المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

أبا حسنٍ إنّ الذين نماهُمُ

أبو طالبٍ بالطفّ ثاروا لطالبِ

تعاوتْ عليهم من بني حرب عصبةٌ

لثارات يوم الفتح حرّى الجوانبِ

فساموهُمُ أمّا الحياة بذلةٍ

أو الموت فاختاروا أعزّ المراتبِ

فها هُمْ على البوغاء ميل رقابهمْ

ولمّا تمل من ذلّة في الشّواغبِ

٢٢١

المجلس السّابع بعد المئة

لمّا بُعث النّبي (ص) بالرّسالة وصدع بما أمره الله تعالى ، اجتمعت قريش إلى دار النّدوة وتعاقدوا بينهم على أنْ لا يُكلّموا بني هاشم وبني المطّلب ولا يُبايعوهم ، أو يُسلّموا إليهم رسول الله (ص) ليقتلوه. وكتبوا في ذلك صحيفة وعلّقوها في جوف الكعبة ، وأخرجوا بني هاشم من بيوتهم حتّى نزلوا شعب أبي طالب ، ووضعوا عليهم الحرس. فدخل الشِّعب مؤمن بني هاشم وبني المطّلب وكافرهم عدا أبي لهب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ، فبقوا في الشِّعب ثلاث سنين حتّى قامت جماعة من قريش ونقضت الصّحيفة ، وسلّط الله الأرضة على الصّحيفة فأكلتها ولم يبقَ منها إلاّ : باسمك اللهمّ. فكان رسول الله ، وهم بالشّعب ، إذا أخذ مضجعه ونامت العيون ، جاءه أبو طالب فأنهضه عن مضجعه وأنام عليّاً في مضجعه ، فقال علي ذات ليلة : «يا أبتي إنّي مقتول». فقال أبو طالب :

إصبرن يا علي فالصّبر أحجى

كلُّ حيٍّ مصيره لشعوبِ

قد بذلناك والبلاءُ عسيرٌ

لفداء النّجيب وابن النّجيبِ

لفداء الأغرّ ذي الحسب الثّا

قبِ والباع والفناء الرّحيبِ

إنْ رمتك المنون بالنّبل فاصبرْ

فمصيبٌ منها وغيرُ مصيبِ

كلُّ حيٍّ وإن تطاول عُمراً

آخذٌ من سهامها بنصيبِ

ولمّا حضرت أبا طالب الوفاة ، جمع بني أبيه وأحلافهم من قُريش ، ووصّاهم برسول الله (ص) وأمرهم بنصرته والذّب عنه ، وقال : إنّ ابن أخي محمّداً نبيّ صادق ، وأنشأ يقول :

اُوصي بنصر الأمين الخير مشهدهُ

بعدي عليّاً وعمَّ الخير عبّاسا

٢٢٢

وحمزةَ الأسد المخشي صولتهُ

وجعفراً أن يذوقوا قبله الباسا

وهاشماً كُلَّها اُوصي بنصرته

أنْ يأخذوا دون حرب القوم إمراسا

كونوا فدى لكم اُمّي وما ولدتْ

من دون أحمد عند الرّوع أتراسا

بكلِّ أبيض مصقولٍ عوارضه

تخاله في سواد الليل مقباسا

وكما حثّ أبو طالب ولده عليّاً (ع) وحضّه على نصرة رسول الله (ص) ، أوصى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ولديه محمّداً وعوناً وحضّهما على نصرة الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) ؛ وذلك أنّه لمّا خرج الحسين (ع) من مكّة إلى كربلاء ، ألحقه عبد الله بن جعفر بإبنيه محمّد وعون وكتب له على أيديهما كتاباً بالرّجوع ، ويقول له : إنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أنْ يكون فيه هلاكُك واستئصال أهل بيتك ، وإنْ هلكت اليوم طفئ نور الأرض فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالمسير فإنّي في إثر كتابي ، والسّلام. وصار عبد الله إلى عمرو بن سعيد أمير المدينة ، فسأله أنْ يكتب للحُسين (ع) أماناً ويُمنّيه البر والصّلة ، فكتب له وانفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ، فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ، وجهدا به في الرّجوع ، فقال : «إنّي رأيت رسول الله في المنام وأمرني بما أنا ماضٍ له». فقالا له : فما تلك الرّؤيا؟ قال : «ما حدّثت بها أحداً حتّى ألقى ربّي عز وجل». فلمّا أيس منه عبد الله بن جعفر ، أمر إبنيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه ، ورجع هو إلى مكّة. ولمّا كان يوم عاشوراء ، خرج محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وهو يقول :

أشكو إلى الله من العدوانِ

قتالَ قومٍ في الرّدى عميانِ

قد تركوا معالمَ القُرآنِ

ومحكم التّنزيل والتّبيانِ

وأظهروا الكُفر مع الطّغيان

ثُمّ قاتل حتّى قتل عشرة أنفس ، فحمل عليه عامر بن نهشل التّميمي فقتله ، وخرج أخوه عون بن عبد الله بن جعفر (ع) ، واُمّه زينب بنت أمير المؤمنين (ع) ، وهو يقول :

إنْ تنكروني فأنا ابنُ جعفرِ

شهيدِ صدقٍ في الجنان أزهرِ

يطير فيها بجناح أخضرِ

كفى بهذا شرفاً في المحشرِ

ثُمّ قاتل حتّى قتل ـ على رواية ابن شهر آشوب ـ ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلاً ، فحمل عليه عبد الله بن قطبة الطّائي فقتله. ولمّا رجع أهل البيت إلى المدينة ، دخل بعض

