المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

المجلس السّادس والخمسون

لمّا كان يوم عاشوراء وحضر وقت صلاة الظهر ، قال أبو ثمامة الصّيداوي للحسين (ع) : يا أبا عبد الله ، نفسي لنفسك الفداء ، هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تُقتل حتّى اُقتل دونك ، واُحبّ أنْ ألقى الله ربّي وقد صلّيت هذه الصّلاة. فرفع الحسين (ع) رأسه إلى السّماء ، وقال : «ذكرتَ الصّلاة جعلك الله من المصلّين الذّاكرين ، نعم هذا أول وقتها». ثمّ قال : «سلوهم أنْ يكفّوا عنّا حتّى نصلّي». ففعلوا ، فقال لهم الحُصين بن تميم : إنّها لا تُقبل. فقال له حبيب بن مظاهر : زعمتَ لا تُقبل الصّلاة من آل رسول الله (ص) وأنصارهم وتُقبل منك يا خمّار! وقال الحسين (ع) لزهير بن القَين وسعيد بن عبد الله الحَنفي : «تقدّما أمامي حتّى اُصلّي». فتقدّما أمامه في نحو نصف من أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف ، فوصل إلى الحسين (ع) سهم ، فتقدّم سعيد بن عبد الله ووقف يقيه من النّبال بنفسه ما زال ولا تخطّى ، فما زال يُرمى بالنّبل حتّى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود. اللهمّ بلّغ نبيّك عنّي السّلام وأبلغه ما لقيتُ من ألم الجراح ، فإنّي أردتُ ثوابك في نصر ذرّيّة نبيّك. وفي رواية : أنّه قال : اللهمَّ ، لا يعجزك شيء تريده ، فأبلغ محمّداً (ص) نصرتي ودفعي عن الحسين (ع) ، وارزقني مرافقته في دار الخلود. ثمّ قضى نحبه رضوان الله عليه ، فوُجِد فيه ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السّيوف وطعن الرّماح ، وفيه وفي الحُرّ وزهير يقول الشاعر :

سعيدَ بنَ عَبدِ الله لا تَنسينَهُ

ولا الحُرَّ إذ آسى زهيراً على قصرِ

فلَو وقفتْ صُمُّ الجبالِ مكانهُمْ

لمادتْ على سهلٍ ودُكّتْ على وعرِ

فمِنْ قائمٍ يستعرضُ النَّبلَ وجهُهُ

ومِنْ مُقدمٍ يلقَى الأسنَّةَ بالصّدرِ

وتقدّم سويد بن عمرو بن أبي المطاع ـ وكان شريفاً كثير الصّلاة ، شجاعاً مجرّباً في الحروب ـ فجعل يرتجز ويقول :

١٢١

أقدمْ حسينُ اليومَ تلقَى أحمدَا

وشيخَكَ الحَبرَ عليّاً ذا النَّدَى

وحَسَناً كالبدرِ وافَى الأسعدَا

وعمَّكَ القرْمَ الهُمامَ الأرشدَا

حمزةَ ليْثَ الله يُدعَى أسَدا

وذا الجناحَينِ تبوّا مقْعدَا

في جنّة الفردوسِ يعلُوا صعّدَا

فقاتل قتال الأسد الباسل ، وبالغ في الصّبر على الخطب النّازل حتّى سقط بين القتلى وقد اُثخن بالجراح ، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتّى سمعهم يقولون : قُتل الحسين ، فتحامل وأخرج سكّيناً من خُفّه وجعل يُقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه ، فكان آخر مَن قُتل من أصحاب الحسين (ع).

وعانَقُوا شَغَفاً بيضَ الظُّبا فكأنْ

قدْ عانَقُوا ثَمّ بيضاً خُرّداً عُرُبَا

ثَوَوا عَطاشَى على البوغاء تحسَبُهمْ

تحتَ الدُّجَى في الفيافي الأنجُمَ الشُّهبَا

١٢٢

المجلس السّابع والخمسون

لمّا كان يوم عاشوراء ، برز مسلم بن عوسجة الأسدي ، وهو صحابي رأى النّبي (ص) ، وكان شريفاً سريّاً عابداً متنسّكاً فارساً شجاعاً ، وكان ممَّن كاتب الحسين (ع) من الكوفة ووفّى له وأخذ البيعة له عند مجيء مسلم بن عقيل إلى الكوفة. ولمّا خَرَج مسلم لحرب ابن زياد ، عقد له على ربع مذحج وأسد ، فلمّا قُتل مسلم وهاني اختفى مدّة ثمّ أتى سرّاً إلى الحسين (ع) مع حبيب بن مظاهر ، فكانا يسيران الليل ويكمنان النّهار حتّى وصلا إليه بكربلاء واستشهدا بين يدَيه. ولمّا خطب الحسين (ع) أصحابه ليلة العاشر من المحرّم وقال لهم : «قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غَشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يريدون غيري». وتكلّم إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وسائر بني هاشم وأصحابه بما شكرهم الله تعالى عليه ورسوله (ص) ، وشكرهم الدّين وأهله وأبقى لهم مجداً وفخراً وثناءً وذكراً لا يبليه مرور الليالي والأيّام ، وكانوا قُدوة الرّجال في الوفاء والإباء وكرم النفوس وعلوّ الهِمم ، كان من جملة مَن تكلّم مسلم بن عوسجة فقال : أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدوّ ، ولم نُعذر إلى الله في أداء حقّك! لا والله ، لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، واُضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح لقذفتهم بالحجارة ولم اُفارقك أو أموت معك. ولمّا اشتدّ القتال يوم عاشوراء ، لم يزد مسلم بن عوسجة إلاّ جرأة وثباتاً وصبراً ووفاء ، فكان يحمل على القوم وهو يرتجز ويقول :

