المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

عن حرم رسول الله؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟». فلا يُجاب إلاّ بضرب السّيوف وطعن الرماح ورمي السهام ، وهو في ذلك يطلب شربة من الماء فلا يجد ، وكلّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه حتّى أجلوه عنه؟!

منعوهُ شُربَ الماءِ لا شَرِبوا غداً

من كفِّ والده البطينِ الأنزعِ

٢١

المجلس السّادس

قال المدائني : خرج الحسن والحسين عليهما‌السلام وعبد الله بن جعفر (رضي الله عنه) حجّاجاً ، ففاتتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا ، فمرّوا بعجوز في خباء لها فقالوا : هل من شراب؟ قالت : نعم. فأناخوا بها ، وليس لها إلاّ شويهة في كسر الخيمة ، فقالت : اجلسوا وامتذقوا لبنها. ففعلوا ذلك ، وقالوا لها : هل من طعام؟ قالت : لا ، إلاّ هذه الشاة ، فليذبحها أحدكم حتّى اُهيّئ لكم منها ما تأكلون. فقام إليها أحدهم فذبحها وكشطها ، ثمّ هيّأت لهم طعاماً فأكلوا ، وأقاموا حتّى أبردوا ، فلمّا ارتحلوا قالوا لها : نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه ، فإذا رجعنا سالمين فألمّي بنا فإنّا صانعون إليك خيراً. ثمّ ارتحلوا. وأقبل زوجها فأخبرته عن القوم والشاة ، فغضب وقال : ويحك! تذبحين شاتي لأقوام لا تعرفينهم ثمّ تقولين نفر من قريش! ثم بعد مدّة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة ، فدخلاها وجعلا ينقلان البعر إليها ويبيعانه ويعيشان منه. فمرّت العجوز في بعض سكك المدينة فإذا الحسن بن علي عليهما‌السلام جالس على باب داره ، فعرف العجوز وهي له منكرة ، فبعث غلامه فردّها فقال : «يا أمَة الله ، أتعرفينني؟». قالت : لا. قال : «أنا ضيفك يوم كذا وكذا». فقالت العجوز : بأبي أنت واُمّي! فأمر الحسن (ع) فاشتري لها من شياه الصدقة ألف شاة ، وأمر لها بألف دينار ، وبعثها مع غلامه إلى أخيه الحسين (ع) فقال : «بِكم وصلك أخي؟» فقالت : بألف دينار وألف شاة. فأمر لها الحسين (ع) بمثل ذلك ، ثمّ بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر فقال : بكم وصلك الحسن والحسين؟ فقالت : بألفي شاة وألفي دينار. فأعطاها مثل ذلك. وبنو هاشم معادن الجود والكرم ومعادن الشجاعة ، لا يباريهم في ذلك أحد ، ولا عجب من الشيء إذا جاء من معدنه. وحسبك بكرم الحسنَين عليهما‌السلام وهما سبطا رسول الله (ص) الذي لا يباري كرمه السحاب الهاطل ، وشبلا أمير المؤمنين (ع) أكرم النّاس وأسخاهم بعد رسول الله (ص). وقلّما يكون الكريم غير

٢٢

شجاع ، والشجاع غير كريم. وأمير المؤمنين (ع) هو الذي قال : «جنونان لا أخلاني الله منهما : الشجاعة والكرم».

واقتدى به ولده الحسين (ع) في كرمه وشجاعته ، فإنّ هذا الشبل من ذلك الأسد ، وهذا الثمر من ذلك الشجر. وأعظم كرم صدر منه (ع) يوم تلقّاه الحرّ وأصحابه وهم زهاء ألف فارس ، فسقاهم الماء مع خيولهم في تلك الأرض القفراء ، وهم قد جاؤوا لمحاربته!! ولكن بئسما جازاه أعداؤه على ذلك ؛ فإنّهم وضعوا ـ بأمر عمر بن سعد ـ خمسة آلاف رجل على المشرعة يمنعون الحسين (ع) وأصحابه من استسقاء الماء!!

منعُوهُ من ماء الفُراتِ ووردِهِ

وأبوهُ ساقي الحوضِ يومَ جزاءِ

حتّى قضى عَطشاً كما اشْتهتِ العِدى

بأكفِّ لا صيدٍ ولا أكفاءِ

أمّا شجاعته (ع) فهي التي ضُربت بها الأمثال وسارت بها الركبان ، وأنست شجاعة جميع الشجعان. وهو الذي دعا النّاس إلى البراز في يوم كربلاء فلم يزل يقتل كلَّ مَن برز إليه حتّى قتل مقتلة عظيمة. وهو الذي كان يحمل على الأعداء وقد تكملوا ثلاثين ألفاً فينهزمون بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر ، فلمّا رأى شمر ذلك ، استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة ، وأمر الرماة أنْ يرموه ، فرشقوه بالسهام حتّى صار كالقنفذ ، فأحجم عنهم وحالوا بينه وبين رحله. فقال (ع) : «ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان! إنْ لمْ يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عُرُباً كما تزعمون». فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة؟ قال (ع) : «أقول : أنا الذي اُقاتلكم وتقاتلونني ، والنّساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً». قال شمر : لك ذلك. ثمّ صاح : إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه ، فلعمري لهو كفو كريم.

