المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

وحائراتٍ أطار القومُ أعينَها

رُعباً غداة عليها خدرها هجموا

كانتْ بحيث عليها قومُها ضربتْ

سرادقاً أرضه من عزمهم حرمُ

فغودرتْ بين أيدي القوم حاسرةً

تُسبى وليس لها مَن فيه تعتصمُ

وأقام أبو العاص بمكّة على شركه ، وزينب عند أبيها (ص) ، فخرج أبو العاص قبل فتح مكّة بيسير تاجراً إلى الشّام بمال له ولقُريش ، فلمّا رجع لقيته سريّة لرسول الله (ص) فأخذوا ما معه وهرب ، فجاءت السريّة بما أخذت منه إلى رسول الله ، وخرج أبو العاص حتّى دخل ليلاً على زينب في طلب ماله ، فاستجار بها فأجارته ، فلمّا كبّر رسول الله في صلاة الصبح ، صرخت زينب من صفة النّساء : أيّها النّاس ، قد أجرت أبا العاص بن الرّبيع. فلمّا فرغ النّبي (ص) من الصّلاة ، دخل عليها وقال لها : «اكرمي مثواه واحسني قراه». ثُمّ قال للسريّة الذين أصابوا مال أبي العاص : «إنّ هذا الرجل منّا بحيث علمتهم ، فإنْ تُحسنوا وتردّوا عليه الذي له ، فإنّا نحب ذلك ، وإنْ أبيتم فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم ، وأنتم أحقّ به». فقالوا : بل نردّه. فردّوه عليه ثُمّ ذهب إلى مكّة فردّ إلى النّاس أموالهم ثُمّ أسلم ورجع إلى المدينة ، فردّ النّبي (ص) عليه زينب. قال أبو العاص : كنت مستأسراً مع رهط من الأنصار ، جزاهم الله خيراً ، فكانوا يؤثرونني بالخبز ويأكلون التمر ، والخبزعندهم قليل ، حتّى إنّ الرّجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إليّ. وقال الوليد بن المغيرة : كانوا يركبوننا ويمشون. وهذه سُنّة الإسلام في الأسير ؛ من إكرامه والرّفق به وإنْ كان كافراً. ألا قاتل الله عُبيد الله بن زياد فإنّه لم يرفق باسارى كربلاء ولم يكرمهم ، وهم عترة رسول الله (ص) وسادات المُسلمين ، وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً ، فأمر بزين العابدين (ع) إمام أهل البيت ووارث علوم رسول الله (ص) ، فَغلّ بغلّ إلى عنقه وبعثه كذلك مع عمّاته وأخواته إلى يزيد بالشّام.

ليس هذا لرسول اللهِ يا

اُمّة الطُّغيان والبغي جزا

جزروا جزرَ الأضاحي نسلَهُ

ثُمّ ساقوا أهله سَوق الإما

٢٤١

المجلس السّادس عشر بعد المئة

لمّا كانت وقعة اُحد ، جاءت قُريش ومَن طاعها من القبائل ، وخرجوا معهم بالنّساء يضربن بالطّبول والدّفوف ويُحرّضن على الحرب ، فيهن هند زوجة أبي سفيان ، وكان رئيس القوم ، وكان المُشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمئة درع ومئتا فرس ، والمُسلمون ألفاً وفيهم مئة درع والخيل فرسان ، فرجع منهم ثلاثمئة من المُنافقين فبقوا سبعمئة ، وكان الفتح في هذه الوقعة وانهزام المُشركين على يد أمير المؤمنين (ع) كما في وقعة بدر ، وقتل بسيفه صناديد المُشركين ورؤوس الضّلال ، وفرّج الله به الكرب عن وجه رسول الله (ص). وجعل المُشركون على ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ، ولواؤهم مع بني عبد الدّار ، وكان لواء النّبي (ص) مع علي بن أبي طالب (ع) ، فلمّا علم أنّ لواء المُشركين مع بني عبد الدّار ، أعطى لِواءه رجلاً منهم يُسمّى مُصعب بن عُمير ، فلمّا قُتل ردّه إلى علي (ع). واستقبل رسول الله (ص) المدينة وجعل اُحداً ظهره ، وجعل وراءه الرّماة ، وكانوا خمسين رجلاً ، وأمر عليهم عبد الله بن جُبير ، وقال له : «اثبت مكانك إنْ كانت لنا أو علينا». ولبس (ص) درعين. وقتل علي (ع) أصحاب اللواء ، فيما رواه ابن الأثير عن أبي رافع ، وكانوا سبعة ، منهم طلحة وكان يُسمّى كبش الكتيبة وابنه أبو سعيد وأخوه خالد وعبدٌ لهم يُسمّى صوباً أخذ اللواء لمّا قتل مواليه ، فَقتله علي (ع) وانهزم المُشركون ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون ، فلمّا رأى ذلك بعض الرّماة ، اقبلوا يُريدون النّهب وثبتت طائفة مع أميرهم ، فنزلت : (مِنكُم مَن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ). فرأى خالد بن الوليد قلّة مَن بقي من الرّماة فحمل عليهم فقتلهم ، وحمل على أصحاب النّبي (ص) من خلفهم ، فلمّا رأى المُشركون خيلهم تُقاتل ، حملوا على المُسلمين فهزموهم. قال ابن الأثير : ورجع رجل من الصّحابة وجماعة من هزيمتهم بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم رسول الله (ص) : «لقد ذهبتم فيها عريضة». وباشر رسول الله (ص) الحرب بنفسه ، وجُرح وسقط

٢٤٢

لوجهه وكُسِرَت رُباعيته : أي سنّه. وثبت معه علي (ع) يذبّ عنه ويُقاتل بين يديه ، وكان رجوع النّاس من هزيمتهم إلى النّبي (ص) بثبات علي ومقامه ، وتوجّه العتاب من الله تعالى إلى عامّتهم ؛ لهزيمتهم سوى علي (ع) ، وذلك قوله تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى‏ أَحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) وقوله تعالى : (إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التّقَى الْجَمْعَانِ إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) قال ابن الأثير : فأبصر النّبي (ص) جماعة من المُشركين ، فقال لعلي : «احمل عليهم». فحمل عليهم وفرّقهم وقتل فيهم ، ثُمّ رأى جماعة اُخرى فقال له : «احمل عليهم». فحمل عليهم وفرّقهم وقتل فيهم. هذه هي المواساة ولا تقصر عنها مواساة أبي الفضل العبّاس (ع) يوم كربلاء لأخيه الحسين (ع) ، وكان صاحب لواء الحسين (ع) كما كان أميرالمؤمنين (ع) صاحب لواء رسول الله (ص) ، فخرج العبّاس يطلب الماء وحمل على القوم ، وهو يقول :