إنْ تسألُوا عنّي فإنّي ذو لَبدْ

منْ فرعِ قومٍ منْ ذُرَى بنيْ أسَدْ

فمَنْ بغانَا حائدٌ عنْ الرَّشدْ

وكافرٌ بدينِ جبّارٍ صَمدْ

فقاتل قتالاً شديداً. ثم حمل عمرو بن الحجّاج في أصحابه على ميسرة الحسين (ع)

١٢٣

من نحو الفرات ، وكان مسلم بن عوسجة في الميسرة ، فاضطربوا ساعة فصُرع مسلم وبقي به رمق ، وانصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه ، وانقطعت الغبرة فإذا مسلم صريع ، فمشى إليه الحسين (ع) ومعه حبيب بن مظاهر فقال الحسين (ع) : رحمك الله يا مسلم ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ودنا منه حبيب فقال : عزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة. فقال له مسلم قولاً ضعيفاً : بشّرك الله بخير. ثمّ قال له حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي في الأثر من ساعتي هذه لأحببتُ أنْ توصيني بكلِّ ما أهمّك. فقال له مسلم : فإنّي اُوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين (ع) ـ فقاتِل دونه حتّى تموت. فقال له حبيب : لأنعمنّك عيناً. ثمّ مات رضوان الله عليه.

صَالُوا وجالُوا وأدَّوا حقَّ سيّدِهمْ

في موقفٍ عقَّ فيه الوالدَ الوَلدُ

وشاقَهمْ ثمرُ العُقبَى فأصبحَ في

صدورِهمْ شجرُ الخطِّي يختَضدُ

١٢٤

المجلس الثامن والخمسون

لمّا كان يوم عاشوراء ، خرج زهير بن القَين البجلي ، وهو من أهل الكوفة وكان شريفاً في قومه ، وكان في أول أمره عثمانيّاً ، فحجّ في تلك السّنة التي توجّه الحسين (ع) فيها إلى العراق ، فلمّا رجع من الحجّ جمعه الطريق مع الحسين (ع) ، فصار من أوليائه بعد ما كان من أعدائه. وهكذا تكون الأعمال بخواتيمها لا بمبادئها ، فكم من رجل كان أول أعماله خيراً ثمّ خُتم له بسوء ، وكم من رجل كان أول أعماله سيّئاً ثمّ خُتم له بخير كما جرى لزهير بن القَين والحُرّ بن يزيد ؛ فزهير كان من أعداء الحسين (ع) ، والحُرّ خرج لحربه ومنعه عن الرجوع وجَعْجَعَ به ثمّ صار من أوليائه وأنصاره ، وفدياه بأنفسهما حتّى قُتِلا بين يدَيه ، ونالا كرامة الشهادة وأعظم السّعادة ولمّا خطب الحسين (ع) أصحابه عند ملاقاة الحُرّ ، قام زهير فقال : قد سمعنا ـ هداك الله يابن رسول الله ـ مقالتك ، والله لو كانت الدّنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين ، لآثرنا النّهوض معك على الإقامة فيها. ولمّا خطبهم الحسين (ع) ليلة العاشر من المحرّم وأذن لهم في التفرّق عنه ، قام في جملة مَن قام زهير بن القَين ، وقال : والله يابن رسول الله ، لوددتُ أنّي قُتلت ثُمّ نُشرت ألف مرّة ، وأنّ الله يدفع بذلك القَتْل عنك وعن هؤلاء الفتية من أهل بيتك. ولمّا صفّ الحسين (ع) أصحابه للقتال يوم عاشوراء ، جعل زهيراً على الميمنة ، فبرز راكباً على فرس ذَنوب وهو شاكٍ في السّلاح ، وجعل يرتجز ويقول :

أنَا زُهيرٌ وأنا ابنُ القَينِ

أذودُكمْ بالسّيفِ عنْ حُسينِ

إنّ حُسيناً أحَدُ السّبطينِ

منْ عِترةِ البَرِّ التقيِّ الزَّينِ

ذاك رَسولُ اللهِ غيرُ المَينِ

أضربكُمْ ولا أرَى منْ شَينِ

يا ليتَ نَفسيْ قُسمتْ قِسمينِ

١٢٥

فقاتل قتالاً شديداً حتّى قتل تسعة عشر رجلاً ثمّ قُتل رضوان الله عليه ، فقال الحسين (ع) حين صُرع زهير : «لا يبعدك الله يا زهير».