قال اقصدُوني بنفسِي واتْركُوا حَرَمي

قدْ حان حَيني وقدْ لاحتْ لوائحُهُ

٢٣

المجلس السّابع

مما جاء في كرم الحسنَين عليهما‌السلام ما ذكره البيهقي في كتاب المحاسن والمساوئ ، قال : ذكروا أنّ رجلين ؛ أحدهما من بني هاشم والآخر من بني اُميّة ، قال هذا : قومي أسمح. وقال هذا : قومي أسمح. قال : فسلْ أنت عشرة من قومك ، وأنا أسأل عشرة من قومي. فانطلق صاحب بني اُميّة ، فسأل فأعطاه كلّ واحد منهم عشرة آلاف درهم. وانطلق صاحب بني هاشم إلى الحسن بن علي عليهما‌السلام فأمر له بمئة وخمسين ألف درهم ، ثمّ أتى الحسين (ع) فقال : «هل بدأت بأحد قبلي؟» قال : بدأت بالحسن ، قال : «ما كنتُ استطيع أنْ أزيد على سيّدي شيئاً». فأعطاه مئة وخمسين ألفاً من الدراهم ، فجاء صاحب بني اُميّة يحمل مئة ألف درهم من عشرة أنفس ، وجاء صاحب بني هاشم يحمل ثلاثمئة ألف درهم من نفسين ، فغضب صاحب بني اُميّة فردّها عليهم فقبلوها. وجاء صاحب بني هاشم فردّها عليهما فأبيا أنْ يقبلاها ، وقالا : «ما كنّا نبالي ، أخذتها أم ألقيتها في الطريق».

أقول : وفضائل الحسنَين عليهما‌السلام لا تحصى بحدّ ولا تحصر بعدّ ، كيف؟ وهما ولدا رسول الله (ص) وسبطاه وريحانتاه من الدنيا ، وسيّدا شباب أهل الجنّة ، خير النّاس أباً واُمّاً وجدّاً وجدّةً وخالاً وخالةً وعمّاً وعمّةً ؛ أبوهما أمير المؤمنين سيّد الأوصياء (ع) ، واُمّهما فاطمة الزهراء بضعة الرسول وسيّدة النّساء عليها‌السلام ، وجدّهما رسول الله (ص) سيّد ولد آدم ، وجدّتهما خديجة بنت خويلد أمّ المؤمنين أول نساء هذه الاُمّة إسلاماً ، التي بذلت أموالها في إحياء الدين فقام الاسلام بمالها وسيف علي بن أبي طالب. وأخوالهما وخالاتهما أبناء رسول الله (ص) وبناته ، وعمّهما جعفر الطيّار في الجنّة ، مع ما لهما في أنفسهما من الفضائل. ألا قاتل الله عصبة قتلتهما وظلمتهما! حتّى قضى الحسن (ع) شهيداً بالسمّ ، وقضى الحسين (ع) شهيداً بالسيف غريباً ظامئاً ، وقُتلت أنصاره وأهل بيته ، وسُبيت

٢٤

نساؤه من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشام ، وطِيفَ برأسه في البلدان :

مَنْ مبلغُ المُصطفى سبطاهُ قدْ قَضَيا

بالسمِّ هذا وذا بالسّيفِ منْحُورا

أوصَى وأكّد في الدنيا وصيّتَهُ

فأوسعوا عهدَهُ نَكثاً وتغييرا

لو كان جدُّهُما أوصَى بظلْمِهما

لَما اسْتطاعُوا لِما جاؤوهُ تكْثيرا

٢٥

المجلس الثامن

ممّا جاء في كرم الحسين (ع) ، ما رواه عمرو بن دينار قال : دخل الحسين بن علي عليهما‌السلام على اُسامة بن زيد وهو مريض ، وهو يقول : وآغمّاه! فقال له الحسين (ع) : «وما غمّك يا اُسامة؟». فقال : دَيني ، وهو ستّون ألف درهم. فقال الحسين (ع) : «هو علَيّ». فقال : إنّي أخشى أنْ أموت. فقال الحسين (ع) : «لنْ تموت حتّى أقضيها عنك». قال : فقضاها قبل موته. وكان (ع) يقول : «شرّ خصال الملوك ؛ الجُبن عن الأعداء ، والقسوة على الضعفاء ، والبخل عن الإعطاء». ووفد أعرابي إلى المدينة فسأل عن أكرم النّاس بها ، فدُلّ على الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام ، فدخل المسجد فوجده يصلّي ، فوقف بازائه وأنشأ يقول :