لا أرهب الموتَ إذا الموتُ رقى

حتّى اُوارى في المصاليت لُقا

نفسي لسبط المُصطفى الطّهر وقا

إنّي أنا العبّاس أغدو بالسّقا

ولا أخاف الشّر يوم المُلتقى

فضربه زيد بن ورقاء على يمينه فقطعها ، فأخذ السّيف بشماله فضربه حكيم بن الطُفيل على شماله فقطعها ، وضربه آخر بعمود من حديد فقتله ، فبكى الحسين (ع) لِقتله بُكاءً شديداً.

واذكر أبا الفضل هل تُنسى فضائلُهُ

في كربلا حين جدّ الأمرُ والتبسا

وآسى أخاه وفاداه بمُهجتِهِ

وخاض في غمرات الموت مُنغمسا

٢٤٣

المجلس السّابع عشر بعد المئة

في الكامل لابن الأثير : لمّا كان يوم اُحد وانهزم المُسلمون بمخالفة الرّماة أمر رسول الله ، كسرت رباعية رسول الله السّفلى ، والرّباعية : هي السّن. وشقّت شفته وجُرح في وجنته ، ولمّا جُرح رسول الله ، جعل الدّم يسيل على وجهه وهو يمسحه ، ويقول : «كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيهم بالدّم وهو يدعوهم إلى الله». وترّس أبو دجانة رسول الله بنفسه ـ يعني جعل نفسه كالتّرس له ـ فكان يقع النّبل في ظهره وهو منحن عليه ، كما ترّس سعيد بن عبد الله الحنفي الحسين (ع) يوم عاشوراء ، ووقف يقيه من النّبال بنفسه ، ما زال ولا تخطّى ، فما زال يرمى بالنّبل حتّى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهمّ ، العنهم لعن عاد وثمود. اللهمّ ، أبلغ نبيك عنّي السّلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت ثوابك في نصر ذرّيّة نبيك. ثُمّ قضى نحبه رضوان الله عليه ، فوجد فيه ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السّيوف وطعن الرّماح. وكذلك فعل عمرو بن قرظة الأنصاري ، فإنّه كان لا يأتي إلى الحسين (ع) سهم إلاّ اتّقاه بيديه ، ولا سيف إلاّ تلقّاه بمُهجته ، فلم يكن يصل إلى الحسين (ع) سوء حتّى اُثخن بالجراح ، فالتفت إلى الحسين (ع) وقال : يا بن رسول الله أوَفيت؟ قال : «نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فاقرأ رسول الله عنّي السّلام وأعلمه أنّي في الأثر». فقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه. واقتدى بهما في ذلك حنظلة بن أسعد الشّبامي ، فإنّه جاء فوقف بين يدي الحسين (ع) يقيه السّهام والرّماح والسّيوف بوجهه ونحره ، ثُمّ تقدّم فقاتل حتّى قُتل. وقاتل رسول الله يوم اُحد قتالاً شديداً ، فرمى بالنّبل حتّى فني نبله ، وانكسرت سِيَة قوسه وانقطع وتره ، ولما جُرح رسول الله ، جعل علي (ع) ينقل له الماء في درقته من المهراس ، والمهراس : اسم عينٍ باُحد. ويغسل الدّم فلم ينقطع ، فأتت فاطمة عليها‌السلام تُعانقه وتبكي. فياليت عليّاً (ع) لا غاب عن ولده الحسين (ع) يوم

٢٤٤

كربلاء ؛ ليدفع عنه عسكر ابن سعد وينقل له الماء بدرقته من الفرات حين حال الأعداء بينه وبين الماء ، كما نقل الماء بدرقته إلى رسول الله من المهراس. وياليت فاطمة الزّهراء (ع) التي بكت من جرح واحد أصاب أباها رسول الله ، نظرت إلى ولدها وفلذة كبدها الحسين (ع) حين أصابه اثنان وسبعون جراحة ما بين رمية وطعنة وضربة ، فكانت تُضمّد جراحاته كما ضمّدت جرح أبيها رسول الله (ص). وما أدري ما كان يجري على فاطمة لو نظرت إلى الجرح الذي في صدر ولدها الحسين (ع)؟! وذلك حين رماه خولي بن يزيد بسهم مُحدّد مسموم له ثلاثُ شعب فوقع على صدره ، فقال : «بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله (ص)». ثُمّ أخذ السّهم فأخرجه ، فانبعث الدّم كأنّه ميزاب.

أفاطم لو خِلت الحسينَ مُجدّلاً

وقد مات عطشاناً بشطِّ فُراتِ

إذاً للطمت الخدّ فاطمُ عندهُ

وأجريتِ دمعَ العينِ في الوجناتِ

أفاطم قومي يابنة الخير واندُبي

نجومَ سماوات بأرض فلاةِ

ولمّا رجع رسول الله (ص) إلى المدينة ، استقبلته فاطمة عليها‌السلام ومعها إناء فيه ماء فغسل وجهه (١) ، ولحقه أمير المؤمنين (ع) وقد خضب الدّم يده إلى كتفه ومعه ذو الفقار ، فناوله فاطمة عليها‌السلام ، وقال لها : «خُذي هذا السّيف فقد صدقني اليوم». وأنشأ يقول :

أفاطمُ هاك السّيفَ غيرَ ذميمِ

فلستُ برعديدٍ ولا بمليمِ

لعُمري لقد اعذرت في نصر أحمدٍ

وطاعةِ ربٍّ بالعباد عليمِ

أميطي دماءَ القوم عنه فإنّه

سقى آل عبد الدّار كأس حميم

وقال رسول الله (ص) : «خُذيه يا فاطمة ، فقد أدّى بعلك ما عليه ، وقد قَتل الله بسيفهِ صناديد قُريش». كأنّي بفاطمة عليها‌السلام لمّا أعطاها أمير المؤمنين (ع) سيفه ذا الفقار ، وهو مُخضّب بالدّماء ، تناولته وجعلت تغسل الدّماء عنه ، وهي فرحة مسرورة حين رأت ابن عمّها قد أقبل سالماً ظافراً منصوراً على أعدائه ، يحملُ اللواء

____________________

(١) هذه رواية المُفيد ، وهي تدلّ على أنّ فاطمة عليها‌السلام كانت باقية بالمدينة لم تخرج إلى اُحد ، وهي الأقرب إلى الاعتبار. وما تقدّم من أنّها أتت وجعلت تُعانقه وتبكي وأحرقت حصيراً ... إلى آخره ، يدلّ على أنّها كانت باُحد ، وهي رواية ابن الأثير ، ويجوز أنْ تكون خرجت إلى اُحد ثُمّ رجعت واستقبلت أباها حين رجوعه ، والله أعلم.