وبرز حبيب بن مظاهر (أو مظهر الأسدي) ، وكان صحابيّاً رأى النبيّ (ص) ، وصحب أمير المؤمنين (ع) وشهد معه حروبه كلّها وكان من خاصّته وحملة علومه ، وكان حبيب ممَّن كاتب الحسين (ع) ، ولمّا ورد مسلم بن عقيل الكوفة وأخذت الأنصار تختلف إليه ، كان ممَّن خطب فيهم حبيب بن مظاهر ، وجعل هو ومسلم بن عوسجة يأخذان البيعة للحسين (ع) في الكوفة. فلمّا خذل الخائنون مسلم بن عقيل ، اختفى حبيب ومسلم بن عوسجة ، فلمّا ورد الحسين (ع) كربلاء ، خرجا إليه يسيران الليل ويكمنان النّهار حتّى وصلا إليه. فلمّا كان القتال ، برز حبيب وهو يرتجز ويقول :

أنَا حبيبٌ وأبي مظهّرُ

فارسُ هيجاءٍ وحربٍ تسْعرُ

أنتُمْ أعدُّ عِدَّةٍ وأكثرُ

ونحنُ أعلى حُجّةٍ وأظهرُ

وأنتُمُ عندَ الوفاءِ أغدَرُ

ونحنُ أوفَى منكُمُ وأصبرُ

حقّاً وأتْقَى منكُمُ وأعذَرُ

فقاتل قتالاً شديداً وقتل جمعاً كثيراً ، فحمل عليه رجل من بني تميم فطعنه فذهب ليقوم فضربه الحُصين بن تميم على رأسه بالسّيف فوقع ، ونزل إليه التميمي فاحتزّ رأسه ، فهَدَّ مقتلُه الحسين (ع) وقال : «عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي».

جادُوا بأنْفسِهمْ عنْ نفسِ سيِّدهمْ

وقدْ رأوا لبثَهُمْ من بعدهِ عارَا

سبْعُون مولَى كريماً ما بكَى لهمُ

باكٍ ولا أحدٌ يوماً لهمْ وارَى

١٢٦

المجلس التاسع والخمسون

لمّا لم يبقَ مع الحسين (ع) سوى أهل بيته ، خرج علي بن الحسين الأكبر ، وكان من أصبح النّاس وجهاً وأحسنهم خلقاً ، وكان عُمرُه تسع عشرة سنة ، وقيل خمساً وعشرين سنة ، وفيه يقول الشاعر :

لمْ ترَ عينٌ نظرتْ مثلَهُ

منْ مُحتَفٍ يمشيْ ومنْ ناعلِ

لا يُؤثرُ الدّنيا على دِينهِ

ولا يَبيعُ الحقَّ بالباطلِ

وهو أول قتيل يوم كربلاء من آل أبي طالب ، فاستأذن أباه في القتال فأذن له ، ثمّ نظر إليه نظرة آيس منه وأرخى عينيه فبكى ، ثمّ رفع سبّابتيه نحو السّماء وقال : «اللهمَّ ، كنْ أنت الشهيد عليهم ، فقد برز إليهم غلام أشبه النّاس خَلقاً وخُلقاً ومَنطِقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه». ثمّ رفع صوته وتلا : إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فشدّ عليٌ على النّاس وهو يقول :

أنَا عليُ بنُ الحُسينِ بنِ عليْ

نحنُ وبيتِ اللهِ أولَى بالنَّبيْ

تاللهِ لا يحكمُ فينا ابنُ الدَّعيْ

أضربُ بالسّيفِ اُحاميْ عن أبيْ

ضربَ غُلامٍ هاشميٍّ علويْ

فجعل يشد عليهم ثمّ يرجع إلى أبيه فيقول : يا أباه ، العطش. فيقول له الحسين (ع) : «اصبر حبيبي ، فإنّك لا تمسي حتّى يسقيك رسول الله (ص) بكأسه». وفي رواية : أنّه قال : «يا أبة ، العطش قتلني وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة من الماء سبيل؟». فبكى الحسين (ع) وقال : «يا غوثاه! يا بُنَي ، من أين آتي لك بالماء؟ قاتِل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك

١٢٧

محمّد (ص) فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً». فجعل يكرّ كرّة بعد كرّة والأعداء يتّقون قتله ، فنظر إليه مرّة بن منقذ العبدي فقال : عليّ آثام العرب إنْ هو فعل مثل ما أراه يفعل ومرَّ بي إنْ لم أثكله اُمّه. فمرّ يشدّ على النّاس كما كان يفعل ، فاعترضه مرّة بن منقذ وطعنه بالرمح ، وقيل بل رماه بسهم فصرعه ، فنادى : يا أبتاه عليك السّلام ، هذا جدّي يُقرِئك السّلام ويقول لك : «عجّل القدوم علينا». واعتوره النّاس فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين (ع) حتّى وقف عليه وقال : «قتل الله قوماً قتلوك يا بُنَي ، ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول! على الدّنيا بعدك العفا». وخرجت زينب بنت علي عليهما‌السلام وهي تنادي : يا حبيباه! ويابن أخاه! وجاءت فأكبّت عليه ، فجاء الحسين (ع) فأخذ بيدها وردّها إلى الفسطاط ، وأقبل بفتيانه وقال : «احملوا أخاكم». فحملوه من مصرعه حتّى وضعوه بين يدَي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.