لمْ يَخبِ الآن مَنْ رجاكَ ومَنْ

حرَّكَ من دون بابِك الحلَقهْ

أنت جوادٌ وأنت مُعتَمَدٌ

أبوك قدْ كان قاتلَ الفسَقهْ

لولا الّذي كان منْ أوائِلكُمْ

كانتْ علينا الجَحيمُ مُنطبقهْ

فسلّم الحسين (ع) ، وقال : «ياقنبر ، هل بقي من مال الحجاز شيء؟» قال : نعم ، أربعة آلاف دينار. فقال (ع) : «هاتها ، قد جاء مَن هو أحقّ بها منّا». ثمّ نزع بردته ولفّ الدنانير فيها وأخرج يده من شقّ الباب ؛ حياءً من الأعرابي ، وأنشأ يقول :

خُذْها فإنّي إليك معتذرٌ

واعلَمْ بأنّي عليك ذو شَفَقهْ

لو كان في سَيرنا الغداةَ عصاً(١)

أمستْ سمانا عليكَ مُندفِقهْ

لكنَّ ريبَ الزّمان ذو غِيرٍ

والكفُّ منّي قليلةُ النّفَقهْ

______________________

(١) لعلّ المراد بالسّير : واحد السّيور التي تُقدّ من الجلد ، فإنّه إذا كان فيه عصا (أي مشدوداً بطرف عصا) ، صار سوطاً قابلاً للضرب ، فيكون كناية عن الحكم والقوّة.

٢٦

فأخذها الأعرابي وبكى. فقال له الحسين (ع) : «لعلّك استقللت ما أعطيناك؟». قال : لا ، ولكن كيف يأكل التراب جودك؟! ووُجِد على ظهر الحسين (ع) يوم الطفّ أثر ، فسألوا زين العابدين (ع) عن ذلك ، فقال : «هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين».

ووُجِد على ظهره (ع) يوم الطفّ أثر آخر ، هو أوجع للقلوب من هذا الأثر ، وهو أثر حوافر الخيل التي داست بحوافرها صدره الشريف وظهره ؛ وذلك حين أمر ابن سعد عشرة فوارس أنْ يدوسوا بحوافر خيولهم صدره وظهره ؛ تنفيذاً لِما أمر به ابن زياد. ففعلوا ، وأقبلوا إلى ابن زياد وهم يقولون

نحنُ رَضضْنَا الصَّدرَ بعد الظَّهْرِ

بكلِّ يعبوبٍ شديدِ الأسرِ

فقال ابن زياد : مَن أنتم؟ قالوا : نحن الذين وطأنا بخيولنا جسد الحسين حتّى طحنّا جناجن صدره.

