المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

ذا قاذفٌ كبداً له قِطعاً وذا

في كربلاءَ مقطّع الأعضاءِ

مُلقىً على وجه الصّعيد مجرّداً

في فتيةٍ بيض الوجوه وضاءِ

٣٠١

المجلس الحادي والأربعون بعد المئة

لمّا كان يوم الجمل ، لم يكن يأخذ أحد بخطام الجمل إلاّ سالت نفسه أو قُطعت يده ، وأخذ بخطامه سبعون من قريش فقتلوا كُلّهم. ولمّا رأى أمير المؤمنين (ع) أنّ الموت عند الجمل ، وأنّه ما دام قائماً لا تطفأ الحرب ، وضع سيفه على عاتقه وعطف نحو الجمل وأمر أصحابه بذلك ، ووصل (ع) في جماعة من النّخع وهمدان إلى الجمل ، فقال لرجل يُسمّى بحيرا : «دونك الجمل». فضرب عجز الجمل بسيفه ، فوقع لجنبه وضرب بجرانه الأرض وعجّ عجيجاً لم يُسمع بأشد منه. فلمّا صُرع الجمل ، فرّت الرّجال كما يطير الجراد في الرّيح الشّديدة ، وأمر علي (ع) أنْ يُحرق الجمل ثُمّ يذرّى في الرّيح ، وقال : «لعنه الله من دابّة ، فما أشبهه بعجل بني اسرائيل». ثُمّ قرأ : (وَانظُرْ إلى‏ إِلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً) وأمر علي (ع) بعائشة فحُملت في هودجها إلى دار عبد الله بن خلف ، وقال لأخيها محمّد بن أبي بكر : «دونك اختك ، لا يتولاها غيرك». وقالت عائشة لأخيها محمّد : أقسمت عليك أنْ تطلب عبد الله بن الزّبير قتيلاً أو جريحاً. فذهب محمّد فأتاها به ، فصاحت وبكت ثُمّ قالت : يا أخي ، استأمن له من علي. فاستأمن له ، فقال علي (ع) : «آمنته وآمنت جميع النّاس». وما أحسن ما قال القائل :

ملَكنا فكان العفوُ منّا سجيةً

فلمّا ملكتمْ سال بالدّمِ أبطحُ

وحللتمُ قتلَ الاُسارَى وطالما

غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ

وحسبُكمُ هذا التفاوتُ بينَنا

وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ

ثُمّ إنّه (ع) جهّز عائشة وأرسلها إلى الحجاز ، وأرسل معها أربعين امرأة من عبد القيس. وهكذا كانت عادة أمير المؤمنين (ع) في الصّفح والعفو عن عدوه إذا ظفر به ، فقد سمعت عفوه عن ابن الزّبير مع شدّة انحرافه عنه وعداوته له حتّى قال علي

٣٠٢

(ع) «ما زال الزّبير منّا أهل البيت حتّى نشأ ابنه عبد الله». وانظر كيف عفا عن عائشة لمّا ظفر بها ، وأمر أنْ تُحمل في هودجها إلى أعظم دار في البصرة ، وأرسل معها أربعين امرأة ، وهذا من أعظم الصّفح وأكبر الحلم! ألا لعن الله ابن زياد ، فما كان أبعده من الحلم والصّفح ، وأقربه من اللؤم والخبث والانتقام! فإنّه لمّا نزل الحسين (ع) بكربلاء ، كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد : انظر فإنْ نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا ، فابعث بهم إليّ سلماً ، وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنّهم لذلك مستحقّون! فإنْ قتلت حسيناً ، فأوطئ الخيل صدره وظهره ، فإنّه عاقّ شاقّ قاطع ظلوم! ولست أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً ، ولكن ـ على قول قد قلته ـ لو قد قتلته لفعلت هذا به.

تطأُ الصّواهلُ جسمَهُ وعلى القنا

من رأسهِ المرفوعِ بدرُ سماءِ

٣٠٣

المجلس الثّاني والأربعون بعد المئة

لمّا كان يوم الجمل ، دفع أمير المؤمنين (ع) الرّاية إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة ، وقال له : «تزول الجبّال ولا تزل ، عضّ على ناجذك ، أعر الله جمجمتك ، تِد في الأرض قدمك ، إرمِ ببصرك أقصى القوم وغضّ بصرك ، واعلم إنّ النّصر من عند الله سبحانه». ثُمّ قال له : «احمل». فتوقّف قليلاً ، فقال له : «احمل». فقال : يا أمير المؤمنين ، أما ترى السّهام كأنّها شئابيب المطر! فدفع في صدره ، وقال : «أدركك عرق من اُمّك!». ثُمّ أخذ الرّاية منه فحمل بها ، ثُمّ دفعها إليه وقال : «امحُ الاُولى بالاُخرى ، وهذه الأنصار معك». وضمّ إليه خزيمة ذا الشّهادتين في جمع من الأنصار ـ كثير منهم من أهل بدر ـ فحمل حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواقفهم وأبلى بلاء حسناً ، فقال خزيمة لعلي (ع) : أما إنّه لو كان غير محمّد اليوم لافتضح! ولئن كنت خفت عليه الجبن وهو بينك وبين حمزة وجعفر لما خفناه عليه ، وإنْ كنت أردت أنْ تُعلّمه الطّعان ، فطالما علّمته الرّجال. وقالت الأنصار : يا أمير المؤمنين ، لولا ما جعل الله للحسن والحسين ، لما قدّمنا على محمّد أحداً من العرب. فقال علي (ع) : «أين الأنجم من الشّمس والقمر!». وقال خزيمة يمدح محمّد بن الحنفيّة :

