المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين

المجالس السنيّة في مناقب ومناصب العترة النبويّة - ج ١-٤

المؤلف:

السيد محسن بن عبد الكريم الأمين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٨

١
٢

٣
٤

مقدمة الناشر

اخذت دارنا (دار التعارف) على نفسها منذ انشائها ان تعنى بالتراث الاسلامي فتعمل جهدها على نشره بكل وسائلها وفيما خلف آية الله المجتهد الاكبر السيد محسن الامين رضوان الله عليه كان هذا الكتاب النفيس الذي هو نهج للذاكرين ومنهل للواردين ولما كانت طبعاته الاولى قد نفدت والحاجة اليه ماسة فقد آثرنا اعادة طبعه في طبعة سابعة وهي هذه الطبعة سائلين الله العون والتسديد في خدمة هذه الامة وخدمة تاريخها ومستقبلها.

واننا لنعاهد الله على ان نظل كما عرفنا قراؤنا على نهج قويم وصراط مستقيم.

بيروت ـ دار التعارف

٥
٦

مقدّمة الطبعة الجديدة

هذا كتاب (المجالسُ السَّنيّة) بحلّته الجديدة تخرجه دار التعارف تعميماً لفائدته ونشراً لدعوته.

وهذا الكتاب قصد مؤلِّفه ـ أول ما قصد من تأليفه ـ أنْ يكون دليلاً للخطباء ومستنداً للذاكرين ؛ يعتمدون عليه في تنقية ما يلقون ويذكرون من سيرة الحسين (ع) ، وقد أدّى رسالته وسيظل يؤديها على مر العصور.

سائلين لدار التعارف الناهضة بهذه المهمة التوفيق والنجاح.

حسن الامين

٧

السيّد محسن الأمين

يصعب الإلمام بكلّ جانب من جوانب حياة المجتهد الأكبر السيّد محسن الأمين إلماماً كاملاً لغير المتخصّصين المتفرّغين لمثل هذه الدراسات العميقة الواسعة.

فحياة السيّد محسن الأمين حياة زاخرة بأخصب ما تزخر به حياة الرجال ، حافلة بأطيب ما تحفل به حياة المُصلحين ؛ قادة الاُمم ورعاة الشعوب.

وحين تُقبل على دراسة سيرة السيّد محسن تُحار من أيّ جانب من جوانبها يمكن أنْ تقبل على تلك السيرة الفريدة.

فبينما هو أمامك إمام في الدِّين ، مجتهد في رأس المجتهدين ، عليه أنْ يتفرّغ للجواب على الإستفتاءات وحلّ المشكلات وفضّ الخصومات. إذا أمامك قائد شعبي يجعل من الدِّين طريقاً للإصلاح ، وثورة على الجمود ونقمة على البدع ؛ يصادم الجماهير بغير ما تعتقد ، ويواجه الجموع بغير ما ترى ، فيتّخذ الخرافيون أو المستغلّون هذه المصادمة وهذه المواجهة وسيلة لإثارة النّاس ، محاولين الفتّ في عضُد المنادي بالإصلاح ، وترويع الثائر على البدع ، فما يزداد إلاّ صموداً وثورة وشجاعة.

وكان كتاب (المجالسُ السَّنيّة) إحدى محاولاته الإصلاحيّة لشدّة ارتباط استشهاد الحسين (ع) بحياة الشعب ، ولتأثير ما يلقى في الاحتفالات التذكاريّة الحسينيّة في نفوس النّاس.

وقد أراد أنْ تكون تلك الاحتفالات بعيدة عن الشوائب ؛ فنظّم لها عدّة مجالس ضمّنها كتابه هذا بعد أنْ قدّم له مقدّمة تبيّن نهجه واُسلوبه وغايته.

لقد عاش السيّد محسن حياة زاخرة بالعمل ، حافلة بالصلاح والإصلاح ، ثمّ توفّاه الله فظلّ حيّاً بآثاره وكتبه ومبادئه.

وهكذا تكون حياة المصلحين ، وهكذا يخلّدون أبد الدهر.

محمّد علي صندوق

٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي فضّل المجاهدين على القاعدين درجات ، ورفع منازل الشهداء في أعالي الجنّات ، وجعل الذين قُتلوا في سبيله أحياءً عند ربّهم يُرزقون غير أموات ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد أشرف البريّات ، وأفضل المخلوقات ، وعلى آله الأئمة الهداة ، الذين ابتلوا بأعظم البليّات ، وأفجع الرزايا والمصيبات.

