المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

المجلس التاسع والسّبعون

لمّا قُتل الحسين (ع) صعد ابن زياد المنبر ، فقال : الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله ، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه ، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب وشيعته. فما زاد على هذا الكلام شيئاً حتّى قام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ـ وكان من خيار الشّيعة وزهّادها وكانت عينُه اليسرى ذهبت في حرب الجمل والاُخرى في يوم صفّين ، وكان يُلازم المسجد الأعظم يصلّي فيه إلى الليل ثمّ ينصرف ـ فقال : يابن مرجانة ، إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت وأبوك ومَن استعملك وأبوه. يا عدوّ الله ، أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المسلمين؟! فغضب ابن زياد وقال : مَن هذا المتكلّم؟ فقال : أنا المتكلّم يا عدوّ الله ، أتقتل الذرّيّة الطاهرة التي قد أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيراً ، وتزعم أنّك على دين الإسلام؟! وآغوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار ينتقمون منك ومن طاغيتك اللّعين ابن اللّعين على لسان محمّد رسول ربّ العالمين؟ فازداد غضب ابن زياد حتّى انتفخت أوداجُه وقال : عليّ به. فتبادرت إليه الجلاوزة من كلّ ناحية ليأخذوه ، فقامت الأشراف من الأزد من بني عمّه فخلّصوه منهم وأخرجوه من باب المسجد وانطلقوا به إلى منزله. فقال ابن زياد : اذهبوا إلى هذا الأعمى أعمى الأزد ، أعمى الله قلبه كما أعمى عينيه ، فائتوني به. فلمّا بلغ ذلك الأزد اجتمعوا واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم ، وبلغ ذلك ابن زياد فجمع قبائل مضر وضمّهم إلى محمّد بن الأشعث وأمره بقتال القوم ، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتّى قتل بينهم جماعة من العرب ، ووصل أصحاب ابن زياد إلى دار عبد الله بن عفيف فكسروا الباب واقتحموا عليه ، فصاحت ابنته : أتاك القوم من حيث تحذر. فقال : لا عليك ، ناوليني سيفي. فناولته إيّاه ، فجعل يذبّ عن نفسه ويقول :

أنا ابنُ ذي الفضلِ عفيفِ الطّاهرِ

عفيفُ شيخي وابنُ اُمِّ عامرِ

١٦١

كمْ دارعٍ منْ قومِكُمْ وحاسرِ

وبطلٍ جدّلتُهُ مُغاورِ

وجعلت ابنته تقول : يا أبت ، ليتني كنت رجلاً اُخاصم بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة ، قاتِلي العترة البررة. وجعل القوم يدورون عليه من كلّ جهة وهو يذبّ عن نفسه ، فليس يقدم عليه واحد ، وكلمّا جاؤوه من جهة قالت ابنته : يا أبت جاؤوك من جهة كذا حتّى تكاثروا عليه وأحاطوا به ، فقالت ابنته : وآذلاّه! يُحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به. فجعل يدير سيفه ويقول :

اُقسمُ لو يُفسحُ ليْ عنْ بَصرِي

ضاقَ عليكُمْ موْرِدي ومصدَري

قال : فما زالوا به حتّى أخذوه ، ثمّ حُمل فاُدخل على ابن زياد ، فلمّا رآه قال : الحمد لله الذي أخزاك. فقال له عبد الله : يا عدوّ الله ، وبماذا أخزاني؟

اُقسمُ لو يُفسحُ ليْ عنْ بَصرِي

ضاقَ عليكُمْ موْرِدي ومصدَري

فقال له ابن زياد : يا عدوّ الله ، ما تقول في عثمان بن عفّان؟ قال : يا عبد بني علاج ، يابن مرجانة ، ـ وشتمه ـ ما أنت وعثمان ، أساء أم أحسن وأصلح أم أفسد؟ والله تبارك وتعالى وليّ خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحقّ ، ولكن سلني عن أبيك وعنك وعن يزيد وأبيه. فقال ابن زياد : والله ، لا أسألك عن شيء أو تذوق الموت غصّة بعد غصّة. فقال عبد الله بن عفيف : الحمد لله ربّ العالمين ، أما إنّي قد كنت أسأل الله ربّي أنْ يرزقني الشّهادة من قبل أنْ تلدك اُمّك ، وسألتُ الله أنْ يجعل ذلك على يد ألعن خلقه وأبغضهم إليه ، فلمّا كفّ بصري يئستُ من الشّهادة ، والآن فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها ، وعرّفني الإجابة منه في قديم دعائي. فقال ابن زياد : اضربوا عنقه. فضُربت عنقه وصُلب في السّبخة.