محمّد ما في عودِك اليومَ وصمةٌ

ولا كُنتَ في الحرب الضّروسِ مُعردا

أبوكَ الذي لمْ يركب الخيلَ مثلُهُ

عليٌ وسمّاك النّبيُّ محمّدا

وأنت بحمدِ الله أطولُ غالبٍ

لساناً وأنداها بما مَلكتْ يدا

وأطعنُهُمْ صدرَ الكميِّ برمحهِ

وأكساهُمُ للهامِ عَضباً مهنّدا

سوى أخويكَ السيّدينِ كلاهُما

إمامُ الورى والدّاعيان إلى الهُدى

وقيل لمحمّد بن الحنفيّة : لِمَ يغرر بك أبوك في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين؟ فقال : إنّهما عيناه وأنا يمينه ، فهو يدفع عن عينيه بيمينه. وما زال أولاد أمير المؤمنين (ع) يعرفون فضل الحسنين عليهما‌السلام ، ويرعون حقّهما ويفدونهما بأنفسهم. ولمّا كان يوم

٣٠٤

كربلاء ، كان مع الحسين (ع) تسعة من إخوته ـ أولاد علي (ع) لصلبه ـ فقاتلوا دونه قتال الأبطال ، وفدوه بأنفسهم ومهجهم حتّى قُتلوا عن آخرهم ، منهم : أخوه وصاحب رايته أبو الفضل العبّاس (ع) ، وثلاثة إخوة للعباس من اُمّه وأبيه ، وكان آخر من قُتل منهم العبّاس ابن أمير المؤمنين (ع) ، فلمّا قُتل بكى الحسين (ع) لقتله بكاءً شديداً. وحقّ له ذلك ؛ فإنّ موت الأخ يقصم الظّهر ولا سيّما إذا كان مثل أبي الفضل العبّاس (ع) ، ولنعم ما قال القائل :

أحقُّ النّاس أنْ يُبكى عليهِ

فتىً أبكى الحسينَ بكربلاءِ

أخوه وابنُ والده عليٍّ

أبو الفضلِ المضرَّجُ بالدّماءِ

ومَن واساه لا يُثنيه شيءٌ

وجاد له على عطشٍ بماءِ

٣٠٥

المجلس الثّالثّ والأربعون بعد المئة

كان مالك بن الحارث الأشتر من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ومن ثناء أمير المؤمنين عليه ما كتبه يوم صفّين إلى أميرين من اُمراء جيشه ، من جملة كتاب يقول فيه : «وقد أمّرت عليكما وعلى مَن في حيزكما مالك بن الحارث الأشتر ، فاسمعا له وأطيعا واجعلاه درعاً ومجناً (١) ؛ فإنّه ممّن لا يخاف وهنه (٢) ولا سقطته (٣) ، ولا بطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم ، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل (٤)». ولقد بلغ ثناء أمير المؤمنين (ع) على مالك الأشتر في هذه الكلمات ، مع إختصارها ، ما لا يبلغ بالكلام الطّويل ، ولقد جمع (ع) أصنافاً كثيرة من الثّناء والمدح بكلمة واحدة من هذا الكلام ، وهي قوله : «لا يخاف بطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم ، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل». ولقد كان الأشتر رحمه الله أهلاً لذلك ، كان شديد البأس جواداً ، رئيساً حليماً ، فصيحاً شاعراً ، ومن شعره قوله :

بقَّيتُ وفري وانحرفتُ عن العُلا

ولقيتُ أضيافي بوجهِ عبوسِ

إنْ لمْ أشنّ على ابن هندٍ غارةً

لمْ تخلُ يوماً من ذهابِ نفوسِ

خيلاً كأمثالِ السّعالى شُزّباً

تعدو ببيضٍ في الكريهة شوسِ

حُميَ الحديدُ عليهمُ فكأنَّهُ

وَمضانُ برقٍ أو شعاعُ شموسِ

وكان يجمع بين اللين والعنف ، فيسطو في موضع السّطوة ويرفق في موضع الرّفق ، وكان فارساً شجاعاً من أكابر الشّيعة وعظمائها ، شديد التحقّق لولاء أمير المؤمنين (ع)

_____________________

(١) المجن : التّرس.

(٢) ضعفه.

(٣) غلطه وخطأه.

(٤) أفضل.

٣٠٦

ونصره. ولمّا قنَتَ أمير المؤمنين (ع) على خمسة : معاوية وعمرو بن العاص وأبي الأعور السّلمي وحبيب بن مسلمة وبسر بن أرطاة ، قنَتَ معاوية على خمسة : علي والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وعبد الله بن العبّاس ومالك الأشتر رحمهما الله. ولمّا برز عبد الله بن الزّبير يوم الجمل ودعا إلى المبارزة ، برز إليه الأشتر ، فقالت عائشة : مَن برز إلى عبد الله؟ قالوا : الأشتر. فقالت : وا ثكل اسماء! وهي اُمّ عبد الله بن الزّبير ، اُخت عائشة. فضرب كلّ منهما صاحبه فجرحه ، ثُمّ اعتنقا فصرع الأشتر عبد الله وقعد على صدره ، واختلط الفريقان هؤلاء لينقذوا عبد الله وهؤلاء ليعينوا الأشتر ، وكان الأشتر طاوياً ثلاثة أيام لم يأكُل ـ وكانت هذه عادته في الحرب ، وكان أيضاً شيخاً كبير السّن ـ فجعل عبد الله يُنادي من تحته : اقتلوني ومالكاً ، واقتلوا مالكاً معي! فلم يدرِ النّاس مَن مالك ، وإنّما كان يُعرف بالأشتر ، فلو قال : اقتلوني والأشتر لقتلوهما. فأفلت ابن الزّبير من تحته ولم يكد ، فقال الأشتر في ذلك :

