المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

المجلس السّابع والتّسعون

كان نوح (ع) أوّل اُولي العزم من الرُسل ، وهم خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد. ومعنى اُولي العزم : اُولو القّوة ؛ لأنّهم أمروا باظهار دعوتهم وأعلانها للناس كافّة ، قال الله تعالى : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ). وروى المسعودي في كتاب إثبات الوصية ، أنّ نوح لبث في قومه يدعوهم إلى الله فلا يزيدهم دعاؤه إلاّ فراراً منه وطغياناً ، وأوحى الله إلى نوحٍ أنْ أحمل في السّفينة (مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) : أي من كُلّ جنس من الحيوانات زوجين ذكراً واُنثى. (وَأَهْلَكَ إِلاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) : وهي امرأته. (ومَن آمن) بك من غير أهلك. (وَمَا آمَنَ مَعَهُ الاّ قَلِيلٌ). قيل كانوا ثمانين ، وقيل ثمانية وسبعين ، وقيل ثمانية ، وقيل سبعة من رجال ونساء ، وفيهم أبناؤه الثّلاثة سام وحام ويافث ، وثلاث زوجات لهم. (وَنَادَى‏ نوحٌ ابْنَهُ) كنعان (وكان في معزلٍ) عن السّفينة (يَا بُنَيّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تُكُن مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إلى‏ جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ الاّ مَن رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ... وَنَادَى‏ نُوحٌ رَبّهُ فَقَالَ رَبّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنّ وَعْدَكَ الْحَقّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الذّين وعدتك بنجاتهم ؛ لكونه على غير دينك (إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) : أي صاحب عمل غير صالح. قال أبو فراس :

كانت مودّةُ سلمانٍ لهمْ رحماً

ولم يكُن بين نوحٍ وابنه رحمُ

وشرف مقام النّبوة يوجب تنزيه نساء الأنبياء عن الزِّنا ، فيجوز في زوجة النّبي أنْ تكون كافرة كزوجة نوح وزوجة لوط ، ولا يجوز أنْ تكون زانية. وأمّا قوله تعالى : (ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا). فخيانة امرأة نوح أنّها كانت تنسبه إلى الجنون ، وخيانة امرأة لوط أنّها كانت تدّل على أضيافه. وبقي نوح ومن معه في السّفينة سبعة أيام واستوت على

٢٠١

الجودي في اليوم السّابع ، وأغرق الله كُلّ حيٍّ غير نوح وأصحاب السّفينة ؛ ولذلك سُمّي نوح (ع) آدم الثّاني. ولولا أنْ رفع الله أنواع العذاب في الدّنيا عن الاُمّة المحمّديّة كرامة لرسوله محمّد ، لما كانت اُمّة نوح (ع) أحقّ بالعذاب منها بما فعلته بعترة رسول الله ؛ من تسليطه عليها يزيد شارب الخمور ، والمُعلن بالُكفر والفجور ، واللاعب بالقرود والفهود ، فأخاف ريحانة رسول الله وأحد سِبطيه حتّى اضطرّه إلى الخروج من حرم رسول الله إلى حرم الله خائفاً يترقّب ، ومن حرم الله ـ الذي يأمن فيه كُلّ خائفٍ حتّى الطّير والوحش ـ وأنزله الدّعي بن الدّعي عُبيد الله بن زياد بأمر يزيد مع عياله وأطفاله بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، ومنعه من ماء الفُرات المُباح ، [الذي] يشربه البر والفاجر ، وتتمرّغ فيه خنازير السّواد وكلابه ، وآل بيت رسول الله عُطاشى ظمايا لا يُسمح لهم منه بقطرة واحدة ، وسبط رسول الله وريحانته يتلظّى عطشاً ، ويطلب شربة من الماء فيُجاب : يا حُسين ، أما تنظر إلى ماء الفُرات كأنّه بطون الحيّات؟ والله ، لا تذوق منه قطرة حتّى تذوق الموت عطشاً! هذا واُمّة جدّه رسول الله ما بين خاذل ومُحارب له ومساعد عليه ، غير فئة قليلة لا تتجاوز النّيف والسّبعين إنساناً ، ولم يكفهم ذلك حتّى داسوا جسده الشّريف بحوافر الخيل ، وداروا برأسه ورؤوس أصحابه في البُلدان ، وحملوا نساءه وأطفاله على أقتاب الجِمال كالسّبي المجلوب! أفلا تستحق هذه الاُمّة بفعلها هذا أنْ ينزل بها من العذاب أكثر ممّا نزل بقوم نوح؟ بلى والله.

فلأيهمْ تنعى الملائكُ مَن لهُ

عقدُ الآله ولاءهم وولاءهَا

ألآدم تنعى وأينَ خليفةُ الرّ

حمنِ آدمُ كي يُقيم عزاءهَا

أم هل إلى نوحٍ وأين نبيهُ

نوحٌ فيسعد نوحها وبكاءهَا

ولقد ثوى بثراك والسّبب الذي

عصم السّفينةَ مغرقاً أعداءهَا

٢٠٢

المجلس الثّامن والتّسعون

قال الله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى وَعَهِدْنَا إلى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ أَضْطَرّهُ إلى‏ عَذَابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ). فبنى إبراهيم (ع) البيت ونقل إسماعيل (ع) الحجر من ذي طوى ، فقال إبراهيم (ع) لمّا فَرِغَ من بناء البيت : (رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً). روي عن الامام الصّادق (ع) : «مَن دخل الحرم مستجيراً به فهو آمن من سخط الله عزّ وجل ، ومَن دخله من الوحش والطّير كان آمناً من أنْ يُهاج أو يؤذى حتّى يخرج من الحرم ؛ وذلك قوله تعالى :(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً). بأنْ حكم أنّ مَن عاذ به والتجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه. وكان العرب لا يتعرّضون لمن فيه فهو آمن على نفسه وماله ، وإنْ كانوا يخطفون النّاس من حوله ، وكان قبل الإسلام يرى الرّجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له.