أبَتْ الحميّةُ أنْ تُفارقَ أهلَها

وأبَى العزيزُ بأنْ يعيشَ ذَليلا

فيا وقعةً لمْ يُوقعْ الدّهرُ مثلَها

وفادحةً تُنسى لديها فوادحُهْ

١٦٢

المجلس الثمانون

لمّا جيء برأس الحسين (ع) إلى ابن زياد بالكوفة ، أمر ابن زياد فطيف به في سكك الكوفة كلّها وقبائلها ، ولمّا فرغ القوم من التطواف به في الكوفة ، ردّوه إلى باب القصر. وكتب ابن زياد إلى يزيد يخبره بقتل الحسين (ع) وخبر أهل بيته ، وتقدّم إلى عبد الملك بن الحارث السلمي فقال : انطلق حتّى تأتي عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة ـ وكان أميراً عليها وهو من بني اُميّة ـ فتُبشّره بقتل الحسين ، وقال : لا يسبقنّك الخبر إليه. قال عبد الملك : فركبت راحلتي وسرت نحو المدينة ، فلقيني رجل من قريش فقال : ما الخبر؟ قلت : عند الأمير تسمعه. قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون قُتل والله الحسين. ولمّا دخلت على عمرو بن سعيد ، قال : ما وراءك؟ قلت : ما يسرّ الأمير ، قُتل الحسين بن علي. فقال : اخرج فنادِ بقتله. فناديت فلم أسمع واعية قط مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن علي حين سمعوا النّداء بقتله ، فدخلت على عمرو بن سعيد فلمّا رآني تبسّم إلي ضاحكاً ، ثمّ تمثّل بقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي ، وقيل : إنّه لمّا سمع أصوات نساء بني هاشم ضحك وتمثّل بذلك ، فقال :

عجّتْ نِساءُ بَني زيادٍ عجّةً

كعجيجِ نِسوَتِنا غداةَ الأرنَبِ

ثم قال عمرو : هذه واعية بواعية عثمان. ثمّ صعد المنبر وخطب النّاس وأعلمهم قتل الحسين (ع) وقال في خطبته : إنّها لدمَة بلدمة وصدمة بصدمة ، كم خطبة بعد خطبة وموعظة بعد موعظة ، حكمة بالغة فما تغني النّذر ، والله لوددت أنّ رأسه في بدنه وروحه في جسده ، أحياناً كان يسبّنا ونمدحه ، ويقطعنا ونصله كعادتنا وعادته ، ولمْ يكن من أمره ما كان ، ولكن كيف نصنع بمَن سلّ سيفه يريد قتلنا إلاّ أنْ ندفعه عن أنفسنا. فقام عبد الله بن الصائب فقال : لو كانت فاطمة عليها‌السلام حيّة فرأت رأس الحسين (ع) لبكت عليه. فجبهه عمرو بن سعيد وقال : نحن أحقّ بفاطمة منك ؛ أبوها عمّنا وزوجها أخونا وابنها ابننا لو

١٦٣

كانت فاطمة حيّة لبكت عينها وحرّت كبدها ، وما لامت مَن قتله ودفعه عن نفسه. وخرجت اُمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين (ع) حاسرةً ومعها أخواتها ؛ اُمّ هانئ وأسماء ورملة وزينب بنات عقيل بن أبي طالب تبكي قتلاها بالطفّ ، وهي تقول :