٢٢٣

موالي عبد الله بن جعفر فنعى إليه ابنيه ، فاسترجع وجعل النّاس يعزّونه ، فقال مولى له يسمّى أبو اللسلاس : هذا ما لقينا من الحسين! فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله ، ثُمّ قال : يابن اللخناء ، أللحُسين تقول هذا؟! والله ، لو شهدته لأحببت أنْ لا اُفارقه حتّى اُقتل معه. والله ، إنّه لممّا يسخي نفسي عنهما ويهوّن عليّ المصائب بهما ، أنّهما اُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له صابرين معه. ثُمّ أقبل على جُلسائه فقال : الحمد لله ، عزّ عليّ مصرع الحسين (ع) ، أنْ لا أكن آسيت حُسيناً بيدي فقد آساه ولداي. وفي عون ومحمّد يقول سُليمان بن قتّة العدوي :

عينُ جودي بعبرةٍ وعويلِ

واندُبي إنْ بكيتِ آلَ الرّسولِ

ستّةٌ كلُّهم لصُلبِ عليٍّ

قد اُصيبوا وسبعةٌ لعقيلِ

واندُبي إنْ ندبتِ عوناً أخاهُمْ

ليس فيما ينوبُهمُ بخَذُولِ

فلَعمري لقد اُصيبَ ذوو القُرْ

بَى فبكِّي على المُصابِ الطّويلِ

وسَمِيِّ النَّبيِّ غُودرَ فيهمْ

قد عَلَوه بصارمٍ مصقولِ

فإذا ما بكيتِ عيني فجُودي

بدموعٍ تسيلُ كلَّ مسيلِ

٢٢٤

المجلس الثّامن بعد المئة

لمّا اشتدت قُريش في أذى رسول الله (ص) وأصحابه الذين آمنوا به بمكّة قبل الهجرة أمر رسول الله (ص) أصحابه أنْ يخرجوا إلى الحبشة ، وأمر جعفر بن أبي طالب أنْ يخرج معهم. فخرج جعفر ومعه سبعون رجلاً من المُسلمين حتّى ركبوا البحر ، فلمّا بلغ قُريشاً خروجُهم ، بعثوا عمرو بن العاص وعُمارة بن الوليد إلى النّجاشي ليردّهم إليهم. وقال عمرو بن العاص للنّجاشي : أيّها الملك ، إنّ قوماً منّا خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا ، وصاروا إليك ، فردّهم إلينا. فبعث النّجاشي إلى جعفر [واصحابه] فجاؤوا ، فقال : يا جعفر ، ما يقول هؤلاء؟ فقال جعفر : أيّها الملك ، وما يقولون؟ قال : يسألون أنْ أردّكم إليهم. قال : أيّها الملك ، سلهم أعبيدٌ نحن لهم أم أحرار؟ فقال عمرو : لا ، بل أحرار كرام. قال : فسلهم ، ألهم علينا ديون يُطالبوننا بها؟ فقال : لا ، ما لنا عليكم ديون. قال : فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟ فقال عمرو : لا. فقال : فما تريدون منّا؟ آذيتمونا فخرجنا من بلادكم. فقال عمرو بن العاص : أيّها الملك ، خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا ، وأفسدوا شبابنا وفرّقوا جماعتنا ، فردّهم إلينا لنجمع أمرنا. فقال جعفر : نعم أيّها الملك خالفناهم ؛ بعث الله فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد ، وترك الإستسقام بالأزلام ، وأمرنا بالصّلاة والزّكاة ، وحرّم الظّلم والجور وسفك الدّماء بغير حقّها ، والزّنا والرّبا ، والميتة والدّم ولحم الخنزير ، وأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى ، ونهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي. فقال النّجاشي : بهذا بعث الله عيسى بن مريم. ثُمّ قال النّجاشي : يا جعفر ، هل تحفظ ممّا أنزل الله على نبيّك شيئاً؟ قال : نعم. فقرأ عليه سورة مريم حتّى بلغ إلى قوله تعالى : (وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً) فلمّا سمع النّجاشي بهذا ، بكى بُكاءً شديداً وقال : هذا والله ، هو الحقّ. فقال عمرو بن العاص : أيّها الملك ، إنّ هذا مُخالف لنا فردّهم إلينا. فرفع النّجاشي يده وضرب بها وجه عمرو ، ثُمّ قال : اسكت ، والله ، لئن ذكرته بسوء لأفقدنّك نفسك. فقام عمرو بن العاص من عنده والدّماء تسيل على وجهه ، وهو يقول : إنْ كان هذا

٢٢٥

كما تقول أيّها الملك فإنّا لا نتعرّض لهم. أقول : ليتها كانت القاضية ؛ فإنّ عمراً هو الذي دبّر حرب صفّين وأفسد الأمر على أمير المؤمنين (ع) ، وهو الذي أشار برفع المصاحف حيلةً ومكراً ، وكان يوم رفع المصاحف على رؤوس الرّماح يوماً عظيماً على أمير المؤمنين (ع) ، وأعظم منه على أمير المؤمنين يوم رفع رأس ولده الحسين (ع) ورؤوس أصحابه على رؤوس الرّماح بكربلاء ، تُهدى من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشّام. يقول سهل بن سعد : بينا أنا واقف بباب السّاعات إذا بالرّايات يتلو بعضها بعضاً ، وإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السّنان ، عليه رأس من أشبه النّاس وجهاً برسول الله ، فإذا من ورائه نسوة على جمال بغير وطاء ، فدنوت من أولهنّ فقُلت : يا جارية ، مَن أنت؟ فقالت : أنا سُكينة بنت الحسين (ع). فقُلت لها : ألك حاجة إليّ ، فأنا سهل بن سعد ، ممّن رأى جدك وسمعت حديثه؟ قالت : يا سهل ، قُل لصاحب هذا الرّأس أنْ يُقدّم الرّأس أمامنا حتّى يشتغل النّاس بالنّظر إليه ، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله. قال سهل : فدنوت من صاحب الرّأس فقلت له : هل لك أنْ تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمئة دينار؟ قال : ما هي؟ قُلت : تُقدّم الرّأس أمام الحرم. ففعل ذلك ودفعتُ إليه ما وعدته.