ألا قاتل الله بني اُميّة فإنّهم ما راعوا حُرمة الله ، فأخافوا سبط رسول الله وريحانته الحسين وهو في الحرم ؛ وذلك لمّا أنفذ يزيد عمرو بن سعيد بن العاص من المدينة إلى مكّة في عسكرٍ عظيم ، وولاه أمر الموسم وأمره على الحاج كلهم ، وأوصاه بقبض الحسين (ع) سرّاً وإنْ لم يتمكن منه يقتله غيلة. ثُمّ إنّ يزيد دسّ له مع الحاج في تلك السّنة ثلاثين رَجُلاً من شياطين بني اُميّة ، وأمرهم بقتل الحسين (ع) على أيّ حال اتّفق ، فلمّا علم الحسين (ع) بذلك ، عزم على التّوجه إلى العِراق ، وكان قد أحرم بالحجّ ، فطاف بالبيت وسعى بين الصّفى والمروة وقصّر من شعره وأحلّ من إحرام الحجّ

٢٠٣

وجعلها عُمرة مُفردة ؛ لأنّه لم يتمكّن من إتمام الحجّ مخافة أنْ يُقبض عليه ، وجاءهُ محمّد بن الحنفيّة في الليلة التّي أراد الحسين (ع) الخروج في صبيحتها عن مكّة ، فقال له : يا أخي ، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أنْ يكون حالك كحال مَن مضى ، فإنْ رأيت أنْ تُقيم فإنّك أعزّ مَن بالحرم وأمنعه. فقال : «يا أخي ، قد خفتُ أنْ يغتالني يزيد بن مُعاوية في الحرم ، فأكون الذي يُستباح به حُرمة هذا البيت». فقال له ابن الحنفيّة : فإنْ خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر ؛ فإنّك أمنع النّاس به ولا يقدر عليك أحد. فقال : «أنظر فيما قُلت». فلمّا كان السّحر ارتحل الحسين (ع) ، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة فأخذ بزمام ناقته ، وقد ركبها ، فقال : يا أخي ، ألم تعدني النّظر فيما سألتُك؟ قال : «بلى». قال : فما حداك على الخروج عاجلاً؟ قال : «أتاني رسول الله (ص) بعد ما فارقتُك ، فقال : يا حُسين اخرج ، فإنّ الله شاء أنْ يراك قتيلاً». فقال محمّد بن الحنفيّة : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملُك هؤلاء النّسوة معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ فقال : «إنّ الله شاء أنْ يراهُن سبايا» ؛ ولذلك كتب ابن عباس إلى يزيد بعد قتل الحسين (ع) : وما أنسَ من الأشياء فلست بناسٍ اطرداك حُسيناً من حرم رسول الله (ص) إلى حرم الله ، وتسييرك إليه الرّجال لقتله في الحرم ، فما زلت بذلك وعلى ذلك حتّى أشخصته من مكّة إلى العراق ، فخرج خائفاً يترقّب ، فزلزلت به خيلك ؛ عداوة منك لله ولرسوله ولأهل بيته الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.

وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها

وبه تشرّفت الحطيمُ وزمزمُ

لم يدرِ أين يريح بدن ركابهِ

فكأنّما المأوى عليه مُحرّمُ

وما اكتفى يزيد بهذا كُلّه ، بل إنّه هتك حرمة الله تعالى في الحرم ، وهدم الكعبة المشرّفة أيام حربه مع ابن الزّبير على يد الحُصين بن نمير ، فنصب على الكعبة العرادات والمجانيق ، وفرض على أصحابه عشرة آلاف صخرة كُلّ يوم يرمون بها الكعبة حتّى هدمها ؛ بغياً منه وعتوّاً على الله تعالى حتّى أخذه الله أخذ عزيز مُقتدر.

ألا يا بن هندٍ لا سقى الله تربةً

ثويت بمثواها ولا اخضرّ عودُها

أتسلبُ أثوابَ الخلافة هاشماً

وتطردُها عنها وأنت طريدُها

وما أنْ أرى يشفي الجرى غير دولةٍ

تُدين لها في الشّرق والغرب صيدُها

٢٠٤

المجلس التّاسع والتّسعون

روي أنّه كان السّبب في ابتلاء الله يعقوب (ع) بفراق ولده يوسف (ع) : أنّ يعقوب (ع) ذبح كبشاً ، وأنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً غريباً اجتاز على بابه عشيّة جمعة ، فاستطعمهم وهم يسمعون فلم يُصدّقوا قوله ، فلمّا يئس أنْ يُطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلى الله تعالى ، وبات طاوياً وبات يعقوب وآله بطاناً ، فكان يعقوب ـ بعد ذلك ـ إذا أراد الغداء أمر مُناديا فنادى : ألا مَن أراد الغداء من المساكين فليتغدّ مع يعقوب. وإذا كان صائماً أمر منادياً فنادى ألا مَن كان صائماً فليفطر مع يعقوب. ولمّا كان مقام النّبوة أعلى المقامات عند الله تعالى ، فقد يبتلي الله الأنبياء بالشّدائد في الدّنيا ؛ لأجل تركهم للأولى ويعاتبهم على ذلك.

ولكن انظر لترى الفرق بين ما جرى ليعقوب وولده ، وما جرى لأمير المؤمنين علي وزوجته البضعة الزّهراء وولديه الحسنين (ع) حين تصدّقوا بزادهم على المسكين واليتيم والأسير ، وطووا ثلاثة أيام صائمين.

روى صاحب الكشّاف في تفسير قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرّهُ مُسْتَطِير * وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى‏ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِير * إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً). عن ابن عباس رضي الله عنه : أنّ الحسن والحسين (ع) مرضا فعادهما رسول الله (ص) في ناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك. فنذر عليٌ وفاطمة وفضّة جارية لهُما ، إنْ برءا ممّا بهما أنْ يصوموا ثلاثة أيام. فشفيا وما معهم شيء ، فاستقرض علي من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل فقال : السّلام عليكم أهل بيت محمّد ، مسكين من مساكين المُسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجّنة. فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء

٢٠٥

وأصبحوا صياماً ، فلمّا أمسوا ووضعوا الطّعام بين أيديهم ، وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثّالثة ففعلوا مثل ذلك.

