المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

المجلس الثّاني والثّلاثون بعد المئة

روى ابن أبي الحديد عن ابن عباس قال : لمّا اُخرج أبو ذر إلى الرّبذة ، أمر عثمان فنودي في النّاس أنْ لا يُكلِّم أحد أبا ذر ولا يشيّعه ، وأمر مروان بن الحكم أنْ يخرج به ، فخرج به وتحاماه النّاس : أي اجتنبوه. إلاّ عليّاً (ع) وعقيلاً أخا علي ، وحسناً وحسيناً (ع) وعمّاراً ، فإنّهم خرجوا معه يشيّعونه ، فجعل الحسن (ع) يُكلّم أبا ذر ، فقال له مروان بن الحكم : ايهاً يا حسن ، ألا تعلم إنّ أمير المؤمنين عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإنْ كُنت لا تعلم فاعلم ذلك. فحمل علي (ع) على مروان ، فضرب بالسّوط بين اذني راحلته ، وقال : «تنحَّ لحاك الله إلى النّار». فرجع مروان مُغضباً إلى عثمان فاخبره الخبر ، فتلظّى على علي (ع). ووقف أبو ذر فودّعه القوم ، ومعه ذكوان مولى اُمّ هاني بنت أبي طالب ، قال ذكوان : فَحفِظتُ كلام القوم ـ وكان حافظاً ـ فقال علي (ع) : «يا أبا ذر ، إنّك غضبت لله فارجُ مَن غضبت له. إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عمّا منعوك ، وستعلم مَن الرّابح غداً والأكثر حسداً. ولو أنّ السّماوات والأرض كانتا على عبد رتقاً ثُمّ اتقى الله ، لجعل الله له منها مخرجاً. لا يؤنسنك إلاّ الحقّ ولا يوحشنّك إلاّ الباطل. فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت منها لأمنوك». ثُمّ قال لأصحابه : «ودّعوا عمّكم». وقال لعقيل : «ودّع أخاك». فتكلم عقيل ، فقال : ما عسى أنْ نقول يا أبا ذر ، وأنت تعلم إنّا نحبك وأنت تحبنا ، فاتّقِ فإنّ التقوى نجاة ، واصبر فإنّ الصّبر كرم. واعلم إنّ استثقالك الصّبر من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس ، فدع اليأس والجزع. ثُمّ تكلم الحسن (ع) فقال : «يا عمّاه ، لولا أنّه لا ينبغي للمودّع أنْ يسكت ، وللمشيّع إلاّ أنْ ينصرف ، لقصُر الكلام وإنْ طال الأسف. وقد أتى القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدّنيا بتذكّر فراغها ، وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتّى تلقى نبيك (ص) وهو عنك راضٍ»

٢٨١

ثُمّ تكلم الحسين (ع) ، فقال : «يا عمّاه ، إنّ الله تعالى قادر أنْ يُغيّر ما قد ترى ، والله كلّ يوم هو في شأن ، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك ، فما أغناك عمّا منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم ، فاسأل الله الصّبر والنّصر ، واستعذ به من الجشع والجزع ، فإنّ الصّبر من الدّين والكرم ، وإنّ الجشع لا يُقدّم رزقاً ، والجزع لا يؤخّر أجلاً». ثُمّ تكلم عمّار رحمه الله مُغضباً ، فقال : لا آنس الله مَن أوحشك ، ولا آمن مَن أخافك. أما والله ، لو أردّت دنياهم لأمّنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك ، وما منع النّاس أنْ يقولوا بقولك إلاّ الرّضا بالدّنيا والجزع من الموت ، ومالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمَن غلب ، فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم ، فخسروا الدّنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخُسران المبين. فبكى أبو ذر رحمه الله وكان شيخاً كبيراً ، وقال : رحمكم الله يا أهل بيت الرّحمة ، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله (ص) ، مالي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم. إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشّام ، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله. والله ، ما اُريد إلاّ الله صاحباً وما أخشى مع الله وحشة. ولمّا نُفي أبو ذر إلى الرّبذة حضره الموت ، قيل له : يا ابا ذر ، ما مالك؟ قال : عملي. قالوا : إنّما نسألك عن الذّهب والفضة. قال : ما أصبح فلا اُمسى وما اُمسى فلا أصبح ، لنا كندوج فيه حرّ متاعنا. سمعت خليلي رسول الله (ص) يقول : «كندوج المرء قبره» : والكندوج ، شبه المخزن. وقيل : كانت لأبي ذر غُنيمات يعيش بها فأصابها داء فماتت ، فأصاب أبا ذر وابنته الجوع وماتت أهله ، قالت ابنته : أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئاً ، فقال لي أبي : يا بنية ، قومي بنا إلى الرّمل نطلب القتّ : وهو نبت له حب. فصرنا إلى الرّمل فلم نجد شيئاً ، فجمع أبي رملاً ووضع رأسه عليه ، ورأيت عينيه قد انقلبتا ، فبكيت وقلت له : يا ابتِ ، كيف أصنع بك وأنا وحيدة. وفي رواية ، أنّ التّي كانت معه هي زوجته فبكت ، فقال لها : وما يبكيك؟ فقالت : ومالي لا أبكي ، وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب يسعك كفناً! فقال لها : لا تخافي ، فإنّي إذا متّ جاءك من أهل العراق مَن يكفيك أمري ، فإذا أنا متّ فمدّي الكساء على وجهي ، ثُمّ اقعدي على طريق العراق ، فإذا أقبل ركب فقومي إليهم وقولي : هذا أبو ذر صاحب رسول الله (ص) قد توفّي. قالت ابنته : فلمّا مات مددت الكساء على وجهه ، ثُمّ قعدت على طريق العراق ، فجاء نفر فيهم مالك الأشتر ، فقلت لهم : يا معشر المسلمين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله (ص) قد توفّي. فنزلوا ومشوا يبكون فجاؤوا فغسّلوه ، وكفّنه الأشتر في حلّة قيمتها أربعة آلاف درهم ، وصلّوا عليه ودفنوه. أقول : لِمَ لا وقفت سُكينة يوم العاشر من المُحرّم على قارعة طريق كربلاء حين بقي الحسين (ع)