يا كوكباً مَا كان أقصرَ عُمرَهُ

وكذا تكونُ كواكِبُ الأسْحارِ

جاورتُ أعْدائي وجاوَر ربَّهُ

شتّان بينَ جِوارِهِ وجِواري

١٢٨

المجلس الستّون

لمّا كان يوم عاشوراء ، ولمْ يبقَ مع الحسين (ع) سوى أهل بيته ، خرج القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وهو غلام لم يبلغ الحُلم ، فلمّا نظر الحسين (ع) إليه قد برز ، اعتنقه وجعلا يبكيان ، ثمّ استأذن عمّه في المبارزة فأبى أنْ يأذن له ، فلمْ يزل الغلام يُقبّل يدَيه ورجليه حتّى أذن له ، فخرج ودموعُه تسيل على خدّيه وهو يقول :

إنْ تنْكرُونيْ فأنَا إبنُ الحَسنْ

سبطِ النّبيِّ المُصطفَى والمُؤتمَنْ

هذا حُسينٌ كالأسيرِ المُرْتهنْ

بين اُناسٍ لا سُقوْا صَوبَ المُزنْ

فقاتل قتالاً شديداً. قال حميد بن مسلم : خرج علينا غلام كأنّ وجهُه شقّة قمر ، وفي يده سيف وعليه قميص وإزار وفي رجليه نعلان ، فمشى يضرب بسيفه ، فانقطع شِسْعُ إحدى نعليه ـ ولا أنسى أنّها كانت اليسرى ـ فوقف ليشدّها ، فقال لي عمرو بن سعد بن نُفَيل الأزدي : والله ، لأشدّنّ عليه. فقلتُ : سُبحان الله! وما تريد بذلك؟ والله ، لو ضربني ما بسطتُ إليه يدي ، يكفيك هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه. فقال : والله ، لأشدّن عليه. فشدّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسيف ففلقه ، ووقع الغلام إلى الأرض لوجهه ونادى : يا عمّاه! فجلى الحسين (ع) كما يجلي الصقر ، ثمّ شدّ شدّة ليث أغضب فضرب عمرو بن سعد بن نُفيل بالسيف فاتّقاها بالسّاعد فقطعها من لدن المرفق ، فصاح صيحةً سمِعها أهل العسكر ، ثمّ تنحّى عنه الحسين (ع). وحمل أهل الكوفة ليستنقذوه فوطئت الخيل عَمراً حتّى مات ، وانجلت الغبرة فإذا بالحسين (ع) قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه ، والحسين (ع) يقول : «بُعداً لقوم قتلوك ، ومَن خصمهم يوم القيامة فيك جدّك وأبوك». ثم قال (ع) : «عزّ والله على عمّك أنْ تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك ، صوتٌ والله كثُر واتره وقلّ ناصره». ثمّ حمله ووضع صدره على صدره ، وكأنّي أنظر إلى رجلَي الغلام يخطّان الأرض ، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه علي والقتلى من أهل بيته. فسألتُ عنه ، فقيل لي

١٢٩

هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام. وصاح الحسين (ع) في تلك الحال : «صبراً يا بني عُمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، فوالله ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً».