جاؤوا برأسك يابنَ بنت محمّدٍ

مُترمّلا ً بدمائهِ ترميلا

وكأنّما بك يابن بنت محمّدٍ

قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشاناً ولمّا يرقبوا

في قتلك التأويلَ والتّنزيلا

ويكبّرون بأنْ قُتلت وإنّما

قَتلوا بك التّكبيرَ والتّهليلا

٢٢٦

المجلس التّاسع بعد المئة

روى الشّيخ رحمه الله في الأمالي بسنده ، قال : كان الله عزّ وجل قد منع نبيه بعمّه أبي طالب ، فما كان يخلص إليه من قومه أمر يسوؤه مدّة حياته ، فلمّا مات أبو طالب ، نالت قُريش من رسول الله بغيتها وأصابته بعظيم من الأذى ، فقال : «لأسرع ما وجدنا فقدك يا عم ، وصلتك رحم وجزيت خيراً يا عم». ثُمّ ماتت خديجة بعد أبي طالب بشهر ، فاجتمع بذلك على رسول الله حزنان حتّى عُرف ذلك فيه. ثمّ انطلق ذوو الطّول والشّرف من قُريش إلى دار النّدوة ليأتمروا في رسول الله ، وأسرّوا ذلك بينهم ، فقال العاص بن وائل واُميّة بن خلف : نبني له بُنياناً نستودعه فيه فلا يخلص إليه أحد ، ولا يزال في رنق من العيش حتّى يذوق طعم المنون. فقال قائل : بئس الرّأي ما رأيتم! ولئن صنعتم ذلك ليسمعن هذا الحديث الحميم والمولى الحليف ، ثُمّ لتأتين المواسم والأشهر الحُرم بالأمن فلينتزعن من أيديكم. فقال عتبة وأبو سُفيان : نُرحل بعيراً صعباً ونوثق محمّداً عليه ثُمّ نقصع البعير بأطراف الرّماح فُيقطّعه إرباً إرباً. فقال صاحب رأيهم : أرأيتم إنْ خلص به البعير سالماً إلى بعض الأفاريق ، فأخذ بقلوبهم بسحره وبيانه وطلاقة لسانه ، فصبا القوم إليه واستجابت القبائل له ، فيسيرون إليكم بالكتائب والمقانب ؛ فلتهلكن كما هلكت إياد! فقال أبو جهل : لكنّي أرى لكم رأياً سديداً ؛ وهو أنْ تعمدوا إلى قبائلكم العشر فتنتدبوا من كلّ قبيلة رجلاً بحداً ، ثُمّ تُسلّحوه حُساماً عضباً ، حتّى إذا غسق الليل أتوا ابن أبي كبشة فقتلوه ، فيذهب دمه في قبائل قريش ، فلا يستطيع بنو هاشم وبنو المطّلب مُناهضة قُريش فيرضون بالدّية. فقال صاحب رأيهم : أصبتَ يا أبا الحكم ، هذا هو الرأي فلا تعدلوا به رأياً ، وكمّوا في ذلك أفواهكم. فخرجوا متفرّقين ، وهو قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) فدعا رسول الله عليّاً (ع) وأخبره بذلك ، وقال له : «أوحى إليّ ربّي أنْ أهجر دار قومي وأنطلق إلى غار ثور تحت ليلتي ، وأنْ آمرك

٢٢٧

بالمبيت على مضجعي ؛ ليخفى بمبيتك عليهم أمري ، فما أنت قائل؟». فقال علي (ع) : «أوَ تسلمن بمبيتي هُناك يا نبيّ الله؟». قال : «نعم». فتبسّم علي (ع) ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً لله ؛ لما بشّره بسلامته. فلمّا رفع رأسه قال له : «امضِ فيما اُمرت ، ومُرني بما شئت ، وما توفيقي إلا بالله». قال : «فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي». ثم ضمّه النّبي إلى صدره وبكى وجداً به ، وبكى علي (ع) جزعاً لفراق رسول الله. هذا رسول الله لمّا أراد مفارقة أخيه وابن عمّه علي بن أبي طالب (ع) ، ضمّه إلى صدره وبكى وجداً به مع علمه بسلامته ، وبكى علي (ع) جزعاً لفراق رسول الله. ساعد الله قلب أبي عبد الله الحسين (ع) حين استأذنه أخوه وصاحب لوائه أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين في المبارزة ، وهو يعلم أنّه مقتول لا محالة ، فبرز العباس وهو يقول :

لا أرهبُ الموت إذا الموت رقى

حتّى اُوارى في المصاليت لُقا

نفسي لسبط المُصطفى الطُهر وقا

إنّي أنا العبّاس أغدو بالسّقا

ولا أخاف الشرّ يوم المُلتقى

ولم يزل يُقاتل حتّى قُتل بعد أنْ اُثخن بالجراح فلم يستطع حراكاً ، فبكى الحسين (ع) لقتله بكاء شديداً.

أحقّ النّاس أنْ يُبكى عليه

فتىً أبكى الحسين بكربلاء

أخوه وابنُ والده عليٍّ

أبو الفضل المضرّج بالدّماءِ

ومَن واساه لا يثنيه شيءٌ

وجاد له على عطشٍ بماءِ

ويشبه إيثار أمير المؤمنين (ع) لرسول الله بالحياة ، إيثار ولده أبي الفضل العباس لأخيه الحسين (ع) يوم طفّ كربلاء حين فداه بروحه ووقاه بمهجته ؛ وذلك لمّا ركب الحسين (ع) المسناة يريد الفرات ، وقد اشتدّ به العطش وبين يديه أخوه العباس ، فاحاط القوم بالعباس فاقتطعوه عن أخيه الحسين (ع) ، فجعل العباس يُقاتلهم وحده حتّى قُتل.

