المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

ولا بعده مثله ؛ إنْ كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إنْ شدّ فيها الذئب. ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون من بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : «لا حول ولا قوّة إلا بالله». فلمّا رأى شمر ذلك ، استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة ، وأمر الرّماة أنْ يرموه فرشقوه بالسّهام حتّى صار كالقنفذ ، فأحجم عنهم فوقفوا بإزائه ، وجاء شمر في جماعة من أصحابه فحالوا بينه وبين رَحله الذي فيه ثقله وعياله ، فصاح الحسين (ع) : «ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان! إنْ لمْ يكن لكم دِين وكنتم لا تخافون يوم المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عُرُباً كما تزعُمون». فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة؟ فقال : «أقول : إنّي اُقاتلكم وتقاتلونني والنّساء ليس عليهنّ جُناح ، فامنعوا عُتاتكم وجُهّالكم وطغاتكم من التعرّض لحَرَمي ما دمتُ حيّاً». فقال شمر : لك ذلك يابن فاطمة. ثمّ صاح : إليكم عن حَرَم الرجل واقصدوه بنفسه ، فلَعمري هو كفؤ كريم. فقصدوه بالحرب ، وجعل شمر يحرّضهم على الحسين (ع) ، فجعلوا يحملون على الحسين (ع) والحسين يحمل عليهم فينكشفون عنه ، وهو في ذلك يطلب شربة من الماء فلا يجد ، وكلمّا حمل بفرسه على الفرات ، حملوا عليه بأجمعهم حتّى أجلَوه عنه.

يرى الفراتَ ولا يحظَى بموردِهِ

ليت الفراتَ غدا منْ بعدِهِ يبسَا

١٤١

المجلس الثامن والستّون

لمّا اُثخن الحسين (ع) بالجراح وبقي كالقنفذ ، طعنه صالح بن وهب المزني على خاصرته طعنة فسقط (ع) عن فرسه إلى الأرض على خدّه الأيمن ، ثمّ قام وخرجت اُخته زينب إلى باب الفسطاط وهي تنادي : وآ أخاه! وآ سيّداه! وآ أهل بيتاه! ليت السّماء اُطبِقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السّهل. ودنا عمر بن سعد ، فقالت : يا عمر ، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فدمعت عيناه حتّى سالت دموعه على خدّيه ولحيته ، وصرف وجهه عنها ولم يُجبها بشيء ، فنادت : ويلكم! أما فيكم مسلم؟! فلم يُجبها أحد بشيء. وقاتل (ع) راجلاً قتال الفارس الشجاع يتّقي الرّمية ويفترص العورة ، ويشدّ على الخيل وهو يقول : «أعَلى قتلي تجتمعون؟! أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله ، الله اسخط عليكم لقتله مني ، وايم الله ، إنّي لأرجو أنْ يكرمني الله بهوانِكم ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون ، أما والله ، لو قتلتموني لألقى اللهُ بأسَكم بينكم وسفك دماءكم ثمّ لا يرضى لكم بذلك حتّى يُضاعف لكم العذاب الأليم». ولمْ يزل يُقاتل حتّى أصابته عشرات الجراحات ، فوقف يستريح ساعة وقد ضعف عن القتال ، فبينا هو واقف إذ أتاه حَجر فوقع على جبهته ، فأخذ الثوب ليمسح الدّم عن جبهته فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبه ، فقال (ع) : «بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله (ص)». ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وقال : «إلهي ، تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيٍّ غيره» ، ثمّ أخذ السّهم فأخرجه من وراء ظهره ، فانبعث الدّم كأنّه ميزاب فضعف ووقف.