أعائشُ لولا أنّني كنتُ طاوياً

ثلاثاً لألقيتِ ابنَ اختكِ هالكا

غداةَ ينادي والرّجالُ تحوزُهُ

بأضعفِ صوتٍ اقتلوني ومالكا

فلمْ يعرفوه إذْ دعاهمْ وغمُهُ

خِدبٌ (١) عليه في العجاجةِ باركا

فنجّاه منّي أكلُهُ وشبابُهُ

وأنّيَ شيخٌ لم أكُنْ متماسكا

ودخل الأشتر على عائشة بعد انقضاء حرب الجمل ، فقالت : أنت الذي صنعت بابن اُختي ـ أي عبد الله بن الزّبير ـ ما صنعت؟ قال : نعم ، ولولا أنّي كنت طاوياً ثلاثة أيام لأرحت اُمّة محمّد (ص) منه. قالت : أما علمت أنّ رسول الله (ص) ، قال : «لا يحلّ دم مسلم إلاّ بأحد اُمور ثلاثة : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير حق»؟ فقال : على بعض هذه الثّلاثة قاتلناه يا اُمّ المؤمنين. والله ، ما خابني سيفي قبلها ، ولقد أقسمت أنْ لا يصحبني بعدها. وفي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشّعر.

وقالتْ على أيِّ الخصالِ صرعتهُ

بقتلٍ أتى أمْ ردّةٍ لا أبا لكا

أمْ المُحصَنِ الزّاني الذي حلّ قتلُهُ

فقلتُ لها لا بدّ من بعض ذلكا

ومات الأشتر رحمه الله شهيداً ، دسّ إليه معاوية السمّ في شربة من عسل ، فلمّا بلغه موته ، قال : إنّ لله جنوداً من عسل. ولمّا بلغ موته إلى أمير المؤمنين (ع) ، حزن عليه حزناً شديداً ، وقال : «مالك ، وما أدراك ما مالك! وهل تلد النّساء مثل مالك؟! لو كان حجراً

_____________________

(١) شيخ أو عظيم.

٣٠٧

لكان صلداً ، ولو كان جبلاً لكان فنداً (١). رحم الله مالكاً ، فقد كان لي كما كنت لرسول الله (ص)». ويشبه مالك في نصحه لأمير المؤمنين (ع) وحزن أمير المؤمنين (ع) عليه ، حبيب بن مُظاهر وزُهير بن القين في نصحهما لولده الحسين (ع) وحزنه عليهما ؛ أمّا حبيب فإنّه لمّا قُتل ، هدّ مقتله الحسين (ع) ، وقال : «عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي» ؛ وأمّا زهير فلمّا صرع قال الحسين (ع) : «زُهير ، لا يبعدك الله يا زهير ، ولعن قاتلك لَعْنَ الذين مُسخوا قردة وخنازير». وشدّ كثير بن عبد الله الشّعبي ومهاجر بن أوس على زهير ، فقتلاه بعدما قتل مقتلة عظيمة.

نصروا ابنَ بنتِ نبيِّهمْ طوبى لهمْ

نالوا بنُصرتِهِ مراتبَ ساميهْ

___________________

(١) الفند ، بالكسر : الجبل العظيم.

٣٠٨

المجلس الرّابع والأربعون بعد المئة

لمّا كان يوم الجمل ، برز عمرو بن يثربي الضبّي ـ وكان فارس أهل الجمل وشجاعهم ـ فخرج إليه علباء بن الهيثم من أصحاب أمير المؤمنين (ع) فقتله عمرو ، ثُمّ دعا إلى البراز فخرج إليه هند الجملي فقتله عمرو ، ثُمّ دعا إلى البراز ، فقال زيد بن صوحان العبدي لعلي (ع) : يا أمير المؤمنين ، إنّي رأيت يداً أشرفت عليّ من السّماء وهي تقول : هلمّ إلينا. وأنا خارج إلى ابن يثربي ، فإذا قتلني فادفني بدمي ولا تغسلني ، فإنّي مخاصم عند ربّي. ثُمّ خرج فقتله عمرو. ثُمّ طلب المبارزة ، فقيل : برز إليه عمّار بن ياسر والنّاس يسترجعون ؛ لأنّه كان أضعف مَن برز إليه ، فضربه عمرو فنشب سيفه في درقة عمّار ، وضربه عمّار فصرعه ، ثُمّ جرّه برجله حتّى أتى به عليّاً (ع) ، فقال : يا أمير المؤمنين ، استبقني اجاهد بين يديك. فقال : «أَبعد زيد وهند وعلباء استبقيك؟! لاها الله». قال : فادن منّي اسارّك. فاعرض عنه أمير المؤمنين (ع) ، فقال : أما والله ، لو وصلت إليك لعضضت أنفك عضّة أبنته منك. فأمر أمير المؤمنين (ع) فضربت عنقه. وقيل : لمّا برز قال للأزد : إنّي قد وترت القوم وهم قاتلي ، ولست أخشى أنْ اُقتل حتّى اُصرع ، فإنْ صُرعت فاستنقذوني. فقالوا له : ما نخاف عليك إلاّ الأشتر. قال : فإيّاه أخاف. فخرج الأشتر وهو يقول :

