المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

ولدك الحسين (ع) ، فكنت تمسح على رؤوسهم ، وتأمر لهم بالطّعام ، وتُسلّي بناتك ونساء ولدك الحسين (ع) كما سلّيت زوجة ابن عمّك جعفر.

فليت الذي أحنى على ولد جعفرٍ

برقّةِ أحشاءٍ ودمعٍ مدفّقِ

يرى بين أَيدي القوم أبناءَ سبطهِ

سبايا تُهادى من شقي إلى شقي

٢٦١

المجلس الرّابع والعشرون بعد المئة

لمّا أراد النّبي فتح مكّة ، سأل الله جلّ اسمه أنْ يعمي أخباره على قريش فيدخلها بغتة ، وبنى أمره على السرِّ. فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة يخبرهم بعزم رسول الله على فتحها ، وأعطى الكتاب امرأة سوداء كانت وردت المدينة تستميح بها النّاس وتستبرّهم ، وجعل لها جعلاً على أنْ توصله إلى قوم سمّاهم لها من أهل مكّة ، وأمرها أنْ تأخذ على غير الطّريق ، فنزل الوحي على رسول الله بذلك ، فاستدعى أمير المؤمنين (ع) وقال له : «إنّ بعض أصحابي قد كتب إلى أهل مكّة يخبرهم بخبرنا ، وقد كنت سألت الله عزّ وجل أنْ يعمي أخبارنا عليهم ، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت على غير الطّريق ، فخذ سيفك والحقها وانتزع الكتاب منها وخلّها وسر به إليّ». ثُمّ استدعى الزّبير بن العوّام فقال له : «امض مع علي بن أبي طالب في هذا الوجه». فمضيا وأخذا على غير الطّريق ، فأدركا المرأة فسبق إليها الزّبير فسألها عن الكتاب الذي معها ، فأنكرته وحلفت أنّه لا شيء معها وبكت ، فقال الزّبير : ما أرى يا أبا الحسن معها كتاباً ، فارجع بنا إلى رسول الله لنخبره ببراءة ساحتها. فقال له أمير المؤمنين (ع) : «يخبرنا رسول الله أنّ معها كتاباً ويأمرني بأخذه منها ، وتقول أنت أنّه لا كتاب معها!». ثُمّ اخترط السّيف وتقدم إليها ، فقال : «أما والله ، لئن لم تخرجي الكتاب ، لأكشفنك ثُمّ لأضربنّ عنقك». فقالت له : إذا كان لا بدّ من ذلك ، فاعرض يابن أبي طالب بوجهك عنّي. فأعرض بوجهه عنها ، فكشفت قناعها وأخرجت الكتاب من عقيصتها ، فأخذه أمير المؤمنين (ع) وسار به إلى النّبي ، فأمر أنْ يُنادى بالصّلاة جامعة ، فنودي في النّاس ، فاجتمعوا إلى المسجد حتّى صلّى بهم ، ثُمّ صعد النّبي المنبر وأخذ الكتاب بيده ، وقال : «أيّها النّاس ، إنّي كنت سألت الله عزّ وجل أنْ يخفي أخبارنا عن قريش ، وأنّ رجلاً منكم كتب إلى أهل مكّة يخبرهم بخبرنا ، فليقم صاحب الكتاب ، وإلاّ فضحه الوحي». فلم يقم أحد ، فأعاد رسول الله مقالته

٢٦٢

ثانية ، وقال : «ليقم صاحب الكتاب ، وإلاّ فضحه الوحي». فقام حاطب بن أبي بلتعة ، وهو يرعد كالعصفة في يوم الرّيح العاصف ، فقال : أنا يا رسول الله صاحب الكتاب ، وما أحدثت نفاقاً بعد إسلامي ولا شكّاً بعد يقيني. فقال له النّبي : «فما الذي حملك على أنْ كتبت هذا الكتاب؟». قال : يا رسول الله ، إنّ لي أهلاً بمكّة وليس لي بها عشيرة ؛ فأشفقت أنْ تكون الدّائرة لهم علينا فيكون كتابي هذا كفّاً لهم عن أهلي ويداً لي عندهم ، ولم أفعل ذلك لشكّ منّي في الدّين. فقال عمر : يا رسول الله ، مرني بقتله فإنّه منافق. فقال رسول الله : «إنّه من أهل بدر ، ولعل الله أطّلع عليهم فغفر لهم. اخرجوه من المسجد». قال : فجعل النّاس يدفعون في ظهره حتّى أخرجوه ، وهو يلتفت إلى النّبي ليرقّ عليه ، فأمر رسول الله بردّه ، وقال له : «لقد عفوت عنك فاستغفر ربّك ولا تعد لمثل ما جنيت». وهذه كانت سجية رسول الله في العفو عن المذنبين ، فطالما عفا عن مذنب استحق القتل كما عفا عن أهل مكّة حين فتحها مع أنّهم كذّبوه وطردوه وحاربوه ، فقال : «اذهبوا فأنتم الطُلقاء». وعفا عن ألدّ أعدائه أبي سُفيان ـ الذي طالما بغى الإسلام الغوائل ـ حينما تشفّع به العبّاس عمّ النّبي ، وجعل له ميزة بها إجابة لطلب العبّاس رضي الله عنه ، فقال : «مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن». ولكن ذرّيّة أبي سفيان لم تُراعِ حُرمة رسول الله في آله وذرّيّته ، ولم تجازه بالجميل على فعله. أمّا ابن أبي سفيان ، فقد نازع مولانا أمير المؤمنين حقّه ، وبغى عليه وحاربه وأغار على أعماله وسبّه على منابر الإسلام ، ولم يدع من حرمة لله إلاّ انتهكها ، ودسّ السمّ إلى ولده الحسن (ع) ـ سبط رسول الله ـ فقتله بعد أنْ بغى عليه ، وحاربه ونقض عهده ولم يفِ له بالشّروط التّي صالحه عليها ؛ وأمّا ولده يزيد ، فقد غصب الحسين (ع) ـ سبط رسول الله ـ حقّه ، وسيّر إليه الرّجال ليقتله في الحرم حتّى خرج من مكّة خائفاً يترقّب ، فجيّش له ابن زياد بأمره الجيوش حتّى قتله بأرض كربلاء غريباً وحيداً ظامياً ، وساق نساءه وأهل بيته سبايا من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشّام. أبهذا يُجازى رسول الله على عفوه عن أبي سفيان وقوله : «مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»؟!