تَطأُ الصّواهلُ جسمَهُ وعلى القنَا

من رأسهِ المرفوعِ بدرُ سماءِ

عقَرتْ بناتُ الأعوجيّةِ هلْ دَرتْ

ما يُستباحُ بها وماذا يُصنعُ

٢٧

المجلس التاسع

ممّا جاء في كرم الحسين (ع) ، أنّ أعرابياً جاءه فقال : يابن رسول الله ، قد ضمنت ديّة كاملة وعجزت عن أدائها ، فقلت في نفسي : أسأل أكرم النّاس ، وما رأيت أكرم من آل محمّد (ص). فقال (ع) : «أسألك عن ثلاث مسائل ؛ فإنْ أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال ، وإنْ أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال ، وإنْ أجبت عن الكلّ أعطيتك الكلّ». فقال الأعرابي : يابن رسول الله ، أمثلك يسأل مثلي ، وأنت من أهل العلم والشرف؟! فقال الحسين (ع) : «بلى ، سمعت جدّي رسول الله (ص) يقول : المعروف بقدر المعرفة». فقال الأعرابي : سلْ عمّا بدا لك فإنْ أجبت ، وإلاّ تعلمت منك. فقال الحسين (ع) : «أي الأعمال أفضل؟». فقال الأعرابي : الإيمان بالله. فقال الحسين (ع) : «فما النجاة من المهلكة؟». فقال الأعرابي : الثقة بالله. فقال الحسين (ع) : «فما يزين الرجل؟». فقال الأعرابي : علم معه حلم. فقال الحسين (ع) : «فإنْ أخطأه ذلك؟». فقال الأعرابي : مال معه مروءة. فقال الحسين (ع) : «فإنْ أخطأه ذلك؟». فقال الأعرابي : فقر معه صبر. فقال الحسين (ع) : «فإنْ أخطأه ذلك؟». فقال الأعرابي : فصاعقة تنزل من السّماء فتحرقه ؛ فإنّه أهل لذلك. فضحك الحسين (ع) ورمى إليه بصرّة فيها ألف دينار ، وأعطاه خاتمه وفيه فصّ قيمته مئتا درهم ، وقال الحسين (ع) «يا أعرابي ، إعط ِالذهب غرماءك ، واصرف الخاتم في نفقتك». فأخذ الأعرابي المال ، وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته. وعلّم عبد الرحمن السّلمي بعض ولْد الحسين (ع) سورة الفاتحة ، فلمّا قرأها الصبي على أبيه الحسين (ع) ، أعطى ذلك المعلّم ألف دينار وألف حلّة وحشا فاه درّاً. فقيل له في ذلك ، فقال (ع) : «وأين يقع هذا من إعطائه» : يعني تعليمه للسورة. وأنشد الحسين (ع) يقول :

إذا جادتْ الدّنيا عليك فجُدْ بها

على النّاس طُرّاً قبل أنْ تتفلّتِ

فلا الجودُ يُفنيها إذا هي أقبلتْ

ولا البخلُ يُبقيها إذا ما تولّتِ

٢٨

وقال أنس : كنت عند الحسين (ع) فدخلت عليه جارية ، فحيّته بطاقة ريحان ، فقال لها : «أنتِ حرّة لوجه الله تعالى». قال أنس : فقلت تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها! قال (ع) : «كذا أدّبنا الله ، قال الله تعالى : وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا (١). وكان أحسن منها عتقها». وقال (ع) : «صاحب الحاجة لم يكرم وجهه عن سؤالك ؛ فأكرم نفسك عن رَدّه». ومن كرمه العظيم وسخائه العجيب ، أنّه لمّا التقى مع الحُرّ بن يزيد ـ وكان مع الحرّ زهاء ألف فارس ـ وكان الحسين (ع) في سَحر ذلك اليوم أمر فتيانه أنْ يستقوا من الماء ويكثروا ، ففعلوا. ووقف الحرّ وخيله مقابل الحسين (ع) في حَرّ الظهيرة ، فقال الحسين (ع) لفتيانه : «اسقوا القوم وارووهم من الماء ، وارشفوا الخيل ترشيفاً» : أي أسقوها قليلاً. وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس ، فاذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً ، عُزلت عنه وسقوا آخر حتّى سقوها عن آخرها. أتدرون ما كان جزاء الحسين (ع) من الأعداء على سقيه إيّاهم الماء مع خيولهم في تلك الأرض القفراء؟ نعم ، كان جزاؤه منهم أنْ حالوا بينه وبين ماء الفرات ، وبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس ، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين (ع) وأصحابه وبين الماء. وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وكان ذلك قبل قَتل الحسين (ع) بثلاثة أيام.

منَعوهُ شُربَ الماءِ لا شَرِبوا غداً

من كفِّ والده البطينِ الأنزع

٢٩

المجلس العاشر

ذكر ابن شهر آشوب في المناقب قال : دخل الحسين (ع) على معاوية وعنده أعرابي يسأله حاجة ، فأمسك عنه وتشاغل بالحسين (ع) ، فقال الأعرابي لبعض مَن حضر : مَن هذا الذي دخل؟ قالوا : الحسين بن علي عليهما‌السلام. فقال الأعرابي للحسين (ع) : أسألك يابن بنت رسول الله ، لمّا كلّمته في حاجتي. فكلّمه الحسين (ع) في ذلك ، فقضى حاجته. فقال الأعرابي :

أتيتُ العبشميَّ فلمْ يجدْ

لي إلى أنْ هزّهُ ابنُ الرسولِ

هو ابنُ المصطفى كرماً وجوداً

ومِن بطنِ المُطهّرة البتولِ

وإنّ لهاشم فضلا ًعليكُمْ

كما فضُلَ الربيعُ على المَحولِ

فقال معاوية : يا أعرابي ، أعطيك وتمدحه؟! فقال الأعرابي : يا معاوية ، أعطيتني من حقّه وقضيت حاجتي بقوله. ولمّا أخرج مروانُ الفرزدقَ من المدينة أتى الفرزدق الحسين (ع) ، فأعطاه الحسين (ع) أربعمئة دينار. فقيل له : إنّه شاعر فاسق. فقال (ع) : «إنّ خير مالك ما وقيت به عرضك ، وقد أثاب رسول الله (ص) كعب بن زهير ، وقال في العبّاس بن مرداس : اقطعوا لسانه عنّي». وأعظم جودٍ صدر منه (ع) ، جوده بنفسه في سبيل الله ، وتسليمه إيّاها للقتل. قال الشاعر :