إنّي إذا ما الحربُ أبدتْ نابَها

وغلّقتْ يومَ الوغى أبوابَها

ومزّقتْ من حَنقٍ أثوابَها

كُنّا قداماها ولا أذنابَها

ليس العدوُّ دونَنا أحابَها

مَن هابَها اليومَ فلنْ أهابَها

لا طعنَها أخشى ولا ضرابَها

ثُمّ حمل عليه الأشتر فطعنه فصرعه ، وحامت عنه الأزد فاستنقذوه ، فوثب وهو

٣٠٩

مشرف على الموت ، فلم يستطع أنْ يدفع عن نفسه ، فطعنه رجل فصرعه ثانية ، وسحبه آخر برجله حتّى أتى به عليّاً (ع) ، فناشده الله ، وقال : يا أمير المؤمنين ، اعفُ عنّي فإنّ العرب لم تزل قائلة عنك : إنّك لم تجهز على جريح قط. فعفا عنه واطلقه ، فجاء إلى أصحابه ، وحضره الموت ، فقيل له : دمك عند أي النّاس؟ فقال : ضربني فلان وفلان وصاحبي الأشتر. فقالت ابنته ترثيه :

يا ضبُّ إنّك قد فُجعتَ بفارسٍ

حامي الحقيقة قاتلِ الأقرانِ

حامي الحقيقة قاتلِ الأقرانِ

كلُّ القبائلِ من بني عدنانِ

لو غيرُ الاشترِ نالَهُ لندبتُهُ

وبكيتهُ ما دام هضب أبانِ (١)

لكنّه مَنْ لا يُعاب بقتلهِ

أسدُ الاُسود وفارسُ الفرسانِ

وكانت العرب إذا قُتل منها قتيل ، وكان قاتله رجلاً جليلاً ، تسلّت عنه ولم تحزن عليه ، وإذا كان قاتله من الأنذال ، عظم ذلك عليها وزاد في حزنها ؛ ولذلك لمّا قتل علي (ع) عمرو بن عبد ود ، وسألت اُخته عن قاتل أخيها ، فقيل لها : علي بن أبي طالب ، قالت : قتلة شريفة بيد شريف. والله ، لا أبكي على أخي. وأنشأت تقول :

لو كان قاتلُ عمروٍ غيرَ قاتلِهِ

لكنتُ أبكي عليه آخرَ الأبدِ

لكنّ قاتلَهُ مَن لا يُعاب

بهِ مَن كان يُدعى أبوه بيضةَ البلدِ

ولهذا أيضاً عظُم حزن زينب بنت أمير المؤمنين (ع) على أخيها الحسين (ع) لمّا علمت أنّ قاتله الأنذل الرّذل ، شمر بن ذي الجوشن. وكان مما ندبت به أخاها الحسين (ع) أنْ قالت مُخاطبة لجدّها رسول الله (ص) : يا محمّداه! هذا حسين بالعرا ، تسفي عليه ريح الصّبا ، قَتيل أولاد البغايا. وآحزناه! وأكرباه عليك يا أبا عبد الله!

أمثلَ شمرٍ أذلّ اللهُ جبهتَهُ

يلقى حُسيناً بذاك المُلتقى الخشنِ

يا حسرةَ الدّينِ والدّنيا على قمرٍ

يشكو الخسوفَ من العسّالة اللدنِ

____________________

(١) هَضْب ، بفتح الهاء وسكون الضّاد : جمع هضبة. وأبان : جبل.

٣١٠

المجلس الخامس والأربعون بعد المئة (١)

كرم محمّد بن عبد الله (ص) الإنسانيّة كلّها ، فالغى الإضطهاد العنصري إلغاءً عمليّاً حين اختار لأقدس مهمّة زنجيّاً أسود اللون ، وجعل منه مؤذّنه الذي يُنادي المؤمنين للصلوات في أوقاتها الخمس!

هذا الأسود هو بلال الحبشي الذي كان عبداً من عبيد قُريش ، فلم تكد تبلغه الدّعوة الإسلاميّة حتّى كان أوّل الملبّين لها ، وتعلم به قُريش ويعلم به سيّده اُميّة بن خلف ، فينصحونه بالعدول عن الطّريق الذي مشى فيه فلا يقبل النّصيحة ، ويستمر مُسلماً مُخلصاً ، فيأخذون في تعذيبه العذاب الأليم ، ولكنّه لا يزداد إلاّ إيماناً ، ثُمّ يفرّ بنفسه إلى المدينة مع مَن هاجر إليها ، وهُناك صار مؤذّن الرّسول. ولقد كانت في صوته لَكْنة ، فلا يستطيع أنْ يلفظ الشّين لفظاً صحيحاً ، بل تخرُج من فمه وكأنّها سين ، فيقول الرّسول (ص) : «إنّ سينه عند الله شين».

وعلى صوت بلال الحبشي كان يهرع شيوخ المُسلمين وشُبّانهم إلى المسجد ، ملبّين نداء الله ، يبعثه هذا الإنسان الأسود اللون. ولم يكُن تكريم لعنصر بلال أعظم من هذا التّكريم الذي خصّه به رسول الله ؛ ولذلك فإنّه لمّا مات النّبي ، انقطع إلى أهل البيت عليهم‌السلام مُخلصاً لهم ، وفيّاً لذكرى أبيهم الرّسول.

وتدور الأيام ، ويلقى أهل البيت عليهم‌السلام محناً وأرزاءً ، ويبرز الأوفياء مُلتفّين حول الاسرة النبويّة ، عازمين على الموت دونها ؛ إخلاصاً لمحمّد ورسالته. ويقف الحسين (ع) في كربلاء في أقلّ من مئة من الرّجال كانوا يُمثّلون في تلك السّاعة أنبل ما في الكون من سجايا ، وهل في الكون أنبل من أنْ يبذل الإنسان دمه طواعية ؛ وفاء لرجل وثباتاً

____________________

(١) من المجالس التّي أضفناها على الطّبعة السّابقة.