(فليت) أمير المؤمنين والزّهراء اللَذين تصدّقا بقوتهما وقوت ولديهما على المسكين واليتيم والأسير ، لا غابا عن يتامى ولدهما الحسين (ع) يوم كربلاء وقد باتوا ليلة الحادي عشر من المُحرّم وهم جياعى عُطاشى ، بلا مُحامٍ ولا كفيل غير زينب والعليل.

ليت الاُولى اطعموا المسكين قوتَهمُ

وتالييه وهم في غاية السّغبِ

يرون بالطّف أبناءً لهم أُسرتْ

يستصرخون من الآباء كلّ أبي

٢٠٦

المجلس المئة

قال الله تعالى : (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ يَا أبَتِ إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَابُنَيّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنّ الشّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّ مُبِينٌ ... لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبّ إلى‏ أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّ أَبَانَا لَفي ضَلالٍ مبِينٍ) روي : أنّه لمّا ولد يوسف أحبّه يعقوب حُبّاً شديداً ، فلمّا رأى إخوة يوسف محبّة أبيهم له وإقباله عليه حسدوه ، ثُمّ إنّ يوسف رأى في منامه أحد عشر كوكباً والشّمس والقمر تسجد له ، فقصّها على أبيه ، فقال له أبوه : (يَا بُنَيّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) فسمعت امرأة يعقوب ذلك ، فلمّا أقبل أولاد يعقوب ، أخبرتهم بالرؤيا فازدادوا حسداً ، وقالوا : ما عني بالشّمس غير أبينا ولا بالقمر غيرك ولا بالكواكب غيرنا ، إنّ ابن راحيل يريد أنْ يتملّك علينا. فتآمروا بينهم أنْ يفرّقوا بينه وبين أبيه ، وقالوا : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) : أي في أرض بعيدة عن أبيه فلا يهتدي إليه (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) : تنصرف محبته لكم ويحنّ عليكم (وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ) : وهو يهوذا ، وكان أفضلهم وأعقلهم : (لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ) : أي في قعر البئر (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ) : يأخذه بعض مارّة الطّريق المُسافرين (إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ). وأخذ عليهم العهود أنّهم لا يقتلونه ، فأجمعوا عند ذلك أنْ يدخلوا على يعقوب ويُكلّموه في إرسال يوسف معهم إلى البرية : (قَالُوا يَا أَبَانَا مَالَكَ لاَ تَأْمَنّا عَلَى‏ يُوسُفَ وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدَاً) إلى الصّحراء (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنّي لَيَحْزُنُنِي أنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : جماعة (إِنّا إِذاً لَخَاسِرُونَ) فاطمأنّ يعقوب إليهم ، فأرسله معهم فأخرجوه وهم يكرمونه. فلمّا وصلوا إلى الصّحراء أظهروا له العداوة ، وجعل يضربه بعض إخوته فيستغيث بالآخر فيضربه ، فضربوه حتّى كادوا يقتلونه

٢٠٧

وجعل يصيح : يا أبتاه يا يعقوب! لو تعلم ما يُصنع بابنك بنو الإماء. فقال لهم يهوذا : أليس قد أعطيتموني موثقاً أنْ لا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجُبّ ، (فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ) : أدنوه من رأس الجُبّ ، فقالوا له : انزع قميصك. فبكى وقال : يا إخوتي لا تجردوني. فسلّ واحدٌ منهم عليه السّكين ، وقال : لئن لم تنزعه لأقتُلنّك. فنزعه ، فجعلوا يدلونه في البئر وهو يتعلّق بشفير البئر ، فربطوا يديه وهو يقول : يا إخوتاه لا تفعلوا! ردّوا عليّ قميصي أتوارى به في الجُبّ. فيقولون : ادعُ الشّمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك. فدلّوه في الجُبّ ، فلمّا بلغ نصفه ، ألقوه إرادة أنْ يموت. وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثمّ آوى إلى صخرة فقام عليها ، فنادوه ، فظنّ أنّهم رحموه فأجابهم ، فأرادوا أنْ يرضخوه بالحجارة ، فمنعهم يهوذا ، (وأوحينا إليه لَتُنَبّئَنّهُم بِأَمْرِهِمْ هذَا) : لتخبرنّهم بفعلهم بعد هذا الوقت ، وهو قوله : هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) إنّك يوسف. (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ) : عادوا إلى أبيهم (عشاء يبكون) ، فلمّا سمع بكاءهم فزع وقال : ما بالكم؟ (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ) : نتراكض ونترامى بالسّهام لنعرف أيُّنا السّابق (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا) : بمصدق لنا (وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى‏ قَميِصهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى‏ مَا تَصِفُونَ)قيل : إنّهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميصه ولم يُمزّقوه ، ولم يخطر ببالهم أنّ الذّئب إذا أكل إنساناً مزّق ثوبه. فقال لهم : أروني القميص. فلمّا رأى القميص صحيحاً ، قال : يا بَنيَّ ، والله ، ما عهدت كاليوم ذئباً أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يُمزّق ثوبه! ثمّ بكى بُكاءً طويلاً ، ثمّ أخذ القميص يُقبّله ويشمّه. هذا يعقوب مع أنّه نبيّ ابن أنبياء ، بكى لمّا رأى قميص ولده حتّى غُشي عليه ، وهو لم يتحقق موته. ساعد الله قلب أبي عبد الله الحسين (ع) الذي رأى ولده عليّاً الأكبر ، شبيه رسول الله (ص) بخلقه وخُلقه ، مُقطّعاً بالسّيوف ، مُجرّحاً بالرّماح والسّهام ، نادى : «قتل الله قوماً قتلوك يا بُني ، ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول! على الدّنيا بعدك العفا» :