٢٤٥

بين يدي رسول الله (ص) والجيش من خلفه وقد قتل الله بسيفه صناديد المُشركين ، ولكن أين رجوع أمير المؤمنين (ع) من حرب اُحد إلى المدينة بتلك الحالة وخطابه لفاطمة عليها‌السلام ، من رجوع ولده الحسين (ع) يوم كربلاء من حرب الأعداء إلى الخيمة وقد خضب الدّم سيفه ويده ، وخطابه لزينب بنت فاطمة عليهما‌السلام؟! وذلك لمّا قُتلت أنصاره وأهل بيته ، وبقي وحيداً فريداً لا ناصر له ولا مُعين ، فجعل ينادي : «هل من ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله (ص)؟ هل من مُوحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل من مُغيث يرجو الله في إغاثتنا؟». ثُمّ تقدّم إلى باب الخيمة ، وقال لاُخته زينب : «ناوليني ولدي الصّغير». فناولته ابنه عبد الله ، فأومى إليه ليُقبّله ، فرماه حرملة بن كاهل بسهمٍ فوقع في نحره فذبحه ، فقال (ع) لزينب : «خُذيه». وفاطمة عليها‌السلام وإنْ قُتل يوم اُحد عمُّ أبيها حمزة بن عبد المطّلب ، لكن هوّن عليها مصاب حمزة سلامة أبيها رسول الله (ص) وبعلها علي ؛ أمّا زينب عليها‌السلام فقد شاهدت قتل أخيها الحسين (ع) وباقي إخوتها إلى تمام سبعة عشر رجلاً من أهل بيتها ، ما بين كهول وشبّان ما لهم على وجه الأرض شبيه ، ولم يبقَ عندها غير العليل زين العابدين (ع) أسير ابن سعد وابن مرجانة وابن هند.

مُصيبةٌ بكتْ السّبعُ الشّداد لها

دماً ورزءٌ عظيمٌ غير محتملِ

٢٤٦

المجلس الثّامن عشر بعد المئة

لمّا كان يوم اُحد ، دعا جبير بن مطعم غلامه وحشي بن حرب ، وكان حبشيّاً يقذف بالحربة قلّما يخطئ ، فقال له : اخرج مع النّاس ، فإنْ قَتلت عمّ محمّد ـ يعني حمزة ـ بعمّي طعيمة بن عدي ، فأنت عتيق. وكانت هند جعلت لوحشي جعلاً على أنْ يقتل رسول الله (ص) ، أو أمير المؤمنين (ع) ، أو حمزة ، فقال : أمّا محمّد فلا حيلة لي فيه ؛ لأنّ أصحابه يطيفون به ؛ وأمّا علي فإنّه إذا قاتل كان أحذر من الذّئب ؛ وأمّا حمزة فإنّي أطمع فيه ؛ لأنّه إذا غضب لم يبصر بين يديه. وكانت هند كُلّما مرّت بوحشي أو مرّ بها ، قالتّ له : اشف واشتف. قال وحشي : إنّي والله ، لأنظر إلى حمزة وهو يهدّ النّاس بسيفه ، ما يلقى شيئاً يمرّ به إلاّ قتله. قال : فهززت حربتي ودفعتها عليه ، فوقعت في أسفل بطنه حتّى خرجت من بين رجليه ، وأقبل نحوي فغُلب فوقع ، فأمهلته حتّى مات فأخذت حربتي ثُمّ تنحّيت إلى العسكر. قال ابن الأثير : ووقعت هند وصواحباتها على القتلى يُمثّلن بهم ، واتّخذت هند من آذان الرّجال وآنافهم خلاخل وقلائد ، وأعطت خلاخلها وقلائدها وحشيّاً ، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أنْ تسيغها فلفظتها ، وجدعت أنفه واُذنيه ومثّلت به. ووجد حمزة ببطن الوادي قد بُقر بطنه عن كبده ومُثّل به ، فحين رآه رسول الله (ص) ، لم يرَ منظراً كان أوجع لقلبه منه ، فقال : «لولا أنْ تحزن صفيّة ـ وهي اُخت حمزة ـ أو تكون سنّة بعدي ، لتركته حتّى يكون في أجواف السّباع وحواصل الطّير ، ولئن أظهرني الله على قُريش ، لاُمثّلن بثلاثين رَجُلاً منهم». وقال المُسلمون : لنُمثّلن بهم مثلة لم يُمثّلها أحد من العرب. فأنزل الله في ذلك : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ فعفا رسول الله (ص) وصبر ونهى عن المُثلة ولو بالكلب العقور ألا قاتل الله أهل الكوفة ؛ فإنّه لم يكفهم قتل أبي عبد الله الحسين (ع) بن بنت رسول الله (ص) حتّى مثّلوا به وبأصحابه ؛ قطعوا الرّؤوس وشالوها على رؤوس الرّماح من بلد إلى بلد ، وداسوا بحوافر خيلهم جسد

٢٤٧

الحسين (ع) حتّى هشّمت الخيل أضلاعه ، وطحنت جناجن صدره.