يجودُ بالنّفسِ إنْ ضنَّ الجبانُ بها

والجودُ بالنّفسِ أقصى غاية الجودِ

فالحسين (ع) قد جاد بنفسه وأهل بيته وعياله وأطفاله في سبيل الله ؛ فداء للدين ، ومحاماة عن شريعة جدّه سيّد المرسلين (ص) حتّى أصبحوا ما بين قتيل وأسير. ولولا قتل الحسين (ع) ، ما بقي لهذا الدّين من أثر ، ولولاه ما ظهر للخاصّ والعام كفر يزيد وإلحاده.

٣٠

رأى قنا الدّينِ من بعد استقامتِها

مغموزةً وعليها صدعُ منكسرِ

فقام يجمعُ شملاً غيرَ مُجتمعِ

منه ويجبرُ كسراً غيرَ مُنجبرِ

٣١

المجلس الحادي عشر

ممّا جاء في تواضع الحسين (ع) ، وكرم أخلاقه : أنّه (ع) مرّ بمساكين قد بسطوا كساء لهم وألقوا عليه كسراً ، فقالوا له : هلمّ يابن رسول الله. فجلس وأكل معهم ، ثمّ تلا : «إنّ اللّه لا يُحِبّ المتكبّرين». ثمّ قال (ع) : «قد أجبتكم فأجيبوني». قالوا : نعم يابن رسول الله. فقاموا معه حتّى أتوا منزله ، فقال لجاريته : «اخرجي ما كنتِ تدّخرين». وجنى غلام له جناية توجب العقاب ، فأمر به أنْ يُضرب ، فقال : يا مولاي (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ). قال (ع) : «خلّوا عنه». فقال : يا مولاي (وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ). فقال (ع) : «قد عفوت عنك». فقال : يا مولاي (وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِين) فقال (ع) : «أنت حرّ لوجه الله تعالى ، ولك ضعف ما كنت أعطيك». وممّا جاء في عبادة الحسين (ع) : أنّه حجّ خمس وعشرين حجّة ماشياً ، وأنّ النّجائب لتقاد معه. وقيل له يوماً : ما أعظم خوفك من ربّك! فقال : «لا يأمن من يوم القيامة إلاّ مَن خاف الله في الدنيا». وكان إذا توضّأ تغيّر لونه وارتعدت مفاصله ، فقيل له في ذلك ، فقال (ع) : «حقّ لمَن وَقفَ بين يدي الملك الجبّار أنْ يصفرّ لونه وترتعد مفاصله». وأمّا إباؤه للضيم ، فقد ضُربت به الأمثال ونُظمت فيه الأشعار. قال الشاعر :

وإنَّ الاُولى بالطفِّ من آلِ هاشمٍ

تآسَوا فسنّوا للكرام التآسيا

وقال بعضهم : كأنّ أبيات أبي تمّام في محمّد بن حميد الطوسي ما قيلت إلاّ في الحسين (ع) :

وقدْ كان فوتُ الموتِ سهلاً فردَّهُ

إليه الحفاظُ المرّ والخُلُقُ الوعرُ

ونفسٌ تعافُ الضّيمَ حتّى كأنّما

هو الكُفرُ يومَ الرّوعِ أو دونه الكفرُ

فأثبتَ في مُسْتنقعِ الموتِ رِجلَهُ

وقال لها من دون أخمصكِ الحشرُ

تردَّى ثيابَ الموت حُمراً فما دَجا

لها الليلُ إلاّ وهي من سندس خُضرُ

٣٢

وقيل له يوم الطفّ : انزل على حكم بني عمّك. فقال : «لا والله ، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد».