٣١١

على مبدأ وإخلاصاً لعقيدة؟

وتبارى الرّجال في التّضحية ، ومضوا يسقطون واحداً بعد الآخر. وكان في الرّكب الحسيني رجل بسيط ، لا يُحسب إذا حُسبت البطولات ، ولا يُذكر إذا ذُكرت التّضحيات ، لا يؤبه لرأيه ولا يُعد لمُهمّة من مُهمّات الاُمور.

كان يؤمر فيُلبّي الأمر ، ويُستخدم فيخدم مُسرعاً ، كان أقصى ما يعرفه الرّفاق عنه أنّه خادم أمين وتابع مُخلص ، وما فوق ذلك فليس مما يرد اسمه على البال.

كان رقيقاً من اُولئك الأرقّاء السّود الذين امتلأت بهم قصور العُتاة وبيوت الطُغاة ، وكانت أيّة حشرة تلقى عناية أكثر ممّا يلقاه أيّ واحد منهم! وكان نصيبه أنْ وصل إلى يد أبي ذر الغفاري صاحب محمّد المُخلص ، وسمع أبو ذر النّبي (ص) يوصي بالأرقّاء خيراً ويحضّ النّاس على تحريرهم ، ومَن أولى من أبي ذر بتنفيذ وصايا النّبي؟ فاعتق أبو ذر العبد جون وأرسله حرّاً.

وأصابت المحنة أبا ذر وطورد واضطُهد ومات منفيّاً في الرّبذة ، وظلّ جون فقيراً مُعدماً ، فتلقّاه أهل البيت عليهم‌السلام بالحنان والعطف ؛ فقد كانت فيه ذكريات من صاحب جدّهم رأوها جديرة بالوفاء ، فاحتضنوه وألحقوه بشؤونهم ؛ يقوم على رعاية بيتهم والعناية بأطفالهم ، وقضاء حاجات رجالهم.

ومشى الحسين (ع) إلى كربلاء ، وهذه حال جون لا شأن له أكثر من هذا الشّأن ، ولا مَن يُفكّر بإنْ يكون لجون دور فوق هذا الدّور ، وكان في حسبان الجميع أنّه سيغتنم أوّل فرصة للسلامة ، فينجو وينشد الخدمة من جديد في بيت جديد.

ولكن جون بقي في ركب الحسين (ع) لم يُفارقه مع المفارقين ، وثبت مع الرّجال المئة الذين ثبتوا حتّى وصلوا إلى كربلاء ، وظنّ النّاس أنّ جون سينتظر السّاعة الحاسمة ثُمّ ينطلق بعدها في طريق النّجاة ، ولكن الأيام مضت وجون في مكانه لم يبرحه ، وجاء اليوم التّاسع من المُحرّم وجون قائم على خدمة الحسين (ع) ، فها هو يصلح له سيفه ، والحسين (ع) يُردد تلك الأبيات الشّهيرة التّي لم تستطع معها اُخته زينب إلاّ أنْ تذرف دموعها.

أمّا جون فلم يذكر أحد أنّه انفعل أو تأثّر أو بكى ، أتراه لم يفهم ما كانت تعنيه تلك الأبيات؟ أتراه صلب العاطفة مُتحجّر القلب إلى حدّ لا يهزّه صوت الحسين (ع) ينعي نفسه؟ أتراه في تلك السّاعة في شاغل عن كلّ شيء إلاّ عن نفسه

٣١٢

يُفكّر كيف يُدبّر وسيلة الخلاص عصر اليوم أو صباح الغد؟

الحقيقة كانت فوق كلّ تصوّر ، ولم يبكِ جون ولم ينفلّ ولم يتأثّر ؛ لأنّ ما كان فيه كان فوق البُكاء والإنفعال والتأثّر. كان جون وهو يصلح سيف الحسين (ع) ، والحسين ينشد أبياته ، كان جون يستعرض في ذهنه كلّ ذلك الماضي الحافل ، كان يتذكّر النّبي محمّداً (ص) وهو يرفع الإنسان الأسود إلى أعلى مراتب الكرامة حين عهد إلى واحد منهم بوظيفة مؤذّن النّبي الخاص ، وكان يتذكّر تلك الاُلوف من السّود التّي انطلقت حرّة تنفيذاً لوصايا محمّد ، وكان كلّ ذلك يجول في ذهن جون مولى أبي ذر الغفاري.

وها هو سيف الحسين (ع) الآن في يده لآخر مرّة يصلحه له ليقف به الحسين غداً على أعلى قمّة في التّاريخ فيهزّ الدّنيا كلّها ؛ لتشهد كيف تكون حماية الهُدى والحقِّ والخير ، وكيف تكون البطولات التي لا تبغي إلاّ الاستشهاد ذوداً عمّا تؤمن به وتعتنقه ، وكيف يرفض الاُباة الحياة إذا لم تكن كما يريدون ؛ حياة الحرّية والسّعادة للاُمّة ، وحياة الكرامة والحقّ لهم.

غداً سيلمع هذا السّيف الحديدي في كفّ الحسين (ع) ثُمّ ينثلم إلى الأبد ، ولكن سيف الحقّ الذي جرّده الحسين (ع) سيلمع إلى الأبد دون أنْ ينثلم. وغداً سيعلوا صوت الحسين (ع) بنداء الحرّية ثُمّ يصمت إلى الأبد ، ولكن صوت الحرّية الذي انطلق من فم الحسين (ع) سيظلّ مدويّاً إلى الأبد.