سهمٌ أصابَ حشاكَ يابنَ المُصطفَى

سهمٌ به كبَدُ الهدايةِ قدْ رُميْ

١٤٢

المجلس التاسع والستّون

لمّا قُتل جميع أنصار الحسين (ع) وأهل بيته ولم يبقَ معه أحد ، أقبل شمر في جماعة من أصحابه فأحاطوا بالحسين (ع) ، فضربه مالك بن النّسر الكندي على رأسه الشريف بالسّيف ـ وكان على رأسه برنس ـ فقطع البرنس ووصل السّيف إلى رأسه فامتلأ البرنس دماً ، ثمّ ألقى البرنس ودعا بخرقة فشدّ بها رأسه واستدعى بقلنسوة اُخرى فلبسها واعتمّ عليها. ورجع شمر ومَن معه عن الحسين (ع) إلى مواضعهم ، فمكثوا هُنيهة ثمّ عادوا إليه ، فأخذ الحسين (ع) يشدّ عليهم فينكشفون عنه ، ثمّ إنّهم أحاطوا به ، ثمّ ضارب الرجّالة حتّى انكشفوا عنه ، وكان قد ضعف عن القتال. وتحاماه النّاس فمكث طويلاً من النّهار ، وكلّما جاءه أحد انصرف عنه ؛ كراهية أنْ يلقى الله بدمه. فصاح شمر بالفرسان والرجّالة : ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم اُمّهاتكم. فحملوا عليه من كلّ جانب ، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى ، وضرب الحسين (ع) زرعة فصرعه ، وضربه آخر على عاتِقه بالسّيف ضربة كبا بها لوجهه ، وكان قد أعيا وجعل يقوم ويكبو ، وطعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته ثمّ انتزع الرّمح فطعنه في بواني (١) صدره ورماه بسهم فوقع في نحره ، فسقط وجلس قاعداً فنزع السّهم من نحره ، وقرن كفيه جميعاً فكلّما أمتلأتا من دمائه خضّب بها رأسه ولحيته ، وهو يقول : «هكذا ألقى الله مخضَّباً بدمي مغصوباً عليَّ حقّي». قال هلال بن نافع : إنّي لواقف مع أصحاب عمر بن سعد إذ صرخ صارخ : أبشر أيّها الأمير ، فهذا شمر قد قتل الحسين. فخرجتُ بين الصفّين فوقفت عليه وإنّه ليجود بنفسه ، فوالله ، ما رأيت قتيلاً مضمّخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً ، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن

______________________

(١) البواني : الأضلاع المقدّمة في الصدر. ـ المؤلّف ـ

١٤٣

الفكرة في قتله ، فاستسقى في تلك الحال ماءً ، فسمعت رجلاً يقول : والله ، لا تذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها. فسمعته يقول : «أنا أرد الحامية فأشرب من حميمها؟! لا والله ، بل أرد على جدّي رسول الله (ص) وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وأشرب من ماء غير آسن ، وأشكو إليه ما ارتكبتم منّي وفعلتم بي». فغضبوا بأجمعهم حتّى كأنْ الله لم يجعل في قلب أحد منهم من الرحمة شيئاً. وقال سنان لخولي (١) بن زيد : احتز رأسه. فبدر خولي ليحتزّ رأسه فضعف وأرعد ، فقال له سنان ـ وقيل : شمر ـ : فتّ الله في عضدك ، ما لك ترعد؟ ونزل سنان ـ وقيل : شمر ـ إليه فذبحه ثمّ احتزّ رأسه الشريف ، وهو يقول : والله ، إنّي لأحتز رأسك وأعلم أنّك السيّد المقدّم وابن رسول الله وخير النّاس أباً واُمّاً. ثمّ دفع الرأس الشريف إلى خولي ، فقال : احمله إلى الأمير عمر بن سعد.

رأسُ ابنِ بنْتِ محمّد ووصيِّهِ

للنّاظرينَ على قَناةٍ يُرفعُ

والمُسلمونَ بمَنظَرٍ وبمَسمَعٍ

لا مُنكرٌ منْهُمْ ولا مُتوجِّعُ

كُحِلتْ بمَنظرِكَ العُيونُ عمايةً

وأصمَّ رزؤكَ كلَّ اُذنٍ تَسمعُ

______________________

(١) خولي ، بخاء معجمة مفتوحة وواو ساكنة ولام مكسورة وياء بهيئة المنسوب. ـ المؤلّف ـ