ليس هذا لرسولِ الله يا

اُمّة الطّغيان والبغي جزا

جُزّروا جزرَ الأضاحي نسلُهُ

ثُمّ ساقوا أهله سوق الإما

٢٦٣

المجلس الخامس والعشرون بعد المئة

كان رسول الله قد هادن قريشاً في عام الحديبية عشر سنين ، ودخلت خزاعة معه ، وكان بين خزاعة وعبد المطّلب حلف قبل الإسلام ، وجعلت قريش بني بكر داخلة معها ، وكانت بين خزاعة وبني بكر أحقاد في الجاهلية ، فعَدت بنو بكر على خزاعة بموضع يُقال له الوتير وقتلوا منهم ، وعاونتهم قريش سرّاً بالمال والرّجال ، فجاءت خزاعة تستصرخ النّبي ، وأنشد قائلهم :

لاهُم إنّي ناشدٌ محمّدا

حلفَ أبينا وأبيك الأتلدا

إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

هم بيّتونا بالوتير هُجّدا

نتلوا القرآنَ رُكّعاً وسُجّدا

فقام مُغضباً يجرّ رداءه ، وقال : «لا نُصرتُ إنْ لم أنصر خُزاعة مما أنصر منه نفسي». وندمت قريش على ما صنعت ، فأرسلت أبا سفيان ليجدد الحلف مع النّبي ، فقال رسول الله : «هل حدث عندكم شيء؟». قال : لا. قال : «فإنّا على صلحنا لا نُغيّر ولا نُبدّل». فدخل أبو سفيان على ابنته اُمّ حبيبة زوجة النّبي ، فلمّا أراد الجلوس على فراش رسول الله ، طوته. فقال : أرغبت بي عنه ، أم رغبت به عنّي؟ فقالت : هو فراش رسول الله وأنت مُشرك نجس. فقال : لقد أصابك بعدي شرّ. فقالت : بل هداني الله للإسلام. ورجع أبو سفيان وتجهّز رسول الله لفتح مكّة في عشرة آلاف ، وخرج بالجيش فلقيه عمّه العبّاس مهاجراً فأرجعه معه ، فلمّا كانوا قريباً من مكّة ، أمرهم أنْ يوقد كُلّ واحد منهم ناراً ، فأوقدوا عشرة آلاف نار ، وقال العبّاس : لئن بغت رسول الله قريشاً إنّه لهلاكها. فركب بغلة رسول الله وخرج لعلّه يرى أحداً يُرسل معه خبر إلى مكّة ، وكان أبو سفيان قد خرج يتجسس الأخبار ، فرآه العبّاس وأخبره ، وقال : اذهب معي لآخذ لك أماناً ، فوالله ، إنْ ظفر بك رسول الله

٢٦٤

ليضربنّ عُنقك. فأردفه خلفه حتّى أدخله على رسول الله ، فقال له : «أما آن لك أنْ تعلم أنْ لا إله إلا الله؟». فقال : بأبي أنت واُمّي! لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً. فقال : «ألم يأن لك أنْ تعلم أنّي رسول الله؟». فقال : أمّا هذه ففي النّفس منها شيء. فقال له العبّاس : ويحك ، إشهد شهادة الحقّ قبل أنْ تُقتل. فتشهّد ، فقال النّبي للعباس : «اذهب فاحبس أبا سفيان بمضيق الوادي حتّى تمرّ عليه جنود الله». فقال : يا رسول الله ، إنّه يحب الفخر فاجعل له شيئاً. فقال : «مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومَن أغلق بابه فهو آمن». فمرّت عليه القبائل ، فيقول للعباس : مَن هؤلاء؟ فيقول : بنو فلان. حتّى مرّ رسول الله في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار ، فقال : مَن هؤلاء؟ فقال العبّاس : هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار. فقال : لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً! فقال العبّاس : ويحك إنّها النّبوة. فقال : نعم. وأمر رسول الله سعد بن عبادة أنْ يدخل مكّة بالرّاية ، فدخل وهو يقول :

اليومُ يومُ الملحمهْ

اليومُ تُسبى الحُرَمهْ

فسمعه العبّاس فأخبر النّبي فأمر عليّاً أنْ يلحقه ويأخذ الرّاية منه ، فأخذها علي (ع) ودخل بها. سمعتم أنّ رسول الله أكرم أبا سفيان مع عداوته له ومحاربته إيّاه بكرامة لم يجعلها لغيره ، فقال : «مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن». فلم تحفظ ذرّيّة أبي سفيان كرامة رسول الله في ذرّيّته. ولم يأمن الحسين (ع) ـ ابن بنت رسول الله ـ على نفسه حين خرج من المدينة إلى مكّة هارباً من طواغيت بني اُميّة ، فدسّ إليه يزيد بن معاوية ثلاثين رجلاً من شياطين بني اُميّة ، وأمرهم بقتل الحسين (ع) على أيّ حال اتّفق ، فاضطرّ الحسين (ع) أنْ يخرج من مكّة لمّا علم بذلك ، وكان قد أحرم بالحجّ ، فطاف وسعى وقصّر ، وأحلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مفردة ؛ لأنّه لم يتمكّن من إتمام الحجِّ ؛ مخافة أنْ يُقبض عليه. وخرج من مكّة يوم التّروية لثمان مضين من ذي الحجّة ، فكان النّاس يخرجون إلى منى والحسين (ع) خارج إلى العراق. حكى ابن صباغ المالكي في الفصول المُهمّة عن بعض الثُقات ، قال : رأيت علي بن أبي طالب (ع) في المنام ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، تقولون يوم فتح مكّة من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ثُمّ يتمّ لولدك الحسين (ع) يوم كربلاء منهم ما تمّ! فقال لي : «أما سمعت أبيات ابن الصّيفي التّميمي في هذا المعنى؟». فقلت : لا. فقال : «اذهب إليه واسمعها». فاستيقظت من نومي مُفكّراً ، ثُمّ إنّي ذهبت إلى دار ابن الصّيفي ـ وهو الحيص بيص المُلقّب بشهاب الدّين ـ فطرقت عليه الباب ، فخرج إليّ فقصصت عليه الرّؤيا ، فأنشد :