بأبيْ أبيّ الضّيمِ لا يُعطي العِدَى

حذرَ المنيةِ منه فضلَ قيادِ

بأبي فريداً أسلمتهُ يدُ الرّدَى

في دارِ غُربتهِ لجمع أعادي

ثم نادى : «يا عباد الله ، إنّي عُذتُ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب». وقال (ع) : «موت في عزّ خير من حياة في ذلّ». وكان يحمل على القوم يوم الطفّ وهو يقول :

الموتُ خيرٌ من ركوب العارِ

والعارُ أولى من دخولِ النارِ

واللهِ من هذا وهذا جاري

يأبَى له اللهُ والعضبُ المذرّبُ

والنفسُ الأبيّةُ إلاّ عزّةً وإبا

٣٣

المجلس الثاني عشر

ممّا جاء في كرم الحسين (ع) ، عن الحسن البصري : إنّ الحسين (ع) ذهب ذات يوم مع أصحابه إلى بستانه ـ وكان في ذلك البستان غلام للحسين (ع) اسمه صافي ـ فلمّا قرُب من البستان ، رأى الغلام قاعداً يأكل الخبز ، فجلس الحسين (ع) عند بعض النّخل بحيث لا يراه الغلام ، فنظر إليه الحسين (ع) وهو يرفع الرغيف فيرمي نصفه إلى الكلب ويأكل نصفه ، فتعجّب الحسين (ع) من فعل الغلام ، فلمّا فرغ من الأكل قال : الحمد لله ربّ العالمين ، اللهمَّ ، اغفر لي واغفر لسيّدي كما باركت لأبويه برحمتك يا أرحم الراحمين. فقام الحسين (ع) وقال : «يا صافي». فقام الغلام فزعاً وقال : يا سيّدي وسيّد المؤمنين إلى يوم القيامة ، إنّي ما رأيتك ، فاعف عنّي. فقال الحسين (ع) : «اجعلني في حلّ يا صافي ؛ لأنّي دخلت بستانك بغير إذنك». فقال صافي : بفضلك يا سيّدي وكرمك وسؤددك تقول هذا! فقال الحسين (ع) : «إنّي رأيتك ترمي نصف الرغيف إلى الكلب وتأكل نصفه ، فما معنى ذلك؟». فقال الغلام : إنّ هذا الكلب نظر إليّ وأنا كلّ فاستحييت منه ، وهو كلبك يحرس بستانك وأنا عبدك ، نأكل رزقك معاً. فبكى الحسين (ع) وقال : «إنْ كان كذلك ، فأنت عتيق لله تعالى ، ووهبت لك ألفَي دينار». فقال الغلام : إنْ أعتقتني فأنا اُريد القيام ببستانك. فقال الحسين (ع) : «إنّ الكريم ينبغي له أنْ يصدّق قوله بالفعل. أوما قلت لك اجعلني في حلّ؟ فقد دخلت بستانك بغير إذنك ؛ فصدّقتُ قولي ووهبت البستان وما فيه لك ، فاجعل أصحابي الذين جاؤوا معي أضيافاً ، واكرمهم من أجلي ؛ أكرمك الله تعالى يوم القيامة ، وبارك لك في حسن خُلقك وأدبك». فقال الغلام : إنْ وهبتني بستانك ، فإنّي قد سبلته لأصحابك وشيعتك.

وأعظم جود صدر منه (ع) ؛ جوده بنفسه وأهل بيته وعياله وأطفاله في سبيل الله ؛ فداء للدين ، ومحاماة عن شريعة جدّه سيّد المرسلين (ص) حتّى أصبحوا ما بين قتيل

٣٤

وأسير. ولولا قتل الحسين (ع) ، ما بقي لهذا الدّين من أثر ، ولولاه ما ظهر للخاصّ والعام كفر يزيد وإلحاده.

رأى قنا الدّينِ من بعد استقامتِها

مغموزةً وعليها صدعُ منكسرِ

فقام يجمعُ شملاً غيرَ مُجتمعِ

منه ويجبرُ كسراً غيرَ مُنجبرِ

٣٥

المجلس الثالث عشر

خطب الحسين (ع) فقال : «أيّها النّاس ، نافسوا في المكارم وسارعوا في المغانم ، ولا تحتسبوا بمعروف لم تعجلوه ، واكسبوا الحمد بالنجح ولا تكسبوا بالمطل ذماً ؛ فمهما يكن لأحد عند أحد صنيعة له رأى أنّه لا يقوم بشكرها ، فالله له بمكافأته (١) فإنّه أجزل عطاءً وأعظم أجراً. واعلموا أنّ حوائج النّاس إليكم من نعم الله عليكم ، فلا تملّوا النعم فتحوّر نقماً. واعلموا أنّ المعروف مكسب حمداً ومعقب أجراً ، فلو رأيتم المعروف رجلاً ، رأيتموه حسناً جميلاً يسرّ الناظرين ، ولو رأيتم اللؤم ، رأيتموه سمجاً مشوّهاً تنفر منه القلوب ، وتُغضّ دونه الأبصار. أيّها النّاس ، مَن جاد ساد ، ومَن بخل رذل ، وإنّ أجود النّاس مَن أعطى مَن لا يرجوه ، وإنّ أعفى النّاس مَن عفا عن قدرة ، وإنّ أوصل النّاس مَن وصل مَن قطعه. والاُصول على مغارسها بفروعها تسمو ، فمَن تعجّل لأخيه خيراً وجده إذا قدم عليه غداً. ومَن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه ، كافأه الله بها في وقت حاجته ، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه. ومَن نفّس كربة مؤمن فرّج الله عنه كرب الدنيا والآخرة ، ومَن أحسنَ أحسن الله إليه ، والله يُحب المحسنين».