تحُوطُهُ من بنيْ عدنانَ أغلمةٌ

بيضُ الوجُوهِ كرامٌ سادةٌ رُؤسَا

وكلُّ ذيْ طلعةٍ غرّاءَ مُشرقةٍ

من نورِ طلعتِهِ بدرُ السّما اقتبَسا

يلقَى السّيوفَ بوجهٍ شانَ طلعتَهُ

وقعُ السّيوفِ ونحرٍ بالقَنا غُرسَا

١٣٠

المجلس الحادي والستّون

وُلد العبّاس بن أمير المؤمنين (ع) سنة ست وعشرين من الهجرة ، وعاش مع أبيه أمير المؤمنين (ع) أربع عشرة سنة ، وحضر بعض الحروب فلمْ يأذن له أبوه في النّزال. قُتل مع أخيه الحسين (ع) بكربلاء وعمره أربع وثلاثون سنة ، وكان يكنّى أبا الفضل ، ويُلقَّب بالسّقاء وقمر بني هاشم ، وقُتل معه بكربلاء ثلاثة إخوة لاُمّه وأبيه ، وكانت له يوم كربلاء مقامات مشهودة ومواقف عظيمة. كانت له صفات عالية وأعمال جليلة امتاز بها ؛ منها أنّه كان صاحب لواء الحسين (ع) ، واللواء هو العلم الأكبر ولا يحمله إلاّ الشجاع الشريف في العسكر ، ومنها أنّه كان أيّداً (أي قويّاً) شجاعاً فارساً وسيماً جسيماً ، يركب الفرس المطهَّم ورجلاه تخطّان في الأرض ، ومنها أنّه لمّا جمع الحسين (ع) أهل بيته وأصحابه ليلة العاشر من المحرّم وخطبهم فقال في خطبته : «أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يريدون غيري» ، قام إليه العبّاس (ع) فقال : ولِمَ نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً. ثمّ تكلّم أهل بيته وأصحابه بمثل هذا ونحوه. ومنها أنّه لمّا أخذ عبد الله بن حرام ، ابن خال العبّاس ، أماناً من ابن زياد للعبّاس وإخوته من اُمّه ، قالوا : لا حاجة لنا في الأمان ؛ أمان الله خير من أمان ابن سميّة ، ومنها أنّه نادى شمر : أين بنو اُختنا؟ أين العبّاس وإخوته؟ فلم يُجبه أحد ، فقال لهم الحسين (ع) : «أجيبوه وإنْ كان فاسقاً ؛ فإنّه بعض أخوالكم». قال له العبّاس : ما تريد؟ فقال : أنتم يا بني اُختي آمنون. فقال له العبّاس : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟! وتكلّم إخوته بنحو كلامه ثمّ رجعوا. ومنها أنّه لمّا اشتدّ العطش بالحسين (ع) وأصحابه ، أمر أخاه العبّاس فسار في عشرين راجلاً يحملون القِرب وثلاثين فارساً ، فجاؤوا ليلاً حتّى دنوا من الماء ، وأمامهم نافع بن هلال الجملي يحمل

١٣١

اللواء ، فقال عمرو بن الحجّاج : مَن الرجل؟ قال : نافع. قال : ما جاء بك؟ قال : جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. قال : فاشرب هنيئاً. قال : لا والله ، لا أشرب منه قطرة والحسين عطشان هو وأصحابه. فقالوا : لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، إنّما وُضعنا في هذا المكان لنمنعهم الماء. فقال نافع لرجاله : إملؤوا قِربكم. فملؤوها ، وثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه ، فحمل عليهم العبّاس ونافع بن هلال فكشفوهم وأقبلوا بالماء ، ثمّ عاد عمرو بن الحجّاج وأصحابه وأرادوا أنْ يقطعوا عليهم الطريق ، فقاتلهم العبّاس وأصحابه حتّى ردّوهم ، وجاؤوا بالماء إلى الحسين (ع). ومنها أنّه لمّا نشبت الحرب تقدّم أربعة من أصحاب الحسين (ع) وهم الذين جاؤوا من الكوفة ومعهم فرس نافع بن هلال ، فشدّوا على النّاس بأسيافهم ، فلمّا وغلوا فيها عطف عليهم النّاس واقتطعوهم عن أصحابهم ، فندب الحسين (ع) لهم أخاه العبّاس ، فحمل على القوم وحده فضرب فيهم بسيفه حتّى فرّقهم عن أصحابه ، ووصل إليهم فسلّموا عليه وأتى بهم ولكنّهم كانوا جرحى ، فأبوا عليه أنْ يستنقذهم سالمين ، فعاودوا القتال وهو يدفع عنهم حتّى قُتلوا في مكان واحد ، فعاد العبّاس إلى أخيه وأخبره بخبرهم. ومنها أنّه شبه عمّه جعفر الطيّار الذي قُطعت يمينه ويساره في حرب مؤتة مجاهداً في سبيل الله ، وكذلك العبّاس قُطعت يمينه ويساره مجاهداً في سبيل الله في نصرة أخيه الحسين (ع) يوم عاشوراء :