٢٨٢

ثلاثة أيام بلا دفن ، ونادت : يا معشر المسلمين ، هذا إمامكم وابن بنت نبيكم الحسين سيّد شباب أهل الجنّة ، قد قُتل غريباً وتُرك على وجه الأرض عرياناً سليباً لم يُصلَّ عليه ولم يُدفن ، فهلمّوا إلى مواراته ودفنه؟! بلى ، لمّا طعنه صالح بن وهب على خاصرته فسقط إلى الأرض على خدّه الأيمن ، خرجت اُخته زينب بدل سُكينة ، ونادت : وا أخاه! وا سيّداه! وا أهل بيتاه! ليت السّماء اطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السّهل. ثُمّ قالت لعمر بن سعد : أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فدمعت عيناه حتّى سالت دموعه على خدّيه ولحيته المشومة ، وصرف وجهه عنها ولم يجبها بشيء ، فنادت : ويلكم! أما فيكم مسلم؟! فلم يجبها أحد. لقد تعس اُولئك المسلمون وما ينفعهم إسلامهم ، وقد فعلوا بذرّيّة نبيِّهم ما فعلوا!

لم أنسَ زينب وهي تدعو بينهمْ

يا قومُ ما في جمعكم من مسلم

إنّا بنات المُصطفى ووصيِّهِ

ومخدّراتِ بني الحطيم وزمزم

٢٨٣

المجلس الثّالث والثّلاثون بعد المئة

ذكر المفيد عليه الرّحمة في إرشاده ، من جملة غزوات أمير المؤمنين علي (ع) غزاة ذات السّلاسل. قال : وإنّما سُمّيت بذلك ؛ لأنّه اُتي بالأسرى مُكتّفين بالحبال كأنّهم في السّلاسل ، وكان السّبب في هذه الغزاة : إنّ إعرابياً أتى إلى النّبي (ص) ، فقال : يا رسول الله ، إنّ جماعة من العرب اجتمعوا بوادي الرّمل على أنْ يبيّتوك في المدينة. فأمر بالصّلاة جماعة فاجتمعوا وعرّفهم ذلك ، وقال : «مَن لهم؟». فابتدرت جماعة من أهل الصّفة (١) وغيرهم ، وعدّتهم ثمانون رجلاً ، وقالوا : نحن ، فولِّ علينا مَن شئت. فاستدعى رجلاً من المهاجرين ، وقال له : «امضِ». فمضى فاتبعهم القوم فهزموهم وقتلوا جماعة كثيرة من المسلمين ، وانهزم ذلك الرّجل وجاء إلى رسول الله (ص) ، فبعث آخر من المُهاجرين فهزموه ، فساء ذلك النّبي (ص) ، فقال عمرو بن العاص : ابعثني يا رسول الله ، فإنّ الحرب خدعة ولعلّي أخدعهم. فانفذه مع جماعة ، فلمّا صاروا إلى الوادي ، خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة. ثُمّ دعا أميرَ المؤمنين (ع) وبعثه ، وقال : «أرسلته كرّاراً غير فرّار». ودعا له وخرج معه مشيّعاً إلى مسجد الأحزاب ، وعلي (ع) على فرس أشقر عليه بُردان يمانيان وفي يده قناة خطيّة ، فانفذ معه جماعة منهم المرسلان أولاً وعمرو بن العاص ، فسار بهم نحو العراق متنكّباً للطريق حتّى ظنّوا أنّه يُريد غير ذلك الوجه ، ثُمّ أخذ بهم على طريق غامضة واستقبل الوادي من فمه ، وكان يسير الليل ويكمن النّهار ، فلمّا قرب من الوادي ، أمر أصحابه أنْ يخفوا أصواتهم ، وأوقفهم في مكان وتقدّم أمامهم ناحية ، فلمّا رأى عمرو بن العاص فعله ، لم يشكّ في كون الفتح له ، فقال للمرسل أولاً : إنّ هذه أرض ذات سباع ، كثيرة الحجارة ، وهي أشدّ علينا من بني سليم ، والمصلحة أنْ

______________________

(١) الصّفة : سقيفة في مسجد النّبي (ص) كانت مسكن الغُرباء والفُقراء. وأهل الصّفة من المُهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال فكانوا يسكنونها.

٢٨٤

نعلو الوادي ، وأراد فساد الحال على أمير المؤمنين (ع) ، فأمره أنْ يقول ذلك لأمير المؤمنين (ع) فقال له ذلك ، فلم يجبه أمير المؤمنين (ع) بحرف ، فرجع إلى عمرو وقال : لم يجبني. فقال عمرو بن العاص للمرسل ثانياً : امضِ أنت فخاطبه بذلك. ففعل فلم يجبه أمير المؤمنين (ع) بشيء ، فقال عمرو : أنضيّع أنفسنا؟ إنطلقوا بنا نعلو الوادي. فقال المسلمون : إنّ النّبي أمرنا أنْ نُطيع عليّاً ولا نخالفه ، فكيف تُريد منّا أنْ نُخالفه؟! وما زالوا حتّى طلع الفجر فكبس المسلمون القوم وهم غافلون فامكنهم الله منهم ، ونزلت على النّبي (ص) سورة (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً ...) قسماً بخيل أمير المؤمنين (ع). وعرف النّبي الحال ففرح وبشرّ أصحابه بالفتح وأمرهم بالاستقبال لأمير المؤمنين (ع) ، فخرجوا والنّبي (ص) يتقدّمهم ، فلمّا رأى أمير المؤمنين (ع) النبيَّ (ص) ، ترجّل عن فرسه فوقف بين يديه ، فقال النّبي (ص) : «لولا أنّي أشفق أنْ تقول فيك طوائف من اُمتّي ما قالت النصارى في المسيح ، لقلتُ فيك اليوم مقالاً لا تمرّ بملأ إلاّ أخذوا التُراب من تحت قدميك ، فإنّ الله ورسوله راضيان عنك». فياليت أمير المؤمنين (ع) كان حاضراً يوم عاشوراء ، وقد أحاطت الأعداء بولده الحسين (ع) وأهل بيته من كلّ جانب ومكان ، وهو بينهم وحيد فريد لا ناصر له ولا معين ، يستغيث فلا يُغاث إلاّ بضرب السّيوف وطعن الرّماح ورشق السّهام ، وهو يطلب جرعة من الماء فلا يجد إلى ذلك سبيلاً.