لم يكفِ أعداهُ مَثْلُ القتلِ فابتَدرتْ

تُجري على جسمهِ الجُردَ المحاضيرا

وأقبلت صفيّة بنت عبد المطّلب اُخت حمزة ، فأمر النّبي (ص) ابنها الزّبير أنْ يردّها ؛ لئلا ترى ما بأخيها حمزة. بأبي صاحب الشّفقة والرّأفة! ما أحب أنْ تنظر صفيّة إلى أخيها حمزة وهو مقتول وقد مُثّل به ؛ خوفاً أنْ يشتّد حزنها وبكاؤها ؛ لأنّها امرأة ، ومن شأن النّساء الجزع ورقّة القلب ، وأهل الكوفة مرّوا ببنات رسول الله (ص) على مصرع الحسين (ع) وأصحابه ، فلمّا نظر النّسوة إلى القتلى وهم جثث بلا رؤوس ، صحن وضربن وجوههن ، وجعلت زينب تُنادي : يا محمّداه! هذا حسين مرملٌ بالدّماء ، مُقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا. فأبكت كُلّ عدو وصديق.

لو انّ رسولَ الله يبعث نظرةً

لردّت إلى إنسان عينِ مُؤرقِ

وهان عليه يومُ حمزةَ عمّه

بيوم حُسينٍ وهو أعظم ما لقي

ونال شجىً من زينبٍ لم ينله من

صفيّة إذ جادت بدمعٍ مرقرقِ

فكمْ بين مَن للخدر عادت مصونةً

ومَن سيّروها في السّبايا الجلّق

وأمر رسول الله (ص) بدفن الشّهداء ، فكان كُلمّا اُتي إليه بشهيد جعل حمزة معه وصلى عليهما. وفي رواية : إنّ رسول الله (ص) خصّه بسبعين تكبيرة. فياليت رسول الله كان حاضراً يوم استشهد ولده الحسين (ع) وأصحابه ، فيُصلي عليه وعلى أصحابه ويأمر بدفنهم حتّى لا يبقوا ثلاثة أيام بلا دفن ، وهم مطروحون على الرّمضاء مجزّرون كالاضاحي ، جثث بلا رؤوس حتّى جاء بنو أسد وصلّوا عليهم ودفنوهم.

مجرّدين على الرّمضاء قد لبسوا

من المهابة أبراداً لها قشبا

مُضرّجين بمحمرّ النّجيع بنى

نبل العدى والقنا من فوقهم قببا

ولمّا رجع رسول الله إلى المدينة ، مرّ بدارٍ من دور الأنصار ، فسمع البكاء والنّوائح ، فذرفت عيناه بالبكاء وقال : «لكن حمزة لا بواكي له». فرجع سعد بن معاذ إلى دار بني عبد الأشهل فأمر نساءهم أنْ يذهبن فيبكين على حمزة ، ويُقال : إنّ أهل المدينة إلى اليوم إذا أرادوا البكاء على ميت بدؤوا بحمزة. يُستفاد من هذا رجحان البُكاء على الشّهداء ، لا سيّما شهيد كربلاء أبي عبد الله الحسين (ع) الذّي لو كان رسول الله حيّاً لكان هو المُعزّى به والباكي عليه ، وقد قال الحسين (ع) : «أنا قتيل العبرة

٢٤٨

لا يذكرني مؤمن إلاّ استعبر».

تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ

لكنّما عيني لأجلك باكيةْ

تبتلُّ منكم كربلا بدمٍ ولا

تبتلُّ منّي بالدّموع الجارية

ولمّا رجع رسول الله إلى المدينة لقيته حمنة ابنة جحش ، وكان قد قُتل زوجها وأخوها وخالها مع رسول الله ، فنُعي لها أخاها عبد الله فاسترجعت واستغفرت له ، ثُمّ نُعي لها خالها حمزة بن عبد المطّلب فاستغفرت له ، ثُمّ نُعى لها زوجها مصعب بن عمير ، فولولت وصاحت ، فقال : «إنّ زوج المرأة منها لبمكان». إذاً لا لوم على الرباب ، زوجة أبي عبد الله الحسين (ع) ، التّي لم تستظل بعده بسقف إلى أنْ ماتت بعد سنة حزناً وكمداً عليه.

فخذ لك منّي عهد صدق شهوده الملائك

والله الشّهيد حسيبُ

بأنّيَ بعد البين لا آلف الكرى

ولا السّن منّي إنْ ضحكت شنيبُ

٢٤٩

المجلس التّاسع عشر بعد المئة

لمّا كانت وقعة الخندق ـ وتُسمّى وقعة الأحزاب ؛ لتحزّب القبائل فيها على حرب رسول الله ـ أقبلت قُريش وقائدها أبو سفيان ، وأقبلت كنانة وأهل تهامة وغطفان ومن تبعها من أهل نجد ، واتفق المشركون مع اليهود وجاؤوا ، كما قال تعالى : (إِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ الاّ غُرُوراً) إلى قوله : وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً فتوجّه اللوم والتّقريع والعتاب إلى النّاس ولم ينجُ منه إلاّ علي بن أبي طالب (ع) ، فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة فحُفر ، وعمل فيه رسول الله بيده فكان يحفر وعلي ينقل التّراب ، وفرغ رسول الله من حفر الخندق قبل مجيء قريش بثلاثة أيام ، وأقبلت الأحزاب وكانوا عشرة آلاف ، فهال المسلمين أمرهم ، ونزلوا بجانب الخندق ، وكان المسلمون ثلاثة آلاف. قال الواقدي وغيره : وخرج عمرو بن عبد ود ومعه جماعة ، شاهراً نفسه معلماً مدلاً بشجاعته وبأسه ، وقد كان شهد وقعة بدر وجرح ونجا هارباً على قدميه ، فلمّا رأوا الخندق ، قالوا : إنّ هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ونظنّها من الفارسي الذي معه ، يعنون سلمان. ثُمّ أتوا إلى مكان ضيّق من الخندق فضربوا خيلهم واقتحموه ، ورسول الله جالس وأصحابه قيام على رأسه ، فتقدم عمرو ودعا إلى البراز ، فقال رسول الله : «مَن لعمرو وأضمن له على الله الجنّة؟». فقام علي (ع) فقال : «أنا له يا رسول الله». قال : «اجلس». حتّى قالها ثلاث ، وفي كُلّ مرّة يقوم علي (ع) والقوم ناكسوا رؤوسهم كأنّ على رؤوسهم الطّير ، فقال عمرو : أيّها النّاس ، إنّكم تزعمون أنّ قتلاكم في الجنّة وقتلانا في النّار ، أفما يحب أحدكم أنْ يقدم على الجنّة أو يقدم عدواً له إلى النّار؟ فلم يقم إليه أحد إلاّ علي (ع) ، فقال له النّبي : «يا علي ، هذا عمرو بن