لا تَنسَ للعبّاسِ حُسنَ مَقامِهِ

في الرّوعِ عندَ الغارةِ الشَّعواءِ

واسَى أخاهُ بها وجادَ بنفْسِهِ

في سَقي أطفال لهُ ونساءِ

ردَّ الاُلوفَ على الاُلوفِ مُعارضاً

حدّ السّيوفِ بجبهةٍ غَرّاءِ

١٣٢

المجلس الثاني والستّون

قال أمير المؤمنين (ع) لأخيه عقيل ـ وكان نسّابة عالماً بأخبار العرب وأنسابهم ـ : «ابغني امرأة قد ولدَتها الشّجعان من العرب ؛ لأتزوّجها فتلد لي غلاماً فارساً». فقال له : أين أنت عن فاطمة بنت حزام الكلابية ـ وهي المكنّاة اُمّ البنين ـ فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس. فتزوّجها أمير المؤمنين (ع) ، فولدت له العبّاس ثمّ عبد الله ثمّ جعفر ثمّ عثمان. وحضر هؤلاء الإخوة الأربعة مع أخيهم الحسين (ع) يوم كربلاء وأبلَوا في نصرته بلاءً حسناً ، وجاهدوا أمامه حتّى قُتلوا جميعهم ، وكان أحسنهم بلاءً وأعظمهم جهاداً ومواساة لأخيه الحسين (ع) أبو الفضل العبّاس ، وهو أكبرهم وكان عمره يومئذ أربعاً وثلاثين سنة. ولمّا رأى العبّاس (ع) كثرة القتلى من أهله ، قال لإخوته الثلاثة هؤلاء : يا بني اُمّي ، تقدّموا لأحتسبكم عند الله. وفي رواية : حتّى أراكم قد نصحتم لله ورسوله. فتقدّم عبد الله بن علي ، وعمره خمس وعشرون سنة فقاتل قتالاً شديداً حتّى قُتل ، فتقدّم بعده أخوه جعفر بن علي ، وعمره تسع عشرة سنة فقاتل حتّى قُتل ، فبرز بعده أخوهما عثمان بن علي ، وعمره إحدى وعشرون سنة فقام مقام إخوته وقاتل حتّى قُتل ، وبرز من بعدهم أخوهم أبو الفضل العبّاس وقاتل قتالاً شديداً ، واشتدّ العطش بالحسين (ع) ، فركب المسنّاة يريد الفرات وبين يديه أخوه العبّاس ، فأحاط القوم بالعبّاس فاقتطعوه ، فجعل العبّاس (ع) يُقاتلهم وحده ، فضربه زيد بن ورقاء الحنفي على يمينه فقطعها ، فأخذ السّيف بشماله وهو يرتجز ويقول :

واللهِ إنْ قَطعْتمُوا يَمينِي

إنّي اُحامي أبداً عنْ دِيني

وعنْ إمامٍ صادقِ اليقينِ

نجلِ النَّبيِّ الطّاهرِ الأمينِ

فضربه حكيم بن الطفيل على شماله فقطعها ، فقال :

يا نفسُ لا تَخشَي منَ الكفّارِ

وأبشِري برحمةِ الجبّارِ

١٣٣

معَ النبيِّ السيّدِ المُختارِ

قدْ قَطعُوا ببغيهمْ يَساري

فأصلِهمْ يا ربِّ حَرَّ النّارِ

فضربه آخر بعمود من حديد فقتله ، فبكى الحسين (ع) لقتله بكاءً شديداً. ولنعم ما قال القائل :

أحقُّ النّاس أنْ يُبكى عليهِ

فتىً أبكى الحسينَ بكربلاءِ

أخوهُ وابنُ والدِهِ عليٍّ

أبو الفضلِ المُضرّجِ بالدّماءِ

ومَنْ واساهُ لا يُثنيهِ شيءٌ

وجادَ لهُ على عَطشٍ بماءِ

وكانت اُمّ البنين ـ اُمّ هؤلاء الإخوة الأربعة ـ بعد قتلهم تخرج كلّ يوم إلى البقيع وتحمل معها عبيد الله ابن ولدها العبّاس ، فتندب أولادها الأربعة خصوصاً العبّاس أشجى ندبة وأحرقها ، فيجتمع النّاس ويستمعون بكاءها وندبتها ، فكان مروان ابن الحكم ـ على شدّة عداوته لبني هاشم ـ يجئ فيمن يجئ فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي.

رَقَّ لها الشّامتُ ممّا بها

ما حالُ مَنْ رقَّ لهُ الشّامتُ

فممّا كانت ترثي به ولدها العبّاس قولها :

يا مَنْ رأى العبّاسَ كرَ

على جماهير النَّقَدْ (١)

ووراهُ منْ أبناءِ حيدَرِ

كلُّ ليثٍ ذي لُبدْ

اُنبئتُ أنّ ابني اُصيبَ

برأسهِ مقطوعَ يدْ

ويليْ على شبليْ أمَا

لَ برأسهِ ضربُ العَمدْ

لو كان سيفُكَ في يديكَ

لمَا دَنا منهُ أحدْ

ومن رثائها في أولادها الأربعة قولها :

لا تدعونّيْ ويكِ اُمّ البنينْ

تذكّريني بليوثِ العرينْ

كانتْ بنونٌ لي اُدعى بهمْ

واليوم أصبحتُ ولا منْ بنينْ

أربعةٌ مثلُ نسورِ الرُّبى

قد واصلوا الموتَ بقطعِ الوتينْ

تنازعُ الخرصانُ أشلاءَهُمْ

وكلُّهمْ أمسَى صريعاً طعينْ

يا ليتَ شعري أكما أخبرُوا

بأنّ عباساً قطيعُ اليمينْ

______________________

(١) النَقَد : جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه ، وزاد البيت حسناً أنّ العبّاس من أسماء الأسد. ـ المؤلّف ـ

١٣٤

المجلس الثالث والستّون

لما رأى العبّاس بن علي (ع) وحدة أخيه الحسين (ع) بعد قتل أصحابه وجملة من أهل بيته ، قال لإخوته الثلاثة من اُمّه وأبيه ؛ عبد الله وجعفر وعثمان : تقدّموا لأحتسبكم عند الله تعالى. فتقدّموا حتّى قُتِلوا ، فجاء إلى أخيه الحسين (ع) واستأذن في القتال فقال له : «أنت حامل لوائي». فقال له : ضاق صدري وسئمت الحياة. فقال له الحسين (ع) : «إنْ عزمت فاستسق لنا ماءً». فأخذ قربته وحمل على القوم حتّى ملأ القربة ، واغترف من الماء غرفة ثمّ ذكر عطش أخيه الحسين (ع) فرمى بها ، وقال :