أبا حسنٍ أبناؤك اليوم حلّقتْ

بقادمةِ الأسياف عن خطّة الخسفِ

سلْ الطّفَّ عنهم أين بالأمس طنّبوا

وأين استقلّوا اليومَ عن عرصة الطّفِّ

٢٨٥

المجلس الرّابع والثّلاثون بعد المئة

قال الله تعالى في سورة آل عمران : (إِنّ مَثَلَ عِيسَى‏ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقّ مِن رَبّكَ فَلاَ تَكُن مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) نزلت في وفد نجران ، ونجران : بلد بنواحي اليمن كان أهله نصارى ، فارسلوا وفداً منهم إلى النّبي (ص) ، فلمّا وفدوا على رسول الله (ص) وحضر وقت صلاتهم ، أقبلوا يضربون بالنّاقوس وصلّوا إلى المشرق ، فقال أصحاب رسول الله (ص) : يا رسول الله ، هذا في مسجدك! فقال : «دعوهم». فلمّا فرغوا قالوا : يا محمّد ، إلى ما تدعو؟ قال : «إلى شهادة أنْ لا إله إلاّ الله ، وأنّي رسول الله ، وأنّ عيسى عبدٌ مخلوق». فقالوا : هل رأيت ولداً من غير ذكر؟ فنزلت هذه الآيات ، فردّ الله عليهم قولهم في المسيح أنّه ابن الله ، فقال : إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم في خلقه إيّاه من غير أب ولا اُمّ. فقرأها عليهم رسول الله (ص) ودعاهم إلى المُباهلة فاستنظروه إلى صبيحة غد ، فقال لهم الأسقف : انظروا محمّداً في غد ، فإنْ جاء بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإنْ غدا باصحابه فباهلوه ؛ فإنّه على غير شيء. فلمّا كان الغد ـ وهو الرّابع والعشرون من ذي الحجّة ـ جاء النّبي (ص) آخذاً بيد علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين بين يديه ، وفاطمة خلفه. وخرج النّصارى يقدمهم أسقفهم ولم يباهلوه ، وصالحوه على ألفَي حلّة وعلى أنْ يضيّفوا رسله ، وعلى عارية ثلاثين درعاً وثلاثين رمحاً وثلاثين فرساً عند الحرب ، وأنْ لا يأكلوا الرّبا. ثُمّ إنّ السيّد والعاقب رجعا فاسلما. والمُراد بـ (أَبْنَاءَنَا) في هذه الآية : الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وبـ َ (نِسَاءَنَا) : فاطمة عليها‌السلام ، وبـ (أَنْفُسَنَا) : علي (ع). ولا يجوز أنْ يُراد بـ َ (أَنْفُسَنَا) النّبي (ص) ؛ لأنّه هو الدّاعي ولا يجوز أنْ يدعو الإنسان نفسه بل يدعو غيره ، فيدلّ على أنّ عليّاً (ع) أفضل النّاس بعد رسول الله (ص)

٢٨٦

حيث جعله نفس الرّسول (ص) وصحّ عن رسول الله (ص) ـ كما في البحار أنّه سُئل عن بعض أصحابه ، فقال له قائل:فعليّ؟قال:«إنّما سألتني عن النّاس ولم تسألني عن نفسي».

وروى مسلم في صحيحه عن عائشة : إنّ رسول الله (ص) خرج غداة وعليه مِرط (١) مُرجل (٢) من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي (ع) فأدخله ، ثُمّ جاء الحسين (ع) فدخل معه ، ثُمّ جاءت فاطمة عليها‌السلام فأدخلها ، ثُمّ جاء علي (ع) فأدخله ، ثُمّ قال : (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً) ورواه الزّمخشري وغيره. أعلمت يا رسول الله ما جرى على هذه الوجوه التّي أردت المباهلة بها ، والتّي لو دعت الله على جبل لأزاله؟! أمّا أخوك ونفسك علي بن أبي طالب (ع) ، فقد ضربوه ـ وهو في محرابه يُصلّي ـ بسيف مسموم فلق هامته إلى محل سجوده حتّى قضى شهيداً ؛ وأمّا ابنتك الزّهراء عليها‌السلام فما برحت بعدك مُعصبة الرأس ناحلة الجسم باكية حزينة حتّى اُلحقت بربّها ودُفنت سرّاً لم يشهد أحد جنازتها ؛ وأمّا ولدك الحسن (ع) فقد قضى شهيداً بالسمِّ ، ومُنع من دفنه عندك وإلى جانبك ؛ وأمّا ولدك الحسين (ع) فقد قضى شهيداً بالسّيف غريباً عطشان وحيداً فريداً ، يستجير فلا يُجار ، ويستغيث فلا يُغاث ، وقُتلت أطفاله وسُبيت عياله ، وداروا برأسه في البُلدان من فوق عالي السّنان.

جاشت على آله ما ارتاح واحدُهمْ

من قهر أعداه حتّى مات مقهورا

قضى أخوه خضيبَ الرّأس وابنتُهُ

غضبى وسبطاه مسموماً ومنحورا

____________________

(١) المرط بالكسر : كساء من صوف ، أو خز.

(٢) فيه ألوان تخالف لونه.