١٤٤

المجلس السّبعون

لمّا قُتل الحسين (ع) ، أقبل القوم على سلبه ، فأخذ قميصه إسحاق بن حوية الحضرمي ، ووُجد في قميصه (ع) مئة وبضع عشرة ما بين رمية وطعنة وضربة ، وقيل : وُجد في ثيابه مئة وعشرون رمية بسهم ، وفي جسده الشريف ثلاث وثلاثون طعنة برمح وأربع وثلاثون ضربة بسيف. وعن الإمام الصادق (ع) : «أنّه وُجد بالحسين (ع) ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة». وعن الإمام الباقر (ع) : «أنّه وُجد به ثلاثمئة وبضعة وعشرون جراحة». وفي رواية : ثلاثمئة وستّون جراحة. وأخذ سراويله بحر بن كعب التميمي ، وأخذ ثوبه أخ لإسحاق بن حوية ، وأخذ قطيفة له كانت من خز قيس بن الأشعث بن قيس ، وأخذ عمامته الأخنس ، وأخذ بُرنسه مالك بن النّسر وكان من خز ، فلمّا قدم على أهله أخذ يغسل عنه الدّم ، فقالت له امرأته : أسلب ابن رسول الله تُدخل بيتي؟! اخرجه عنّي. وأخذ نعليه الأسود بن خالد ، وأخذ درعه البتراء عمر بن سعد ، فلمّا قُتل عمر أعطاها المختار لقاتله ، وأخذ سيفه الفلافس النّهشلي ، وأخذ القوس الرجيل بن خيثمة الجعفي ، وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي ، ومال النّاس على الفراش والحلل والإبل فانتهبوها وانتهبوا رَحله وثقله وسلبوا نساءه.

وصِيحَ في رَحلهِ نَهباً وما تَركُوا

على عقائلَ بيتِ الوَحي منْ حُجبِ

لمْ يَسلبُوه الدّرعَ إلاّ بعدَما

تركتْهُ أسهُمُ بَغيهِمْ كالقُنفذِ

١٤٥

المجلس الحادي والسّبعون

لمّا قُتل الحسين (ع) ، وضعت اُمّ كلثوم يدها على اُمِّ رأسها ونادت : وآ محمّداه! وآ جعفراه! وآ حمزتاه! وآ حسناه! هذا حسين بالعرا ، صريع بكربلاء ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرّدا. وأقبل القوم على نهب بيوت آل بيت الرّسول وقرّة عين الزهراء البتول عليها‌السلام. قال حميد بن مسلم : رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد ، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين (ع) في فسطاطهن وهم يسلبونهن ، أخذت سيفاً وأقبلتْ نحو الفسطاط ، وقالت : يا آل بكر بن وائل ، أتُسلب بنات رسول الله؟! لا حكم إلاّ لله ، يا لثارات رسول الله! فأخذها زوجها وردّها إلى رحله. وانتهوا إلى علي بن الحسين زين العابدين (ع) وهو منبسط على فراش وهو شديد المرض ، وكان مريضاً بالذرب (أي الإسهال) وقد أشرف على الموت ، ومع شمر جماعة من الرجّالة فقالوا له : ألا نقتل هذا العليل؟ فأراد شمر قتله ، فقال له حميد بن مسلم : سبحان الله! أتقتل الصبيان؟! إنّما هو صبيّ وأنّه لما به. فلم يزل يدفعهم عنه حتّى جاء عمر بن سعد فصاحت النّساء في وجهه وبكين ، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء ولا تتعرضوا لهذا الغلام المريض ، ومَن أخذ من متاعهنّ شيئاً فليردّه. فلم يردّ أحد شيئاً. وفي رواية : أنّهم أشعلوا النّار في الفسطاط فخرجن منه النّساء باكيات مُسلَّبات. ونادى عمر بن سعد في أصحابه : مَن ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره وصدره؟ فانتدب منهم عشرة ، فداسوا الحسين (ع) بحوافر خيولهم حتّى رضّوا ظهره وصدره ، وجاء هؤلاء العشرة حتّى وقفوا على ابن زياد ، فقال أحدهم :

نحنُ رَضضْنا الصَّدرَ بعدَ الظَّهرِ

بكلِّ يَعبُوبٍ شديدِ الأسرِ

فقال ابن زياد : مَن أنتم؟ قالوا : نحن الذين وطأنا بخيولنا ظهر الحسين حتّى طحنّا جناجن

١٤٦

صدره. فأمر لهم بجائزة يسيرة. وهؤلاء أخذهم المختار فشدّ أيديهم وأرجلهم بسكك الحديد ، وأوطأ الخيل ظهورهم حتّى هلكوا.