٢٥٠

عبد ود ، فارس يليل» : وهو اسم وادٍ كانت له فيه وقعة مشهورة. فقال : «وأنا علي بن أبي طالب». فجعل عمرو يجول بفرسه مقبلاً ومدبراً ، وجاءت عظماء الأحزاب فوقفت من وراء الخندق ومدّت أعناقها تنظر ، فلمّا رأى عمرو أنّ أحداً لا يجيبه ، قال :

ولقد بُححت من النّدا

ء بجمعكمْ هل من مبارزْ

ووقفت مُذ جبُن المشيعُ

موقف القرن المناجزْ

إنّي كذلك لم أزلْ

متسرعاً نحو الهزاهزْ

إنّ الشّجاعة في الفتى

والجودَ من خيَر الغرائزْ

فقام علي (ع) وقال : «يا رسول الله ، ائذن لي في مبارزته». فأذن له ثُمّ قال : «إدن منّي يا علي». فدنا منه ، فنزع عمامته وعمّمه بها ودفع إليه سيفه ذا الفقار ، وقال : «اللهمَّ ، احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته». ومازال رافعاً يديه ورأسه نحو السّماء داعياً ربّه ، قائلاً : «اللهمَّ ، إنّك أخذت منّي عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم اُحد ، فاحفظ عليَّ اليوم عليّاً. رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ». وقال : «برز الإيمان كلُّه إلى الشّرك كلِّه». فمرّ أمير المؤمنين (ع) يهرول في مشيه ، وهو يقول مجيباً لعمرو :

لا تعجلنَّ فقدْ أتا

ك مجيبُ صوتك غير عاجزْ

ذو نيّةٍ وبصيرةٍ

يرجو بذاك نجاة فائزْ

إنّي لآملُ أنْ اُقيم

عليك نائحةَ الجنائزْ

من ضربةٍ فوهاءَ يبقى

ذكرها عند الهزاهز

فقال له عمرو : مَن أنت؟ قال : «أنا علي بن أبي طالب». قال : إنّ أباك كان لي نديماً وصديقاً وأنا أكره أنْ اقتلك. قال علي (ع) : «ولكنني اُحب أنْ أقتلك ما دمت آبياً للحقّ». فقال عمرو : يابن أخي ، إنّي لأكره أنْ أقتل الرّجل الكريم مثلك ، فارجع وراءك خير لك. قال ابن أبي الحديد : كان شيخنا أبو الخير يقول : والله ، ما أمره بالرّجوع ابقاءً عليه بل خوفاً منه ؛ فقد عرف قتلاه ببدر واُحد وعلم أنّه إنْ ناهضه قتله ، فاستحيا أنْ يظهر الفشل ، فأظهر الإبقاء والرّعاء وأنّه لكاذب. وفي رواية أنّه قال : ما خاف ابن عمّك حين بعثك إليّ أنْ أختطفك برمحي فاتركك شائلاً بين السّماء والأرض ، لا حيّاً ولا ميتاً؟ فقال له علي (ع) : «قد علم ابن عمّي إنّك إنْ قتلتني فأنا في الجنّة وأنت في النّار ، وإنْ قتلتك فأنت في النّار وأنا في الجنّة». فقال عمرو : وكلتاهما لك تلك ، إذاً

٢٥١

قسمة ضيزى. فقال علي (ع) : «دع هذا يا عمرو ، إنّك كنت تقول لا يعرض عليّ أحدٌ ثلاث خصال إلاّ أجبته ولو إلى واحدة ، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال». قال : هات. قال : «الاُولى : أنْ تشهد أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله (ص)». قال : نحِّ عن هذا ، وما الثّانية؟ قال : «أنْ تردّ هذا الجيش عن رسول الله (ص) ، فإنْ يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً ، وإنْ يك كاذباً كفاكم النّاس أمره». قال : إذاً تتحدّث نساء قريش أنّي جبنت وخذلت قوماً رأسوني عليهم ، وما الثّالثة؟ قال : «أنْ تنزل إليّ فأنت راكب وأنا راجل». فنزل عن فرسه وعقره ، وقال : هذه خصلة ما ظننت أنّ أحداً من العرب يسومني عليها. ثُمّ تجاولا فثارت لهما غبرة وارتهما عن العيون ، إلى أنْ سمع النّاس التّكبير عالياً من تحت الغبرة فعلموا أنّ عليّاً قتله ، وأنجلت الغبرة فإذا أمير المؤمنين (ع) قد قتله ، وهو ينشد :

أنا عليٌ وابنُ عبد المطلبْ

الموتُ خيرٌ للفتى من الهربْ

وفرّ أصحابه فعبروا الخندق إلاّ رجلاً منهم يُسمى نوفلاً لحقه علي (ع) فقتله في الخندق ، ثُمّ وضع الرّأس بين يدي النّبي (ص) ، فقال رسول الله : «اليوم نغزوهم ولا يغزوننا». وقال (ص) : «ضربة علي يوم الخندق تعدل عمل الثّقلين إلى يوم القيامة». وانهزم المشركون بقتل عمرو وكفى الله المؤمنين القتال بعلي (ع). قال أبو بكر بن عياش : لقد ضرب علي (ع) ضربة ما كان في الإسلام أيمن منها : يعني ضربة عمرو بن عبد ود. ولقد ضُرب (ع) ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها : يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله. فضربة علي يوم الخندق قد أعزّت الإسلام وأرست قواعد الدّين ، وردّت الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً ، وكفى الله بها المؤمنين القتال. وضربة ابن ملجم رأس علي (ع) ، أذلّت الإسلام وهدّمت قواعد الدّين ، ومهدّت مُلك بني اُميّة الذين جرعوا آل بيت رسول الله (ص) الغصص ، ودسّوا السّم إلى الحسن بن علي (ع) حتّى تقيّأ كبده في الطّست قطعة قطعة ، وجهّزوا الجيوش لقتال الحسين (ع) حتّى قُتل غريباً عطشان ظامياً وحيداً فريداً بأرض كرب وبلاء.