٢٦٥

ملكنا فكان العفو منّا سجيةً

فلمّا ملكتُم سال بالدّم أبطحُ

وحللتُم قتل الأسارى وطالما

غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ

وحسبكمُ هذا التفاوتُ بيننا

وكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ

ولم يزالوا بالحسين (ع) بعد ما أخافوه وأخرجوه من حرم الله وحرم جده رسول الله حتّى قتلوه غريباً شهيداً عطشان ظامياً ، وقتلوا أولاده وأهل بيته وأنصاره ، وسبوا نساءه وأطفاله ، وداروا برأسه في البلدان.

وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها

وبه تشرّفت الحطيمُ وزمزمُ

لم يدرِ أين يُريح بُدنَ ركابهِ

فكأنّما المأوى عليه محرّمُ

فمشت تؤمُّ به العراق نجائبٌ

مثل النّعام به تخبُّ وترسمُ

٢٦٦

المجلس السّادس والعشرون بعد المئة

لمّا كانت غزاة حنين ، وذلك بعد فتح مكّة ، خرج رسول الله في عشرة آلاف ، وقيل في أثني عشر ألفاً ؛ ألفان ممّن أسلم يوم الفتح ، وعشرة آلاف من أصحابه. فقال بعض أصحابه من المهاجرين : لن نغلب اليوم من قلّة. فلمّا أتوا إلى وادي حنين ، وكان ذلك قبل الفجر ، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الوادي وكمنوا فيه ، حمل عليهم المشركون وانهزم المسلمون بأجمعهم ، ولم يثبت مع النّبي غير عشرة أنفس ؛ تسعة من بني هاشم والعاشر أيمن بن اُمّ أيمن ، فقُتل أيمن وثبتت التّسعة ؛ منهم العبّاس بن عبد المطّلب عن يمين رسول الله ، وابنه الفضل عن يساره ، وأبو سفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند نفور بغلته ، وأمير المؤمنين (ع) بين يديه يضرب بالسّيف ، والباقون حوله ، وذلك قوله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمّ وَلّيْتُم مُدْبِرِينَ * ثُمّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى‏ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) : يعني عليّاً (ع) ومَن ثبت معه من بني هاشم. وأمر النّبي عمّه العبّاس ـ وكان صيتاً جهورياً ـ أنْ يُنادي النّاس ويذكّرهم العهد ، ففعل فلم يرجعوا ، ثُمّ نادى : أين ما عاهدتم الله عليه؟ فرجعوا أولاً فأولا ، وأقبل رجل من هوازن يُسمّى أبا جرول على جمل له ، بيده راية في رأس رمح طويل أمام النّاس ، إذا أدرك أحداً طعنه ، وإذا فاته النّاس رفع رايته لمن وراءه من المشركين فاتبعوه ، فصمد له أمير المؤمنين (ع) فضرب عجز بعيره فصرعه ثُمّ ضربه فقتله ، فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول. ولمّا رأى النّبي شدّة القتال ، قام في ركابي سرجه حتّى أشرف على جماعة النّاس ، ثُمّ قال : «الآن حمي الوطيس» : أنا النّبيُّ لا كذبْ أنا ابنُ عبدِ المطلبْ فما كان بأسرع من أنْ ولّى القوم على أدبارهم ، ولحقهم المسلمون أمامهم علي (ع) ، يقتلون ويأسرن حتّى قتل علي (ع) أربعين رجلاً. ومن هذه الشّجاعة ورث ولده الحسين (ع) ، وعلى نهجها نهج وفي سبيلها درج ، فهو ابن رسول الله وابن بضعته.

٢٦٧

وهو ابنُ حيدرة البطينِ الأنزعِ ال

مفني الاُلوفَ بحومة الهيجاءِ

له من عليٍّ في الحروب شجاعةٌ

ومن أحمدٍ عند الخطابة قيلُ

قال بعض الرّواة : والله ، ما رأيت مكثوراً قد قُتل ولده وأهل بيته وأنصاره ، أربط جأشاً من الحسين (ع)! وإنْ كانت الرّجالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب. ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكملوا ثلاثون ألفاً ، فينهزمون من بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثُمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : «لا حول ولا قوة إلا بالله». ولم يزل يُقاتل حتّى حالوا بينه وبين رحله ، فصاح : «ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان! إنْ لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عُرباً كما تزعمون». فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة؟ قال : «أقول إنّي اُقاتلكم وتقاتلونني ، والنّساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التّعرض لحرمي ما دمت حيّاً». قال شمر : لك ذلك يابن فاطمة. فقصدوه بالحرب ، فجعل يحمل عليهم ويحملون عليه ، وهو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد.