وبعد ، فيقول العبد المفتقر إلى عفو ربّه الغني ، محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي ، نزيل دمشق الشام ، عفا الله عن سيّئاته : هذا كتاب (المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة) وهو خمسة أجزاء ؛ أربعة منها في ذكر مصيبة الحسين (ع) التي هي أعظم مصائب أهل البيت عليهم‌السلام. والجزء الأول من الأربعة ـ وهو هذا الجزء ـ في تاريخ مولده ومقتله ، وقدر عمره ومدّة خلافته ، وكنيته ولقبه ونقش خاتمه ، وعدد أولاده ، وصفته ونُبذ في مناقبه وسيرته ، وخُطَبه ونظم الشعر في رثائه وزيارته ، وما جرى له بعد موت معاوية ، وكيفيّة شهادته ، وما جرى بعد قتله إلى رجوع أهل بيته إلى المدينة وما يتعلّق بذلك.

والجزء الثاني والثالث والرابع : في جملة من مناقب أهل البيت عليهم‌السلام ، وجملة من الغزوات ، والمواعظ والآداب ، وأخبار السلف المستحسنة ، وغير ذلك ممّا فيه فوائد نافعة للمستمع مع التخلّص إلى ذكر المصيبة على الطريقة المألوفة بأنسب وجه وأجمل طريق ، ناقلاً ذلك من الكتب المعتمدة المشهورة لمؤرّخي الإسلام.

والجزء الخامس فيما يتعلّق بأحوال النبي (ع) والزهراء والأئمة (ع) ومناقبهم على أبسط وجه وأحسن ترتيب.

والله المسؤول أنْ يكون عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم ، مقبولاً عنده تعالى وعند نبيّه وعترته الطاهرين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.

٩
١٠

مقدّمة مهمّة

لا يخفى أنّه قد قضى العقل والدِّين باحترام عظماء الرجال أحياءً وأمواتاً ، وتجديد الذكرى لمَن بذل نفسه في أسمى المقاصد وأنفع الغايات ، وجرت على ذلك جميع الاُمم في كلّ عصر وزمان. وإنّ سيّدنا ومولانا الإمام ابن الإمام أخا الإمام أبا الأئمة ، الحسين الشهيد ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، أحد ريحانتي الرسول (ص) وسبطيه وخليفته في اُمّته ، من أعاظم رجال الإسلام بل من أعاظم رجال الكَون. فقد جمع إلى شريف نسبه وكريم عنصره ، وبنوّته لسيّد الأنبياء ولسيّد الأوصياء وللبضعة الزهراء سيّدة النّساء صلوات الله عليهم ، أكرم الصفات وأحسن الأخلاق وأعظم الأفعال وأجلّ الفضائل والمناقب ، وقام بما لم يُسمع بمثله قبله ولا بعده ؛ من بذل نفسه وماله وآله في سبيل إحياء الدين وإظهار فضائح المنافقين ، وأظهر من إباء الضيم وعزّة النفس ، والشجاعة والبسالة ، والصبر والثبات ، ما بهر العقول. ومصيبته وكيفيّة شهادته من أفظع ما صدر في الكون ، مع أنّه ابن بنت النبي (ص) الذي لمْ يكن على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره. وقد حزن النبي (ص) لتلك المصيبة قبل وقوعها ، وكذلك آله الأئمة الأطهار عليهم‌السلام كانت سيرتهم تجديد الأحزان لذكرى تلك الفاجعة الأليمة حتّى قال الامام الرضا (ع) : «كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى تمضي عشرة أيّام منه ، فإذا كان اليوم العاشر ، كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه». وقد ندبوا (ع) إلى ما ندب إليه العقل في حقّ كلّ محبّ مع حبيبه ؛ من الفرح لفرحهم والحزن لحزنهم. واقتدى بهم في ذلك شيعتهم وأولياؤهم ، فجدّدوا ذكرى مصيبة الحسين (ع) وكيفية شهادته التي تكاد أنْ تفتّت الصخور ، فضلاً عن الأكباد والقلوب ، لا سيّما في عشرة المحرّم التي وقعت فيها تلك المصائب الفادحة.