كنتَ السّوادَ لناظري

فعليك يبكي النّاظرُ

مَن شاءِ بعدَك فليمُتْ

فعليك كنتُ اُحاذرُ

٢٠٨

المجلس الحادي بعد المئة

لمّا أذن الله تعالى بخروج يوسف (ع) من السّجن ، رأى الملك رؤيا هالته ؛ وذلك أنّه رأى (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ) بقرات (عجاف) : مهازيل ، فدخلت السّمان في بطون المهازيل ، ورأى (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) قد انعقد حَبّها ، (و) سبعاً (أُخَرَ يابسَاتٍ) فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبت عليها. فقصّ الملك رؤياه على قومه ، فأشكل عليهم تعبيرها ، وتذكّر الذي كان على شراب الملك رؤياه الّتي رآها في السّجن وعبّرها له يوسف ، فأخبرهم بها وطلب أنْ يرسلوه إلى يوسف ، فأرسلوه فسأله عن الرؤيا ، فقال : أمّا البقرات السّبع العِجاف والسّنابل السّبع اليابسات ، فالسّنون المُجدبة ؛ وأمّا السّبع السّمان والسّنابل السّبع الخضر ، فإنّهنّ سبع سنين مخصبات. فرجع الرّجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف ، (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) : أجعله خالصاً لنفسي فأرجع إليه في تدبير مملكتي. فلمّا أخرجوه من السّجن ، كتب على بابه : هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء. ثمّ إنّ يوسف اغتسل ولبس ثيابه وقصد الملك ، فلمّا دخل عليه وكلّمه ، عرف الملك فضله وأمانته وعقله ، (قَالَ إِنّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ) : ذو مكانة وقدر عظيم (أمين) : مأمون ثقة. فقال الملك : فما ترى من رؤياي أيّها الصدّيق؟ فقال : أرى أنْ تزرع زرعاً كثيراً في السّنين المخصبة ، وتخزن الطّعام بقصبه وسنبله ؛ لئلا يفسد ، وليكون قصبه وسنبله علفاً للدواب ، فتدفع إلى كلّ إنسان حصّته وتترك الباقي. فقال الملك : سل حاجتك. (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى‏ خَزَائِنِ الأَرْضِ) : يعني على الأنابير التي فيها الطّعام (إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) : كاتب حاسب. فأقبل يوسف على جمع الطّعام فكبسه في الخزائن ، فلمّا مضت السّنون المُخصبة وأقبلت المُجدبة ، أقبل يوسف على بيع الطّعام ، فباعهم في السّنة الأولى بالدّنانير والدّراهم حتّى لم يبقَ معهم شيء منها ، ثمّ في السّنة الثّانية بالحُليّ والجواهر ، ثمّ في السّنة الثّالثة بالدّواب والمواشي ، ثمّ في السّنة الرّابعة بالعبيد والإماء ، ثمّ في السّنة الخامسة بالدّور والعِقار ، ثمّ في السّنة السّادسة بالمزارع

٢٠٩

والأنهار ، ثمّ في السّنة السّابعة برقابهم حتّى استرقّهم جميعاً. وكان الملك قد فوّض إليه أمر المُلك ، فقال للملك : كيف رأيت صنع الله بي فيما خوّلني ، فما ترى؟ قال : الرأي رأيك. قال : إنّي اُشهد الله واُشهدك أنّي اعتقتهم عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم. وكان لا يبيع لأحدهم أكثر من حمل بعير ؛ عدلاً بين النّاس ، وكان لا يمتلي شبعاً من الطّعام في تلك الأيام المجدبة ، فقيل له : تجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال : أخاف أنْ أشبع فأنسى الجياع ، وهذا نظير قول أمير المؤمنين علي (ع) : «ولو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ ، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشّبع ، أوَ أبيت مُبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟! أوَ أكون كما قال القائل :

وحسبُك داءً أنْ تبيت ببطنةٍ

وحولك أكبادٌ تحنّ إلى القدِّ

أأقنع من نفسي بأنْ يُقال أمير المؤمنين ولا اُشاركهم في مكاره الدّهر ، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش؟». واقتدى به في ذلك ولده الحسين (ع) ، فقد وجُد على ظهره يوم الطفّ أثر ، فسُئل علي بن الحسين (ع) عن ذلك ، فقال : «هذا ممّا كان يحمل الجراب على ظهره إلى بيوت الأرامل واليتامى». ووجد على ظهر الحسين (ع) يوم الطفّ أثر آخر ، هو أوجع القلوب من هذا الأثر ، وهو أثر حوافر الخيل التي داست بحوافرها صدره الشّريف وظهره ؛ وذلك حين أمر ابن سعد عشرة فوارس أنْ يدوسوا بحوافر خيولهم صدره وظهره ؛ تنفيذاً لما أمر به ابن زياد ، وهم يقولون :

نحن رضضنا الصّدر بعد الظّهرِ

بكلّ يعبوبٍ شديدِ الأسرِ

فقال ابن زياد : مَن أنتم؟ قالوا : نحن الذين وطأنا بخيولنا جسد الحسين حتّى طحنّا جناجن صدره.