ما شَفَى داءَ ضِغْنِها القتلُ حتّى

بالعَوادي عَادتْ ترضُّ قُراهَا

وأباحتْ بيتَ النّبوةِ للنَّهبِ

وللأمرِ في يدَي لعْناهَا

١٤٧

المجلس الثاني والسّبعون

لمّا كان يوم عاشوراء ، سرّح عمر بن سعد ذلك اليوم برأس الحسين (ع) مع خولي بن يزيد إلى عبيد الله بن زياد. قال الطبري وابن الأثير وغيرهما : فوجد القصر مغلقاً ، فأتى بالرأس إلى منزله فوضعه تحت إجّانة ودخل فراشه ، وقال لامرأته : جئتك بغنى الدّهر ، هذا رأس الحسين معكِ في الدّار. فقالت : ويلك! جاء النّاس بالذّهب والفضّة وجئت برأس ابن بنت رسول الله (ص)! والله ، لا يجمع رأسي ورأسك بيت. وقامت من الفراش فخرجت إلى الدار. وأمر ابن سعد برؤوس الباقين من أصحاب الحسين (ع) وأهل بيته فقُطّعت ـ وكانت اثنين وسبعين رأساً ـ وسرّح بها إلى ابن زياد ، وأقام بقيّة اليوم العاشر واليوم الحادي عشر إلى الزوال ثمّ توجّه إلى الكوفة. وحمل معه نساء الحسين (ع) وبناته وأخواته ومَن كان معه من الصبيان وفيهم علي بن الحسين عليهما‌السلام قد نهكته العلّة ، فقالت النّسوة : بحقّ الله إلاّ ما مررتم بنا على مصرع الحسين (ع). فمرّوا بهم على الحسين (ع) وأصحابه وهم صرعى ، فلمّا نظرت النّسوة إلى القتلى ، صحن وضربن وجوههن. قال الرّاوي : فوالله ، لا أنسى زينب بنت علي عليهما‌السلام وهي تندب الحسين (ع) وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب : يا محمّداه! صلّى عليك مليك السّماء ، هذا حسينك مرمّل بالدماء ، مقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، إلى الله المشتكى وإلى محمّد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيّد الشهداء. يا محمّداه! هذا حسين بالعرا تسفي عليه ريح الصبا ، وآ حزناه! وآ كرباه عليك يا أبا عبد الله! اليوم مات جدّي رسول الله. يا أصحاب محمّد ، هؤلاء ذرّيّة المصطفى يُساقون سَوق السبايا! وفي بعض الروايات : وآ محمّداه! بناتك سبايا وذرّيّتك مقتّلة تسفي عليهم ريح الصّبا ، وهذا حسين محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرّدا ، بأبي مَن أضحى عسكره يوم الاثنين نهباً ، بأبي مَن فسطاطه مقطّع العرى ، بأبي مَن لا غائب فيرتجى ولا جريح فيداوى ، بأبي مَن نَفسي له الفدا ، بأبي المهموم حتّى قضى ، بأبي العطشان حتّى مضى ، بأبي مَن شيبته تقطر

١٤٨

بالدما ، بأبي مَن جدّه رسول إله السما ، بأبي مَن هو سبط نبي الهدى ، بأبي محمّد المصطفى ، بأبي خديجة الكبرى ، بأبي علي المرتضى بأبي فاطمة الزهرا. قال فأبكتْ والله كلّ عدوّ وصديق. ثم إنّ سكينة بنت الحسين (ع) اعتنقت جسد أبيها فاجتمع عدّة من الأعراب حتّى جرّوها عنه.

ونواعٍ خَرجتْ منْ خِدرِها

تلزمُ الأيديَ أكباداً وجَالا

كمْ على النَّعي لها منْ حنّةٍ

كحَنينِ النّيبِ فارقنَ الفصَالا

كبناتِ الدّوحِ تَبكي شجْوَها

وغوادي الدّمعِ تنهلّ انهلالا

١٤٩

المجلس الثالث والسّبعون

لمّا كان يوم عاشوراء وبعث ابن سعد بالرؤوس إلى الكوفة ، قام فصلّى على القتلى من أصحابه ودفنهم ، وترك الحسين (ع) وأصحابه بغير دفن ، منبوذين بالعراء تسفي عليهم ريح الصبا.

إنْ يبقَ ملقىً بلا دفنٍ فإنّ لهُ

قبراً باحشاء مَن والاهُ محفورَا

فبقيت جثّة الحسين (ع) وجثث أصحابه بلا دفن ثلاثة أيّام.