وخطب (ع) أيضاً فقال : «إنّ الحلم زينة ، والوفاء مروءة ، والصّلة نعمة ، والإستكبار صلف ، والعجلة سفه ، والسفه ضعف ، والغلوّ ورطة ، ومخالطة أهل الدناءة شرّ ، ومجالسة أهل الفسق ريبة».

والحسين (ع) معدن الفصاحة والبلاغة ، ورث ذلك عن جدّه رسول الله (ص) ، أفصح مَن نطق بالضاد ، وعن أبيه أمير المؤمنين (ع) الذي علّم النّاس الفصاحة والخطب. ولقد خطب في الأعداء يوم كربلاء ـ حين وقف بازائهم ، وجعل ينظر إلى

______________________

(١) الظاهر أنّه سقط هنا كلمة ، وهي : (زعيم) أو (كفيل) أو (مليء) أو نحو ذلك. ـ المؤلف ـ

٣٦

صفوفهم كأنّهم السيل ـ وقال ما لا يحصى كثرةً ، فلم يسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه.

لهُ من عليٍّ في الحروبِ شجاعةٌ

لهُ من عليٍّ في الحروبِ شجاعةٌ

فكان ممّا قال (ع) : «الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور مَن غرّته والشقيّ مَن فتنته ؛ فلا تغرّنكم هذه الدنيا ، فإنّها تقطع رجاء مَن ركن إليها ، وتخيب طمع مَن طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، وجنّبكم رحمته ، فنِعمَ الربّ ربّنا ، وبئس العبيد أنتم! أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد (ص) ثمّ إنّكم زحفتم على ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم! لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم». فقال ابن سعد : ويلكم كلّموه فإنّه ابن أبيه! ولو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حصر. فتقدّم شمر فقال : يا حسين ، ما هذا الذي تقول؟ أفهمنا حتّى نفهم. فقال (ع) : «أقول : اتّقوا الله ربّكم ولا تقتلوني ؛ فإنّه لا يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؛ فإنّي ابن بنت نبيّكم ، وجدّتي خديجة زوجة نبيكم ، ولعلّه قد بلغكم قول نبيكم : الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة». فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحب. فقال له الحسين (ع) : «لا والله ، لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد».

سامَوهُ أنْ يردَ الهوانَ أو المنييَة

والمسوَّدُ لا يكون مَسودَا

فأبى أنْ يعيش إلاّ عزيزاً

أو تجلّى الكفاحُ وهو صريعُ

٣٧

المجلس الرابع عشر

روى صاحب كشف الغمّة : أنّه لمّا قَتل معاوية حجرَ بن عدي (رحمه الله) وأصحابه ، لقي في ذلك العام الحسين (ع) ، فقال : يا أبا عبد الله ، هل بلغك ما صنعت بحجر وأصحابه من شيعة أبيك؟ قال (ع) : لا. قال : إنّا قتلناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم. فضحك الحسين (ع) ثمّ قال : «خصمك القوم يوم القيامة يا معاوية. أما والله ، لو ولينا مثلها من شيعتك ما كفّناهم ولا صلينا عليهم ، وقد بلغني وقوعك بأبي حسن وقيامك به واعتراضك بني هاشم بالعيوب. وأيم الله ، لقد أوترت غير قوسك ورميت غير غرضك ، وتناولتها بالعداوة من مكان قريب. ولقد أطعت امرءاً (يريد عمرو بن العاص).

وكان لمعاوية عين بالمدينة يكتب إليه بما يكون من اُمور النّاس ، فكتب إليه : إنّ الحسين بن علي أعتق جارية له وتزوّجها. فكتب معاوية إلى الحسين (ع) : من أمير المؤمنين معاوية الى الحسين بن علي : أمّا بعد ، فإنّه بلغني أنّك تزوّجت جاريتك وتركت أكفاءك من قريش ممّا تستنجبه للولد وتمجّد به في الصهر ، فلا لنفسك نظرت ولا لولدك انتقيت. فكتب إليه الحسين (ع) :

«أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك وتعييرك إيّاي بأني تزوجت مولاتي وتركت أكفائي من قريش ، فليس فوق رسول الله منتهى في شرف ولا غاية في نسب ؛ وإنّما كانت ملك يميني خرجت عن يدي بأمر التمست فيه ثواب الله ، ثمّ ارتجعتها على سنّة نبيّه (ص) ، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة ووضع عنّا به النقيصة ، فلا لوم على امرئ مسلم إلاّ في مأثم ، وإنّما اللوم لوم الجاهلية».