٢٨٧

المجلس الخامس والثّلاثون بعد المئة

لمّا كانت حَجّة الوداع وهي آخر حجّة حجّها رسول الله (ص) ـ كان معه سبعون ألفاً ، وقيل : تسعون ألفاً ، وقيل : مئة ألف ، وقيل أكثر. ولعلّ الذين خرجوا معه من المدينة وأطرافها كانوا سبعين ألفاً ، وبلغوا مع الذي انضمّوا إليه في الطّريق تسعين ألفاً ، وبلغوا في عرفات مع أهل مكّة وأطرافها ومَن جاؤوا مع علي (ع) من اليمن مئة ألف أو أزيد. وخطبهم خطبة طويلة وعرّفهم مناسكهم وأحكام دينهم ، وكان قد أرسل عليّاً (ع) إلى اليمن ليُخمّس أموالها ويقبض ما صالح عليه أهل نجران من الحلل وغيرها ، وأنْ يوافيه إلى الحجّ. فأحرم النّبي (ص) وعقد إحرامه بسياق الهدي ، وأحرم علي (ع) كاحرام رسول الله (ص) وساق الهدي ، ولم يكُن يعلم كيف أحرم رسول الله (ص). وكان الذين خرجوا مع النّبي (ص) منهم مَن ساق الهدي ومنهم لم يسق ، فأنزل الله تعالى : (وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ) فأمر النّبي (ص) مَن لم يسق الهدي أنْ يحلّ إحرامه ويجعلها عُمرة ، ومَن ساق الهدي أنْ يبقى على إحرامه ، وكان عليّ ممّن ساق الهدي فبقي على إحرامه. أمّا الذين لم يسوقوا الهدي فمنهم مَن أطاع ومنهم مَن خالف ، وقالوا : رسول الله (ص) أغبر أشعث ونحن نلبس الثّياب ونقرب النّساء وندهن! فأنكر عليهم رسول الله (ص) ، فرجع قوم وأصرّ قوم.

ولمّا رجع رسول الله (ص) من حجّة الوداع ووصل إلى محل يُقال له غدير خُم ، أنزل الله تعالى عليه : (يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ «يعني في علي» وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ) وكان ذلك يوم الثّامن عشر من ذي الحجّة ، وكان يوماً شديد الحرِّ ، فأمر (ص) بدوحات هُناك ، والدّوحة : الشّجرة العظيمة. فكُنس ما تحتها ووضعت له الأحمال بعضها فوق بعض شبه المنبر ، وأمر مُناديه فنادى الصّلاة جامعة فاجتمع النّاس ، فصعد على تلك الأحمال وأصعد عليّاً (ع) معه ، ثُمّ خطب النّاس ووعظهم ونعى إليهم نفسه ، وقال : «إنّي مُخلّف فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلّوا

٢٨٨

من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض». ثُمّ نادى (ص) بأعلى صوته : «ألست أولى بكم من أنفسكم؟». قالوا : اللهمّ بلى. فقال ـ وقد أخذ بعضدي علي (ع) فرفعهما حتّى بان بياض أبطيهما ـ : «فمَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهمّ وال مَن والاه وعادِ مَن عاداه ، وانصر مَن نصره واخذل مَن خذله». ثُمّ نزل فصلّى ركعتين ، ثُمّ زالت الشّمس فصلّى بهم الظّهر وجلس في خيمته ، وأمر عليّاً (ع) أنْ يجلس في خيمة له بازائه ، ثُمّ أمر المُسلمين أنْ يدخلوا عليه فيهنئوه ويسلّموا عليه بامرة المؤمنين ، ثُمّ أمر أزواجه ونساء المسلمين بذلك. وقال له بعض الصّحابة : بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. وانزل الله تعالى عليه في ذلك المكان : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) وجاء حسان بن ثابت ـ شاعر النّبي (ص) ـ فاستأذنه أنْ يقول في ذلك شعراً فأذن له ، فوقف على مكان مرتفع ، وقال :

يُناديهمُ يومَ الغدير نبيُّهمْ

بخمٍّ وأسمعْ بالنّبيِّ مُناديا

فقال فمَن مولاكمُ ووليُّكمْ

فقالوا ولمْ يُبدوا هناك التعاميا

إلهُك مولانا وأنت وليُّنا

ولنْ تجدنْ منّا لك اليوم عاصيا

فقال له قُمْ يا عليُّ فإنّني

رضيتُك من بعدي إماماً وهاديا

فمَن كنت مولاه فهذا وليُّهُ

فكونوا له أتباعَ صدقٍ مواليا

هُناك دعا اللهمَّ والِ وليَّهُ

وكُنْ للذي عادى عليّاً مُعاديا

فهل درى رسول الله (ص) بما جرى على وصيّه وابن عمّه من بعده حتّى آل الأمر إلى أنْ تجرّأ عليه أشقى الأشقياء عبد الرّحمن بن ملجم المُرادي ، وضربه على رأسه في مُحرابه ، ضربة فلق بها هامته إلى موضع سجوده ، ضربة هدّمت أركان الدّين وفتّت في عضد المُسلمين ، وقرّحت قلوب المؤمنين ، وفرّحت قلوب المُنافقين؟!