منعوه من ماءِ الفُرات ووردِهِ

وأبوه ساقي الحوضِ يوم جزاءِ

حتّى قضى عطشاً كما اشتهت العِدى

بأكفِّ لا صِيدٍ ولا أكفاءِ

٢٦٨

المجلس السّابع والعشرون بعد المئة

كان السّبب في غزاة تبوك ـ وهي آخر غزواته ـ أنّ النّبي بلغه أنّ هرقل ملك الرّوم ومَن معه من نصارى العرب قد عزموا على قصده ، فتجهّز للقائهم ، وكان النّاس في عسرة فسمّي ذلك الجيش جيش العسرة. فأمر رسول الله أهل الغنى أنْ يعينوا الفقراء ، وكان المسلمون خمسة وعشرين ألفاً عدا العبيد والأتباع ، وكان إذا أراد الغزو لا يخبر أحداً إلاّ في هذه الغزاة ، فاخبرهم لبُعد المسافة ليستعدّوا ، ولم يقع في هذه الغزاة قتال وإنّما أرسل بعض السّرايا ، فحصلت منواشات يسيرة ، وصالح كثير منهم على الجزية ورجع. ولمّا خرج رسول الله إلى غزاة تبوك خلّف عليّاً (ع) على المدينة ؛ لأنّه خاف عليها من المنافقين لبُعد المسافة ؛ ولأنّ الله تعالى أخبره أنّه لا يكون قتال. فقال المنافقون : إنّما خلّفه استثقالاً له. فلمّا بلغ ذلك أمير المؤمنين (ع) ، أخذ سلاحه ولحق بالنّبي فاخبره بقول المنافقين ، فقال : «كذبوا ، إنّما خلّفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ، فانت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي ؛ أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي؟». فرجع. وتخلّف عنه في هذه الغزاة كثير من المنافقين وجماعة من المؤمنين ، منهم كعب بن مالك ومرارة بن الرّبيع وهلال بن اُميّة ، من غير شكّ ولا نفاق ، كانوا يقولون نخرج غداً أو بعد غد حتّى رجع رسول الله فنهى عن كلامهم ، فلم يكلّمهم أحد حتّى نساؤهم فكانت تاتيهم بالطّعام ولا تكلّمهم. فخرجوا إلى جبل بالمدينة ثُمّ قالوا : إنّ النبي نهى عن كلامنا فلماذا يكلّم بعضنا بعضاً؟ فتفرّقوا وحلفوا أنْ لا يكلم أحد صاحبه حتّى يموتوا أو يتوب الله عليهم. فبقوا على ذلك خمسين ليلة ، وفيهم أنزل الله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) الى قوله ثم تاب عليهم وكان ممّن تخلّف عن النّبي (ص) أبو خيثمة ومراده أنْ يلحق به ، وكانت له

٢٦٩

زوجتان وعريشان ، ففرشت زوجتاه عريشيه وبرّدتا له الماء وهيّأتا له طعاماً ، فلمّا نظر إليهما قال : لا والله ، ما هذا بانصاف ، رسول الله قد خرج في الحرّ والرّيح يجاهد في سبيل الله وأبو خيثمة قاعد في عريشه! فلحق برسول الله (ص) ، فنظر النّاس إلى راكب فأخبروا رسول الله (ص). فقال : «كنْ أبا خيثمة». فاقبل وأخبر النّبي (ص) بما كان ، فجزاه خيراً ودعا له. وكان ممّن تخلّف أبو ذر ؛ لأنّ جمله كان أعجف ، فلحق به بعد ثلاثة أيام. ووقف عليه جمله في الطّريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره ، فلمّا ارتفع النّهار ، نظر المسلمون إلى شخص مقبل ، فقال رسول الله (ص) : «كنْ أبا ذر». فقالوا : هو أبو ذر. فقال رسول الله (ص) : «أدركوه بالماء فإنّه عطشان». فأدركوه بالماء. هكذا جرت العادة ، إنّ كلّ من يقبل وهو عطشان يؤتى له بالماء خصوصاً في حال الحرب إلاّ علي الأكبر ، فإنّه لمّا رجع من الحرب إلى أبيه الحسين (ع) وهو عطشان ، جعل يقول : يا ابتِ ، العطش قتلني وثقل الحديد أجهدني. فلم يؤت له بالماء ، لماذا؟ ألم يكن عزيزاً على الحسين (ع) فيامر له بالماء؟ بلى والله ، قد كان عزيزاً عليه وفلذة من كبده ، ولكن الماء قد كان ممنوعاً عن الحسين (ع) وأطفاله من قبل ثلاثة أيام. وتدل الرّواية أنّه قد تكرّر من علي الأكبر طلب الماء من أبيه ، يقول الرّاوي : فجعل علي الأكبر يشدّ على القوم ثُمّ يرجع إلى أبيه ، فيقول : يا ابت ، العطش. فيقول له الحسين (ع) : «اصبر حبيبي ، فإنّك لا تمسي حتّى يسقيك رسول الله بكأسه».

قضوا عطشاً يا للرجال ودونهمْ

شرائعُ لكن ما اُبيح ورودُها

شرائعُ لكن ما اُبيح ورودُها

عداها عن الورد المُباح تذودُها

تموتُ ظماً شبّانها وكهولُها

ويفحص من حرِّ الأوام وليدُها

ووافى أبو ذر رسول الله (ص) ومعه أداوة فيها ماء ، فقال رسول الله : «يا ابا ذر ، معك ماء وعطشت؟». فقال : نعم يا رسول الله بأبي أنت واُمّي! انتهيت إلى صخرة وعليها ماء السّماء ، قذفته فإذا هو عذب بارد ، فقلت لا اشربه حتّى يشربه حبيبي رسول الله (ص). لنعم الإيثار إيثار أبي ذر رضي الله عنه لرسول الله بالماء على نفسه وهو عطشان! ولكن أين هو من إيثار أبي الفضل العبّاس لأخيه الحسين (ع) بالماء يوم عاشوراء؟ وذلك لمّا جاء إلى أخيه الحسين (ع) واستأذنه في القتال ، فقال له الحسين (ع) : «أنت حامل لوائي». فقال : لقد ضاق صدري وسئمت الحياة. فقال له الحسين (ع) : «إنْ عزمت فاستسق لنا ماء». فأخذ قربته وحمل على القوم حتّى ملأ القربة ، واغترف من الماء غرفة ثُمّ ذكر عطش أخيه الحسين (ع) فرمى بها ، وقال :