ماذا تقولونَ إنْ قال النّبيُّ لكُمْ

ماذا فعلتُمْ وأنتُمْ آخِرَ الاُمَمِ

بعترَتي وبأهلي بعدَ مُفتَقَدي

منهُمْ اُسارى وقتلى ضُرّجوا بدَمِ

١٦٤

المجلس الحادي والثمانون

كان ابن زياد كتب إلى يزيد كتاباً يُخبره فيه بقتل الحسين (ع) ، فلمّا وصل إليه الكتاب أجابه يأمره بحمل رأس الحسين (ع) ورؤوس مَن قُتل معه ، وحمل أثقاله ونسائه وعياله إلى الشام. فأرسل ابن زياد الرؤوس مع زحر بن قيس ، ثمّ أمر بنساء الحسين (ع) وصبيانه فجُهّزوا وأمر بعلي بن الحسين عليهما‌السلام فغُلّ إلى عنُقه ، وفي رواية : في يدَيه ورقبته ، ثمّ سرّح بهم في أثر الرؤوس مع محفر بن ثعلبة العائدي وشمر بن ذي الجوشن ، وحملهم على الأقتاب وساروا بهم كما يسار بسبايا الكفّار ، فانطلق بهم حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرؤوس ، فلم يُكلّم علي بن الحسين عليهما‌السلام أحداً منهم في الطريق بكلمة حتّى بلغوا دمشق. فلمّا انتهوا إلى باب يزيد ، رفع محفر صوته فقال : هذا محفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة. فأجابه علي بن الحسين عليهما‌السلام : «ما ولدت اُمّ محفر أشرّ». وسمع يزيد غراباً ينعب فأنشد :

لمّا بَدتْ تلك الحُمولُ وأشرَقتْ

تلك الشُّموسُ على رُبى جَيرونِ

نعبَ الغُرابُ فقلتُ صِحْ أو لا تَصحْ

فلقدْ قضيتُ من الغريمِ دِيوني

ولمّا قربوا من دمشق ، دنت اُمّ كلثوم من شمر فقالت له : لي إليك حاجة. فقال : ما حاجتك؟ قالت : إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظّارة ، وتقدّم إليهم أنْ يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها ؛ فقد خُزينا من كثيرة النّظر إلينا ونحن في هذه الحال. فأمر ـ في جواب سؤالها ـ أنْ تُجعل الرؤوس على الرّماح في أوساط المحامل ؛ بغياً منه وكفراً ، وسلك بهم بين النظّارة على تلك الصفة حتّى أتى بهم باب دمشق ، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي. وجاء شيخ فدنا من نساء الحسين (ع) وعياله ، وقال : الحمد لله الذي أهلككم وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم. فقال له علي بن الحسين عليهما‌السلام : «يا شيخ ، هل قرأت القرآن؟». قال : نعم

١٦٥

قال : «فهل عرفت هذه الآية : (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى) قال : قد قرأت ذلك. فقال له علي (ع) : «فنحن القربى يا شيخ. فهل قرأت في سورة بني إسرائيل : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى‏ حَقّهُ) فقال : قد قرأت ذلك. فقال علي (ع) : «فنحن القربى يا شيخ. فهل قرأت الآية :(واعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنّ للّهِ‏ِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) قال : نعم. فقال علي (ع) «فنحن القربى يا شيخ. ولكن هل قرأت : (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً) قال : قد قرأت ذلك. فقال علي (ع) : «فنحن أهل البيت الذين خصّنا الله بآية الطهارة يا شيخ». قال : فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به ، وقال : بالله إنّكم هم؟ فقال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «تالله ، إنّا لنحن هم من غير شكّ وحقّ جدِّنا رسول الله (ص) إنّا لنحن هم». فبكى الشيخ ورمى عمامته ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وقال : اللهمَّ ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد. ثمّ قال : هل لي من توبة؟ فقال (ع) له : «نعم ، إنْ تبتَ تاب الله عليك وأنت معنا». فقال : إنّي تائب. فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر به فقُتل.