يا لَقومٍ إذْ يقتلون عليّاً

وهو للمَحل بينهمُ قتّالُ

ويُسرّون بغضَهُ وهو لا تُقبلُ

إلاّ بحبّه الأعمالُ

ولَسبطينِ تابعيه فمسمو مٌ

عليه ثرى البقيعِ يُهالُ

وشهيدٍ بالطّفِّ أبكى السّماوا

تِ وكادت له تزول الجبالُ

يا غليلي له وقد حُرّمَ الما ءُ

عليه وهو الشّراب الحلالُ

قُطعتْ وُصلة النّبيِّ بأنْ تُقطعَ

من آل بيته الأوصالُ

٢٨٩

لم تُنجِّ الكهولَ سنٌّ ولا الشّبانَ

زهدٌ ولا نجا الأطفال

لهف نفسي يا آلَ طه عليكمْ

لهفةً كسبها جوى وخبالُ

٢٩٠

المجلس السّادس والثّلاثون بعد المئة

أتت أسماء بنت يزيد الأنصارية إلى النّبي (ص) وهو بين أصحابه ، فقالت : بأبي واُمّي أنت يا رسول الله! أنا وافدة النّساء إليك ، إنّ الله عزّ وجل بعثك إلى الرّجال والنّساء كافّة فآمنّا بك وبالهك ، وإنّا معشر النّساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم ، وأنّكم معاشر الرّجال فُضّلتم علينا بالجمع والجماعات ، وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحجّ بعد الحجّ ، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عزّ وجل ، وأنّ أحدكم إذا خرج حاجّاً أو مُعتمراً أو مُجاهداً ، حفظنا لكم أموالكم وغزلنا أثوابكم وربّينا أولادكم ، أفما نشارككم في هذا الأجر والخير؟ فالتفت النّبي (ص) إلى أصحابه بوجهه كلّه ، ثُمّ قال : «هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مسألتها هذه في أمر دينها؟». فقالوا : يا رسول الله ، أيّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا؟! فالتفت إليها النّبي (ص) وقال : «إفهمي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النّساء ، إنّ حُسن تبعّل المرأة لزوجها وطلبها مرضاته واتّباعها امره ، يعدل ذلك كُلّه». فانصرفت وهي تهلل حتّى وصلت إلى نساء قومها من العرب ، وعرضت عليهنّ ما قاله رسول الله (ص) ، ففرحن وآمنّ جميعهن ، وسُمّيت رسول نساء العرب إلى النّبي (ص). والنّساء فيهنّ كثير من العاقلات الكاملات اللواتي سبقن الرّجال بكمالهنّ وعقلهنّ وحسن أفعالهنّ ، فمنهن اُمّ وهب بن حباب الكلبي ، وكان من أصحاب الحسين (ع) وكانت معه اُمّه وزوجته ، فقالت اُمّه : قُم يا بُني فانصر ابن بنت رسول الله (ص). فقال : أفعل يا اُمّاه ولا اُقصّر. ثُمّ حمل ولم يزل يُقاتل حتّى قتل جماعة ، ثُمّ رجع وقال : يا اُمّاه أرضيتِ؟ فقالت : ما رضيت حتّى تُقتل بين يدي الحسين (ع). فقالت امرأته : بالله عليك ، لا تفجعني بنفسك. فقالت له اُمّه : يا بُني ، اعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة. فرجع فلم يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه ، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه ، وهي تقول : فداك أبي

٢٩١

واُمّي! قاتل دون الطّيبين ، حرم رسول الله (ص). فاقبل كي يردّها إلى النّساء ، فاخذت بجانب ثوبه وقالت : لن أعود دون أنْ أموت معك. فقال الحسين (ع) : «جُزيتم من أهل بيتٍ خيراً ، ارجعي إلى النّساء رحمك الله». فانصرفت إليهنّ ، ولم يزل الكلبي يُقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه.

فهبّوا إلى حربٍ تقاعَس اُسدُها

تخالس طرفاً للوغى غيرَ ناعسِ

فخاضوا لظاها مُستميتينَ لا ترى

عيونُهمُ الفرسان غيرَ فرائسِ

ضراغمُ غيلٍ لم تهبْ رشقَ راجلٍ

بنبلٍ ولا ترتاع من طعن فارسِ

٢٩٢

المجلس السّابع والثّلاثون بعد المئة

في شرح رسالة ابن زيدون وغيرها ، قال : حُكي عن علي بن أبي طالب (ع) أنّه قال يوماً : «سُبحان الله! ما أزهد كثيراً من النّاس في خير! عجباً لرجل يجيئه أخوه المُسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً ، فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخلف عقاباً لكان ينبغي له أنْ يُسارع إلى مكارم الأخلاق ، فإنّها تدّل على سبيل النّجاح!». فقام إليه رجل ، وقال : يا أمير المؤمنين ، أسمعته من النّبي (ص)؟ قال : «نعم ، لمّا اُتي بسبايا طيء ، وقفت جارية عيطاء لعساء فلمّا تكلمت ، أنسيت جمالها بفصاحتها ، قالت : يا محمّد ، إنْ رأيت أنْ تخلّي عنّي ولا تشمت بي أحياء العرب ؛ فإنّني ابنة سيّد قومي ، وإنّ أبي كان يفكّ العاني ، ويُشبع الجائع ويكسو العاري ، ويحفظ الجار ويحمي الذّمار ، ويُفرّج عن المكروب ، ويُطعم الطّعام ويُفشي السّلام ، ويعين على نوائب الدّهر ، ولم يرد طالب حاجة قط. أنا ابنة حاتم الطّائي. وكان اسمها سفانة. فقال النّبي (ص) : «يا جارية ، هذه صفة المؤمن حقّاً ، ولو كان أبوك مسلماً لترحّمنا عليه. خلّوا عنها فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق». وقال فيها : «ارحموا عزيزاً ذلّ ، وغنياً افتقر ، وعالماً ضاع بين جُهّال». فأطلقها ومَنّ عليها بقومها. فاستأذنته في الدّعاء له ، فأذن لها ، وقال لأصحابه : «اسمعوا وعوا». فقالت : أصاب الله ببرك مواقعه ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلاّ وجعلك سبباً في ردّها عليه. فلمّا أطلقها أتت أخاها عديّاً بدومة الجندل ، فقالت : يا أخي ، ائت هذا الرّجل قبل أنْ تعلقك حبائله ، فإنّي قد رأيت هدياً ورأياً وسيغلب أهل الغلبة. رأيت خصالاً تعجبني ؛ رأيته يحب الفقير ويفكّ الأسير ويرحم الصّغير ويعرف قدر الكبير ، وما رأيت أجود ولا أكرم منه ، وإنّي أرى أنْ تلحق به ؛ فإنْ يكُ نبيّاً فللسابق فضله ، وإنْ يكُ مَلكاً فلنْ تزال في عزّ اليمن. فقدم عدي إلى النّبي (ص) فأسلم ، وأسلمت اُخته سفانة». لا عجب إذا صدر مثل هذا ممّن بُعث ليتمم مكارم الأخلاق ، وقد قال الله تعالى في حقّه : (وَإِنّكَ لَعَلَى‏ خُلُقٍ عَظِيم)