٢٧٠

يا نفسُ من بعد الحسين هوني

وبعده لا كنتِ أنْ تكوني

هذا الحسينُ واردُ المنونِ

وتشربين باردَ المعين

ثُمّ عاد ، فأخذوا عليه الطّريق ، فجعل يضربهم بسيفه وهو يقول :

لا أرهب الموتَ إذا الموت رقى

حتّى اُوارى في المصاليت لُقى

إنّي أنا العبّاسُ أغدو بالسّقا

ولا أهاب الموتَ يوم الملتقى

فضربه حكيم بن الطّفيل الطّائي السّنبسي على يمينه فبراها ، فأخذ اللواء بشماله وهو يقول :

واللهِ إنْ قطعتمُ يميني

إنّي اُحامي أبداً عن ديني

فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فبراها ، فضمّ اللواء إلى صدره ـ كما فعل عمّه جعفر ، إذ قطعوا يمينه ويساره في حرب مؤتة فضمّ اللواء إلى صدره ـ وجعل العبّاس يقول :

ألا ترَون معشر الفجّارِ

قد قطعوا ببغيهم يساري

فحمل عليه رجل تميمي من أبناء ابن بن دارم فضربه بعمود على رأسه ، فخرّ صريعاً إلى الأرض ونادى بأعلى صوته : أدركني يا أخي! فانقضّ عليه أبو عبد الله كالصّقر ، فرآه مقطوع اليمين واليسار ، مرضوخ الجبين ، مشكوك العين بسهم ، مرتثاً بالجراحة ، فوقف عليه منحنياً وجلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه ، ثُمّ حمل على القوم فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً ، فيفرّون من بين يديه كما تفرّ المعزى إذا شدّ فيها الذّئب ، وهو يقول : «أين تفرّون وقد قتلتم أخي؟ أين تفرّون وقد فتتم في عضدي؟». ثُمّ عاد إلى موقفه منفرداً.

فهنا لكمْ ملك الشّريعة واتّكى

من فوق قائم سيفه فمقامُها

فأبتْ نقيبتُهُ الزكيّة ريَها

وحشا ابنِ فاطمةٍ يشبُّ ضرامُها

وكذلكمْ ملأ المزادَ وزمَّها

وانصاعَ يرفلُ بالحديد همامُها

حسمتْ يديه يدُ القضاء بمبرمٍ

ويدُ القضا لم ينتفض إبرامُها

واعتاقه شرَكُ الرّدى دون السّرى

إنّ المنايا لا تطيش سهامُها

٢٧١

المجلس الثّامن والعشرون بعد المئة

لمّا أراد رسول الله (ص) الخروج إلى غزاة تبوك خطب النّاس ، فقال بعد حمد الله والثّناء عليه : «أيّها النّاس ، إنّ أصدق الحديث كتاب الله ، وأولى القول كلمة التقوى ، وخير الملل ملّة إبراهيم ، وخير السّنن سنة محمّد ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص هذا القرآن ، وخير الاُمور أوسطها ، وشرّ الاُمور محدثاتها ، وأحسن الهدى هُدى الأنبياء ، وأشرف القتل قتل الشّهداء ، وأعمى العمى الضّلالة بعد الهدى ، وخير الأعمال ما نفع ، وخير الهدى ما اتُّبع ، وشرّ العمى عمى القلب ، واليد العُليا خير من اليد السّفلى ، وما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى ، وشرّ المعذرة حين يحضر الموت ، وشرّ النّدامة يوم القيامة ، ومن أعظم خطايا اللسان الكذب ، وخير الغنى غنى النّفس ، وخير الزّاد التّقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله والتّباعد من عمل الجاهلية ، والسّكر حجر النّار ، والخمر جماع الإثم ، والنّساء حبائل ابليس ، والشّباب شعبة من الجنون ، وشرّ المكاسب كسب الرّبا ، وشرّ المآكل أكل مال اليتيم. والسّعيد مَن وعظ بغيره ، والشّقي مَن شقي في بطن اُمّه ، وإنّما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والأمر إلى آخره. وملاك العمل خواتيمه ، وكل ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسق ، وقتال المؤمن كفر ، وأكل لحمه من معصية الله ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، ومَن توكّل على الله كفاه ، ومَن صبر ظفر ، ومَن يعفُ يعفُ الله عنه ، ومَن كظم الغيظ يأجره الله ، ومَن يصبر على الرّزية يعوّضه الله». سمعتم قول النّبي : «أشرف القتل قتل الشّهداء»؟ وأيّ شهيد أشرف وأفضل من شهيد كربلاء أبي عبد الله الحسين (ع) ، ولد رسول الله وأحد سبطيه وريحانتيه؟ وأيّ قتل أشرف من قتله؟ وهو الذي فدى دين جده بنفسه ، وأعلى منار الإيمان وأظهر فضائح المنافقين ، وهدم ما بناه بنو اُميّة لهدم هذا الدّين ، فكان سيّد الشّهداء وإمام أهل الشّرف والإباء حتّى قضى بسيوف الأعداء مع أهل بيته وأنصاره

٢٧٢

عطشان غريباً وحيداً فريداً ، وسُبيت نساؤه وعياله وذبحت أطفاله ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السّنان.