واذكر أبا الفضل هل تنسى فضائلَه

في كربلا حين جدّ الأمرُ والتبسَا

وآسى أخاه وفاداه بمهجتهِ

وآسى أخاه وفاداه بمهجتهِ

ففز أبا الفضل بالفضل العظيم بما

أسديته فعليك الفضلُ قد حُبسَا

قضيت حقّ الاخا والدّين مُبتذلاً

للنفس في سقي أطفال له ونِسَا

٢٢٨

المجلس العاشر بعد المئة

في أمالي الشّيخ الطّوسي عليه الرّحمة ، أنّه : لمّا أمر الله تعالى نبيّه بالخروج من مكّة ليلة الغار وأنْ يبيت عليّاً على فراشه ، أمر رسول الله أبا بكر وهنداً بن أبي هالة أنْ يقعدا له بمكان ذكره لهما في طريقه إلى الغار ، ولبث رسول الله مع علي يوصيه ويأمره بالصّبر حتّى صلىّ العشاءين ، ثُمّ خرج رسول الله في فحمة العشاء الآخرة ، ومضى حتّى أتى إلى هند وأبي بكر فنهضا معه حتّى وصلوا إلى الغار ، ثُمّ رجع هند إلى مكّة لما أمره به رسول الله ، ودخل رسول الله وصاحبه الغار ، فلمّا غلق الليل أبوابه وانقطع الأثر ، أقبل القوم على علي (ع) يقذفونه بالحجارة ولا يشكّون أنّه رسول الله ، حتّى إذا قرب الفجر هجموا عليه ـ وكانت دور مكّة يومئذٍ لا أبواب لها ـ فلمّا بصر بهم علي (ع) قد انتظوا السّيوف وأقبلوا عليه بها ، وكان قد تقدّمهم خالد بن الوليد بن المُغيرة ، وثب علي (ع) فهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر ويرغو رغاء الجمل ، وأخذ سيف خالد وشدّ عليهم به فاجفلوا أمامه إجفال النّعم إلى ظاهر الدّار ، وبصروه فإذا هو علي (ع) ، فقالوا : إنّك لعلي؟! قال : «أنا علي». قالوا : فإنّا لم نردك ، فما فعل صاحبك؟ قال : «لا عِلم لي به». فأذكت قريش عليه العيون ، وركبت في طلبه الصّعب والذّلول ، وأمهل علي صلوات الله عليه حتّى إذا أعتمّ من الليلة القابلة ، انطلق هو وهند بن أبي هالة حتّى دخلا على رسول الله في الغار ، فأمر رسول الله هنداً أنْ يبتاع له ولصاحبه بعيرين ، فقال صاحبه : قد اعددت لي ولك يا نبيّ الله راحلتين. فقال : «إنّي لا آخذهما ولا أحدهما إلاّ بالثّمن». قال : فما لك بذلك. فأمر عليّاً (ع) فأقبضه الثّمن. يقول راوي الحديث : سُئل ابن أبي رافع : أكان رسول الله يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال : أين يذهب بك عن مال خديجة! وأنّ رسول الله قال : «ما نفعني مال قطّ مثل مال خديجة». وكان يفكّ من مالها الغارم والأسير ، ويحمل العاجز ، ويُعطي في النّائبة ، ويعطي فقراء أصحابه إذ كان بمكّة ، ويحمل مَن أراد منهم الهجرة

٢٢٩

وكانت قُريش إذا رحلت رحلتي الشّتاء والصّيف كانت طائفة من العير لخديجة ، وكانت أكثر قُريش مالاً ، وكان ينفق منه ما شاء في حياتها ، وورثها هو وولدها بعد مماتها. ثُمّ إنّه (ص) وصّى عليّاً بحفظ ذمته وأداء أمانته ، وكانت قُريش تدعو محمّداً في الجاهلية الأمين ، وكانت تودعه أموالها ، وكذلك مَن يقدم مكّة من العرب في الموسم ، وجاءته النّبوة والأمر كذلك ، فأمر عليّاً (ع) أنْ يقيم منادياً بالأبطح غدوة وعشية : «ألا مَن كان له قِبل محمّد أمانة فليأت ؛ لتؤدّى إليه أمانته». وأمره أنْ يبتاع رواحل له وللفواطم ومَن أراد الهجرة معه من بني هاشم ، وقال له : «إذا قضيت ما أمرتك فكن على إهبة الهجرة إلى الله ورسوله ، وانتظر قدوم كتابي إليك ولا تلبث بعده». وانطلق رسول الله إلى المدينة بعد أنْ بقي في الغار ثلاثة أيام ، وقال علي (ع) يذكر ذلك :

وقيتُ بنفسي خير مَن وطئ الحصا

ومَن طاف بالبيت العتيق وبالحجرِ

محمّدَ لمّا خاف أنْ يمكروا به

فوقّاه ربي ذو الجلال من المكرِ

وبتّ اُراعيهم متى ينشرونني

وقد وطنتْ نفسي على القتلِ والأسرِ

وبات رسولُ الله في الغار آمناً

هُناك وفي حفظ الإله وفي سترِ

أقام ثلاثاً ثُمّ زمّتْ قلائصٌ

قلائصُ يفرين الحصا أينما يفري

ذكّرني هجوم قُريش على علي (ع) بمكّة حين أباته ابن عمّه رسول الله على فراشه ، هجوم أصحاب ابن زياد على مسلم بن عقيل بالكوفة حين أرسله ابن عمّه الحسين (ع) ليأخذ له البيعة على أهلها ، لكن هجوم قريش انتهى بخيبتهم وانتصار علي (ع) عليهم وطردهم عن الدّار وسلامة رسول الله ، وهجوم أصحاب ابن زياد انتهى بأخذ مسلم أسيراً وقتله ، فإنّهم لمّا اقتحموا عليه الدّار ، شدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدّار ، ثُمّ عادوا عليه فشدّ عليهم كذلك فاخرجهم مراراً وقتل منهم ، وضربه بكر بن حمران على فمه فقطع شفته العُليا وأسرع السّيف في السُفلى وفصلت لها ثنيتاه ، وضربه مُسلم في رأسه ضربة مُنكرة وثناه باُخرى على حبل العاتق كادت تطلع إلى جوفه ، فلمّا رأوا ذلك ، أشرفوا عليه من فوق البيت وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النّار في القصب ويرمونها عليه ، فخرج عليهم مُصلطاً سيفه في السّكة ، وتكاثروا عليه بعد أنْ اُثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض ، فاُخذ أسيراً واُدخل على ابن زياد ، فقال : اصعدوا به فوق القصر واضربوا عُنقه ، ثُمّ اتبعوه جسده ، ففعل به ذلك.