٢٩٣

ولكنّ العجب ممّن يدّعون الإسلام ، وقد حملوا الهاشميات من بنات رسول الله وبنات علي وفاطمة اُسارى من بلد إلى بلد كأنّهنّ سبايا الترك أو الدّيلم ، وقابلوهن من الجفاء والغلظة بما تقشعرّ منه الجلود وتنفطر له القلوب! فمن ذلك لمّا اُدخل نساء الحسين (ع) وصبيانه على ابن زياد بالكوفة ، وفي جملتهم زينب اُخت الحسين (ع) ، وهي مُتنكّرة وعليها أرذل ثيابها ، فمضت حتّى جلست ناحية وحفّ بها إماؤها ، فقال ابن زياد : مَن هذه؟ فلم تجبه ، فأعاد القول ثانياً وثالثاً يسأل عنها. فقال له بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله. فأقبل عليها ابن زياد ، فقال : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد ، وطهّرنا من الرّجس تطهيراً ؛ إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا. فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين وأهل بيتك؟ قالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ؛ فانظر لمَن الفلج يومئذ ، ثكلتك اُمّك يابن مرجانة! قال : فغضب ابن زياد وكأنّه همّ بضربها ، فقال عمرو بن حُريث : يا أمير ، إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها. فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعُصاة المردة من أهل بيتك. فرقّت زينب وبكت وقالت : لعمري يابن زياد ، لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك ، فقد اشتفيت. فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ، ولعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً.

تُصانُ بنتُ الدّعيّ في كِلل الملكِ

وبنتُ الرّسول تُبتذلُ

يُرجى رضى المصطفى فوا عجباً

تُقتل أولادُه ويحتملُ

٢٩٤

المجلس الثّامن والثّلاثون بعد المئة

قال الله تعالى مُخاطباً لنبيه الكريم محمّد : (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضّوا مِنْ حَوْلِك) وقال تعالى : (وَإِنّكَ لَعَلَى‏ خُلُقٍ عَظِيم). وقال رسول الله (ص) : «حُسن الخُلق نصف الدّين». وقال : «ما من شيء أثقل في الميزان من حُسن الخُلق». وقال : «عليكم بحسن الخُلق ؛ فإنّ حسن الخُلق في الجنّة لا محالة ، وإيّاكم وسوء الخُلق ؛ فإنّ سوء الخُلق في النّار لا محالة». وكان رسول الله (ص) يقول : «اللهمَّ ، أحسنت خَلقي فاحسن خُلقي». وقال : «إنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم ، فسعوهم بأخلاقكم». وقال : «أفضل النّاس إيماناً أحسنهم خُلقاً ، وأصلح النّاس أنصحهم للنّاس ، وخير النّاس من انتفع به النّاس». وقال : «إنّ جبرائيل ، الرّوح الأمين ، نزل عليّ من عند رب العالمين ، فقال : يا محمّد ، عليك بحسن الخُلق ، فإنّه ذهب بخير الدّنيا والآخرة». وكان رسول الله (ص) جامعاً لمكارم الأخلاق مستكملاً فضائلها ، كان دائم البشر سهل الخُلق ليّن الجانب ، ليس بفظّ ولا غليظ ، ولا عيّاب ولا مدّاح ، شديد الحياء والتواضع ، يأكُل على الأرض ويجلس جِلسة العبد ، ويخصف (١) نعله بيده ويرقّع ثوبه بيده ، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه ، ويحلب شاته ويخدم أهله ، ويجيب دعوة المملوك ، ويُحب المساكين ويجلس معهم ويعود مرضاهم ويُشيّع جنائزهم ولا يُحقّر فقيراً ويقبل المعذرة. عن أبي ذر رضي الله عنه قال : كان رسول الله يجلس بين أصحابه كأنّه أحدهم ، فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو حتّى يسأل ، فطلبنا إلى النّبي أنْ يجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه ، فبنينا له دكّة (٢) من طين ، فكان يجلس عليها ونجلس بجانبيه. عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله (ص)

____________________

(١) يخرز.

(٢) الدكة : ما يُقعد عليه. وهي التّي تُسمى مصطبة اليوم.

٢٩٥

إذا فقد الرّجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه ، فإنْ كان غائباً دعا له ، وإنْ كان شاهداً زاره ، وإنْ كان مريضاً عاده. روي : أنّ رسول الله (ص) كان لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتّى يحمله معه ، فإنْ أبى قال : «تقدّم أمامي وأدركني في المكان الذي تُريد». عن علي بن أبي طالب (ع) قال : «ما صافح النّبي أحد قط فنزع يده من يده حتّى يكون هو الذي ينزع يده ، وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتّى يكون الرّجل هو الذي ينصرف ، وما سُئل شيئاً قط فقال لا وما ردّ سائلاً حاجة قط إلاّ بها أو بميسور من القول ، وما رؤي مُقدّماً رجله بين يدي جليس له قط». عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : غزا رسول الله (ص) إحدى وعشرين غزوة ، شهدت منها تسع عشرة غزوة وغبت عن اثنتين ، فبينا أنّا معه في بعض غزواته ، إذ أعيا ناضحي (١) تحت الليل فبرك ، وكان رسول الله (ص) في اُخريات النّاس يزجي (٢) الضّعيف ويردفه ويدعو له ، فانتهى إليّ وأنا أقول : يا لهف اُمّه ، ما زال النّاضح بسوء! فقال : «مَن هذا؟». فقلت : أنا جابر ، بأبي أنت واُمّي يا رسول الله! قال : «وما شأنك؟». قلت : أعيا ناضحي. فقال : «أمعك عصا؟». قلت : نعم. فضربه ثُمّ بعثه ثُمّ أناخه ووطئ على ذراعه ، وقال : «اركب». فركبت وسايرته فجعل جملي يسبقه ، فاستغفر لي تلك الليلة خمساً وعشرين مرّة. عن جرير بن عبد الله قال : لمّا بُعث النّبي (ص) أتيته لاُبايعه ، فقال لي : «يا جرير ، لأيّ شيءٍ جئت؟». قُلت : لاُسلم على يديك يا رسول الله. فألقى لي كساءه ثُمّ أقبل على أصحابه ، فقال : «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه». يا رسول الله ، أيّ رجل أكرم من ولدك زين العابدين وسيّد السّاجدين (ع)؟! ولمّا اُتي به إلى يزيد بن معاوية ، لم يكرمه بشيء ، إلاّ أنّه قال له : يابن الحسين ، أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سُلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت. فقال علي بن الحسين (ع) : «مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الأرضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ الاّ فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيرٌ».