هذا ، ولكن كثيراً من الذاكرين لمصابهم قد اختلقوا أحاديث في المصائب وغيرها لم

١١

يذكرها مؤرّخ ولا مؤلّف ، ومسخوا بعض الأحاديث الصحيحة وزادوا ونقصوا فيها ؛ لِما يرونه من تأثيرها في نفوس المستمعين الجاهلين بصحّة الأخبار وسُقمها حتّى حُفِظَتْ على الألسن ، واُودعت في المجاميع ، واشتهرت بين النّاس ، ولا رادع ، وهي من الأكاذيب التي تغضبهم (ع) وتفتح باب القدح للقادح ؛ فإنّهم لا يرضون بالكذب الذي لا يرضي الله ورسوله (ص) وقد قالوا لشيعتهم : «كونوا زيناً لنا ، ولا تكونوا شيناً علينا». وقد اكتسبوا ـ هم ومَن قَبِلها منهم وأقرّهم عليها ـ الإثم المبين ؛ فإنّ الله لا يُطاع من حيث يُعصى ، ولا يتقبّل الله إلاّ من المتّقين. والكذب من كبائر الذنوب الموبقة لا سيّما إنْ كان على النبي (ص) وأهل بيته الطاهرين.

كما أنّ ما يفعله جملة من النّاس ؛ من جرح أنفسهم بالسيوف ، أو اللطم المؤدّي إلى إيذاء البدن ، إنّما هو من تسويلات الشيطان وتزيينه سوء الأعمال ، فذلك ممّا يغضب الحسين (ع) ويبّعد عنه لا ممّا يقرّب إليه ؛ فهو (ع) قد قُتل في سبيل الإحياء لدين جدّه (ص) ، وهذه الأعمال ممّا نهى عنها دين جدّه (ص) ، فكيف يرضى بها وتكون مقربة إلى الله تعالى ، والله تعالى لا يُطاع من حيث يُعصى ، كما ذكرنا آنفاً؟! وانتحال بعض الجهّال عذراً لذلك بما ينقلونه من أنّ إحدى الطاهرات نطحت جبينها بمُقدّم المحمل حتّى رُئي الدم يجري من تحت قناعها ؛ هو من هذا البحر وعلى هذه القافية اللَذين مرّت الإشارة إليهما. وهكذا ما يجري من التمثيل والتشبيه للوقعة ؛ فإنّه في نفسه مشتمل على كثير من المحرّمات ، وموجب لهتك الحرمة ، وفتح باب القدح للذين يحاولونه بما استطاعوا ، فيكون منهيّاً عنه بقوله (ع) : «ولا تكونوا شيناً علينا». نعم ، التمثيل الخالي عن المحرّمات والشائنات لا بأس به ، ولكن أين هو؟

فعلى مَن يريد التقرّب إلى الله تعالى ونبيّه (ص) وأوليائه بالبكاء والحزن لمصاب الحسين (ع) ، أنْ لا يتعدّى ما رسمه الامام الرضا نقلاً عن أبيه عليهما‌السلام ممّا مرّ ، وإلاّ كان من الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا.

مقتل سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما‌السلام

ذكر مولده ومقتله ، وقدر عمره ومدّة خلافته ، وكنيته ولقبه ونقش خاتمه ، وعدد أولاده وصفته ، ونظم الشعر في رثائه ، وجملة من مناقبه ، وما جرى له بعد موت معاوية ، وتفصيل شهادته ، وما جرى بعد قتله إلى رجوع أهل بيته إلى المدينة وما يتعلّق بذلك. وفيه مجالس :

١٢

المجلس الأول

وُلد الحسين بن علي عليهما‌السلام بالمدينة المنوّرة عام الخندق ، في شعبان يوم الخميس أو الثلاثاء لخمس أو ثلاث خلون منه ، وقيل في آخر ربيع الأول ، وقيل لخمس خلون من جمادى الاُولى سنة ثلاث أو أربع من الهجرة. حملت به اُمّه الزهراء صلوات الله عليها بعد ولادة أخيه الحسن (ع) بخمسين ليلة ، فلم يكن بينهما سوى هذه المدّة ومدّة الحمل.