فإنْ كُنت ما تدرين ما الموت فانظري

إلى هانئٍ في السّوق وابن عقيلِ

إلى بطلٍ قد هشّم السّيفُ وجهَهُ

وآخر يهوي من طمار قتيلِ

٢٣٠

المجلس الحادي عشر بعد المئة

في أمالي الشّيخ الطّوسي عليه الرّحمة ، أنّه : لمّا هاجر النّبي إلى المدينة ، نزل في بني عمرو بن عوف بقبا ، فأراه صاحبه على دخول المدينة ، فقال : «ما أنا بداخلها حتّى يقدم ابن عمّي وابنتي» : يعني عليّاً وفاطمة عليهما‌السلام. ثُمّ كتب رسول الله إلى علي (ع) مع أبي واقد الليثي يأمره بالمسير إليه ، فلمّا أتاه الكتاب ، تهيّأ للخروج وأمر مَن كان معه من ضُعفاء المؤمنين أنْ يتسلّلوا ليلاً إلى ذي طوى. وخرج علي (ع) بالفواطم ، وهنّ : فاطمة بنت رسول الله (ص) ، واُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزّبير بن عبد المطّلب. وتبعهم أيمن بن اُمّ أيمن مولى رسول الله وأبو واقد الذي جاء بالكتاب ، فجعل أبو واقد يسوق بالرّواحل سوقاً حثيثاً ، فقال علي (ع) : «إرفق بالنّسوة يا أبا واقد ؛ إنهنّ من الضّعائف». قال : إنّي أخاف أنْ يدركنا الطّلب. فقال علي (ع) : «أربع عليك» : أي لا تخف. ثُمّ جعل علي (ع) يسوق بهنّ سوقاً رفيقاً ، وهو يرتجز ويقول :

ليس إلاّ الله فارفع ظنّكَا

يكفيك ربُّ النّاس ما أهمّكَا

ما رضي أمير المؤمنين (ع) أنْ يسوق أبو واقد بالفواطم سوقاً عنيفاً ؛ لأنهنّ من الضّعفاء ، فياليت أمير المؤمنين (ع) لا غاب عن بنات الفواطم يوم حُملن من كربلاء إلى ابن زياد بالكوفة ، ومن الكوفة إلى يزيد بالشّام على أقتاب الجمال ، كأنّهن من سبايا التُرك أو الدّيلم ، وليس معهُنّ من ولاتهنّ وليّ ، ولا من حماتهنّ حمي غير العليل زين العابدين (ع) وقد أمر به ابن زياد فغلّ بغلٍّ إلى عُنقه حتّى اُدخلوا على يزيد وهم مقرّنون في الحبال ، وزين العابدين (ع) مغلول! فلمّا وقفوا بين يديه على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (ع) : «أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنُّك برسول الله لو رآنا على هذه الصّفة؟». فلم يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغلّ عن زين العابدين (ع).

٢٣١

يُسار بها عُنفاً بلا رفق محرمِ

بها غير مغلولٍ يحنّ على صعبِ

ويحضرُها الطّاغي بناديه شامتاً

بما نال أهلَ البيت من فادح الخطبِ

وسار علي (ع) ، فلمّا قارب (ضجنان) (١) أدركه الطّلب ؛ وهم ثمانية فرسان ملثّمون ومعهم مولى لحرب بن اُميّة اسمه جناح. فقال علي (ع) لأيمن وأبي واقد : «أنيخا الإبل واعقلاها». وتقدّم فأنزل النّسوة ، ودنا القوم فاستقبلهم علي (ع) مُنتضياً سيفه ، فقالوا : ظننت أنّك ـ يا غدّار ـ ناجٍ بالنّسوة؟ ارجع لا أبا لك. قال : «فإنْ لم أفعل؟». قالوا : لترجعن راغماً أو لنرجعن بأكثرك شعراً (أي برأسك) ، وأهون بك من هالك. ودنا الفوارس من المطايا ليثوروها ، فحال علي (ع) بينهم وبينها ، فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي (ع) عن ضربته ، وضربه على عاتقه فقتله ، وشدّ على أصحابه ـ وهو على قدميه ـ شدّة ضيغم ، وهو يرتجز ويقول :

خلّوا سبيلَ الجاهد المُجاهدِ

آليتُ لا أعبدُ غيرَ الواحدِ

فتفرّق القوم عنه وقالوا : احبس نفسك عنّا يابن أبي طالب. قال : «فإنّي منطلق إلى أخي وابن عمّي رسول الله ، فمَن سرّه أنْ أفري لحمه واُريق دمه فليدنُ منّي». ثُمّ أقبل على أيمن وأبي واقد ، وقال : «إطلقا مطاياكما». ثُمّ سار ظافراً قاهراً حتّى نزل (ضجنان) فلبث بها يومه وليلته ، ولحق به نفر من المُستضعفين من المؤمنين ، فيهم اُم أيمن مولاة رسول الله (ص). وبات ليلته تلك هو والفواطم ، طوراً يصلّون وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم حتّى طلع الفجر ، فصلّى بهم صلاة الفجر ، ثُمّ سار لا يفتر عن ذكر الله هو ومَن معه حتّى قدموا المدينة.