وأجلُّ يومٍ بعد يومِكَ حلَّ في الْإسلامِ

منهُ يشيبُ كلُّ جَنينِ

يومٌ سَرتْ أسرَى كما شاءَ العِدى

فيهِ الفواطمُ من بني ياسينِ

لا طابَ عيشُكَ يا زمانُ ولا جَرتْ

أنهارُ مائِكَ للورَى بمعينِ

١٦٦

المجلس الثاني والثمانون

عن سهل بن سعد أنّه قال : خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسطت الشام ، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار كثيرة الأشجار وقد علّقوا السّتور والحُجب والديباج وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول ، فقلت في نفسي : ترى لأهل الشام عيد لا نعرفه نحن! فرأيت قوماً يتحدّثون فقلت : يا قوم ، ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟ قالوا : يا شيخ ، نراك غريباً. فقلت : أنا سهل بن سعد قد رأيت محمّداً (ص). قالوا : يا سهل ، ما أعجب السّماء لا تمطر دماً والأرض لا تنخسف بأهلها! قلت : ولِم ذاك؟ قالوا : هذا رأس الحسين عترة محمّد (ص) يُهدى من أرض العراق. فقلت : وآ عجباً يُهدى رأس الحسين (ع) والنّاس يفرحون! وقلت : من أيّ باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب السّاعات ، فبينا أنا كذلك حتّى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً ، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السّنان عليه رأس من أشبه النّاس وجهاً برسول الله (ص) ، فإذا من ورائه نسوة على جمال بغير وطاء ، فدنوت من اُولاهن فقلت : يا جارية ، مَن أنت؟ فقالت : أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها : ألك حاجة إليّ فأنا سهل بن سعد ممَّن رأى جدّك وسمعت حديثه؟ قالت : يا سهل ، قُل لصاحب هذا الرأس أنْ يُقدّم الرأس أمامنا حتّى يشتغل النّاس بالنظر إليه ، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله (ص). قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس فقلت له : هل لك أنْ تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمئة دينار؟ قال : ما هي؟ قلت : تقدّم الرأس أمام الحرم. ففعل ذلك ودفعت إليه ما وعدته. وروي أنّ بعض فضلاء التابعين ، وهو خالد بن معدان ، لمّا شاهد رأس الحسين (ع) بالشام ، أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه ، فلمّا وجدوه بعد إذ فقدوه وسألوه عن سبب ذلك ، فقال : ألا ترون ما نزل بنا؟! ثمّ أنشأ يقول :

جاؤوا برأسِكَ يابنَ بنتِ محمّد

مُترمّلاً بدمائِهِ تَرمِيلا

١٦٧

وكأنّما بكَ يابنَ بنتِ محمّد

قَتلوا جَهاراً عامِدينَ رَسُولا

قتلُوكَ عَطشاناً ولمّا يَرقُبوا

في قتلِكَ التّأويلَ والتّنْزيلا

ويُكبّرونَ بأنْ قُتلتَ وإنّما

قتلوا بكَ التّكبيرَ والتّهليلا

١٦٨

المجلس الثالث والثمانون

لمّا اُدخل ثقل الحسين (ع) ونساؤه ومَن تخلّف من أهله على يزيد ، وهم مقرونون في الحبال وزين العابدين (ع) مغلول ، ووقفوا بين يدَيه وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين عليهما‌السلام : «اُنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (ص) لو رآنا على هذه الصفة؟». فلم يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت وأمر بفكّ الغلّ عن زين العابدين (ع) ، ثم وضع رأس الحسين (ع) بين يدَيه وأجلس النّساء خلفه ؛ لئلاّ ينظرن إليه ، فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لينظرا إلى الرأس ، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس ، فلما رأينَ الرأس صِحن فصاحت نساء يزيد وولولت بنات معاوية ، فقالت فاطمة بنت الحسين (ع) : أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ فبكى النّاس وبكى أهل داره حتّى علت الأصوات. وأمّا زينب عليها‌السلام ، فإنّها لمّا رأته أهوت إلى جيبها فشقّته ، ثمّ نادت بصوت حزين يُقرح القلوب : يا حسيناه! يا حبيب رسول الله! يابن مكّة ومِنى! يابن فاطمة الزهراء سيّدة النّساء! يابن بنت المصطفى! قال الراوي : فأبكت والله كلّ مَن كان حاضراً في المجلس ويزيد ساكت ، ثمّ جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسين (ع) وتنادي : يا حبيباه! يا سيّد أهل بيتاه! يابن محمّداه! يا ربيع الأرامل واليتامى! يا قتيل أولاد الأدعياء! فأبكت كلّ مَن سمعها. وكان في السّبايا الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين (ع) ، وهي اُمّ سكينة بنت الحسين (ع) واُمّ عبد الله الرضيع المقتول بكربلاء ، وهي التي يقول فيها الحسين (ع).