وروى مولانا الإمام جعفر بن محمّد الصادق عن أبيه عليهما‌السلام : «أنّه لم يكن بينهما إلاّ طهر واحد». وكانت مدّة حمله ستّة أشهر. فلمّا وُلِد جاءت به اُمّه فاطمة عليها‌السلام إلى جدّه رسول الله (ص) فاستبشر به ، وأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، وعقّ عنه كبشاً يوم السّابع ، وسمّاه حسيناً ، وأمر اُمّه أنْ تحلق رأسه وتتصدّق بزنة شعره فضّة كما فعلت بأخيه الحسن (ع) ، فامتثلت ما أمرها به.

وقُتل (ع) شهيداً بكربلاء من أرض العراق يوم الجمعة أو السبت أو الاثنين عاشر المحرّم سنة إحدى وستين من الهجرة ، وعمره الشريف خمس وخمسون ، أو ست وخمسون سنة وخمسة أشهر وخمسة أيّام ، أو سبعة أيّام ، أو أكثر من ذلك بأشهر وأيام على اختلاف الروايات والأقوال المتقدّمة (١). عاش منها مع جدّه رسول الله (ص) ست سنين أو سبع سنين وشهوراً ، ومع أبيه أمير المؤمنين (ع) بعد وفاة رسول الله (ص) ثلاثين سنة إلاّ أشهراً ، ومع أخيه الحسن (ع) بعد وفاة أبيه نحو عشر سنين ، وبعد وفاة

____________________

(١) قيل : إنّ عمرَه الشريف سبع وخمسون سنة ، وكأنّه مبني على نوع من التسامح ، بعد السّنة الناقصة سنة كاملة. ومن الغريب قول الشيخ المفيد عليه الرحمة : أنّ عُمرَه الشريف ثمان وخمسون سنة مع ذكره أنّ مولده لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة ، وشهادته عاشر المحرّم سنة إحدى وستّين ، فإنّ عمره من هذا يكون ستاً وخمسين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام.

١٣

أخيه الحسن نحو عشر سنين ، وقيل : خمس سنين وأشهراً ؛ للاختلاف في تاريخ وفاة الحسن (ع) ، وهي مدّة خلافته وإمامته الثابتة بقوله (ص) له ولأخيه الحسن : «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا». ودلّت وصيّة أخيه الحسن إليه على إمامته ، كما دلّت وصيّة أمير المؤمنين (ع) إلى الحسن (ع) على إمامته ، بحسب ما دلّت وصيّة رسول الله (ص) إلى أمير المؤمنين (ع) على إمامته. وكان الحسين (ع) في هذه المدّة صابراً للهدنة إلتي بينه وبين معاوية ، فالتزم الوفاء بها. فلمّا مات معاوية ، أظهر أمره بحسب الإمكان ، ولمّا وجد أنصاراً دعا إلى الجهاد ، وتوجّه بولده وأهل بيته من حرم الله وحرم رسول الله (ص) إلى العراق ؛ استنصاراً بمَن دعاه. وقدّم أمامه ابن عمّه مسلم بن عقيل رضي الله عنه وأرضاه للدعوة إلى الله وللبيعة على الجهاد ، فبايعه مَن بايعه على ذلك ، وعاهدوه وضمنوا له النصرة والنصيحة. ثم نكث مَن نكث ، وخذلوه وأسلموه ، فقُتل بينهم ولم ينصروه ، وخرجوا إلى حرب الحسين (ع) ، فحاصروه ومنعوه المسير إلى بلاد الله ، واضطرّوه إلى حيث لا يجد ناصراً ولا ملجئاً منهم ، وحالوا بينه وبين ماء الفرات وقتلوه. فمضى عليه السلام ظمآن مجاهداً صابراً محتسباً مظلوماً ، قد نُكثت بيعته واستحلّت حرمته ، ولم يوفَ له بعهده ولا رعيت فيه ذمّة ، شهيداً على ما مضى عليه أبوه وأخوه.