وجرّعتْ السّبطين بعد أبيهما

كؤوسَ شجى أفصحن عن كامن النّصبِ

وأظمتْ على الماء الحسينَ وأوردتْ

دماءَ وريديه سيوفُ بني حربِ

٢٥٢

المجلس العشرون بعد المئة

لمّا قتل علي (ع) عمرو بن عبد ود يوم الخندق ، أقبل نحو رسول الله ووجهه يتهلل ، فقال له عمر بن الخطاب : هلا سلبته درعه ، فإنّه ليس في العرب درع مثلها؟ فقال أمير المؤمنين : «إنّي استحييت أنْ أكشف سوأة ابن عمّي». قاتل الله أهل الكوفة فإنّهم لم يستحوا من الله ورسوله وأهل بيته يوم كربلاء ، فسلبوا الحسين (ع) درعه وثيابه ، وتركوه مجرّداً على وجه الصّعيد!

عريانُ يكسوه الصّعيدُ ملابساً

أفديه مسلوبَ الرّداء مسربلا

متوسّداً حرّ الصّعيد مجرّداً

متوسّداً حرّ الصّعيد مجرّداً

ولمّا نُعي عمرو بن عبد ود إلى اُخته ، قالت : مَن ذا الذي اجترأ عليه؟ فقالوا : علي بن أبي طالب. فقالت : لا رقأت دمعتي أنْ هرقتها عليه ؛ قتل الأبطال وبارز الأقران وكانت منيّته على يد كفو كريم من قومه ، ما سمعت بأفخر من هذا يابن عامر. ثُمّ أنشأت تقول :

لو كان قاتلَ عمرو غيرُ قاتلهِ

لكنت أبكي عليه آخر الأبدِ

لكنّ قاتله مَن لا يُعاب بهِ

مَن كان يُدعى أبوه بيضةَ البلدِ

من هاشمٍ في ذراها وهي صاعدةٌ

إلى السّماء تميت النّاس بالحسدِ

قومٌ أبى الله إلاّ أنْ يكون لهمْ

كرامةُ الدّين والدّنيا بلا لددِ

وقالتّ أيضاً في قتل أخيها وذكر علي بن أبي طالب (ع) :

أسدان في ضيق المجال تصاولا

وكلاهما كفوٌ كريمٌ باسلُ

فتخالسا مهجَ النّفوس كلاهما

وسطَ المجال مخاتلٌ ومقاتلُ

٢٥٣

وكلاهما حضر القراعَ حفيظةً

لم يثنه عن ذاك شغلٌ شاغلُ

فاذهبْ عليٌ فما ظفرت بمثلهِ

قولٌ سديدٌ ليس فيه تحاملُ

والثّأرُ عندي يا عليُّ فليتني

أدركتُهُ والعقلُ منّيَ كاملُ

ذلّت قريشٌ بعد مقتل فارسٍ

فالذّل مُهلكها وخزيٌ شاملُ

ولا تلام اُخت عمرو إذا لم تبكي على أخيها إذا كان القاتل مثل علي بن أبي طالب (ع) ، كما لا تُلام زينب بنت أمير المؤمنين (ع) إذا بكت على أخيها مدى الليالي والأيام إذا كان القاتل مثل شمر بن ذي الجوشن.

قُلْ للمقادير قد أبدعتِ حادثةً

غريبةَ الشّكل ما كانت ولم تكنِ

أمثلَ شمرٍ أذلّ الله جبهتَهُ

يلقى حُسيناً بذاك المُلتقى الخشنِ

٢٥٤

المجلس الحادي والعشرون بعد المئة

لمّا كانت غزاة بني قريظة ـ وهم قوم من اليهود كان بينهم وبين المسلمين مهادنة واتفق يوم الخندق جماعة من يهود بني النّضير مع قريش على حرب النّبي ، وجاء منهم حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد ـ سيّد بني قريظة ـ فطلب منه نقض العهد مع النّبي ومعاونته على حربه فأبى ، فلم يزل به حتّى رضي فجاء نعيم بن مسعود إلى النّبي ، فقال : إنّي أسلمت ولم يعلم بي قومي فمرني بما شئت. قال : «خذّل عنّا ، فإنّ الحرب خدعة». فجاء إلى بني قريظة وكانوا ندماءه في الجاهلية ، فقال : قد عرفتم حبّي لكم. قالوا : لست عندنا بمتّهم. قال : قد ظاهرتم قريشاً على حرب محمّد ولستم مثلهم ، أنتم أهل هذه البلاد وهم غرباء ، فإنْ غلبهم محمّد ، لحقوا ببلادهم وتركوكم ، فلا تقاتلوا معهم حتّى يعطوكم رهينة. ثُمّ جاء إلى قريش وقال : بلغني أنّ بني قريظة ندموا وبعثوا إلى محمّد ، هل يرضيك أنْ نأخذ من قريش رجالاً وندفعهم إليك فتضرب أعناقهم؟ فإنْ طلبت قريظة رهناً فلا تعطوها. فلمّا طلبت قريظة منهم الرّهن ، قالوا : صدق نعيم. وأجابوهم : لا ندفع إليكم رجلاً واحداً. فقالت قريظة : الذي قاله نعيم حقٌّ. فلمّا دخل النّبي المدينة بعد الخندق ، نزل عليه جبرائيل وقال له : إنّ الملائكة لم تضع السّلاح ، والله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة. فأمر ، فنودي : أنْ لا يُصلّي أحدٌ العصر إلاّ في بني قريظة. وقدم عليٌّ (ع) برايته في ثلاثين رجلاً وتلاحق به النّاس ، فلمّا رأوه جعلوا يقولون : جاءكم قاتل عمرو! أقبل إليكم قاتل عمرو! وألقى الله الرّعب في قلوبهم ، وحاصرهم النّبي خمساً وعشرين ليلة ، فطلبوا النّزول على حكم سعد بن معاذ ، وكان سعد جاءه سهم يوم الخندق فقطع أكحله : وهو عرق مخصوص إذا قطع لا يمكن أنْ يعيش صاحبه. فدعا الله تعالى أنْ لا يميته حتّى يقرّ عينه من بني قريظة فانقطع الدّم ، فحكم فيهم بقتل الرّجال وسبي الذّراري والنّساء وقسمة الأموال. فقال النّبي : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات». ثُمّ خرج

٢٥٥

منه الدّم حتّى مات. فقتلوا بالمدينة وكانوا تسعمئة ، وكان منهم حيي بن أخطب ؛ فلمّا رأى أنّ أميرالمؤمنين (ع) قاتله قال : قتلة شريفة بيد شريف. ممّا يهوّن القتل على النّفس أنْ يكون القاتل رجلاً شريفاً ؛ فلذلك قال حيي بن أخطب : قتلة شريفة بيد شريف. وكما أنّه يزيد في المصيبة ، أنْ يكون القاتلَ للرجل العظيم الشّريف رجلٌ حقير خسيس ، كشمر بن ذي الجوشن الضّباني قاتل مولانا الحسين (ع).