لعَمرُكَ إنّني لاُحبُّ داراً

تَحلُّ بها سَكينَةُ والرَّبابُ

اُحِبُّهُما وأبذلُ فوقَ جهدي

وليس لعاذلٍ عندي عِتابُ

ولستُ لهمْ وإنْ عَتبوا مُطيعاً

حَياتي أو يُغيّبُني التُّرابُ

فقيل : إنّ الرّباب أخذت الرأس ووضعته في حجرها وقبّلته ، وقالت :

١٦٩

وآ حُسينا فلا نَسيتُ حُسيناً

أقصَدتْهُ أسنَّةُ الأعداءِ

غادَرُوهُ بكربَلاءَ صَريعاً

لا سقَى اللهُ جانِبَي كربلاءِ

١٧٠

المجلس الرابع والثمانون

لمّا وُضعت الرؤوس بين يدي يزيد وفيها رأس الحسين (ع) ، جعل يتمثل بقول الحُصين بن الحمام المُرّي :

صَبرْنا وكان الصّبرُ منّا سَجيّةً

بأسيافِنا تَفرينَ هاماً ومِعصَمَا

أبَى قومُنا أنْ يُنصفونا فأنصَفتْ

قواضِبُ في أَيمانِنا تَقطرُ الدِّمَا

نُفلّقُ هَاماً منْ رجالٍ أعزّةٍ

علينا وهُمْ كانوا أعقَّ وأظلمَا

ودعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين (ع) ، ثمّ قال : يوم بيوم بدر. وكان عنده أبو برزة الأسلمي فقال : ويحك يا يزيد ، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة؟! أشهد لقد رأيت النّبي (ص) يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول : «أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة ، فقتل الله قاتلكما ولعنه وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً». فغضب يزيد وأمر بإخراجه فاُخرج سحباً. وفي رواية : أنّ يزيد دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله ، ثمّ دعا بعلي بن الحسين عليهما‌السلام وصبيان الحسين (ع) ونسائه فاُدخلوا عليه والنّاس ينظرون ، ثمّ قال يزيد لعلي بن الحسين عليهما‌السلام : يابن الحسين ، أبوك قطع رحِمي وجهل حقّي ونازعني سُلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت. فقال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وقال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «يابن معاوية وهند وصخر ، لقد كان جدّي عليُّ بن أبي طالب في يوم بدر واُحُد والأحزاب في يده راية رسول الله (ص) ، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار». ثمّ قال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «ويلك يا يزيد! إنّك لو تدري ماذا صنعت ، وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعموتي ، إذاً لهربت في الجبال ، وافترشت الرماد

١٧١

ودعوتَ بالويل والثبور ، أنْ يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعلي منصوباً على باب مدينتكم ، وهو وديعة رسول الله (ص) فيكم؟!».

وما رأتْ أنبياءُ اللهِ منْ مِحنٍ

وأوصياؤهُمُ في سالفِ الحُقَبِ

كمِحنةِ السيّدِ السجّادِ حينَ أتتْ

يزيدَ نِسوتُهُ أسْرى على النُّجبِ

أمامَها رُفِعتْ فوقَ الأسنَّةِ منْ

حُماتِها أرؤسٌ فاقتْ سَنا الشُّهبِ

١٧٢

المجلس الخامس والثمانون

لمّا جيء برأس الحسين (ع) إلى يزيد بالشام ، دعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين (ع) ويقول :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدوا

جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ

لأهلّوا واسْتهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

قد قتلنا القَرمَ منْ ساداتهمْ

وعدلناه ببدرٍ فاعتَدلْ

لعبتْ هاشمُ بالمُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزلْ

لستُ من خِندفَ إنْ لم أنتقمْ

مِن بني أحمدَ ما كانَ فعلْ

فقامت زينب بنت علي عليهما‌السلام فقالت :

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله كذلك حيث يقول : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون) (١). أظننتَ يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء ، أنّ بنا هواناً على الله وبك كرامة؟ وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك ونظرت في عِطفك جذلان مسروراً ؛ حيث رأيت الدّنيا لك مستوسقة والاُمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى : (ولاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) أمِن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك ، وسوقك بنات رسول الله (ص) سبايا قد هتكت ستورهنَّ وأبديت وجوههنَّ ، تحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنَّ أهل المناهل والمناقل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والدّنيء والشريف ، ليس معهنَّ من حماتهنَّ حمي ولا من رجالهنّ وَلي؟! وكيف ترتجى مراقبة ابن مَن لفط فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف

١٧٣

والشنآن والإحن والأضغان؟! ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم :

لأهلُّوا واستهلُّوا فَرحاً

ثُمّ قالوا يا يزيدُ لا تشَلْ

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك! وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرّيّة محمّد (ص) ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب؟! وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم! فلتردنّ وشيكاً موردَهم ، ولتودنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت. اللهمَّ ، خُذ لنا بحقّنا وانتقم ممَّن ظلمنا ، وأحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا. فوالله ، ما فريتَ إلاّ جلدك ولا حززت إلاّ لحمك ، ولتردنّ على رسول الله (ص) بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيّته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولُحمته ، (ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). وحسبُك بالله حاكماً وبمحمّد (ص) خصيماً ، وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلاً وأنّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً! ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك أنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك ، لكن العيون عَبرى والصدور حَرّى. ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النّجباء بحزب الشيطان الطلقاء! فهذه الأيدي تنظف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، وتعقرها اُمّهات الفراعل (١) ، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنّنا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلاّم للعبيد ، فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل. فكد كيدك واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله ، لا تمحو ذكرنا ولا تُميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ولا تدحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فَنَد ، وأيّامك إلاّ عدد ، وجمعك إلاّ بدد ، يوم يُنادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أنْ يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل. فقال يزيد مجيباً لها :

يا صيحةً تُحمَدُ منْ صَوائحِ

ما أهونَ النَّوحِ على النَّوائحِ

فقُلْ لسرايا شَيبةِ الحَمدِ ما لكمْ

قعدتُمْ وقدْ ساروا بنسوتِكُمْ أسرَى

وأعظمُ ما يُشجي الغيورَ دخولُها

إلى مجلسٍ ما بارحَ اللهوَ والخمْرا

يُقارضُها فيهِ يزيدُ مَسبَّةً

ويَصرفُ عنها وجهَهُ مُعرضاً كِبرا

______________________

(١) العواسل ، جمع عاسل ، يقال عسل الذئب : إذا اضطرب في عدوه وهزّ رأسه. والفرعل كـ (قنفذ) : وَلد الضبع ، جمعه فراعل. واُمّهات الفراعل : الضباع. ـ المؤلّف ـ

١٧٤

المجلس السّادس والثمانون

لمّا اُدخل عيال الحسين (ع) وبناته على يزيد بالشام ، نظر رجل من أهل الشام أحمر إلى فاطمة بنت الحسين عليهما‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي هذه الجارية. قالت فاطمة : فارتعدت وظننت أنّ ذلك جائز عندهم ، فأخذت بثياب عمّتي زينب وقلت : يا عمّتاه! أوتمت واُستخدم؟! وكانت عمّتي تعلم أنّ ذلك لا يكون ، فقالت عمّتي : لا حبّاً ولا كرامة لهذا الفاسق. وقالت للشامي : كذبت والله ولؤمت ، والله ما ذاك لك ولا له. فغضب يزيد وقال : كذبت ، إنّ ذلك لي ولو شئت أنْ أفعل لفعلت. قالت زينب : كلاّ والله ، ما جعل الله لك ذلك إلاّ أنْ تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها. فاستطار يزيد غضباً وقال : إيّاي تستقبلين بهذا! إنّما خرج من الدّين أبوك وأخوك. قالت زينب : بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إنْ كنت مسلماً. قال : كذبتِ يا عدوّة الله. قالت له : أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك. فكأنّه استحيا وسكت. فعاد الشامي فقال : هب لي هذه الجارية. فقال له يزيد : اعزب ، وهب الله لك حتفاً قاضياً. وفي رواية : فقال الشامي : مَن هذه الجارية؟ فقال : هذه فاطمة بنت الحسين ، وتلك زينب بنت علي. فقال الشامي : الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب؟! فقال : نعم. فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد ، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته! والله ، ما توهّمت إلاّ أنّهم من سبي الروم. فقال يزيد : والله لألحقنّك بهم. ثمّ أمر به فضُربت عنقه.