ألا يابنَ هندٍ لا سقى الله تربةً

ثويت بمثواها ولا اخضرّ عودُها

____________________

(١) النّاضح : البعير يُستقى عليه.

(٢) يدفع : برفق ولين.

٢٩٦

المجلس التّاسع والثّلاثون بعد المئة

لمّا كان يوم الجمل ـ وهي الحرب التّي وقعت بين علي (ع) وبين عائشة وطلحة والزّبير بالبصرة ، وإنّما سمّيت حرب الجمل ؛ لأنّ عائشة ركبت على جمل اسمه عسكر في هودج وضعت عليه الدّروع ، وكان جملها لواء أهل البصرة ـ كان مع علي (ع) عشرون ألفاً ، فيهم من الصّحابة ـ على بعض الرّوايات ـ ألف وخمسمئة ، ومن البدريين ثمانون ، وممّن بايع تحت الشّجرة مئتان وخمسون. ومع عائشة ثلاثون ألفاً ، وقُتل من الفريقين عشرون ألفاً. وزحف علي (ع) بالنّاس ثُمّ أوقفهم من صلاة الغداة إلى صلاة الظّهر يدعوهم ويُناشدهم ، ويقول لعائشة : «إنّ الله أمركِ أنْ تقرّي في بيتك ، فاتّقي الله وارجعي». ويقول لطلحة والزّبير : «خبأتما نساءكما وأبرزتما زوجة رسول الله!». فيقولا : إنّما جئنا نطلب بدمّ عثُمّان ، وأنْ يُردّ الأمر شورى. ودعا أمير المؤمنين (ع) الزّبير فخرج إليه ، وعلي (ع) حاسر والزّبير عليه السّلاح ، فقال له (ع) : «أما تذكر يوم رآك رسول الله وأنت تتبسّم إليّ ، فقال لك : أتحب عليّاً؟. فقُلت له : كيف لا اُحبّه وبيني وبينه من النّسب والمودّة في الله ما ليس لغيره! فقال : إنّك ستقاتله وأنت ظالم له. فقلتَ : أعوذ بالله من ذلك؟». قال : اللهمّ نعم. قال (ع) : «أفجئت تُقاتلني؟». قال : أعوذ بالله من ذلك. قال : «دع هذا ، بايعتني طائعاً ثُمّ جئت محارباً ، فما عدا مما بدا؟». قال : لا جرم ، والله لا قاتلتك. ثُمّ رجع ، فلقيه عبد الله ابنه ، فقال : أجبناً يا أبتِ؟! فقال : يا بُني ، قد علم النّاس أنّي لست بجبان ، ولكن ذكّرني عليّ شيئاً سمعته من رسول الله (ص) ، فحلفت أنْ لا اُقاتله. فقال : دونك غلامك مكحولاً ، فأعتقه كفارة ليمينك. قالت عائشة : لا والله ، بل خفت سيوف ابن أبي طالب ، أما إنّها طوال حداد ، تحملها سواعد فتية أنجاد ، ولئن خفتها فلقد خافها الرّجال من قبلك. فحمي الزّبير ونزع سنان رمحه وحمل على عسكر علي (ع) ، فقال علي (ع) : «دعوه ، فإنّه محمول عليه فأفرجوا له». فغاص فيهم حتّى دخل من جانب وخرج من آخر ثُمّ رجع ، فقال لهم : أهذا فعل

٢٩٧

جبان؟! فقالوا : قد اُعذرت. ثُمّ رجع إلى المدينة ، فقتله ابن جرموز في الطّريق. ونظرت عائشة إلى علي (ع) يجول بين الصّفّين ، فقالت : انظروا إليه ، كأنّ فعله فعل رسول الله (ص) يوم بدر! والله ، لا ينتظر بكم إلاّ زوال الشّمس. ثُمّ إنّ عليّاً (ع) دعا بمصحف وقال : «مَن يأخذه ويقرأ عليهم : (وإنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) فقال مسلم المجاشعي : ها أنا ذا. فقال له : «تُقطع يمينك وشمالك وتُقتل». فقال : لا عليك يا أمير المؤمنين ، فهذا قليل في ذات الله. فأخذه ودعاهم إلى الله فقُطعت يده اليُمنى ، فأخذه باليُسرى فقطعت ، فأخذه باسنانه فقُتل ، فقالت اُمّه :

يا ربِّ إنّ مسلماً أتاهمْ

بمحكمِ التّنزيل إذْ دعاهمْ

يتلو كتابَ الله لا يخشاهمْ

فرمّلوه رُمِّلتْ لحاهمْ

فقال (ع) : «الآن طاب الضّراب». ذكّرني اجتهاد مسلم المجاشعي في نصرة أمير المؤمنين (ع) حتّى قُطعت يداه وقُتل ، اجتهاد وهب بن حباب الكلبي في نصرة ولده الحسين (ع) حتّى قُطعت يداه وقُتل ، وكانت معه اُمّه وزوجته ، فقالت اُمّه : قُم يا بُني وانصر ابن بنت رسول الله. فقال : أفعل يا اُمّاه ولا اُقصّر. فبرز وهو يقول :

إنْ تنْكروني فأنا ابنُ الكلْبي

سوفَ ترَوني وترَون ضرْبي

وحملَتي وصولَتي في الحربِ

أدركُ ثأري بعد ثأرِ صحْبي

وأدفعُ الكرْبَ أمام الكرْبِ

ليس جهادي في الوغى باللعبِ

ثُمّ حمل ولم يزل يُقاتل حتّى قَتل جماعة ، ثُمّ رجع إلى امرأته واُمّه ، وقال : يا اُمّاه ، أرضيت؟ فقالت : ما رضيت حتّى تُقتل بين يدي الحسين (ع). فقالت امرأته : بالله عليك لا تفجعني بنفسك! فقالت له اُمّه : يا بُني ، اعزب عن قولها وارجع وقاتل بين يدي ابن بنت نبيك ؛ تنل شفاعة جده يوم القيامة. فرجع فلم يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه ، واخذت امرأته عموداً واقبلت نحوه ، وهي تقول : فداك أبي واُمّي! قاتل دون الطّيبين ، حرم رسول الله. فأقبل كي يردّها إلى النّساء ، فأخذت بجانب ثوبه وقالت : لن أعود دون أنْ أموت معك. فقال الحسين (ع) : «جزيتم من أهل بيتي خيراً ، ارجعي إلى النّساء رحمك الله». فانصرفت إليهن ، ولم يزل الكلبي يُقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه.