ميّتٌ تبكي له فاطمةٌ

وأبوها وعليٌّ ذو العُلا

كنيته : أبو عبد الله. لقبه : الرشيد ، الطيّب ، الوفي ، السيّد ، الزكي ، المبارك ، التابع لمرضاة الله ، الدليل على ذات الله ، السبط. شاعره : يحيى بن الحكم ، وجماعة. بوّابه : أسعد الهجري. نقش خاتمه : (لكلِّ أجلٍ كتابْ). ملوك عصره : معاوية وابنه يزيد. له من الأولاد تسعة ؛ ستّة ذكور وثلاث بنات. فالذكور : علي الأكبر ، وعلي الأوسط ، وعلي الأصغر ، ومحمّد ، وعبد الله ، وجعفر. والبنات : زينب ، وسكينة ، وفاطمة. وقال المفيد : له أربعة ذكور وابنتان بإسقاط أحد العليّين ومحمّد وزينب ، واختلف في علي الأكبر ؛ فالمشهور أنّه المقتول بكربلاء ، واُمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفيّة. وقال المفيد : إنّ الأكبر هو زين العابدين واُمّه شاهزنان بنت كسرى يزدجرد ؛ والأصغر جاءه سهم بكربلاء فقتله ؛ وجعفر اُمّه قضاعية ، توفي في حياة أبيه ولم يعقب ؛ وعبد الله الرضيع جاءه سهم وهو في حجر أبيه فذبحه ، واُمّه واُمّ سكينة الرباب بنت امرئ القيس بن عدي كلبية معديّة ، وفاطمة اُمّها اُمّ اسحاق بنت طلحة بن عبد الله تيمية. والذِكر المخلّد والثناء المؤبَّد من بين بنيه لعلي زين العابدين ومنه عقبه :

ذرّيةٌ مثلُ ماءِ المُزنِ قد طهِروا

وطُيّبوا فصفتْ أوصافُ ذاتِهمُ

١٤

المجلس الثاني

قالت اُمّ الفضل زوج العبّاس بن عبد المطلب ـ واسمها لبابة ـ : يا رسول الله ، رأيت في منامي كأنّ عضواً من أعضاءك سقط في بيتي. قال (ص) : «خيراً رأيت ، إنْ صدقَتْ رؤياك فإنّ فاطمة ستلد غلاماً ، فأدفعه إليك لترضعيه». فولدت فاطمة عليها‌السلام الحسين (ع) فكفلته اُمّ الفضل. وقيل : كانت أمّ الفضل مربّية للحسين (ع) ولم ترضعه ، كما أنّ اُمّ عبد الله بن يقطر كانت حاضنة للحسين (ع). قالت اُمّ الفضل : فأتيت به يوماً إلى رسول الله (ص) ، فبينما هو يقبّله إذْ بال ، فقطرت منه قطرة على ثوب النبي (ص) ، فقال : «خذيه». فأخذته ، وقرصته قرصة بكى منها ، فقال كالمغضب : «مهلاً يا اُمّ الفضل ، آذيتني وأبكيتِ ابني ، فهذا ثوبي يُغسل». وفي رواية : «لقد أوجع قلبي ما فعلتِ به».

الله اكبر! إذا كان قد بلغ حبّ النبي (ص) للحسين (ع) ورأفته به أنْ تكون قرصة اُمّ الفضل له تؤذي النبي (ص) وتوجع قلبه ؛ فإلى أيّ حدّ بلغ الأذى بالنبي (ص) حين كانت السّيوف والرماح والسهام تقع في بدن ولده الحسين (ع) حتّى اُثخن بالجراح ، وصارت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ؟! وهل يُلام مَن بكى على الحسين (ع) وتألّم لقتله وواسى رسول الله (ص) في الحزن والبكاء؟ وهل يتوقّف مسلم في استحقاق قتَلة الحسين (ع) اللّعنة ، ومَن أمر بذلك أو أعان عليه ، بعد قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا).