تداركتمُ بالأنفس الدّين لم يقمْ

لواه بكمْ إلاّ وأنتم ذبائحُهْ

غداة تشفّى الكفرُ منكم بموقفٍ

أذلّت رقابَ المسلمين فضائحُهْ

٢٧٣

المجلس التّاسع والعشرون بعد المئة

لمّا كانت غزاة تبوك ظهر من أقوال المنافقين وأفعالهم ما لم يظهر في غيرها ، منها : أنّه تخلّف عن النّبي (ص) كثير من المنافقين ، ونزلت فيهم آيات كثيرة مثل قوله تعالى : (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتّبَعُوكَ وَلكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ) وقوله تعالى : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلّبُوا لَكَ الاُمور حَتّى‏ جَاءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِي وَلاَ تَفْتِنّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَُمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) وقوله تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ) إلى قوله (وَقَالُوا لاَتَنْفِرُوا فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّاً) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التّي في سورة براءة. ومنها ، قولهم أنّ رسول الله (ص) إنّما خلّف عليّاً (ع) على المدينة استثقالاً له ، فكذّبهم الله تعالى على لسان نبيه (ص) ، فقال له : «إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ؛ أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي؟». ومنها : أنّها ضلّت ناقة النّبي (ص) ، فقال بعض المنافقين : إنّ محمّداً يخبركم الخبر من السّماء ، ولا يدري أين ناقته! فقال : «إنّي والله ، لا أعلم إلاّ ما علّمني الله عزّ وجل ، وهي في الوادي في شعب كذا قد حبستها شجرة بزمامها». فوجدوها كما قال (ص).

وقدم رسول الله المدينة ، وكان إذا قدم من سفر استُقبل بالحسن والحسين عليهما‌السلام ، وحفّ به المسلمون حتّى يدخل على فاطمة عليها‌السلام ويقعدون بالباب ، فإذا خرج ، مشوا معه حتّى يدخل منزله فيتفرّقون عنه. بأبي أنت واُمّي يا رسول الله! كنت إذا قدمت من سفر استقبلك المسلمون بولديك الحسنين عليهما‌السلام ؛ وما ذاك إلاّ لعلم المسلمين بأنّ ولديك الحسنين عليهما‌السلام أحبّ الخلق إليك وأشرفهم منزلة عند الله ، وكنت أوّل مَن تبدأ بزيارته بضعتك فاطمة الزّهراء عليها‌السلام ؛ لأنّها أحب النّاس إليك وأعزّهم عليك. اُخبرك يا رسول الله

٢٧٤

بما جرى بعدك على بضعتك الزّهراء وريحانتيك الحسنين أمّا بضعتك الزّهراء فلم تزل بعدك ناحلة الجسم ، معصبة الرّأس ، حزينة كئيبة باكية حتّى تأذّى ببكائها أهل المدينة ، فبنى لها علي (ع) بيتاً في البقيع يُسمّى بيت الأحزان ، فكانت تخرج إليه وتقضي وطرها من البكاء حتّى لحقت بربّها ؛ وأمّا ولدك الحسن (ع) ، فجرّعوه الغصص حتّى جرحوه في فخذه بمعول في ساباط المدائن حينما كان متوجّهاً إلى حرب معاوية ، وكاتبوا عدوّه سرّاً وخلّوه حتّى اضطرّ أنْ يُصالح معاوية ؛ حفظاً لدمه وابقاء على شيعته ، وكانت عاقبة أمره أنْ مات شهيداً بالسّم حتّى تقيّأ كبده قطعة قطعة. وأمّا ولدك الحسين (ع) ، فغصبوه حقّه وأخافوه حتّى خرج من حرمك خائفاً يترقّب إلى حرم الله ، ثُمّ من حرم الله إلى الكوفة ، وجهّز ابن زياد إليه الجيوش بأمر يزيد ، فأحاطوا به ومنعوه التوجّه في بلاد الله العريضة ، ومنعوه من شرب الماء هو وعياله وأطفاله حتّى قتلوه عطشان غريباً وحيداً فريداً لا ناصر له ولا مُعين ، وليتهم اكتفوا بذلك! لا والله ، لم يكتفوا بهذا حتّى أمر ابن سعد ـ تنفيذا لأمر ابن زياد ـ أنْ يُداس بدنه الشّريف بحوافر الخيل ، وحمل رأسه ورؤوس أصحابه على الرّماح وطاف بها في البلدان ، وساق بناتك ونساء أولادك كما تُساق السّبايا من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى يزيد بالشّام.

تتهادى بها النّياقُ بلا حا

مٍ ولا عينُ كافلٍ ترعاهَا

لابن مرجانة الدّعيِّ وطوراً

لابن هندٍ تُهدى بذلِّ سباهَا

٢٧٥

المجلس الثّلاثون بعد المئة

كان أبو ذر الغفاري ـ واسمه جندب بن جنادة ـ من خيار أصحاب رسول الله (ص) ، الموالين لأمير المؤمنين (ع) والهاتفين بفضائله. وفي الإستيعاب : كان من كبار الصّحابة قديم الإسلام. وقال علي (ع) : «وعى أبو ذر علماً عجز النّاس عنه ، ثُمّ أوكأ عليه فلم يخرج شيئاً منه». وقال النّبي (ص) : «أبو ذر في اُمّتي على زهد عيسى بن مريم (ع)». وقال النّبي (ص) : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر». روي ذلك كلّه في الإستيعاب وغيره. قال الامام الصّادق (ع) : «أرسل عثمان إلى أبي ذر مولَيَين له ومعهما مئتا دينار ، فقال لهما : إنطلقا بها إلى أبي ذر فقولا له : عثمان يقرؤك السّلام ويقول لك : هذه مئتا دينار فاستعن بها على ما نابك. فقال أبو ذر : فهل أعطى أحداً من المسلمين مثلما أعطاني؟ فقالا : لا. قال : فأنا رجل من المسلمين ، يسعني ما يسع المسلمين. فقالا : إنّه يقول : هذا من صلب مالي ، وبالله الذي لا إله إلا هو ، ما خالطها حرام ، ولا بعثت إليك إلاّ من حلال. فقال : لا حاجة لي فيها وقد أصبحت يومي هذا وأنا من أغنى النّاس. فقالا له : عافاك الله واصلحك! ما نرى في بيتك قليلاً ولا كثيراً مما تستمتع به. فقال : بلى ، تحت هذا الأكاف (١) الذي ترونه رغيف شعير قد أتى عليه أيام ، فما أصنع بهذه الدّنانير؟ لا والله ، حتّى يعلم الله أنّي لا أقدر على قليل ولا كثير ، ولقد أصبحت غنيّاً بولاية علي بن أبي طالب وعترته الهادين المهديين الرّاضين المرضيين ، الذين يهدون بالحقّ وبه يعدلون. وكذلك سمعت رسول الله (ص) يقول : إنّه لقبيح بالشّيخ أنْ يكون كذّاباً. فرِدّاها عليه واعلماه أنّه لا حاجة لي فيها ، ولا فيما عنده حتّى ألقى الله ربّي ، فيكون هو الحاكم فيما بينه وبيني». ونُفي أبو ذر أولاً إلى الشّام ، فجعل يُحدّث النّاس بفضائل علي وأهل بيته عليهم‌السلام وينتقد أعمال بني اُميّة ، فرُدّ إلى