ذكّرني دخول علي (ع) المدينة مع الفواطم ظافراً قاهراً لم يُصب بسوء ، دخول ولده زين العابدين (ع) المدينة مع بنات الفواطم ، لكن شتّان ما بين الدّخولين ، فأمير المؤمنين (ع) قد دخل المدينة ظافراً منصوراً على أعدائه ، وولده زين العابدين (ع) دخل المدينة بنساء أهل بيته بعد رجوعه من كربلاء ، وقد قُتل أبوه الحسين (ع) وقُتلت جميع أنصاره وأهل بيته عليهم‌السلام ، وذُبحت أطفاله وسُبيت عياله ، فدخل (ع) إلى المدينة فرآها موحشة باكية ، ووجد ديار أهله خالية تنعى أهلها وتندُب سُكانها.

مررتُ على أبيات آل محمّدٍ

فلم أرها أمثالها يوم حلّتِ

فلا يُبعد الله الدّيار وأهلها

فلا يُبعد الله الدّيار وأهلها

____________________

(١) مكان بين مكة والمدينة.

٢٣٢

المجلس الثّاني عشر بعد المئة

لمّا هاجر النّبي من مكّة إلى المدينة ، هو وصاحبه ومولى صاحبه عامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي ، مرّوا على خيمة اُمّ معبد الخزاعية ، ثُمّ جاء زوجها أبو معبد ، فقالت له : مرّ بنا رجل مُبارك من حاله كذا وكذا. قال : صفيه لي يا اُمّ معبد. قالت : رأيت رجلاً طاهر الوضاءة (١) ، أبلج الوجه (٢) ، حسن الخلق ، لم تعبه ثُجله (٣) ولم تزر به صقله (٤) ، وسيماً (٥) قسيماً (٦) ، في عينيه دعج (٧) وفي أشفاره وطف (٨) وفي عُنقه صطع (٩) وفي صوته صحل (١٠) وفي لحيته كثاثة (١١) ، أزج (١٢) أقرن (١٣) ، أحور (١٤) أكحل (١٥) ، إذا

____________________

(١) ظاهر الحسن.

(٢) طلق الوجه.

(٣) الثُّلجة : بضم الثّاء عظم البطن.

(٤) لم تعبه دقّة ونحول.

(٥) حسن الوجه.

(٦) اُعطي كُلّ شيء منه قسمه من الحسن.

(٧) سواد مع سعة.

(٨) كثرة شعر أشفار العين.

(٩) طول.

(١٠) بحوحة.

(١١) كثرة الشّعر.

(١٢) دقيق الحاجبين : طويلهما.

(١٣) مقرون الحاجبين : متصل احدهما بالآخر.

(١٤) الحَوَر : اشتداد بياض العين ، وسواد سوادها.

(١٥) يعلو جفون عينيه سواد مثل الكحل.

٢٣٣

صَمُت فعليه الوِقار وإنْ تكلّم سما وعلاه البهاء (١) ، أجمل النّاس وأبهاه من بعيد وأحسنه وأجمله من قريب ، حلو المنطق فصل (٢) لا نزر ولا هذر (٣) ، كأنّ منطقه خرزات نظم يتحدّرن ربعة ، لا ييأس من طول ولا تقحمه (٤) عين من قصر ، غصن بين غصنين ، فهو أنضر (٥) الثّلاثة منظراً وأحسنهم قدّاً ، له رُفقاء يحفّون به إنْ قال أنصتوا لقوله ، وإنْ أمر تبادروا إلى أمره ، محفود (٦) محشود (٧) لا عابس ولا مفند (٨). قال أبو معبد : هو ـ والله ـ صاحب قُريش الذي ذُكر لنا من أمره بمكّة ما ذُكر ، ولقد هممت بأنْ أصحبه ولأفعلنّ إنْ وجدت إلى ذلك سبيلاً. وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) : كيف لم يصف أحد النّبي كما وصفته اُمّ معبد؟ فقال : «لأنّ النّساء يصفن الرّجال بأهوائهن ، فيُجدن في صفاتهن». وكان أشبه النّاس برسول الله ولده الحسين وعلي بن الحسين الأكبر ، وكانت الزّهراء عليها‌السلام تقول للحُسين (ع) وهي ترقصه :

أنتَ شبيهٌ بأبيْ

لستَ شبيهاً بِعليْ

وترقص الحسن (ع) وتقول :

إشبه أباك يا حسنْ

واخلع عن الحقّ الرّسنْ

واعبد الهاً ذا منن

ولا توالِ ذا الإحنْ

ولذلك لمّا حضر رأس الحسين (ع) بين يدي ابن زياد ، فجعل ينظر إليه ويبتسم ، وكان في يده قضيب ، فجعل يضرب به ثنياه ، ويقول : إنّه كان حسن الثّغر. وكان عنده أنس بن مالك ، فبكى أنس وقال : كان أشبههم برسول الله. ولمّا برز علي الأكبر يوم كربلاء ، نظر إليه الحسين (ع) نظرة آيس منه وأرخى عينيه فبكى ، ثُمّ رفع سبابتيه نحو السّماء ، وقال : «اللهمّ كُن أنت الشّهيد عليهم ، فقد برز إليهم غلام أشبه النّاس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك ، وكُنّا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إليه». ألا لعن الله أهل الكوفة ، فما رقّت قلوبهم لشبيه رسول الله علي الأكبر حتّى قطّعوه بأسيافهم ، ووقف عليه

____________________

(١) الحسن والجمال.

(٢) يفصل بين الحقِّ والباطل.

(٣) لا قليل ولا كثير.

(٤) تحتقره.

(٥) أجمل.

(٦) مخدوم.

(٧) يتبعه حشد لخدمته.

(٨) لا يجرأ أحد على تخطئته وتنفيد رأيه.