أفَتدَّعي الإسلامَ قومٌ حاربَتْ

آلَ النَّبيِّ ولمْ تُراعِ وصاتَا

وسَبتْ ذَراري أحمدٍ ونساءَهُ

أسرَى تجوبُ بها رُبىً وفلاتَا

١٧٥

المجلس السّابع والثمانون

لمّا جيء بسبايا أهل البيت (ع) إلى يزيد بالشام ، أمر يزيد بمنبر وخطيب ، وأمر الخطيب أنْ يصعد المنبر فيذمّ الحسين وأباه صلوات الله عليهما ، فصعد الخطيب المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ بالغ في ذمّ أمير المؤمنين والحسين الشهيد ، وأطنب في مدح معاوية ويزيد فذكرهما بكلّ جميل ، فصاح به علي بن الحسين عليهما‌السلام : «ويلك أيّها الخاطب! اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوّأ مقعدك من النار». ثم قال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «يا يزيد ، أتأذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات لله فيهنّ رضىً ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجر وثواب؟». فأبى يزيد عليه ذلك ، فقال النّاس : يا أمير المؤمنين ، ائذن له فليصعد المنبر فلعلّنا نسمع منه شيئاً. فقال : إنّه إنْ صعد لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان. فقيل له : وما قدر ما يُحسن هذا؟ فقال : إنّه من أهل بيت زقّوا العلم زقّاً. فلم يزالوا به حتّى أذِن له ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ خطب خطبة أبكى فيها العيون وأوجل منها القلوب ، ثمّ قال : «أيّها النّاس ، اُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع ؛ اُعطينا العلم والحلم ، والسّماحة والفصاحة ، والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين ، وفُضلّنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّداً (ص) ، ومنّا الصدّيق ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا سيّدة نساء العالمين ، ومنّا سبطا هذه الاُمّة. مَن عرفني فقد عرفني ومَن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي ...» فلم يزل يقول : «أنا ... أنا» حتّى ضجّ النّاس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أنْ تكون فتنة ، فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام ، فلمّا قال المؤذّن : الله أكبر ، الله أكبر. قال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «لا شيء أكبر من الله». فلمّا قال : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، قال علي بن الحسين (ع) : «شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي». فلمّا قال المؤذّن : أشهد أنّ محمّداً رسول الله. التفت (ع) من فوق المنبر إلى يزيد فقال : «محمّد هذا جدّي أم جدّك يا يزيد؟ فإنْ زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت ، وإنْ زعمت أنّه جدّي فلِم قتلت عترته؟». ولقد أحسن ابن سنان الخفاجي حيث يقول :

١٧٦

يا اُمّةً كفرتْ وفي أفواهِها القُرآنُ

فيهِ ضَلالُها ورشَادُها

أعَلَى المنابرِ تُعلِنونَ بسبِّهِ

وبسيفِهِ نُصبتْ لكُمْ أعوادُها

تلكَ الضَّغائنُ لمْ تَزلْ بَدريةً

قُتِل الحُسينُ وما خبتْ أحقادُها

يُصلّى على المبعوثِ منْ آلِ هاشمٍ

ويُغزَى بنوهُ إنّ ذا لعجيبُ

١٧٧

المجلس الثامن والثمانون

دعا يزيد يوماً بعلي بن الحسين عليهما‌السلام وعمرو بن الحسن (ع) ، وكان عمرو غلاماً صغيراً يقال أنّ عمره إحدى عشرة سنة ، فقال له : أتصارع هذا؟ يعني ابنه خالداً. فقال له عمرو : لا ، ولكن أعطني سكّيناً وأعطه سكّيناً ، ثمّ اُقاتله. فقال يزيد : شَنْشنةٌ أعرفُها من أخزمِ هلْ تلدُ الحيَّةُ إلاّ الحيَّهْ وخرج زين العابدين (ع) يوماً يمشي في أسواق دمشق فاستقبله المنهال بن عمرو ، فقال له : كيف أمسيت يابن رسول الله؟ قال : «أمسينا كمَثل بني إسرائيل في آل فرعون ؛ يُذبِّحون أبناءهم ويَستحيون نساءهم. يا منهال ، أمستْ العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً عربي ، وأمستْ قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها ، وأمسينا معشر أهل بيته ونحن مغصوبون مقتولون مشرّدون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ممّا أمسينا فيه يا منهال».