_____________________

(١) الأكاف : الجلال الذي يوضع على الحمار.

٢٧٦

المدينة. وقيل له : أيّ البلاد أبغض إليك أنْ تكون فيها؟ قال : الرّبذة التّي كنت فيها على غير دين الإسلام. فنفي إلى الرّبذة. وقال له رسول الله (ص) في غزاة تبوك : «يا أبا ذر ، تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتُبعث وحدك». ودخل عليه قوم من أهل الرّبذة يعودونه ، فقالوا : ما تشتكي؟ قال : ذنوبي. قالوا : فما تشتهي؟ قال : رحمة ربي. قالوا : فهل لك بطبيب؟ قال : الطّبيب أمرضني. ولمّا نُفي إلى الرّبذة ، ماتت بها زوجته (١) ، ومات بها ولده ، فوقف على قبره فقال : رحمك الله يا بُني ، لقد كنت كريم الخلق بارّاً بالوالدين ، وما عليّ في موتك من غضاضة ، وما بي إلى غير الله من حاجة ، وقد شغلني الإهتمام لك عن الاعتماد بك. ثُمّ قال : اللهمَّ ، إنّك فرضت لك عليه حقوقاً وفرضت لي عليه حقوقاً ، فإنّي قد وهبت له ما فرضت عليه من حقوقي فهب له ما فرضت عليه من حقوقك ، فإنّك أولى بالحقّ والكرم منّي. أين وقوف أبي ذر على ولده بعد موته من وقوف أبي عبد الله الحسين (ع) على ولده علي الأكبر يوم كربلاء؟ وذلك حين حمل على أهل الكوفة وجعل يشدّ على النّاس ، فاعترضه مُرّة بن مُنقذ وطعنه بالرّمح. وقيل : بل رماه بسهم فصرعه فنادى : يا ابتاه! عليك السّلام ، هذا جدّي رسول الله يقرؤك السّلام ، ويقول لك : «عجّل القدوم علينا». واعتوره النّاس فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين (ع) حتّى وقف عليه ، وقال : «قتل الله قوماً قتلوك يا بُني ، ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول! على الدّنيا بعدك العفا». وخرجت زينب بنت علي (ع) وهي تُنادي : يا حبيباه! ويابن أخاه! وجاءت فأكبّت عليه ، فجاء الحسين (ع) فأخذ بيدها وردّها إلى الفسطاط ، وأقبل بفتيانه وقال : «احملوا أخاكم». فحملوه من مصرعه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.

وأعضاءُ مجدٍ ما توزّعت الظّبا

بتوزيعها إلاّ النّدى والمعاليا

لئن فرّقتها آلُ حربٍ فلم تكُنْ

لتجمع حتّى الحشر إلاّ المخاريا

_____________________

(١) وقيل : زوجته بقيت بعد وفاته.

٢٧٧

المجلس الحادي والثّلاثون بعد المئة

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : إنّ عثمان لمّا أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال ، واختصّ زيد بن ثابت بشيء منها ، جعل أبو ذر يقول بين النّاس وفي الطّرقات والشّوارع : بشّر الكافرين بعذاب أليم. ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى : (وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) فرُفع ذلك إلى عثمان مراراً وهو ساكت ، ثُمّ إنّه أرسل إليه : أنْ انتهِ عمّا بلغني عنك. فقال أبو ذر : أينهاني عن قراءة كتاب الله تعالى وعيب مَن ترك أمر الله؟! فوالله ، لإنْ اُرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أنْ أسخط الله برضى عثمان. فاغضب عثمان ذلك ، فتصابر إلى أنْ قال عثمان يوماً والنّاس حوله : أيجوز للامام أنْ يأخذ من المال شيئاً قرضاً ، فاذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك. فقال أبو ذر : يابن اليهوديين ، أتعلّمنا ديننا؟! فقال عثمان : قد كثر أذاك لي وتولّعك بأصحابي ، الحقْ بالشّام. فأخرجه إليها. وكان معاوية يومئذٍ بالشّام والياً عليها من قِبل عثمان ، فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، فبعث إليه معاوية يوماً ثلاثمئة دينار ، فقال أبو ذر لرسوله : إنْ كانت من عطائي الذي حرمتمونيه من عامي هذا ، أقبلها ، وإنْ كانت صلة ، لا حاجة لي فيها وردّها عليه. ثُمّ بنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال أبو ذر : يا معاوية ، إنْ كانت هذه من مال الله فهي الخيانة ، وإنْ كانت من مالك فهي الإسراف. وكان أبو ذر يقول بالشّام : والله ، لقد حدثت أعمال ما أعرفها. والله ، ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه (ص). والله ، إنّي لأرى حقّاً يُطفأ ، وباطلاً يحيا ، وصادقاً مكذَّباً ، واثرة بغير تقىً ، وصالحاً مستأثَراً عليه. وروي عن ابن جندل الغفاري قال : جئت يوماً إلى معاوية فسمعت صارخاً على باب داره يقول : أتتكم القطار بحمل النّار. اللهمّ ، إلعن الآمرين بالمعروف التاركين له. اللهمّ ، إلعن النّاهضين عن المنكر المرتكبين له. فازبأرّ معاوية وتغيّر لونه ، وقال لي : أتعرف الصّارخ؟ فقلت : لا. قال : من عذيري من جندب بن