تهابُهُ الوحشُ أنْ تدنُو لمصرعِهِ

وقد أقام ثلاثاً غيرَ مقبورِ

ما إنْ بقيتَ منَ الهوانِ على الثَّرى

ملقىً ثلاثاً في رُبىً ووهادِ

لكنْ لكي تَقضي عليكَ صلاتَها

زُمرُ الملائكِ فوق سبعِ شدادِ

فلمّا رحل ابن سعد عن كربلاء ، خرج قوم من بني أسد ـ كانوا نزولاً بالغاضريّة ـ إلى الحسين (ع) وأصحابه فصلّوا على تلك الجثث الطواهر ودفنوها ؛ فدفنوا الحسين (ع) حيث قبره الآن ، ودفنوا ابنه عليّاً الأكبر عند رجليه ، وحفروا للشهداء من أهل بيته ولأصحابه الذين صُرعوا حوله ممّا يلي رجلَي الحسين (ع) ، فجمعوهم فدفنوهم جميعاً في حفيرة واحدة وسووا عليهم التراب ؛ ولذلك يمتنع أهل المعرفة من المرور من جهة رجلَي الحسين (ع) ؛ خوفاً من المشي فوق قبورهم الشريفة. وقال : إنّ أقربهم دفناً إلى الحسين (ع) ولده علي الأكبر ، ودفنوا العبّاس بن علي عليهما‌السلام في موضعه الذي قُتل فيه على المسنّاة بطريق الغاضريّة حيث قبره الآن ، ودفنوا بقيّة الشّهداء حول الحسين (ع) في الحائر ، ودفنت بنو أسد حبيب بن مظاهر الأسدي عند رأس الحسين (ع) حيث قبره

١٥٠

الآن اعتناء بشأنه ، ودفنت بنو تميم الحُرّ بن يزيد الرياحي التميمي على نحو ميل من مدفن الحسين (ع) حيث قبره الآن اعتناء به. ويقال : إنّهم منعوا من قطع رأسه وحملوه من مصرعه ودفنوه هناك.

يا أقبراً بعراصِ الطفِّ هجتِ لنَا

حزناً يؤججُ في أحشائنِا نارا

مازرتُ أرضَكِ إلاّ هيَّجتْ شَجناً

ومدمعاً فاض منْ عَينيَّ مِدرارا

وسار ابن سعد بسبايا أهل بيت الرسول (ص) ومَن تخلّف من عيال الحسين (ع) ، وحمل نساءه على أحلاس الأقتاب بغير وطاء ، وهنّ ودائع خير الأنبياء. فلمّا قاربوا الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهنّ ، فأشرفت امرأة من الكوفيّات وقالت : من أي الاُسارى أنتن؟ فقلن لها : نحن اُسارى آل (محمّد (ص)). فنزلت من سطحها فجمعت لهنّ ملاء واُزراً ومقانع :

لهفَ نفسي يا آلَ طه عليكُمُ

لهفةً كسبُها جوىً وخَبالُ

قطعتْ وُصلةَ النّبيِّ بأنْ تُقطعَ

من أهلِ بيتهِ الأوصالُ

١٥١

المجلس الرابع والسّبعون

لمّا جيء بسبايا أهل البيت إلى الكوفة ، جعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون. قال بشر بن خزيم الأسدي : ونظرتُ إلى زينب بنت علي عليهما‌السلام يومئذ فلمْ أرَ خَفِرة أنطق منها ، كأنّها تُفرع عن لسان أمير المؤمنين (ع) ، وقد أومَأت إلى النّاس أنْ اسكتوا ، فارتدّت الأنفاس وسكنتْ الأجراس ، ثمّ قالت : الحمد لله والصلاة على محمّد وآله الطاهرين.

أمّا بعد ، أتبكون؟! فلا رقأت الدّمعة ولا قطعت الرنّة ، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دَخَلاً بينكم ، ألا وهل فيكم إلاّ الصلف النّظف والصدر الشنف ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة ، ألا ساء ما قدّمتْ لكم أنفسُكم أنْ سخطَ الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون وتنحبون؟! إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة وسيّد شباب أهل الجنّة ، وملاذ حيرتكم ومفزع نازلتكم ، ومنار حجتكم ومِدْرَه (١) سنتكم ، ألا ساء ما تزرون وبُعداً لكم وسُحقاً ، فلقد خاب السّعي وتبّت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله ، وضُربتْ عليكم الذلّة والمسكنة. ويلكم! أتدرون أيّ كبد لرسول الله (ص) فريتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأيّ دم سفكتم؟! وأيّ حُرمة له انتهكتم؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء نأناء خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملء السماء ، أفعجبتم أنْ مطرت السّماء دماً؟ فلعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون. فلا يستخفّنكم المهل ؛ فإنّه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار وإنّ ربكم لبالمرصاد. قال : فوالله ، لقد رأيت النّاس يومئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في

______________________

(١) المِدْرَه كـ (منبر) : السيّد الشريف ، والمقدّم في اللسان واليد عند الخصومة ، والقتّال. ـ المولّف ـ

١٥٢

أفواههم ، ورأيتُ شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتّى اخضلّت لحيته ، وهو يقول : بأبي أنتم واُمّي! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشّباب ، ونساؤكم خير النّساء ، ونسلكم خير نسل لا يُخزى ولا يبزى.