تطأ الصّواهلُ صدرَه وجبينَهُ

والأرضُ ترجفُ خيفةً وتضعضعُ

٢١٠

المجلس الثّاني بعد المئة

لمّا تمكّن يوسف بمصر وأصاب النّاس ما أصابهم من القحط ، نزل بآل يعقوب ما نزل بالنّاس ، فقال يعقوب لبنيه : بلغني أنّه يُباع الطّعام بمصر ، وأنّ صاحبه رجل صالح فاذهبوا إليه فإنّه سيحسن إليكم إنْ شاء الله. فجهّزهم وأمسك عنده بنيامين أخا يوسف لاُمّه ، فساروا حتّى وردوا مصر ، فدخلوا على يوسف فعرفهم ولم يعرفوه ؛ لتغيّر لبسه وبُعد عهدهم منه ؛ لأنّه كان بين قذفهم له في الجُبّ ودخولهم عليه أربعون سنة ، فكلّمهم بالعبرانية ، فقال لهم : مَن أنتم؟ فقالوا : نحن من أرض الشّام ، أصابنا الجهد فجئنا نمتار. فقال : لعلّكم جواسيس؟ فقالوا : لا والله ، وإنّما نحن إخوة بنو أب واحد ، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرّحمن ، ولو تعلم بأبينا لكرمنا عليك ، فإنّه نبي الله وابن أنبيائه وأنّه لمحزون. قال وما الذي أحزنه؟ قالوا : كان له ابن ، كان أصغرنا سنّاً ، خرج معنا إلى الصّيد فأكله الذّئب. فقال يوسف : كُلّكم من أبٍ واُمٍّ؟ قالوا : أبونا واحد واُمهاتنا شتّى. قال : فما حمل أباكم على أنْ حبس منكم واحداً؟ قالوا : لأنّه أخو الذي هلك من اُمّه ؛ فأبونا يتسلّى به. قال : فمَن يعلم أنّ قولُكم حقّ؟ قالوا : إنّا ببلاد لا يعرفنا أحد. قال : فائتوني بأخيكم الذي من أبيكم وأنا أرضى بذلك. قالوا : إنّ أبانا يحزن على فراقه وسنُراوده عنه. قال : فدعوا عندي رهينة. فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون فتركوه عنده ، وقال لفتيانه : إجعلوا بضاعتهم التي جاؤوا بها ثمن الطّعام في أوعيتهم ؛ وإنّما فعل ذلك إكراماً لهم ليرجعوا إليه. فلمّا دخلوا على يعقوب ، قال : مالي لا أسمع فيكم صوت شمعون؟ فقالوا : يا أبانا جئناك من عند أعظم النّاس ملكاً ، ولم يرَ النّاس مثله حَكماً وعلماً وخشوعاً وسكينة ووقاراً ، ولئن كان لك شبيه فإنّه يشبهك ، ولقد أكرمنا كرامة لو أنّه بعض أولاد يعقوب ما زاد على كرامته ، ولكنّا أهلُ بيتٍ خُلقنا للبلاء ، إنّه اتهمنا وزعم أنّه لا يُصدّقنا حتّى ترسل معنا بنيامين ، وأنّه ارتهن شمعون ، وقال : ائتوني بأخيكم (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ ءَأَمَنُكُمْ عَلَيْهِ الاّ

٢١١

كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى‏ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى‏ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنّنِي بِهِ الاّ أنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمّا ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى‏ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) فأرسله معهم وفعلوا كما قال ، فلمّا دخلوا على يوسف ، قالوا : هذا أخونا الّذي أمرتنا أنْ نأتيك به. فأكرمهم وأضافهم ، وقال : ليجلس كلّ بني اُمّ على مائدة. فجلسوا وبقي بنيامين قائماً وحده فبكى ، فقال له يوسف : ما لك لا تجلس؟ قال : إنّك قُلت ليجلس كلّ بني اُمّ على مائدة ، وليس لي فيهم ابن اُم. قال يوسف : فما كان لك ابن اُم؟ قال : بلى. قال : فما فعل؟ قال : زعم هؤلاء أنّ الذّئب أكله. قال : فما بلغ من حزنك عليه؟ قال : ولد لي أحد عشر إبناً ، كُلُهم اشتققت له إسماً من اسمه. فقال له يوسف : تعال فاجلس معي على مائدتي. فقال إخوته : لقد فضّل الله يوسف وأخاه حتّى أنّ الملك قد أجلسه معه على مائدته. فلمّا كان الليل جاؤوهم بالفرش ، وقال : لينم كلّ أخوين منكم على فراش ، وبقي بنيامين وحده ، فقال يوسف : هذا ينام معي. فبات معه على فراشه وذكر له بنيامين حزنه على يوسف ، فقال له : أتحب أنْ أكون أخاك عوض أخيك الذّاهب؟ فقال بنيامين : ومَن يجد أخاً مثلك ، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل؟ فبكى يوسف وقام إليه فعانقه ، وقال : (إِنّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي : فلا تحزن لشيء سلف منهم. هذا يوسف بكى لمّا جمع الله شمله بأخيه بنيامين ، وكان المقام مقام فرح وسرور لا مقام حزن وبُكاء ، لكن غلبت الرّقة من يوسف (ع) فتذكّر ما سلف من فراق أبيه وأخيه فبكى ، ولا أحد أعزّ على المرء بعد أبويه من الأخ لا سيّما إذا كان الأخ من أعاظم الرّجال ، ولكن أين مقام يوسف الصدّيق من مقام أبي عبد الله الحسين (ع) حين وقف على أخيه أبي الفضل العباس ، فرآه مقطوع اليدين ، مطروحاً على وجه الأرض ، مرضوخ الجبين ، مشكوك العين بسهم ، مُقطّعاً بسيوف الأعداء؟! فوقف عليه مُنحنياً وبكى بكاءً شديداً ، وجلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه الزّكية. ثمّ حمل على القوم فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً ، فيفرّون من بين يديه كما تفرّ المعزى إذا شدّ فيها الذّئب ، وهو يقول : «أين تفرّون وقد قتلتم أخي؟ أين تفرون وقد فتتم عَضدي؟».

