفرة ، مدجّجين في الحديد والسّلاح ، فقلت : مَن هذا؟ فقيل : أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله (ص) ، وهؤلاء الأنصار وغيرهم. ثمّ تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض ، متقلّد سيفاً متنكّب قوساً ، معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس ، فقلت : مَن هذا؟ فقيل : هذا خُزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين. ثمّ مرّ بنا فارس آخر على فرس كميت ، معمّم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقول ، متقلّد سيفاً متنكّب قوساً في نحو ألف فارس من النّاس ومعه راية ، فقلت : مَن هذا؟ فقيل لي : أبو قتادة بن ربعي الأنصاري. ثمّ مرّ بنا فارس آخر على فرس أشهب ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينة ووقار ، رافع صوته بقراءة القرآن ، متقلّد سيفاً متنكّب قوساً ، معه راية بيضاء في ألف من النّاس مختلفي التيجان ، حوله مشيخة وكهول وشباب كأنّ قد اُوقفوا للحساب ، أثر السّجود قد أثّر في جباههم ، فقلت : مَن هذا؟ فقيل : عمّار بن ياسر في عدّة من الصحابة ؛ من المهاجرين والأنصار وأبنائهم. ثمّ مرّ بنا فارس على فرس أشقر ، عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء ، متنكّب قوساً متقلّد سيفاً ، تخطّ رجلاه في الأرض في ألف من النّاس ، الغالب على تيجانهم الصُّفرة والبياض ، معه راية خضراء ، فقلت : مَن هذا؟ قيل : هذا قيس بن سعد بن عبادة في الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان. ثمّ مرّ بنا فارس على فرس أشهل ما رأينا أحسن منه ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه بلواء

٣٤٠