آلُ الرّسولِ ونِعمَ أكفاءُ

العُلا آلُ الرّسولِ

خيرُ الفُروعِ فروعُهُمْ

واُصولُهمْ خيرُ الاُصولِ

١٥٣

المجلس الخامس والسّبعون

لمّا جيء بسبايا أهل البيت عليهم‌السلام إلى الكوفة ، خطبت فاطمة الصغرى عليها‌السلام فقالت : الحمد لله عدد الرمل والحصى وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده واُؤمن به وأتوكّل عليه ، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأنّ أولاده ذُبِحوا بشطّ الفرات بغير ذحل ولا ترات. اللهمَّ ، إنّي أعوذ بك أنْ أفتري عليك الكذب ، أو أنْ أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيّة علي بن أبي طالب (ع) ، المسلوب حقّه ، المقتول من غير ذنب كما قُتِل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم! ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته حتّى قبضته إليك محمود النّقيبة طيّب العريكة ، معروف المناقب مشهور المذاهب ، لم تأخذه فيك اللهمَّ لومة لائم ولا عذلُ عاذل ، هديته اللهمَّ للإسلام صغيراً ، وحمدت مناقبه كبيراً ، ولمْ يزل ناصحاً لك ولرسولك حتّى قبضته إليك زاهداً في الدّنيا غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً لك في سبيلك ، رضيته فهديته إلى صراط مستقيم. أمّا بعد ، يا أهل المكر والغدر والخُيَلاء ، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عَيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجّته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته وفضّلنا بنبيّه محمّد (ص) على كثير ممَّن خلق تفضيلاً بيّناً ، فكذّبتمونا وكفرتمونا ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً كما قتلتم جدّنا بالأمس ، وسيوفُكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدّم ، قرّت لذلك عيونكم وفرحت قلوبكم افتراءً على الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين. فلا تدعونّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا ؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزء العظيم في كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ تبّاً لكم فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأنّ قد حلّ بكم ، وتواترت من السّماء نقمات فتسحتكم بما كسبتم ، ويذيق بعضكم بأس بعض ثمّ

١٥٤

تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين. ويلكم! أتدرون أي يد طاعنتنا منكم؟! وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا؟! أم بأيّة رِجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا؟! والله ، قست قلوبكم وغلظت أكبادكم وطُبع على أفئدتكم ، وخُتم على سمعكم وعلى بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون. فتبّاً لكم! أي ترات لرسول الله (ص) قِبلكمْ؟! وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب جدّي وبنيه وعترته الطيّبين الأخيار؟! وافتخر بذلك مفتخر من الظالمين ، فقال :

نحنُ قتلْنا عليّاً وبني عليٍّ

بسيوفٍ هنديّةٍ ورِماحِ

وسَبيْنا نساءَهُمْ سَبيَ تُركٍ

ونَطحناهُمُ فأيُّ نِطاحِ

بفيك أيّها القائل الكثكث والأثلب! افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وطهّرهم وأذهب عنهم الرجس! فاكظم وأقع كما أقعى أبوك فإنّما لكلّ امرئ ما اكتسب وما قدّمت يداه. أحسدتمونا ـ ويلكم ـ على ما فضّلنا الله؟!

فمَا ذنبُنا إنْ جاشَ دهراً بُحورُنا

وبحرُكَ ساجٍ ما يُواري الدّعامِصَا

ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء ، ومَن لمْ يجعل الله له نوراً فما له من نور. فارتفعت الأصوات بالبكاء والنّحيب وقالوا : حسبك يابنة الطيّبين ، فقد أحرقت قلوبنا وأنضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا. فسكتت.