كان جون يلجأ إلى صمت رهيب ، وظلّ صامتاً حتّى دنا الليل ، وأصغى بكلّ جوارحه إلى الحوار البطولي الخارق الذي جرى بين الحسين (ع) وأنصاره ، وهو يحرّضهم على تركه وحده والإنطلاق في سواد الليل ، وهم يردّون عليه واحداً بعد واحد رافضين لأوّل مرّة في حياتهم أوامره ، ويصرّون على أنْ يلقوا المصير نفسه الذي سيُلاقيه هو.

كان جون في تلك السّاعة يجلس في زاوية دون أنْ يأبه له أحد ، وكان يودّ من كلّ قلبه لو كان لصوت الزّنوج صوت بين هذه الأصوات ، ولكنّه فضّل الصّمت المُطبق.

وفي الصّباح عندما تبارى الأبطال المئة متسابقين إلى الموت ، ومسى كلّ منهم يستأذن الحسين (ع) ويودّعه ماضياً إلى مصيره ، تقدّم جون وهو في كلّ خطوة من

٣١٣

خطواته لا ينفكّ مُصغياً إلى صوت زميله بلال الحبشي مُتعالياً فوق كلّ أصوات البيض ؛ تكريماً من محمّد واعزازاً. وربّما خطر له في تلك اللحظات منظر بلال وهو واقف على أشرف مكان وأقدس بُقعة على ظهر الكعبة حين أمره محمّد ساعة فتح مكّة أنْ يصعد فيُنادي بالأذان ؛ الأسود الذي كان عبداً ذليلاً قبل رسالة محمّد يصعد على الكعبة ، وهو في نظر النّاس أعزّ إنسان.

دنت ساعة الوفاء لمحمّد (ص) ، دنت السّاعة التّي يردّ فيها هذا الزّنجي ـ جون ـ بعض الجميل لمحمّد (ص) ، وهل أعظم في الوفاء لمحمّد (ص) من أنْ يموت ذوداً عن أبنائه ونسائه وتعاليمه؟! وتقدّم جون من الحسين (ع) ، وقد انقلب بطلاً مغواراً ، وقد تجمّعت فيه كلّ فضائل بني جنسه ؛ تقدّم يستأذن الحسين (ع) في أنْ يكون كغيره من رفاق الحسين (ع).

والتفت الحسين (ع) إليه وقد أخذته الرّقة له والحنان عليه ، ولم يشأ أنْ يورطه فيما لا شأن له به ، فقال له : «أنت إنّما تبعتنا للعافية ، فلا تبتلِ بطريقتنا».

ولكن جون البطل أجاب الحسين (ع) : أنا في الرّخاء ألحس قصاعكم ، وفي الشّدة أخذلكم! ثُمّ أردف هذا الجواب بكلمات لم يقصد بها الحسين (ع) ، بل أراد أنْ يوجهها للأجيال الماضية والأجيال الحاضرة والأجيال الآتية ؛ تلك الأجيال التّي لم ترَ للزنوج الكرامة التّي لهم ، فقال : إنّ ريحي لنتن ، وإنّ حسبي للئيم ، وإنّ لوني لأسود ، فتنفّس عليّ بالجنّة ؛ فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيضّ وجهي. لا والله ، لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدّم الأسود بدمائكم.

لقد كان جون يعلم أنّه أكرم على الحسين (ع) من اُلوف البيض ، وإنّ الحسين (ع) أكرم من أنْ يراه لئيم الحسب نتن الرّيح. لم يكُن جون في الواقع يخاطب الحسين (ع) سبط محمّد مكرم الزّنوج ، بل كان يقف على ذروة من ذروات التّاريخ ليقول للادعياء المفاخرين بألوانهم وأطيابهم : إليكم هذا الذي ترونه في نظركم لئيم الحسب نتن الرّيح ، إليكم به اليوم يطاولكم شرفاً وحميّة وشجاعة ووفاء فلا تصلون إلى أخمص قدميه ؛ منكم يزيد الأبيض اللون المتحدّر من عبد مناف المضمّخ بالأطياب ، ومنكم عبيد الله بن زياد ، ومنكم شمر بن ذي الجوشن وحجّار بن أبجر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج ، منكم قبل هؤلاء وبعد هؤلاء كثيرون وكلّهم يشعّ بياضاً ويعبق طيباً ، وكلّهم يجرّ وراءه حلقات آباء وأجداد!

اُولئك غدروا بمحمّد (ص) الذي أخرجهم من الظُلمات ، فداسوا تعاليمه وحشّدوا على

٣١٤

بنيه ، اُولئك يتهيؤون الآن ليرفعوا رؤوس أبناء محمّد على رماحهم ، وهذا الزّنجي وفيٌ لمحمّد (ص) الذي حرّره وأكرم جنسه ، فتقدّم ليذودكم عن بنيه وبناته وتعاليمه ، وهو يتهيّأ الآن ليسفك دمه دون ذلك ، فأيّكم اللئيم الحسب؟ النّتن الرّيح؟ الأسود الوجه؟ أأنتم أم هو؟

وحقّق الحسين (ع) رجاء جون فأذنَ له ، ومشى جون مزهوّاً ببطولته ، معتزّاً بوفائه ، يودّ لو أنّ عينَي بلال الحبشي تراه في خطواته هذه ، وأنّ زنوج الدّنيا يطلّون عليه ليروا كيف مثلّهم في موكب البطولات ، وتكلّم باسمهم على منبر التّضحيات ، وكيف شرّفهم ساعة لا شرف إلاّ للنفوس العظيمة.

لقد ضارب جون الحرّ اُولئك العبيد باعمالهم ، السّود بقلوبهم ، وكان له ما أراد ، فامتزج دمه الأسود مع أشرف دم ؛ مع دم الحسين (ع) سبط محمّد (ص) ، ومع دماء أهل بيته عليهم‌السلام.