٢٣٤

الحسين (ع) وقال : «قَتل الله قوماً قتلوك يا بُني ، ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول! على الدّنيا بعدك العفا» :

يا كوكباً ما كان أقصرَ عمرُهُ

وكذا تكون كواكبُ الأسحارِ

جاورتُ أعدائي وجاور ربَّهُ

شتّان بين جواره وجواري

٢٣٥

المجلس الثّالث عشر بعد المئة

لمّا كانت غزوة بدر ، وهي أوّل غزوات رسول الله وأشدّهما نكاية فيالمشركين ، وبها أذلّ الله جبابرة قُريش ، وبها تمهدت قواعد الدّين وثبت أساس الإسلام ، كان علي (ع) قُطب رُحاها وليث وغاها ، وكان عمره يومئذ خمساً وعشرين أو سبعاً وعشرين سنة ، وكان المُشركون فيها نحواً من ألف ومعهم مئتا فرس يقودونها ، والمسلمون ثلاثمئة وثلاثة عشر أو أزيد بقليل ومعهم ثمانون بعيراً وفرس واحد للمقداد ، فأوّل مَن برز من المُشركين عتبة بن ربيعة ، وكان رئيس القوم ، وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عُتبة ، فدعوا إلى المُبارزة ، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار ، فقالوا لهم : ارجعوا فما لنا بكم من حاجة. ثُمّ نادوا : يا محمّد ، اخرج إلينا أكفّاءنا من قومنا. فقال النّبي : «يا بني هاشم ، قوموا فقاتلوا بحقّكم الذي بعث الله به نبيكم». فقام حمزة بن عبد المطّلب وعلي بن أبي طالب وعُبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب بن عبد مُناف ، فبرزوا وهم مُقنّعون في الحديد فلم يعرفهم عتبة ، فسألهم : مَن أنتم؟ فانتسبوا له ، فقال : أكفاء كرام. فبارز حمزة عُتبة فقتله ، وبارز عليّ ـ وكان أصغر القوم سنّاً ـ الوليد فقتله ، وبارز عُبيدة ـ وكان أسنّ القوم ـ شيبة فجرحه ، وضربه شيبة على ساقه فقطعها ، وكرّ حمزة وعلي على شيبة فقتلاه واحتملا عُبيدة ، ولمّا جيء بعُبيدة ، وإنّ مُخّ ساقه ليسيل ، قال : يا رسول الله ، ألست شهيداً؟ قال : «بلى». قال : أما والله ، لو كان أبو طالب حيّاً لعلم أنّي أحقّ بقوله :

كذبتمْ وبيتِ الله نُخلي محمّداً

ولمّا نطاعنْ دونه ونناضلِ

وننصره حتّى نُصرّع حولهُ

ونذهل عن أبنائنا والحلائلِ

وحُمل عُبيدة من مكانه فمات بالصّفراء. وجميع مَن قُتل في هذه الوقعة من المُشركين سبعون رجلاً ، واُسر منهم نحو من سبعين رجلاً ، قَتل المسلمون النّصف وقَتل علي (ع) ـ باتّفاق الرّواة ـ منهم خمسة وثلاثين بقدر النّصف ، وقيل ستّة وثلاثين ، أكثر من النّصف

٢٣٦

بواحد ، فعدّوا معهم عيسى بن عثمان ، وشرك في قتل شيبة. وكان فيمَن قتله علي (ع) العاص بن سعيد بن العاص بن اُميّة ، قتله مبارزة بعد أنْ أحجم عنه غيره ، وطعيمة بن عدي ، وكان من رؤوس أهل الضّلال ، ونوفل بن خويلد ، وكان من شياطين قريش وأشدّ النّاس عداوة لرسول الله ، وحنظلة بن أبي سفيان ، وقُتل في هذه الوقعة أبو جهل عدو رسول الله الألد. وقد زرعت هذه الوقعة الأضغان في قلب يزيد بن مُعاوية بقتل جدّ أبيه عتبة وأخيه شيبة وخال أبيه الوليد وأخيه حنظلة حتّى أظهرها حين جيء إليه برأس الحسين (ع) ، فجعل يقول :

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزعَ الخزرج من وقع الأسلْ

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثُمّ قالوا يا يزيد لا تشلْ

قدْ قتلنا القَرَمَ من ساداتهمْ

وعدلناه ببدرٍ فاعتدلْ

لعبت هاشمُ بالمُلك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

لستُ من خندفَ إنْ لمْ انتقمْ

من بني أحمدَ ما كان فعلْ

فقامت زينب بنت علي (ع) وخطبت خطبتها العظيمة المشهورة ، وقالت من جملتها : وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تُناديهم ، فلتردن وشيكاً موردهم ، ولتودّن أنّك شللت وبكمت ولم تكن قُلت ما قُلت وفعلت ما فعلت! ثُمّ قالت : اللهمّ ، خُذ لنا بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلُل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حُماتنا.