نصروا ابنَ بنتِ نبيّهمْ طُوبى لهمْ

نالوا بنُصرتهِ مراتبَ ساميهْ

قد جاوَروه ها هُنا بقبورِهمْ

وقصورُهمْ يوم الجزا مُتحاذيهْ

٢٩٨

المجلس الأربعون بعد المئة

لمّا كانت حرب الجمل ، وهي من الحروب العظيمة ، ثبت فيها الفريقان واشرعوا الرّماح بعضهم في صدور بعض كأنّها آجام القصب ، ولو شاءت الرّجال أنْ تمشي عليها لمشت. كان يُسمع لوقع السّيف أصوات كأصوات القصارين ، وخرج رجل من أهل البصرة يُقال له عبد الله بن أبزى ، فتناول خُطام الجمل وشدّ على عسكر علي (ع) ، وقال :

أضربُهمْ ولا أرى أبا حسنْ

ها إنّ هذا حزنٌ من الحَزنْ

فشدّ عليه أمير المؤمنين (ع) بالرّمح فطعنه فقتله ، وقال : «رأيت أبا حسن؟ فكيف رأيته؟» وترك الرّمح فيّه. وبرز عبد الله بن خلف الخزاعي ، وكان رئيس أهل البصرة ، وطلب أنْ لا يخرج إليه إلاّ علي (ع) ، وقال :

أبا تُرابٍ ادنُ منّي فِترا

فإنّني دانٍ إليك شِبرا

وإنّ في صدري عليك غَمرا (١)

فخرج إليه (ع) ، فلم يمهله أنْ ضربه ففلق هامته. ولمّا اشتد القتال وقامت الحرب على ساقها ، زحف علي (ع) نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار ، وحوله بنوه ؛ حسن وحسين عليهما‌السلام ومحمّد بن الحنفيّة (رض) ، ودفع الرّاية إلى محمّد ، وقال : «إقدم بها حتّى تركزها في عين الجمل». فتقدّم محمّد فرشقته السّهام ، فقال لأصحابه : رويداً حتّى تنفذ سهامهم. فأنفذ علي (ع) يستحثّه ، فلمّا أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه ، فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن ، وقال له : «إقدم لا اُمّ لك». فكان محمّد رضي

____________________

(١) كحقد ، وزناً ومعنى.

٢٩٩

الله عنه إذا ذكر ذلك يبكي ، ويقول : لكأنّي أجد ريح نفسه في قفاي ، والله ، لا أنسى ذلك أبداً. ثُمّ أدركت عليّاً (ع) رقّة على ولده ، فتناول الرّاية بيده اليسرى ، وذو الفقار مشهور في يده اليمنى ، وهو يقول :

إطعنْ بها طعنَ أبيك تُحمدِ

لا خيرَ في الحربِ إذا لمْ تُوقَدِ

بالمشرَفيِّ والقنا المُسدّدِ

ثُمّ حمل (ع) فغاص في عسكر الجمل حتّى طحن العسكر ، ثُمّ رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته ، فقال له أصحابه وبنوه والأشتر وعمّار : نحن نكفيك يا أمير المؤمنين. فلم يجب أحداً منهم ولا ردّ إليهم بصره ، وظل ينحط ويزأر زئير الأسد ثُمّ دفع الرّاية إلى محمّد ، ثُمّ حمل حملة ثانية وحده ، فدخل وسطهم فضربهم بالسّيف قدماً قدماً ، والرّجال تفرّ من بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرى حتّى خضب الأرض بدماء القتلى ، ثُمّ رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته ، فاجتمع عليه أصحابه وناشدوه الله في نفسه وفي الإسلام ، فقال : «والله ، ما اُريد بما ترون إلاّ وجه الله والدّار الآخرة». ثُمّ قال لمحمّد : «هكذا تصنع يابن الحنفيّة». فقال النّاس : مَن الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين؟! وكان علي (ع) يقذف محمّداً في مهالك الحرب ويكفّ حسناً وحسيناً ، وقال (ع) يوم صفّين : «املكوا عنّي هذين الفتيين ـ يعني الحسن والحسين عليهما‌السلام ـ فإنّي أخاف أنْ ينقطع بهما نسل رسول الله».

وقال محمّد لأبيه أمير المؤمنين (ع) في تقديمه في الحرب وكفّ أخويه الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فقال : «أنت ابني وهذان ولدا رسول الله ، فأنا أفديهما بولدي». فليتك يا أمير المؤمنين لا غبت عن ولديك وقرّتي عينك الحسن والحسين عليهما‌السلام ، اللذين كنت تكفّهما عن الحرب ؛ خوفاً عليهما ، وتفديهما بولدك محمّد ، لتنظر ما جرى عليهما من بعدك! أمّا ولدك الحسن (ع) فقد جرّعوه الغصص ، ونازعوه حقّه حتّى دسّوا إليه السّم وقتلوه مسموماً ، ومنعوا من دفنه عند جدّه ؛ وأمّا ولدك الحسين (ع) فغصبوه حقّه وقتلوه عطشان غريباً مظلوماً ، وهو يستغيث فلا يُغاث ، ويستجير فلا يُجار ، ويطلب شربة من الماء فلا يُجاب :

يا أيّها النّبأُ العظيمُ إليك في

أبناكَ منّي أعظم الأنباءِ

إنّ اللَذين تسرّعا يقيانَك ال

أرماحَ في صفّين بالهيجاءِ

فأخذتَ في عَضديهما تُثنيهما

عمّا أمامك من عظيمِ بلاءِ

٣٠٠