وإنّي أرى الأيام شتّى صروفها

وأعظمُها تحكيمُ عبدٍ بسيّدِ

وقال حيي بن أخطب لعلي (ع) لمّا أراد قتله : لا تسلبني حلّتي. قال : «هي أهون عليَّ من ذلك». كان القتيل يحافظ كثيراً على أنْ لا تسلب منه ثيابه بعد قتله ؛ ولذلك لمّا أيقن مولانا الحسين (ع) بالقتل ، طلب ثوباً عتيقاً لا يرغب فيه أحد ، فخرّقه ولبسه تحت ثيابه ؛ لئلا يُجرّد منه. فلمّا قُتل (ع) ، جرّدوه منه وتركوه عرياناً على وجه الصّعيد.

لله ملقىً على الرّمضاء غصّ بهِ

فمُّ الرّدى بعد أقدامٍ وتشميرِ

تحنو عليه الرّبى ظلا ًوتسترُهُ

عن النّواظير أذيالُ الأعاصيرِ

تهابه الوحشُ أنْ تدنو لمصرعِهِ

وقد أقام ثلاثاً غيرَ مقبورِ

٢٥٦

المجلس الثّاني والعشرون بعد المئة

لمّا كانت وقعة خيبر ، بعث رسول الله (ص) رجلاً من المهاجرين ، ثُمّ رجع منهزماً يؤنّب مَن معه ويؤنبونه. فلمّا كان الغد ، أعطاها رجلاً آخر ، فسار بها غير بعيد ثُمّ رجع يُجبّن أصحابه ويُجبنونه ، فغضب النّبي وقال : «لأعطينّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ اللهَ ورسولَه ويُحبّه اللهُ ورسولُه ، كرّاراً غيرَ فرّارٍ يأخذها بحقّها ، لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه». فتطاولت إليها الأعناق ، فلمّا أصبح قال : «ادعوا لي عليّاً». فجاء علي بن أبي طالب.

وقال ساُعطي الرّايةَ اليوم صارماً

كميّاً محباً للرسول مواليا

كميّاً محباً للرسول مواليا

به يفتح الله الحصونَ الأوابيا

به يفتح الله الحصونَ الأوابيا

عليّاً وسمّاه الوزير المؤاخيا

ثُمّ أعطاه الرّاية ، فخرج علي (ع) يُهرول بها هرولة حتّى ركزها في أصل الحصن ، فخرج إليه مرحب في عامّة اليهود ، وهو يرتجز ويقول :

قد علمت خيبرُ أنّي مرحبُ

شاكي السّلاح بطلٌ مجرّبُ

شاكي السّلاح بطلٌ مجرّبُ

إذا الليوث أقبلت تلتهبُ

فأجابه أمير المؤمنين (ع) يقول :

أنا الذي سمّتني اُمّي حيدرهْ

كليثِ غاباتٍ شديدٍ قسورهْ

على الأعادي مثلُ ريحٍ صرصرهْ

أكيلكم بالسّيف كيل السّندرهْ

أضرب بالسّيف رقاب الكفرهْ

فاختلفا ضربتين فضربه علي (ع) فخرّ صريعاً ، وانهزمت اليهود ودخلوا الحصن وأغلقوا الباب ، فجاء أمير المؤمنين (ع) فاجتذب الباب حتّى قلعه فألقاه إلى ورائه ، ثُمّ

٢٥٧

جعله جسراً على الخندق حتّى عبر عليه النّاس ، ثُمّ دحا به أذرعاً من الأرض. وقال ابن الأثير : فلمّا دنا علي (ع) من الحصن ، خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه يهودي فطرح ترسه من يده ، فتناول علي (ع) باباً كان عند الحصن فتترّس به عن نفسه ، فلم يزل يُقاتل حتّى فتح الله على يده ثُمّ ألقاه من يده. قال أبو رافع مولى رسول الله (ص) : فلقد رأيتني في سبعة نفر أنا ثامنهم نجهد أنْ نقلب ذلك الباب فما نقلبه. وأسر أميرالمؤمنين (ع) صفية بنت حيي بن أخطب وامرأة معها ، وأرسلهما مع بلال إلى رسول الله (ص) ، فمرّ بهما بلال على قتلى اليهود ، فلمّا رأتهم التي مع صفية ، صرخت وصكّت وجهها وحثت التّراب على رأسها ، فقال رسول الله لبلال : «أنزعت منك الرّحمة؟ جئت بهما على قتلاهما!». ما هان على رسول الله أنْ يمرّ بلال بامرأتين يهوديتين على قتلاهما ، وأهل الكوفة مرّوا ببنات رسول الله يوم كربلاء على مصارع الشّهداء! فلمّا نظر النّسوة إلى الحسين (ع) وأصحابه مطروحين على الرّمضاء ، صحن وضربن وجوههنّ. قال الرّاوي : فوالله ، لا أنسى زينب بنت علي وهي تندب الحسين (ع) وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب : يا محمّداه! صلّى عليك مليك السّما ، هذا حُسينك مرمّل بالدّما ، مقطّع الأعضا. ومحمّداه! بناتك سبايا ، وذرّيّتك مُقتّلة تسفي عليهم ريح الصّبا ، وهذا حسين محزوز الرّأس من القفا ، مسلوب العمامة والرّدا. بأبي مَن لا هو غائب فيُرتجى ولا جريح فيداوى ، بأبي المهموم حتّى قضى ، بأبي العطشان حتّى مضى ، بأبي من شيبته تقطر بالدّما. فأبكت والله ، كلّ عدوٍّ وصديق.