ثاراتُ بدرٍ اُدركتْ في كربلا

لبني اُميّة من بني الزّهراءِ

وهذا ابنُ هندٍ من بني الطّهر فاطمٍ

بثارات بدرٍ أصبحَ اليوم يثأرِ

٢٣٧

المجلس الرّابع عشر بعد المئة

كان رجل يُسمّى أبا العاص بن الرّبيع ، وكان من رجال مكّة المعدودين مالاً وأمانة وتجارة ، وكان ابن اُخت خديجة اُمّ المؤمنين ، وزوّجه النّبي ابنته زينب قبل النّبوة ، وولد له منها بنت اسمها اُمامة ، وهي التي أوصت الزّهراء عليها‌السلام أميرَ المؤمنين (ع) أنْ يتزوج بها بعدها ، فقالت في جملة ما أوصته به : «وأنْ تتزوج بعدي بابنة اُختي اُمامة ؛ فإنّها تكون لولدي مثلي». فتزوج بها أمير المؤمنين (ع) بعد وفاة الزّهراء عليها‌السلام ، فلمّا أكرم الله رسوله بالنّبوة ، آمنت به خديجة وبناته ومنهنّ زينب ، وبقي أبو العاص مشركاً ، وكان الإسلام قد فرّق بينه وبين زينب إلاّ أنّ رسول الله كان لا يقدر وهو بمكّة أنْ يُفرّق بينهما ، فلمّا دعا النّبي قومه إلى الإسلام ، باعدوه وقالوا : إنّكم قد فرغتم محمّداً من همّه ؛ أخذتم عنه بناته فردّوهن عليه يشتغل بهن. فقالوا لأبي العاص : فارق بنت محمّد ونحن نزوّجك أي امرأة شئت من قُريش. فقال : لا اُفارقها وما اُحب أنّ لي بها امرأة من قُريش. فكان رسول الله إذا ذكره يُثني عليه خيراً في صهره ، فلمّا هاجر رسول الله إلى المدينة ، بقيت زينب بنت رسول الله بمكّة مع أبي العاص ، فلمّا سارت قُريش إلى بدر ، سار أبو العاص معهم فأُسر ، فلمّا بعثت أهل مكّة في فداء اُساراهم ، بعثت زينب بنت رسول الله (ص) في فداء زوجها أبي العاص بمال ، وكان فيما بعثت به قلادة كانت خديجة اُمّها ادخلتها بها على أبي العاص ليلة زفافها عليه ، فلمّا رأى رسول الله (ص) قلادة ابنته زينب ، رقّ لها رقّة شديدة ، وقال للمُسلمين : «إنْ رأيتم أنْ تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها ما بعثت به من الفداء ، فافعلوا». فقالوا : نعم يا رسول الله ، نفديك بأنفسنا وأموالنا. فَردّوا عليها ما بعثت به وأطلقوا لها أبا العاص بغير فداء. أقول : إذا كان رسول الله (ص) لمّا نظر إلى قلادة ابنته زينب ، رقّ لها رقّة شديدة ، وهي لم تُسلب منها ولم تؤخذ قهراً ، بل أرسلتها طوعاً لفداء زوجها الذي هو أسير عند أبيها رسول الله

٢٣٨

(ص) وقد خرج لمحاربته ، فما كان يجري على رسول الله (ص) لو نظر إلى قلادة ابنته زينب بنت علي وفاطمة عليهم‌السلام ، وقلادة ابنته وبضعته فاطمة الزّهراء عليها‌السلام ، وقلائد سائر بناته بين يدي عمر بن سعد ويزيد وابن زياد؟! وذلك لمّا قُتل الحسين (ع) وأقبل القوم على نهب بيوت آل الرّسول (ص) ، واقتحموا على النّساء يسلبونهنّ ؛ ولذلك لمّا وعد يزيد علي بن الحسين (ع) أنْ يقضي له ثلاث حاجات ، كانت إحدى الحاجات أنْ يردّ عليهم ما اُخذ منهم. فقال يزيد : أنا اُعوّضكم عنه أضعاف قيمته. فقال (ع) : «أمّا مالك فلا نريده ، وهو موفّر عليك ، وإنّما طلبت ما اُخذ منّا ؛ لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمّد (ص) ، ومقنعتها وقلادتها». فأمر بردِّ ذلك.

سُلبتْ وما سُلبتْ محا

مدُ عزِّها الغُرّ البديعة

وهل كانت زينب تعدل عند رسول الله (ص) وعند المسلمين اُختها فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين عليها‌السلام؟ وهل كان أبو العاص يعدل أمير المؤمنين (ع)؟ لا والله.

فَعلتمْ بأبناء النّبيِّ ورهطهِ

افاعيل ادناها الخيانة والغدر

٢٣٩

المجلس الخامس عشر بعد المئة

لمّا أطلق رسول الله (ص) أبا العاص ، زوج ابنته زينب الذي اُسر يوم بدر ، شرط عليه رسول الله (ص) أنْ يبعث إليه زينب إلى المدينة ، فلمّا خرج أبو العاص إلى مكّة ، بعث رسول الله (ص) زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار ، فقال : «كونا بمكان كذا حتّى تمرّ بكما زينب ، فتأتياني بها». وقدم أبو العاص إلى مكّة فأرسلها مع أخيه كنانة بن الرّبيع ، وأركبها في هودج وخرج بها نهاراً ، فقالت قريش : لا تخرج ابنة محمّد من بيننا على تلك الحال. فخرجوا في طلبها حتّى أدركوها بذي طوى ، فروّعها هبار بن الأسود بالرّمح وهي في الهودج وكانت حاملاً ، فلمّا رجعت أسقطت ، ولمّا رأى كنانة القوم قد أقبلوا ، برك ونثل كنانته وأخذ منها سهماً ووضعه في قوسه ، وقال : والله ، لا يدنو منها رجل إلاّ وضعت فيه سهماً. فجاء رؤساء قُريش وفيهم أبو سُفيان ، فقالوا : إنّك لم تصب ، خرجت بها علانية وقد عرفت مصيبتنا ببدر فيظنّ النّاس إذا خرجت بها جهاراً إنّ ذلك عن ذلّ ووهن أصابنا ، ولكن ارجع ، فإذا هدأت الأصوات وتحدّث النّاس بردّها ، فاخرج بها سرّاً. فرجع كنانة ، ثُمّ خرج بها ليلاً حتّى سلّمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه. فقدما بها على رسول الله (ص) ، فأهدر دم هبار لمّا بلغه ذلك ، فلمّا كان يوم فتح مكّة ، أتاه هبار مُسلماً ، فقبل إسلامه وعفا عنه. بأبي أنت واُمّي يا رسول الله! أهدرت دم هبار ؛ لأنّه روّع ابنتك زينب حتّى أسقطت ، فما كنت صانعاً لو نظرت إلى مَن روّع بناتك يوم كربلاء بعد قتل ولدك الحسين (ع) حين هجم القوم على خيام بناتك وعيالاتك ، وانتهبوا ما فيها وأضرموا فيها النّار؟! قال حميد بن مُسلم : رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عُمر بن سعد ، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين (ع) في فسطاطهن وهم يسلبونهن ، أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط ، وقالت : يا آل بكر بن وائل ، أتُسلب بنات رسول الله؟! لا حكم إلا لله ، يا لثارات رسول الله! فاخذها زوجها وردّها إلى رحله.

٢٤٠