إنّي لأذكر للعبّاسِ موقفَهُ

بكربلاءَ وهام القوم تختطفُ

ولا أرى مشهداً يوماً كمشهدهِ

مع الحسين عليه الفضلُ والشّرفُ

٢١٢

المجلس الثّالث بعد المئة

لمّا جاء إخوة يوسف بأخيهم بنيامين إلى يوسف ، قال له يوسف : أنا اُحب أنْ تكون عندي. فقال : لا يدعني إخوتي ؛ فإنّ أباهم قد أخذ عليهم عهد الله وميثاقه أنْ يردّوني إليه. قال : فأنا أحتال بحيلة فلا تنكر إذا رأيت شيئاً ولا تخبرهم. (فَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ) أي : أعطاهم ما جاؤوا لطلبه من الميرة ، أمر فجعل الصّاع في متاع أخيه وكان من ذهب ، وقيل من فضة. فلمّا ارتحلوا ، بعث إليهم وحبسهم ، ثمّ أمر مُنادياً يُنادي : (أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ). فقال : أصحاب العير : (ماذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ). وقال المُنادي : مَن جاء بالصّاع فله حمل بعير من الطّعام (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) : كفيل ضامن. فقال إخوة يوسف : (تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنّا سَارِقِينَ) وكان حين دخلوا مصر وجدهم قد شدّوا أفواه دوابهم ؛ لئلا تأكل من الزّرع (قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنتُم كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ) وكان جزاء السّارق عند آل يعقوب أنْ يُستخدم ويُسترق (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دينِ الْمَلِكِ الاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نّشَاءُ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَبْلُ) وكانت سرقة يوسف أنّ عمّته كانت تحضنه بعد وفاة اُمّه وتحبه حُبّاً شديداً ، فلمّا كبر أراد يعقوب أنْ يأخذه منها ـ وكانت أكبر ولد إسحاق وكانت عندها منطقة إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر ـ فاحتالت وشدّت المنطقة على وسط يوسف وأدّعت أنّه سرقها ، وكان من سنّتهم استرقاق السّارق ، فحبسته عندها بذلك السّبب. (قالوا يا أيّها العزيز ، إنّ له أباً شيخاً كبيراً فَخُذ أحدنا مكانه ، إنّا نراك من المُحسنين. قال : معاذ الله أنْ نأخذ إلاّ مَن وجدنا متاعنا عنده ؛ إنّا إذاً لظالمون). فرجع إخوة يوسف إلى أبيهم فأخبروه بحبس بنيامين ، فهاج ذلك وجده بيوسف ؛ لأنّه كان يتسلّى به (وَقَالَ يَا أَسَفَى‏ عَلَى‏ يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَينَاهُ مِنَ الحزن) والبُكاء (فهو كظيم) : مملوء من الهمّ والحزن ، فقال له أولاده : (تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنّمَا أَشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إلى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ). هذا يعقوب (ع)

٢١٣

وهو نبيّ ابن نبي ، قد بكى على فراق ولده يوسف وهو حيّ في دار الدّنيا حتّى ابيضّت عيناه وذهب بصره ، وحتّى قيل له : (تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ). ساعد الله قلب أبي عبد الله الحسين (ع) الذي نظر إلى ولده وقرّة عينه علي الأكبر ، شبيه رسول الله (ص) في خلقه وخُلقه ، مُقطّعاً بالسّيوف إرباً إرباً. وكان علي بن الحسين زين العابدين (ع) شديد الحزن والبُكاء على مصيبة أبيه الحسين (ع) ، فقال له بعض مواليه : يا سيّدي ، أما آن لحزنك أنْ ينقضي ولبكائك أنْ يقلّ؟ فقال له : «ويحك ، إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيّاً ابن نبيّ ، له أثنا عشر إبناً ، فغيّب الله واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغمّ وذهب بصره من البُكاء ، وابنه حيٌّ في دار الدّنيا. وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي؟!».

هذي المصائب لا ما كان من قدمٍ

لآل يعقوبَ من حزنٍ ومن كربِ

أنّى يضاهي ابنَ طه أو يُماثله

في الحزن يعقوبُ في نسلٍ وفي عقبِ

٢١٤

المجلس الرّابع بعد المئة

كان هاشم بن عبد مُناف جدّ النّبي (ص) جواداً كريماً عظيماً في قومه ، وأسمه عمرو ، وإنّما سُمّي هاشماً ؛ لأنّه أول من هشم الثّريد وأطعمه النّاس ، وفيه يقول الشّاعر :

يا أيّها الرّجلُ المحوّلُ رحلَهُ

هلاّ نزلت بآل عبد منافِ

هبلتك اُمّك لو نزلت بحيّهمْ

أمنوك من جوعٍ ومن أقرافِ

الخالطون غنيَّهم بفقيرهمْ

والقائلون هلُمّ للأضيافِ

عمرو العُلا هشم الثّريد لقومهِ

ورجالُ مكّة مسنتونَ عجاف!

بسطوا إليه الرّحلتين كليهما

عند الشّتاء ورحلة الأصيافِ

وكان قد تزوج سلمى بنت عمرو من بني النجّار من أهل المدينة ، فلمّا حملت بعبد المطّلب ، سافر هاشم تاجراً إلى غزّة من بلاد الشّام واستخلف عنه أخاه المطّلب ، ومات هاشم في سفره ذلك ودُفن بغزّة ، فولدت سلمى عبد المطّلب ، واسمه شيبةُ الحمد ، وإنّما سُمّي عبد المطّلب ؛ لأنّ عمّه المطّلب لمّا كبر أراد أخذه إلى مكّة ، فامتنعت اُمّه وأخواله من تسليمه ، فواعده مكاناً وأخذه خفية وأركبه خلفه ، فكان إذا سُئل عنه يقول : هذا عبدي ، فسُمّي عبد المطّلب. ولمّا حضرت هاشماً الوفاة ، قال لعبيده : سنّدوني وائتوني بدواة وقُرطاس. فأتوه بما طلب وجعل يكتب وأصابعه ترتعد ، فقال : باسمك اللهمّ ، هذا كتاب كتبه عبد ذليل جاءه أمر مولاه بالرّحيل. أمّا بعد ، فإنّي كتبت إليكم هذا الكتاب وروحي بالموت تجاذب ؛ لأنّه ما لأحد من الموت مهرب ، وإنّي قد انفذت إليكم أموالي فتقاسموها بينكم بالسويّة ، ولا تنسوا البعيدة عنكم التي أخذت نوركم وحوت عزّكم سلمى ، واُوصيكم بولدي الذي منها. وقولوا لخلادة وصفية ورقية يبكين عليّ ويندبنّني ندب الثّاكلات ، ثمّ بلّغوا سلمى عنّي السّلام ، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته إلى يوم النّشور. ثمّ لمّا مات ، جهّزوه ودفنوه في غزّة ، وفيه يقول الشّاعر :