لقدْ قطعَ الأكبادَ حُزناً مُصابُها

وقدْ غادرَ الأحشاءَ تهفُو وترجفُ

فللهِ منْ خطبٍ لهُ كلُّ مهجةٍ

يحقُّ من الوجدِ المُبرَّحِ تُتلفُ

١٥٥

المجلس السّادس والسّبعون

لمّا جيء بسبايا أهل البيت عليهم‌السلام إلى الكوفة ، خطبت اُمّ كلثوم بنت علي (ع) في ذلك اليوم من وراء كلّتها رافعة صوتها بالبكاء ، فقالت : يا أهل الكوفة ، سوأة لكم! ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه ، وانتهبتم أمواله وورثتموه ، وسبيتُم نساءه ونكبتموه؟! فتبّاً لكم وسُحقاً لكم! أيّ دواه دهتكم؟ وأيّ وزر على ظهوركم حملتم؟ وأيّ دماء سفكتموها؟ وأيّ كريمة أصبتموها؟ وأيّ صبية سلبتموها؟ وأيّ أموال انتهبتموها؟ قتلتم خير رجالات بعد النّبي (ص) ، ونُزعت الرّحمة من قلوبكم ، ألا إنّ حزب الله هم المفلحون وحزب الشّيطان هم الخاسرون. ثمّ قالت :

قتلتُمْ أخيْ ظُلماً فويلٌ لاُمّكمْ

ستُجزَونَ ناراً حرُّها يتوقّدُ

سفكتُمْ دماءً حرّمَ اللهُ سفْكَهَا

وحرَّمَها القُرآنُ ثُمّ محمّد

فضجّ النّاس بالبكاء والنّحيب ، ونشر النّساء شعورهن ، ووضعن التراب على رؤوسهن ، وخمشن وجوههن ولطمن خدودهن ، ودعون بالويل والثبور ، وبكى الرجال فلم يُرَ باكٍ وباكية أكثر من ذلك اليوم. ثم إنّ زين العابدين (ع) أومأ إلى النّاس أنْ اسكتوا فسكتوا ، فقام قائماً فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر النّبي (ص) بما هو أهله فصلّى عليه ، ثمّ قال : «أيّها النّاس ، مَن عرفني فقد عرفني ومَن لمْ يعرفني فأنا اُعرّفه بنفسي : أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتُهك حريمه وسُلب نعيمه وانتُهب ماله وسُبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات ، أنا ابن مَن قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً. أيّها النّاس ، ناشدتكم بالله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه؟ فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم! بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله (ص)

١٥٦

إذ يقول لكم : قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من اُمّتي؟!». فارتفعت أصوات النّاس بالبكاء من كلّ ناحية ، وقال بعضهم لبعض : هلكتم وما تعلمون. فقال (ع) : «رحم الله امرأً قبل نصيحتي وحفظ وصيّتي في الله ورسوله وأهل بيته ؛ فإنّ لنا في رسول الله (ص) اُسوة حسنة».

لا غِروَ إنْ قُتلَ الحُسينُ فشيخُهُ

قدْ كان خيراً منْ حُسينٍ وأكرَما

قتيلٌ بشطِّ النَّهرِ روحي فداؤهُ

جزاءُ الذي أرْداهُ نارُ جهنَّما

يا ليتَ شِعريْ ما اعتذارهمُ إلى الزْ

زَهراءِ في أبنائِها وبناتِها

علّقتمُوها بالنَبيِّ خصومةً

ستَرَون في عقباكمُ تبعاتِها

١٥٧

المجلس السّابع والسّبعون

لمّا جيء بالسبايا والرؤوس إلى ابن زياد في الكوفة ، جلس في قصر الإمارة وأذن للناس إذناً عامّاً ، وأمر بإحضار رأس الحسين (ع) فوُضع بين يدَيه فجعل ينظر إليه ويبتسم ، وكان في يده قضيب فجعل يضرب به ثناياه ويقول : إنّه كان حسن الثغر. وفي رواية : أنّه قال : لقد أسرع الشيب إليك يا أبا عبد الله. ثمّ قال : يوم بيوم بدر. وكان عنده أنس بن مالك فبكى وقال : كان أشبههم برسول الله (ص) وكان مخضوباً بالوسمة. وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله (ص) ، وهو شيخ كبير ، فلمّا رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له : ارفع قضيبك عن هاتين الشّفتين ، فو الله الذي لا إله غيره ، لقد رأيت شفتي رسول الله (ص) ما لا اُحصيه كثرةً يقبلهما. ثمّ انتحب باكياً ، فقال له ابن زياد : أبكى الله عينيك ، أتبكي لفتح الله! والله ، لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربتُ عنقك. فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وسار إلى منزله ، وفي رواية : أنّه نهض وهو يقول : أيّها النّاس ، أنتم العبيد بعد اليوم ؛ قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة! والله ، ليقتلن خياركم وليستعبدن شراركم فبُعداً لمَن رضي بالذّل والعار. ثمّ قال : يابن زياد ، لاُحدثنّك حديثاً أغلظ عليك من هذا ، رأيتُ رسول الله (ص) أقعد حسناً على فخذه اليمنى وحسيناً على فخذه اليسرى ثمّ وضع يده على يافوخيهما ، ثمّ قال : «اللهمَّ ، إنّي أستودعك إيّاهما وصالح المؤمنين». فكيف كانت وديعة رسول الله (ص) عندك يابن زياد؟!