ووفّى الزّنوج لمحمّد (ص) الذي رفع من شأنهم وأعلى أمرهم ، وتحقّق ما أراده جون ، فلم يُنفّس عليه الحسين (ع) بالجنّة ، ولم يبخل عليه بأنْ يثبت بإنّه كريم الحسب ، طيب الرّيح.

٣١٥

المجلس السّادس والأربعون بعد المئة (١)

مُنذ ولدت هذه المأساة ، وهي تموّن الفكر العالمي بأرفع ما وصلت إليه البطولة ، وأقصى ما بلغه الاستشهاد ، ثُمّ تموّن العاطفة بأشجى ما وصل إليه الحزن النّبيل. وبرغم القرون المتتابعة على ولادتها بقيت معانيها تتجدد في كلّ لحظة ، وبقيت مصدراً عجيباً من مصادر الوحي الغنيِّ للأقلام السّائرة في دروب الحياة إلى مُنتهى القمم الشّوامخ.

من ذلك الزّمن الذي وقعت فيه إلى هذا اليوم الذي تنفصل بينه وبين يومها الأول أربعة عشر قرناً ، وهي تبدو وكأنّها على موعد مع التّجديد الرّائع في سمو المعاني وسمو الأقلام التّي يسيل في لعابها نشيد الخلود.

عظمة هذه المأساة لم تكن في اختيار الموت على الحياة ، أو مواجهة العدد القليل للعدد الهائل الكبير ، أو في الصّبر المُذهل أمام وحوش الغابات وإنْ كانت هذه المعاني فصولاً خالدة من فصولها الكثيرة وإنّما كانت في شيء آخر ... كانت في ذلك التّحدي المُخيف للطغيان الأحمق والظّلم البليد والجبروت الغبي ... نعم كانت في هذا المعنى الذي ينتصب في تاريخ الشّعوب كما ينتصب المارد الجبّار ، ويلوح كما يلوح العملاق أمام الزّرازير الجبانة.

وفي عقيدتي إنّ طُغاة الحُكم الاُموي كانوا أجهل النّاس بالأخلاق العربية العامّة ، كما كانوا أغبى النّاس في معرفة النّفس العربية البسيطة ووعي أسرارها. وقد ظنّ اُولئك الأغبياء الحمقى أنّ المال وحده كافٍ في اماتة كلّ نبل وابادة كلّ شرف ، وأنّ شراء عدد من زعماء العرب في ذلك الوقت كان في القضاء على الجوهر النّبيل

____________________

(١) من المجالس التّي أضفناها على الطّبعة السّابقة وهو بقلم الاستاذ محمّد شرارة.

٣١٦

الذي يشعّ في قلوب البسطاء من الجماهير الكبيرة الواسعة ؛ وبالتّالي كافٍ في القضاء على الحسين (ع) ومدرسته القائمة على تحدّي الطُغيان والوقوف في وجهه مهما ارتفع عبابه. وفي ظُلمة هذه الغباوة اشتروا عمر بن سعد ـ الطّامع بإمارة الرّي ـ وأماثله من الزّعماء الأذلاّء الذين تهاووا على بريق الذّهب ، كما يتهاوى الفراش على لهيب النّار ؛ وبالتّالي استطاعوا أنْ يقتلوا الحسين (ع) وأصحابه بذلك الشّكل الذي أخرج كلّ ما في نفوس الطُغاة من نذالة وحقد وجبن ، وإسفاف وازدراء بالقيم. ولكن هل استطاعوا أنْ يقضوا على تلك المدرسة النّبيلة التّي أنشأها الحسين (ع) ، وخلق لها بتضحيته وتضحيات أصحابه وأهله المُثل العملية العُليا؟

الجواب معروف عند كلّ مُلمّ بالتّأريخ وحركته. لقد ووجه الحكم الاُموي بكثير من الغضب ، وكثير من الصّفعات ، كما ووجه في كثير من الأحيان بكثير من الاحتقار ؛ وفي ذلك الحوار المُذهل الذي دار بين يزيد وزينب بنت علي عليها‌السلام ما أشعر يزيد ـ إنْ كان عنده شعور ـ بإنّ الدّنيا مُقبلة على عاصفة ، وإنّ قتل الحسين (ع) لم يكن سوى نذير يكاد يزعزع الأرض تحته.

لقد شمت الطّاغية الأحمق بقتل الحسين (ع) أمام اُخته ، وظنّ أنّ زينب امرأة ذليلة هانت عليها الكرامة بعد قتل مَن قُتل من أهلها وذويها ، فراح يتحدّاها ويتحدّى الكرامة الشّامخة في تلك النّفس العظيمة التّي يجب أنْ تكون مُثلاً لكلّ امرأة كريمة.

فماذا كان موقف زينب عليها‌السلام؟ وكيف كان ردّها على شماتة الشّامت الخسيس؟

وإنْ جرت عليّ الدّواهي مخاطبتك ، فإنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك.

بهذه الكلمات القليلة أجابت زينب ، ولكن أيّة كلمات هذه الكلمات؟ وأي عوالم من التّحدي تحمل في كلّ حرف من حروفها؟ لو عضّ يزيد الحديد في تلك اللحظة لكان ذلك أهون عليه من أنْ يسمع حرفاً واحداً منها إنْ كان عنده إحساس.

مهما يكن شعوره فقد أدرك بالتأكيد أنّ مدرسة الحسين (ع) باقية وأنّها ستبقى ، وأنّ السّعادة التّي تخيّلها حائمة عليه ، أو ستحوم عليه بقتل الحسين (ع) وأصحابه لن تكون سوى نعش له ولدولته.