٢٧٨

جنادة ، يأتينا كلّ يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت. ثُمّ قال : ادخلوه عليّ. فجيء بأبي ذر بين قوم يقودونه حتّى وقف بين يديه ، فقال له معاوية : يا عدو الله وعدو رسوله ، تأتينا في كلّ يوم فتصنع ما تصنع! أما إنّي لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك ، ولكنّي أستأذن فيك. فقال أبو ذر : ما أنا بعدو لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ؛ أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسول الله (ص) ودعا عليك مرّات أنْ لا تشبع. فأمر معاوية بحبسه وكتب إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : احمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره. فوجّه به مع مَن سار به الليل والنّهار ، وحمله على شارف ـ أي ناقة صغيرة صعبة ليس عليها إلاّ قتب ـ حتّى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد. ولمّا اُدخل أبو ذر على عثمان ، قال له : أنت الذي فعلت وفعلت؟ فقال أبو ذر : نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك فاستغشّني. قال عثمان : كذبت ، ولكنّك تريد الفتنة وتحبّها. قال أبو ذر : والله ، ما وجدت لي عذراً إلاّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر. فغضب عثمان وقال : أشيروا عليّ في هذا الشّيخ الكذّاب ، إمّا أنْ أضربه أو أحبسه أو أقتله أو أنفيه من أرض الإسلام؟ فتكلّم علي (ع) ، وكان حاضراً ، فقال : «أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون : وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّاب». فغضب عثمان. قال : ومنع عثمان النّاس أنْ يُجالسوا أبا ذر ويكلّموه ، فمكث كذلك أياماً ، ثُمّ اُتي به فوقف بين يديه ، فقال عثمان : اخرج عنّا من بلادنا. فقال أبو ذر : ما أبغض إليّ جوارك ، فإلى أين أخرج؟ قال : إلى البادية. قال : أصير بعد الهجرة إعرابياً؟! قال أبو ذر : فأخرج إلى بادية نجد. قال عثمان : بل إلى الشّرق الأبعد ، أقصى فأقصى ، امضِ على وجهك هذا ، فلا تعدون الرّبذة. فخرج إليها. فلمّا حضرته الوفاة ، قال لامرأته أو ابنته : إذبحي شاة من غنمك واصنعيها ، فإذا نضجت فاقعدي على قارعة الطّريق ، فأوّل ركب ترينهم قولي : يا عباد الله الصالحين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله (ص) قد قضى نحبه ولقي ربّه ، فأعينوني فأجنوه (١).

قال محمّد بن علقمة : خرجت في رهط اُريد الحجّ منهم مالك بن الحارث الأشتر حتّى قدمنا الرّبذة ، فإذا امرأة على قارعة الطّريق ، تقول : عباد الله المُسلمين! هذا أبو ذر صاحب رسول الله (ص) قد هلك غريباً ، وليس لي أحد يعينني عليه. قال :

____________________

(١) سورة غافر / ٢٨.

٢٧٩

فنظر بعضنا إلى بعض ، فحمدنا الله على ما ساق إلينا واسترجعنا لعظيم المصيبة ، ثُمّ أقبلنا معها فجهّزناه وتنافسنا في كفنه حتّى اُخرج من بيننا بالسّواء ، ثُمّ تعاونّا على غسله حتّى فرغنا منه ، ثُمّ قدمنا مالك الأشتر فصلّى بنا عليه ، ثُمّ دفنّاه. فقام الأشتر على قبره ، ثُمّ قال : اللهمّ ، إنّ هذا أبو ذر صاحب رسولك ، عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يُغيّر ولم يُبدّل ، لكنّه رأى مُنكراً فغيّره بلسانه وقلبه حتّى جفي ونفي ، وحرم واحتقر ، ثُمّ مات وحيداً غريباً. اللهمّ ، فاقصم مَن حرمه ونفاه من مهاجره وحرم رسولك. قال : فرفعنا أيدينا جميعاً وقلنا آمين. ثم قدّمت الشّاة التّي صنعت ، فقالت : أيها الصّالحون ، قد اقسم عليكم أنْ لا تبرحوا حتّى تتغدّوا ، فتغدّينا وارتحلنا. أفما كان يوجد يوم عاشوراء مَن يقف على قارعة طريق كربلاء ، لمّا بقي الحسين (ع) ثلاثة أيام بلا دفن فيُنادي : أيّها المسلمون ، هذا إمامكم وابن بنت نبيّكم الحسين ، قد قُتل غريباً ، وتُرك على وجه الصّعيد عرياناً سليباً ، لم يصلَّ عليه ، ولم يُدفن فهلمّوا إلى مواراته ودفنه؟! لقد تعس اُولئك المسلمون وخسروا وخابوا وما ظفروا ، خذلوا ابن بنت نبيّهم وقتلوه ، وأطاعوا ابن مرجانة ونصروه.

لله ملقىً على الرّمضاء غصَّ بهِ

فمُ الرّدى بعد إقدامٍ وتشميرِ

تحنو عليه الرّبى ظلاً وتسترهُ

عن النّواظر أذيالُ الأعاصيرِ

تهابه الوحشُ أنْ تدنو لمصرعهِ

وقد أقام ثلاثاً غير مقبورِ

٢٨٠