٢١٥

وهاشمٌ في فلاةٍ وسط بلقعةٍ

تسفي عليه الرّياح عند غزّات

ثمّ عزم عبيد هاشم وغُلمانه على الرّحيل بامواله ، فلمّا أشرفوا على يثرب ، بكوا بُكاء شديداً ونادوا : وا هاشماه! وا عزّاه! وخرج النّاس ، وخرجت سلمى وأبوها وعشيرتها ، وإذا بخيل هاشم قد جزّوا نواصيها وشعورها ، وعبيد هاشم يبكون ، فلمّا سمعت سلمى بموت هاشم ، مزّقت أثوابها ولطمت خدّها ، وقالت : وا هاشماه! مات والله ، لفقدك الكرم والعز ، وا هاشماه! يا نور عيني ، مَن لولدك الذي لم تره عيناك؟! فضجّ النّاس بالبُكاء والنّحيب. ثمّ إنّ سلمى أخذت سيفاً من سيوف هاشم وعطفت به على ركابه وعقرتها عن آخرها ، وقالت لوصي هاشم : اقرأ المطّلب عنّي السّلام وقُل له : إنّي على عهد أخيه ، وأنّ الرّجال بعده عليّ حرام. هكذا فعلت سلمى بعد موت بعلها هاشم ، ويحقّ لها أنْ تفعل ذلك على موت من خرج من صُلبه سيّد ولد آدم. أتدرون ما فعلت رباب زوجة أبي عبد الله الحسين (ع) بعد رجوعها إلى المدينة؟ فإنّها آلت على نفسها أنْ لا تستظلّ تحت سقف ، وعاشت بعد الحسين (ع) سنة ، ثمّ ماتت كمداً وحُزناً على الحسين (ع). وخطبها الأشراف من قريش ، فقالت : والله ، لا كان لي حمو بعد رسول الله (ص). ولمّا اُدخلت مع النّساء على يزيد بن معاوية ، ورأت الرّأس الشّريف بين يديه ، أخذت الرّأس ووضعته في حجرها وقبّلته ، وقالت :

واحسينا فلا نسيتُ حسيناً

أقصدته أسنّة الأعداءِ

غادروه بكربلاءَ صريعاً

لا سقى الله جانبي كربلاءِ

وممّا قالته في رثاء الحسين (ع) كما عن الأغاني :

إنّ الذي كان نوراً يُستضاءُ بهِ

بكربلاء قتيلٌ غير مدفونِ

قد كنتَ لي جبلاً صعباً ألوذُ بهِ

وكنتَ تصحبنا بالرّحمِ والدينِ

مَن لليتامى ومَن للسائلين ومَن

يغني ويؤوي إليه كُلّ مسكينِ

والله لا أبتغي صهراً بصهركمُ

حتّى اُغيّب بين الرّمل والطّينِ

٢١٦

المجلس الخامس بعد المئة

لمّا بعث اللهُ تعالى نبيّه (ص) بالرّسالة ، وذلك يوم الاثنين في السّابع والعشرين من شهر رجب وكان عمره أربعين سنة ، أنزل الله تعالى عليه : (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) فجمع رسول الله (ص) بني هاشم وهم نحو أربعين رجلاً ، ثمّ قال لهم : «إنّي بُعثتُ إلى الأسود والأبيض والأحمر ، وأنّ الله عزّ وجل أمرني أنْ أنذر عشيرتي الأقربين ، وأنّي لا أملك لكم من الله حظّاً إلاّ أنْ تقولوا لا إله إلاّ الله». فقال له أبو لهب : لهذا دعوتنا؟ ثمّ تفرّقوا عنه ، فأنزل الله عليه : (تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ) إلى آخر السّورة. ثمّ دعاهم دفعة ثانية ، ثمّ قال لهم : «أيكُم يكن أخي ووزيري ووصيي ووارثي وقاضي ديني؟». فقال أمير المؤمنين (ع) ، وهو أصغر القوم سنّاً : «أنا يا رسول الله». وفي رواية أنّه قال : «فمَن يُجيبني إلى هذا الأمر ويوازرني على القيام به ، يكُن أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي». فلم يجبه أحد منهم ، فقام أمير المؤمنين (ع) وهو أصغرهم ، وقال : «أنا يا رسول الله اُوازرك على هذا الأمر». فقال : «اجلس» حتّى قال ذلك ثلاثاً ، وفي كُلّ مرّة يقوم أمير المؤمنين (ع) وهم سكوت ، فقال : «اجلس ، فأنت أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي». فنهض القوم وهم يقولون لإبي طالب مستهزئين ، ليهنك اليوم أنْ دخلت في دين ابن أخيك فقد جعل ابنك أميراً عليك! وروي أنّه جمعهم مرّة خمسة وأربعين رجلاً وفيهم أبو لهب ، فظنّ أبو لهب أنّه يُريد أنْ ينزع عمّا دعاهم إليه ، فقام إليه فقال له : يا محمّد ، هؤلاء عمومتك وبنو عمّك قد اجتمعوا فتكلّم ، واعلم أنّ قومك ليست لهم بالعرب طاقة. فقام (ص) خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «إنّ الرّائد لا يكذب أهله ، والله الذي لا إله ألاّ هو ، أنّي رسول الله إليكم حقّاً خاصة وإلى النّاس عاُمّة. والله ، لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقضون ، ولتحاسبن كما تعلمون ، ولتجزون بالإحسان إحساناً ، وبالسوء سوءاً ، وأنّها الجنّة أبداً والنّار أبداً. إنّكم أوّل من اُنذرتم». فآمن به قوم من عشيرته ، وكان أوّل من آمن به علي بن ابي طالب (ع). بُعث رسول الله (ص) يوم