٣١٧

وقبل زينب وقف رجل في الكوفة (١) أمامَ عبيد الله بن زياد موقفاً لا يقلّ عن موقف زينب ، ودفع حياته ثمناً لموقفه ، ثُمّ تتابع الزّمن وتتابعت المواقف الخالدة.

ومعنى ذلك أنّ يزيد فشل ، وأنّ الدّرس الذي ألقاه الحسين (ع) على الأجيال بقي ينتقل من جيل إلى جيل ، وسيبقى على تنقُّله ما دام للكرامة قيم ، وللأخلاق مُثل عُليا.

____________________

(١) هو عبد الله بن عفيف الزّدي.

٣١٨

المجلس السّابع والأربعون بعد المئة (١)

خلا الجوُّ لمعاوية بعد مقتل الحسن (ع) بالسمّ ، أمّا زياد بن أبيه فقد تكفّل بالقضاء على كلّ العناصر القيادية في العراق ، مستعملاً في ذلك أبشع الوسائل.

وفي المدينة عاشت الإرستقراطية العربية في بحبوحة من العيش ، عاشت في قصور ناعمة يُجلب إليها من كلّ الأقطار وسائل التّرفيه ، ويعيش في غُرفاتها القيان والعبيد ، ويجلس الأمير في حاشية من صحبه وخدمه والمتزلّفين إليه.

وكانت إرستقراطية المدينة تتكوّن أساساً من الولاة السّابقين الذين فرّوا بمال بيت المال ، أو أغدق عليهم معاوية ما شاءت له سياسته.

ليتقاعدوا ويكفّوا يدهم عن السّياسة ، ومن كبار المحاربين ذوي الاُعطيات الضّخمة وأصحاب الثّروات الطّائلة ، ومن أبناء هؤلاء جميعاً وأتباعهم. وستصبح المدينة بعد ذلك مكانا شاعريّاً يظهر فيها الغناء والشّعر ، والموسيقى والرّقص كأزهى ما كانت عليه مدينة في عصور الازدهار القديمة.

ومن المُمكن تصوّر كيف كانت تفكّر هذه الإرستقراطية ؛ كانت أحاديث السّياسة هي الغالبة ، وكان البحث عن مواقع القُرى ومراكز التّجمع والأنصار شغلهم الشّاغل في المدينة ، كذلك كان الحسين (ع) ظاهراً كأكثر الرّجال شعبية ، وأظفرهم برضاء عامّة المُسلمين وقواعدهم ، وكان هُناك أيضاً عبد الله بن الزّبير ، كما كان

____________________

(١) من المجالس التّي أضفناها إلى الطّبعة السّابقة. وهذا المجلس مع المجالس الثّلاثة التّي تليه ، بقلم الاستاذ أحمد عباس صالح.

٣١٩

هناك سعد بن أبي وقاص ، كما كان هناك مروان بن الحكم قطب بني اُميّة الكبير ، كما كان هناك عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد ، وغير هؤلاء كثيرون من نفس الطّبقة أو أقلّ قليلاً.

وكلّ من هؤلاء كان يتطلّع إلى الخلافة وينظر إلى السّياسة ويُفكّر فيها من هذه الزّاوية ، ووراءهم مباشرة يأتي الولاة الذين يستمدّون سُلطانهم في حكم أمصار ضخمة كالعراق ومصر وغيرهما من الإنضمام إلى هذا الفريق أو ذاك.

والنّظام الفوقي للدولة يتكوّن عموماً من هذه الإرستقراطية التّي تصطرع فيما بينها على السّلطة ، وتكوّن كلّ منها تجمّعات حولها في مواقع مختلفة تستفيد منها في تدعيم نفوذها ، وتتربّص باللحظة المُناسبة للوثوب إلى السّلطة.

ولكن أقوى الأحزاب جميعاً هو الحزب الحاكم المنتصر ؛ حزب معاوية الذي لم يكن يملك النّفوذ فقط ، بل يملك القوّة الرّسمية الضّاربة أيضاً ، وهي القوة الوحيدة المُنظّمة. وإذا كانت الإرستقراطية العربية المُقيمة في المدينة تملك المال الوفير ، فإنّ هذا المال لا يُقاس ببيت المال الذي يتحكّم فيه معاوية ، والذي يُجبى إليه من جميع الأمصار التّي تخضع لحكم الدّولة.

وفي هذا الصّراع العنيف من أهل السّلطة كثرت التجمعات ، وغلبت المصلحة على كلّ شيء ، ووصلت الأخلاق العامّة إلى أقصى درجة من الانحدار.

ورأينا كيف يخرج الرّجل من ولاء إلى ولاء في سهولة ويسر ، وهو في ولائه الثّاني أكثر التزاماً من ولائه الأوّل ، ثُمّ لا يلبث أنْ ينتقل إلى ولاء ثالث بنفس القوّة على تعارض كلّ جبهة من هذه الجبهات!

وكان القتل هو أبسط الوسائل التّي يستعملها الحكّام في هذا الصّراع ، إذ كان التّمثيل بالجثث والصّلب على الأشجار ، وتقطيع الأيدي والأرجل ، وألوان العقاب البدني المختلفة هي لغة الحديث اليومية ، أمّا الوقيعة والدّس والتّزلّف والخيانة والسّرقة والنّهب ، فهي السّمة العامّة لتلك المرحلة.

وفي سبيل السّلطة لم يكن الرّجل ذو النّخوة يخجل من أنْ يثلم عرضه إذا كان في هذا منفعة.

وقُصّة زياد بن أبيه قصّة غريبة تدعو للتأمّل ؛ حيث نَسبه معاوية إلى أبيه ـ أبي

٣٢٠