فلمّا قرأ معاوية كتابه نبذه إلى يزيد ، فقرأه وقال : لشدّ ما فخر عليك الحسين. قال : لا ، ولكنّها ألسِنَة بني هاشم الحداد التي تفلق الصخر وتغرف من البحر.

٣٨

ولم ينسَ يزيد قول أبيه ، إنّ لبني هاشم ألسنة تفلق الصخر وتغرف من البحر ؛ ولذلك لمّا قال له زين العابدين (ع) بالشام : «أتأذن لي أنْ أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات لله فيهنّ رضاً ، ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجر وثواب؟» أبى يزيد عليه ذلك ، فقال النّاس : يا أمير المؤمنين ، إئذن له فليصعد المنبر فلعلّنا نسمع منه شيئاً. فقال : إنّه إنْ صعد لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان. فقيل له : وما قدر ما يحسن هذا؟ فقال : إنّه من أهل بيت زقّوا العلم زقّا. فلم يزالوا به حتّى أذِنَ له. فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ خطب خطبة أبكى فيها العيون وأوجل منها القلوب.

وخشي يزيد أنْ تكون فتنة ؛ فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام ، فلمّا قال المؤذّن : الله أكبر الله أكبر ، قال علي بن الحسين (ع) : «لا شيء أكبر من الله». فلمّا قال : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، قال (ع) : «شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي». فلمّا قال المؤذّن : أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، قال (ع) : «محمّد هذا جدّي أم جدّك يا يزيد؟ فإنْ زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت ، وإنْ زعمت أنّه جدّي ، فلِمَ قَتلت عترته؟».

ألا يابنَ هندٍ لا سقَى اللهُ تربةً

ثويتَ بمثواها ولا اخضرّ عودُها

أتسلبُ أثوابَ الإمامة هاشماً

وتطردُها عنها وأنت طريدُها

٣٩

المجلس الخامس عشر

روى ابن عساكر في تاريخ دمشق : أنّ نافع بن الأزرق ـ وهو من رؤساء الخوارج ـ قال للحسين (ع) : صف لي إلهك الذي تعبده. فقال (ع) : «يا نافع ، مَن وضَعَ دينه على القياس ، لم يزل الدهر في الالتباس ، مائلاً إذا كبا عن المنهاج ، ظاعناً بالاعوجاج ، ضالاً عن السبيل قائلاً غير الجميل. يابن الأزرق ، أصف إلهي بما وصف به نفسه ؛ لا يُدرك بالحواس ولا يُقاس بالنّاس ، قريب غير ملتصق وبعيد غير مستقصى ، يوحَّد ولا يبعَّض ، معروف بالآيات موصوف بالعلامات ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال». فبكى ابن الأزرق وقال : ما أحسن كلامك! فقال (ع) : «بلغني أنّك تشهد على أبي وعلى أخي بالكفر وعليَّ». قال ابن الأزرق : أما والله يا حسين ، لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام ونجوم الأحكام. فقال له الحسين (ع) : «إنّي سائلك عن مسألة». فقال : سل. فسأله عن قوله تعالى : (وَأَمّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ). فقال (ع) : «يابن الأزرق ، مَن حفظ في الغلامين؟». فقال أبوهما. فقال الحسين (ع) : «أبوهما خيرٌ أمْ رسول الله (ص)؟». فقال ابن الأزرق : قد أنبأ الله تعالى عنكم أنّكم قوم خصمون.

أجل والله ، إنّ هذه الاُمّة لم تحفظ رسول الله (ص) في ولدَيه الحسنَين عليهما‌السلام ، فجرّعت ولده الحسن (ع) الغصص ودفعته عن مقامه ، وأسلمته إلى عدوّه حتّى قضى شهيداً بالسمّ ، ومنعت من دفنه عند جدّه ؛ وخذلت ولده الحسين (ع) ولم تنصره ، وحاربته وقتلته هو وأولاده وأهل بيته حتّى طفله الرضيع ، وقتلت أنصاره ، وسبت نساءه من بلد الى بلد ، وهنّ عقائل بيت الوحي والنبوّة.

يا اُمّةٌ باعتْ بضائعَ دينِها

يومَ الطّفوفِ بخيبةٍ وشَقاءِ

خانتْ عهودَ محمّد في آلهِ

من بعدهِ وجزتْهُ شرَّ جزاءِ

٤٠