يُعظّمونَ لهُ أعوادَ مِنبرهِ

وتحتَ أرجُلهِمْ أولادُهُ وُضِعوا

بأيِّ حُكمٍ بَنوهُ يتْبعونكُمُ

وفخركُمُ أنّكمْ صحبٌ لهُ تَبعُ

وكان يزيد وعد علي بن الحسين عليهما‌السلام يوم دخولهم عليه أنْ يقضي له ثلاث حاجات ، فقال له : اذكر حاجاتك الثلاث اللاتي وعدتك بقضائهن. فقال له (ع) : «الاُولى : أنْ تُريني وجه سيّدي ومولاي وأبي الحسين (ع) ، فأتزوّد منه وأنظر إليه واُودّعه ، والثانية : أنْ تردّ علينا ما اُخذ منّا ، والثالثة : إنْ كنتَ عزمتَ على قتلي ، أنّ توجّه مع هؤلاء النّساء مَن يردّهنّ إلى حرم جدّهنّ (ص)». فقال : أمّا وجه أبيك فلن تراه أبداً ؛ وأمّا قتلك فقد عفوت عنك ؛ وأمّا النّساء فما يردّهنّ غيرك إلى المدينة ؛ وأمّا ما اُخذ منكم فأنا اُعوّضكم عنه أضعاف قيمته. فقال (ع) : «أمّا مالَك فلا نُريده وهو موفّر عليك ، وإنّما طلبتُ ما اُخذ منّا ؛ لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمّد (ص) ومقنعتها وقلادتها وقميصها».

لقدْ تَحمّلَ مِن أرزائِها مِحناً

لمْ يحْتَملْها نَبيٌّ ووصيُّ نَبي

١٧٨

وإنّ أعظَمَ ما لاقاهُ مُحتَسباً

عندَ الإلهِ فسَامَى كلَّ مُحتَسبِ

حملُ الفواطِمِ أسرَى للشآمِ على

عُجفِ النِّياقِ تُقاسي نَهسةَ القَتَبِ

١٧٩

المجلس التاسع والثمانون

لمّا رجع أهل البيت عليهم‌السلام من الشام إلى المدينة ، قالوا للدليل : مُر بنا على طريق كربلاء. فلمّا وصلوا إلى موضع المصرع ، وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وجماعة من بني هاشم ، ورجالاً من آل الرسول (ص) قد وردوا لزيارة قبر الحسين (ع) ، فتوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم واجتمع عليهم أهل ذلك السّواد ، وأقاموا على ذلك أياماً. وعن الأعمش عن عطيّة العوفي قال : خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) زائراً قبر الحسين (ع) ، فلمّا وردنا كربلاء ، دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثمّ ائتزر بإزار وارتدى بآخر ، ثمّ فتح صرّة فيها سعد فنثرها على بدنه ، ثمّ لمْ يخطُ خطوة إلاّ ذكر الله تعالى ، حتّى إذا دنا من القبر قال : المسنيه يا عطيّة. فألمسته إيّاه ، فخرّ على القبر مغشيّاً عليه ، فرششت عليه شيئاً من الماء ، فلمّا أفاق قال : يا حسين! (ثلاثاً) ثمّ قال : حبيب لا يُجيب حبيبه. ثمّ قال : وأنّى لك بالجواب وقد شُخبت أوداجك على أثباجك وفُرّق بين بدنك ورأسك ، أشهد أنّك ابن خير النبيّين وابن سيّد المؤمنين ، وابن حليف التّقوى وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكسا وابن سيّد النّقبا وابن فاطمة سيّدة النّساء ، وما لك لا تكون هكذا وقد غذّتك كفّ سيّد المرسلين ، وربيت في حجر المتّقين ، ورضعت من ثدي الإيمان وفطمت بالإسلام ، فطبت حيّاً وطبت ميتاً ، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة بفراقك ، ولا شاكّة في حياتك ، فعليك سلام الله ورضوانه ، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا (ع). ثمّ جال ببصره حول القبر وقال : السّلام عليكم أيّتها الأرواح التي حلّت بفِناء الحسين (ع) وأناختْ برحله ، أشهد أنّكم أقمتم الصّلاة وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين وعبدتم الله حتّى أتاكم اليقين. والذي بعث محمّداً بالحقّ لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه. قال عطيّة : فقلت لجابر : فكيف ولمْ نهبط وادياً ولمْ نعلُ جبلاً ولمْ نضرب بسيف ، والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم وأبدانهم ، واُوتمت أولادهم ، واُرملت الأزواج

١٨٠