٢١٧

الاثنين ، وأسلم علي (ع) يوم الثّلاثاء ، ثمّ أسلمت خديجة بنت خويلد اُمّ المؤمنين. روى ابن عبد البر في الإستيعاب بسنده عن عفيف الكندي قال : كنت أمرأً تاجراً ، فقدمت الحجّ فأتيت العبّاس بن عبد المطّلب لأبتاع منه بعض التّجارة ، وكان أمرأً تاجراً ، فوالله ، إنّي لَعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه ، فنظر إلى الشّمس فلمّا رآها قد مالت قام يُصلّي ، ثمّ خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرّجل فقامت خلفه تُصلّي ، ثمّ خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه يُصلّي ، فقلت للعباس : مَن هذا يا عباس؟ قال هذا محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب ابن أخي. قلت مَن هذه المرأة؟ قال : امراته خديجة بنت خويلد. قلت : مَن هذا الفتى؟ قال : علي بن ابي طالب (ع) ابن عمّه. قلت : ما هذا الذي يصنع؟ قال : يُصلّي ، وهو يزعم أنّه نَبيّ ، ولم يتبعه على أمره ألاّ امرأته وابن عمّه هذا الغلام ، وهو يزعم أنّه سيفتح على اُمّته كنوز كسرى وقيصر. قال : فكان عفيف الكندي يقول ـ وقد أسلم بعد ذلك وحسُن اسلامه ـ : لو كان الله رزقني الإسلام يومئذٍ كنت أكون ثانياً مع علي. وما زال علي (ع) مع كونه أوّل مَن آمن برسول الله (ص) وصدّقه ، مُلازماً له باذلاً في نصره مُهجته ، وبسيفه قامت دعائم الإسلام وهُدّت أركان الشّرك ، وحسبُك أنّه في يوم بدر قَتل نصف مَن قُتل من المُشركين ، وقتل الملائكة وسائر المُسلمين الباقي ، وثبت في يوم اُحد بعدما انهزم النّاس عن رسول الله (ص) يذبّ عنه ويُقاتل بين يديه بعدما قتل أصحاب اللواء كلّهم ، وكُلمّا أقبل جماعة من المُشركين إلى رسول الله (ص) ، يقول لعلي (ع) : «احمل عليهم». فيشدّ عليهم بسيفه ويُفرّقهم ويقتل فيهم ، ونادى جبرائيل في ذلك اليوم : (لا سيف إلاّ ذو الفقّار ولا فتى إلاّ علي). وبرز إلى عمرو بن عبد ودّ يوم الخندق فقتله بعدما جبُن عنه النّاس كلّهم ، والنّبي (ص) يدعوهم إلى مُبارزته ، وهم مُطرقون كأنّما على رؤوسهم الطّير ، وفتح حصن خيبر وقتل مرحباً وقلع الباب الذي عجز الجمّ الغفير عن قلعه ؛ ولذلك لمّا قال يزيد لعلي بن الحسين (ع) لمّا اُتي به إلى الشّام بعد قتل أبيه الحسين (ع) : يابن الحسين ، أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سُلطاني فصنع الله به ما قد رأيت. قال له علي بن الحسين (ع) بعد كلام : «يابن معاوية وهند وصخر ، لقد كان جدّي علي بن ابي طالب في يوم بدر واُحد والأحزاب في يده راية رسول الله (ص) ، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكُفّار». ثمّ قال علي بن الحسين (ع) : «ويلك يا يزيد! إنّك لو تدري ماذا صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي ، إذاً لهربت في الجبال وافترشت الرّماد ودعوت بالويل والثّبور ، أنْ يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعلي منصوباً على باب مدينتكم ، وهو وديعة رسول الله (ص) فيكم؟!».

٢١٨

ألا يابن هندٍ لا سقى الله تربةً

ثويت بمثواها ولا اخضرّ عودُها

أتسلبُ أثواب الخلافة هاشماً

وتطردُها عنها وأنت طريدُها

٢١٩

المجلس السّادس بعد المئة

روى الكُليني في الكافي بسنده عن الامام الصّادق (ع) قال : بينا النّبي (ص) في المسجد الحرام وعليه ثياب له جدد ، ألقى المُشركون عليه سِلا ناقة فملؤوا ثيابه بها ، فدخله من ذلك ما شاء الله ، فذهب إلى أبي طالب فقال له : «يا عم ، كيف ترى حَسبي فيكم؟». فقال له : وما ذاك يا بن أخي؟ فأخبره ، فدعا أبو طالب حمزة وأخذ السّيف وقال لحمزة : خُذ السّلا. ثُمّ توجّه إلى القوم والنّبي (ص) معه ، فأتى قريشاً وهم حول الكعبة ، فلمّا رأوه عرفوا الشرّ في وجهه ، ثُمّ قال لحمزة : أمر السّلا على سبالهم : أي شواربهم. ففعل ذلك حتّى أتى على آخرهم ، ثُمّ التفت أبو طالب إلى النّبي (ص) ، فقال : يابن أخي ، هذا حُسبك فينا. ولم يزل أبو طالب مُحامياً عن رسول الله (ص) وناصراً له ودافعاً عنه أذّى قريش وجبابرتهم حتّى توفّاه الله ، وهو القائل للنبي (ص) :

تالله لن يصلوا إليك بجمعهمْ

حتّى اُوسّد في التّراب دفينا

ودعوتني وزعمت أنّك ناصحٌ

ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا

فأين كان أبو طالب وأخوه حمزة بن عبد المطّلب عن حفيدهما الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) حين تألّب عليه أحفاد اُولئك المُشركين ، فأزعجوه عن حرم جدّه رسول الله (ص) إلى حرم الله؟! وأزعجوه عن حرم الله حتّى أحلّوه بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، وحالوا بينه وبين ماء الفُرات ، وأرادوا أنْ يحولوا بينه وبين رحله الذي فيه حرمه حتّى قال لهم : «يا شيعة آل أبي سُفيان ، إنْ لم يكُن لكُم دين ، وكُنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عرباً كما تزعمون». وما كان وضع السّلا على ثياب رسول الله بأوجع لقلب رسول الله (ص) ، وأبي طالب وحمزة من إجراء الخيل على جسد ريحانة رسول الله (ص) حتّى هشّمت الخيل بسناكبها أضلاعه ، وطحنت جنان صدره.

٢٢٠