فعلتُمْ بأبناءِ النَّبيِّ ورهطِهِ

أفاعيلَ أدناهَا الخيانةُ والغدرُ

١٥٨

المجلس الثامن والسّبعون

لمّا اُدخل نساء الحسين (ع) وصبيانه على ابن زياد بالكوفة ، لبست زينب عليها‌السلام أرذل ثيابها وتنكّرت ، ومضت حتّى جلست ناحية من القصر وحفّ بها إماؤها ، فقال ابن زياد : مَن هذه؟ فلمْ تجبه ، فأعاد الكلام ثانياً وثالثاً يسأل عنها ، فلمْ تجبه ، فقال له بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (ص). فأقبل عليها ابن زياد فقال لها : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت زينب : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (ص) وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا. فقال : كيف رأيت فعل الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم فانظر لمَن الفلج يومئذ ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة! فغضب ابن زياد واستشاط وكأنّه همّ بها ، فقال له عمرو بن حريث : أيّها الأمير ، إنّها امرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ولا تُذم على خطئها. فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المَرَدة من أهل بيتك. فرقّتْ زينب وبكتْ وقالت له : لعمري لقد قتلت كهلي وأبرزت أهلي ، وقطعت فرعي واجتثثتَ أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت. فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ، ولَعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فقالت : ما للمرأة والسّجاعة؟! إنّ لي عن السّجاعة لشغلاً ، ولكنّ صدري نفث بما قلت.

فقُلْ لسرايَا شَيبةِ الحمدِ ما لكُمْ

قعدّتُمْ وقدْ سارُوا بنسوتِكمْ أسرَى

وأعظمُ ما يُشجي الغيورَ دخولُهُا

إلى مجلسٍ ما بارحَ اللهوَ والخَمَرا

يُقارضُها فيهِ الدّعيُّ مسبّةً

ويصرفُ عنْها وجهَهُ مُعرضاً ِكبْرا

وعُرض عليه علي بن الحسين عليهما‌السلام فقال له : مَن أنت؟ فقال : «أنا علي بن الحسين». فقال : أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟ فقال له علي (ع) : «قد كان لي أخ يسمّى عليّاً قتله النّاس». قال :

١٥٩

بل الله قَتله. فقال علي بن الحسين عليهما‌السلام : اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا. فغضِب ابن زياد وقال : وبك جرأة لجوابي ، وفيك بقيّة للردّ عليّ؟! اذهبوا به واضربوا عنقه. فتعلّقت به عمّته زينب وقالت : يابن زياد ، حسبك من دمائنا. واعتنقته وقالت : لا والله لا اُفارقه ، فإنْ قتلتَه فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ثمّ قال : عجباً للرحم! والله ، إنّي لأظنّها ودّت أنْ قتلتها معه ، دعوه فإنّي أراه لما به. وفي رواية : أنّ علي بن الحسين عليهما‌السلام قال لعمّته : «اسكتي يا عمّة حتّى اُكلّمه». ثمّ أقبل عليه فقال : «أبِالقتل تهدّدني يابن زياد؟! أما علمت أنّ القتل لنا عادة وكرامتنا الشّهادة؟!». ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين عليهما‌السلام وأهل بيته فحُملوا إلى دار بجنب المسجد الأعظم.

ومخدّراتٍ ما اُذيعَ حديثُها

أضحتْ أحاديثاً لمَنْ يتحدّثُ

سُبيتْ على عُجفٍ تعثّر في السّرَى

يحدُو بها مُستعجلٌ لا يلبثُ

تعساً لمَنْ تَسبي بناتَ نبيِّها

فبأيِّ عذرٍ عنده تتشبّثُ

١٦٠