يانفسُ منْ بعدِ الحُسينِ هُوني

وبعدَهُ لا كُنتِ أنْ تكوني

هذا حُسينٌ واردُ

المَنونِ وتشرَبينَ باردَ المَعينِ

ثم عاد فأخذوا عليه الطريق ، فجعل يضربهم بسيفه وهو يقول :

لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رَقَى

حتّى اُوارَى في المصاليت لقَى

إنّي أنا العبّاسُ أغدو بالسّقَا

ولا أهابُ الموتَ يومَ المُلتقَى

ففرقهم ، فضربه حكيم بن الطفيل على يمينه فبراها ، فأخذ اللواء بشماله وهو يقول :

واللهِ إنْ قَطعتمُوا يَميني

إنّي اُحامي أبداً عنْ دِيني

فضربه زيد بن ورقاء على شماله فبراها ، فضمّ اللّواء إلى صدره وهو يقول :

ألا ترَونَ معشرَ الفُجّارِ

قدْ قطَعوا ببغيهمْ يساري

١٣٥

فضربه رجل بعمود على رأسه فخرّ صريعاً إلى الأرض ، ونادى بأعلى صوته : أدركني يا أخي. فانقضّ عليه أبو عبد الله (ع) كالصقر ، فرآه مقطوع اليمين واليسار مرضوخ الجبين مشكوك العين بسهم مثخناً بالجراحة ، فوقف عليه منحنياً وجلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه الزكيّة. ثمّ حمل على القوم فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً فيفرّون منه كما تفرّ المَعزى إذا شدّ فيها الذئب.

عبّاسُ كبشَ كتيْبَتي وكنانَتي

وسَريَّ قومي بلْ أعزَّ حُصوني

يا ساعدي في كلِّ مُعتركٍ بهِ

أسطو وسيفَ حمايَتي بيَميني

لمَنْ اللِوا اُعطي ومَن هو جامعٌ

شَملي وفي ضنَكِ الزّحامِ يَقيني

١٣٦

المجلس الرابع والستّون

روي عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنّه قال : «كان عمّنا العبّاس بن علي نافذ البصيرة صلب الإيمان ، جاهد مع أبي عبد الله الحسين (ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً». وروي عن علي بن الحسين (ع) أنّه نظر يوماً إلى عبيد الله بن العبّاس بن علي (ع) فاستعبر ، ثمّ قال : «ما من يوم أشدّ على رسول الله (ص) من يوم اُحُد ؛ قُتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤته ؛ قُتل فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالب ، ولا يوم كيوم الحسين (ع) ؛ ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنّهم من هذه الاُمّة ، كلٌّ يتقرب إلى الله عزّ وجلّ بدمه ، وهو يذكّرهم بالله فلا يتّعظون حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً». ثمّ قال : «رحم الله العبّاس ، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتّى قُطِعت يداه. وإنّ للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشّهداء يوم القيامة». ولَنعم ما قال حفيده الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس :

إنّي لأذكرُ للعبّاسِ موقفَهُ

بكربلاءَ وهامُ القومِ تُختطفُ

يحمي الحُسينَ ويحميهِ على ظمأٍ

ولا يُولّي ولا يُثْنَى فيختلفُ

ولا أرى مشهداً يوماً كمشهدِهِ

مع الحُسينِ عليه الفضلُ والشرفُ

أكرمْ بهِ مشهداً بانتْ فضيلتُهُ

وما أضاعَ لهُ أفعالهُ خلفُ

واذكرْ أبا الفضلِ هلْ تُنسَى فضائلُهُ

في كربلا حينَ جدَّ الأمرُ والتَبسا

واسى أخاهُ وفاداهُ بمُهجتِهِ

وخاضَ في غَمَرات الموتِ مُنغمسا

ففزْ أبا الفضلِ بالفضل العظيم ِبما

أسديتهُ فعليكَ الفضلُ قدْ حُبسا

قضيتَ حقَّ الإخا والدينِ مبتذلاً

للنفسِ في سَقي أطفال له ونِسا

١٣٧

المجلس الخامس والستّون

لمّا قُتل جميع أنصار الحسين (ع) وأهل بيته ، خرج غلام من خباء من أخبية الحسين (ع) ، وهو محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب ، وفي اُذنيه درّتان ، فأخذ بعود من عيدان الخباء وهو مذعور ، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وقرطاه يتذبذبان ، فحمل عليه هانئ بن ثبيت الحضرمي فضربه بالسيف فقتله ، فصارت اُمّه شهربانويه تنظر إليه ولا تتكلم كالمدهوشة. ونادى الحسين (ع) : «هل من ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله (ص)؟ هل من موحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟». وتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب : «ناوليني وَلَدي الصغير حتّى اُودّعه». فاُتي بابنه عبد الله ـ واُمّه الرباب بنت امرئ القيس ـ فأخذه وأجلسه في حجره ، وأومأ إليه لِيقَبّله فرماه حرملة بن كاهل ـ أو كاهن ـ الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه ، فقال (ع) لزينب : «خذيه». ثمّ تلقّى الدّم بكفّيه ، فلّما امتلأتا رمى بالدّم نحو السّماء ، ثمّ قال : «هوّن عليّ ما نزل به أنّه بعين الله». وفي رواية : أنّه صَبّه في الأرض ، ثمّ قال : «يا ربِّ ، إنْ حبَستَ عنّا النّصر من السّماء ، فاجعل ذلك لما هو خير منه». ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهل بيته. وفي رواية : أنّه حفر له بجفن سيفه ورمّله بدمه فدفنه.

ومنعطفاً أهوَى لتقبيلِ طفلِهِ

فقبّلَ منه قبلَهُ السّهمُ منْحرَا

لقدْ ولِدا في ساعةٍ هو والرّدَى

ومَن في نحرِهِ السّهمُ كبّرَا

صبيٌّ وهو بين يدي أبيهِ

اُصيبَ فأيُّ ذنبٍ للصَّبيِّ

١٣٨

المجلس السّادس والستّون

لمّا قُتل أنصار الحسين (ع) وأهل بيته وبقي وحيداً فريداً وقد أحاط به القوم ، خرج من عند النّساء عبد الله بن الحسن بن علي عليهم‌السلام ، وهو غلام لم يراهق ، فلحقته زينب بنت علي عليهما‌السلام لتحبسه ، فقال لها الحسين (ع) : «احبسيه يا اُختي». فأبى وامتنع عليها امتناعاً شديداً ، وجاء يشتد إلى عمّه الحسين (ع) حتّى وقف إلى جنبه وقال : لا اُفارق عمّي. فأهوى بحر بن كعب إلى الحسين (ع) بالسّيف ، فقال له الغلام : ويلك يابن الخبيثة! أتقتل عمّي؟! فضربه بحر بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلّقة ، فنادى الغلام : يا عمّاه! ـ أو يا اُمّاه! ـ فأخذه الحسين (ع) فضمّه إلى صدره وقال : «يابن أخي ، اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين ؛ برسول الله (ص) وعلي وحمزة وجعفر والحسن صلّى الله عليهم أجمعين». فرماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمه.

لم يُنجِّ الكهولَ سنٌّ ولا الشّبان

زهدٌ ولا نجا الأطفال

هَبُوا أنّكُمْ قاتلتمُ فقتلتُمُ

فما بالُ أطفال تُقاسي نبالَها

١٣٩

المجلس السّابع والستّون

لمّا قُتل أنصار الحسين (ع) وأهل بيته ، دعا النّاس إلى البراز ، فلم يزل يقتل كلَّ مَن برز إليه حتّى قتل مقتلةً عظيمة ، ثمّ حمل على الميمنة وهو يقول :

القتلُ أولَى من ركوبِ العارِ

والعارُ أولى من دخولِ النّارِ

واللهِ منْ هذا وهذا جاري

ثم حمل على الميسرة وهو يقول :

أنا الحسينُ بنُ عليْ

آليتُ أنْ لا أنثني

أحمي عيالاتِ أبي

أمضي على دينِ النّبي

ولمّا بقي في ثلاثة من أهله ، قال : «ابغوني ثوباً لا يرغب فيه أحد أجعله تحت ثيابي ؛ لئلاّ اُجرّد منه بعد قتلي ، فإنّي مقتول مسلوب». فاُتي بتبّان (١) ، قال : «لا ، ذاك لباس مَن ضُربت عليه الذلّة ، ولا ينبغي لي أنْ ألبسه». فأخذ ثوباً خَلِقاً فخرّقه وجعله تحت ثيابه ، فلمّا قُتل جرّدوه منه ، ثمّ استدعى بسراويل من حبرة يمانية يلمع فيها البصر ، ففزرها ولبسها ؛ وإنّما فزرها لئلاّ يسلبها بعد قتله ، فلمّا قُتل (ع) سلبها منه بحر بن كعب وتركه مجرّداً. وأقبل الحسين (ع) على القوم يدفعهم عن نفسه ، والثلاثة الذين معه يحمونه حتّى قُتل الثلاثة وبقي وحده ، وقد اُثخن بالجراح في رأسه وبدنه ، فجعل يضاربهم بسيفه ، وحمل النّاس عليه عن يمينه وشماله ، فحمل على الذين عن يمينه فتفرّقوا ، ثمّ حمل على الذين عن يساره فتفرّقوا. قال بعض الرواة : فوالله ، ما رأيت مكثوراً (أي مغلوباً) قط قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشاً ، ولا أمضى جناناً ، ولا أجرأ مقدماً منه. والله ، ما رأيت قبله

______________________

(١) تُبّان ، بوزن رُمّان : سروال صغير يستر العورة. ـ المؤلّف ـ

١٤٠