إنْ تنعَ أعطت كلَّ قلبٍ حسرةً

أو تدعُ صدّعت الجبال الميّدا

عبراتُها تُحيي الثّرى لو لم تكنْ

زفراتُها تدَعُ الرّياض همودا

نادتْ فقطّعت القلوب بشجوها

لكنّما انتظم البيانُ فريدا

إنسانُ عيني يا حسينُ أخي أيا

أملي وعقد جماني المنضودا

مالي دعوتُ فلا تجيب ولم تكنْ

عوّدتني من قبل ذاك صدودا

٢٥٨

المجلس الثّالث والعشرون بعد المئة

كان رسول الله أرسل رسولاً إلى ملك بصرى من بلاد الشّام ، فلمّا نزل مؤتة من أرض البلقاء ، قتله شرحبيل بن عمرو الغسّاني ، ولم يقتل لرسول الله رسول غيره. فلمّا بلغه ذلك ، عظم عليه وأرسل جيشاً إلى مؤتة ، وكانوا ثلاثة آلاف ، وأمر عليهم جعفر بن أبي طالب ، فإنْ قُتل فزيد بن حارثة ، فإنْ قُتل فعبد الله بن رواحة. وقيل : بل أمر عليهم أولاً زيد بن حارثة. فساروا حتّى نزلوا معان ، فبلغهم أنّ هرقل ملك الرّوم سار إليهم في مئة ألف من الرّوم والعرب. وقيل : في مئة ألف من الرّوم ومثلها من العرب. فقالوا : نكتب إلى رسول الله ؛ فإمّا أنْ يردّنا أو يزيدنا. فشجّعهم أميرهم ، وقال : ما نقاتل النّاس بعدد ولا قوّة ، ما نقاتلهم إلاّ بهذا الدّين الذي أكرمنا الله به ، وما هي إلاّ إحدى الحسنيين ؛ إمّا النّصر أو الشّهادة. فساروا والتقوا بجموع الرّوم والعرب بقرية من البلقاء تُسمّى مشارف ، وانحاز المسلمون إلى قرية تُسمّى مؤتة ، فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فأخذ الرّاية جعفر بن أبي طالب فقاتل ، وهو يقول :

يا حبذا الجنّةُ واقترابُها

طيبةٌ وباردٌ شرابُها

طيبةٌ وباردٌ شرابُها

كافرةٌ بعيدة أنسابُها

عليَّ إذ لاقيتُها ضرابُها

فلمّا أشتدّ القتال ، نزل عن فرس له شقراء فعقرها ـ وكان أول من عقر فرسه في الإسلام ـ ثُمّ قاتل حتّى قُتل ، فوجدوا به بضعاً وثمانين ما بين رمية وضربة وطعنة ، وهي جراحات كثيرة تدلّ على شجاعة عظيمة وثبات شديد ، ولكنّها لا تبلغ جراحات ابن أخيه الحسين (ع) يوم كربلاء ، فقد وجُد في قميصه مئة وبضع عشرة ما بين رمية وطعنة وضربة. وقيل : وجد في ثيابه مئة وعشرون رمية بسهم ، وفي جسده

٢٥٩

الشّريف ثلاث وثلاثون طعنة برمح وأربع وثلاثون ضربة بسيف. وقال الباقر (ع) : «وجُد بالحسين ثلاثمئة وبضعة وعشرون جراحة». وفي رواية ، ثلاثمئة وستون جراحة.

ومجرّحٍ ما غيرّت منه القنا

حَسناً ولا اخلقن منه جديدا

قد كان بدراً فاغتدى شمس الضّحى

قد كان بدراً فاغتدى شمس الضّحى

ثُمّ أخذ الرّاية زيد بن حارثة ، فقاتل حتّى شاط في رماح القوم ، فأخذ الرّاية عبد الله بن رواحة فتردد بعض التردد ، ثُمّ قال يُخاطب نفسه :

أقسمتُ يا نفسُ لتنزلنّهْ

طائعةً أو لا لتُكرهنّهْ

إنْ أجلب النّاس وشدّوا الرّنهْ

مالي أركِ تكرهين الجنّهْ

قد طالما قد كنت مطمئنهْ

هل أنت إلاّ نطفةٌ في شنّهْ

وقال أيضاً :

يا نفسُ إنْ لم تُقتلي تموتي

هذا حمامُ الموت قد صُليتِ

وما تمنيتِ فقد اُعطيتِ

إنْ تفعلي فعلهما هُديتِ

وإنْ تأخّرت فقد شُقيتِ

ثُمّ نزل عن فرسه ، وأتاه ابن عم له بعرق لحم فأكل منه ، ثُم سمع الحطمة في ناحية العسكر ، فقال لنفسه : وانت في الدّنيا! ثُمّ ألقاه وأخذ سيفه ، فقاتل حتّى قُتل. ثُمّ أخذ الرّاية خالد بن الوليد ورجع بالنّاس. قالت أسماء بنت عميس ، زوجة جعفر : أتاني رسول الله في اليوم الذي اُصيب فيه جعفر ، وقد فرغت على أشغالي وغسلت أولاد جعفر ودهنتهم ، فضمّهم وشمّهم وجعل يمسح على رؤوسهم ، وذرفت عيناه بالدّموع فبكى ، فقلت : يا رسول الله ، بلغك عن جعفر شيء؟ قال : «نعم ، قُتل اليوم». فصحت ، واجتمع إليّ النّساء ، فقال : «ألا اُبشّرك؟». قُلت : بلى بأبي أنت واُمّي! قال : «إنّ الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنّة». وخرج رسول الله (ص) حتّى دخل على فاطمة عليها‌السلام وهي تقول : «واعمّاه!». فقال : «على مثل جعفر فلتبكي الباكية». ثُمّ قال : «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم». بأبي أنت واُمّي يا رسول الله! أخذتك الرّقة والشّفقة على يتامى ابن عمّك جعفر وبكيت لقتله ، وحقّ لك ذلك ؛ لما لجعفر من الفضل العظيم والمكانة عند الله تعالى ، فياليتك لا غبت عن يتامى ولدك الحسين (ع) شهيد كربلاء حين باتوا جياعى عطاشى ليلة الحادي عشر من المحرم بعد قتل

٢٦٠