يا رسولَ اللهِ لو عايَنْتهمْ

وهُمُ ما بين قتلٍ وسِبا

منْ رميضٍ يُمنعُ الظلُّ ومنْ

عاطشٍ يُسقى أنابيبُ القَنا

لرأتْ عيناكَ منهُمْ منظَراً

للحشَى شجْواً وللعينِ قذا

١٥

المجلس الثالث

في كتاب (وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى) للسمهودي الشافعي ، عن علي (ع) قال : «زارنا النبي (ص) فبات عندنا ، والحسن والحسين نائمان ، واستسقى الحسن ، فقام النبي (ص) وأخذ قربة لبناً ، فصبّ منها في القدح ثمّ جعل يسقيه ، فتناول الحسين فمنعه وبدأ بالحسن ، فقالت فاطمة : يا رسول الله ، كأنّه أحبّ إليك؟ قال : إنّما استسقى أولاً. ثمّ قال رسول الله (ص) : إنّي وإيّاك وهذان وهذا الراقد (يعني عليّاً) يوم القيامة في مكان واحد». لمْ يدع النبي (ص) فاطمة عليها‌السلام أنْ تسقي الحسن (ع) لمّا استسقى ، بل قام وسقاه بنفسه ثمّ سقى الحسين (ع) ؛ وذلك لأنّ الحسن طلب أولاً ، والماء لمَن طلب أولاً. بذلك ظهر مقدار كرامة الحسنَين عليهما‌السلام عند النّبي (ص) حتّى أنّه لمْ يدع اُمّهما تسقيهما حتّى سقاهما بنفسه. فليتك يا رسول الله حضرت يوم كربلاء ، ورأيت ولدك الحسين (ع) ، وقد اشتدّ به العطش ، عندما منعه جيش بني اُميّة من الماء وحالوا بينه وبين ماء الفرات ، وجعل يطلب شربة من الماء فلا يجد ، وكلّما حمل بفرسه على الفرات ليشرب حملوا عليه حتّى أجلوه عنه ، فكنتَ تسقيه الماء كما سقيته في بيت اُمّه بنفسك ، ولم تدع اُمّه تنوب عنك في ذلك! قال السمهودي : وعن علي (ع) قال : «زارنا رسول الله (ص) ، فعملنا له خزيرة ـ وهي لحم يقطع صغاراً ويصبّ عليه ماء كثير ، فإذا نضج ذرّ عليه الدقيق ـ ، وأهدت لنا اُمّ أيمَن قعباً من لبن وصحفة من تمر ، فأكل رسول الله (ص) وأكلنا معه ، ثمّ وضّأت رسول الله (ص) ـ أي غسلت يديه ـ فمسح رأسه وجبهته ولحيته بيده ، ثمّ استقبل القبلة فدعا بما شاء الله ، ثمّ أكبّ إلى الأرض بدموع غزيرة ، يفعل ذلك ثلاث مرّات ، فتهيبنا رسول الله (ص) أنْ نسأله ، فوثب الحسين على ظهر رسول الله (ص) وبكى ، فقال له رسول الله (ص) : بأبي واُمّي ، ما يُبكيك؟ قال : يا أبتِ ، رأيتك تصنع شيئاً ما رأيتك تصنع مثله! فقال رسول الله (ص) : يا بُني ، سُررتُ بكم اليومَ سروراً لم اُسرّ بكم مثله قط ، وأنّ حبيبي جبرائيل (ع) أتاني وأخبرني أنّكم قتلى وأنّ مصارعكم شتّى ؛ فأحزنني ذلك ودعوت الله

١٦

لكم بالخيَرة». نعم يا رسول الله ، إنّ آلك وذريتّك قتلى ؛ بعضٌ بالسُّمِّ ، وبعض بالسّيف ، وقبورهم شتّى فأخوك وابن عمّك علي (ع) قتلوه وهو يُصلّي في محرابه ، فكان قبره بظهر الكوفة ، وولداك الحسنان عليهما‌السلام ، اللذان فديتهما بأبيك واُمّك ، قُتل أحدهما وهو الحسن (ع) بالسُّمِّ الذي دُسّ إليه وقطّع كبده ، فكان قبره بالبقيع ، وأخوه الحسين (ع) قُتل بضرب السّيوف وطعن الرماح ورمي السهام من جيش يزيد بن معاوية ، فكان قبره بكربلاء.

بعضٌ بطَيبةَ مدفونٌ وبعضُهمُ

بكربلاءَ وبعضٌ بالغريّينِ

جاشتْ على آلهِ ما ارتاح واحدهُمْ

من قهرِ أعداهُ حتّى مات مقْهُورا

قضى أخوهُ خضيبَ الرأسِ وابنتُهُ

غضبى وسِبطاهُ مسموماً ومنْحُورا

١٧

المجلس الرابع

ممّا جاء في صفة الحسين (ع) ، أنّه كان أشبه النّاس برسول الله (ص). وقال أنس بن مالك ـ لمّا رأى رأس الحسين (ع) بين يدي ابن زياد ـ : كان أشبههم برسول الله (ص). وعن علي (ع) : «كان الحسن أشبه برسول الله (ص) ما بين الصدر الى الرأس ، والحسين أشبه به فيما كان أسفل من ذلك». وكانت الزهراء عليها‌السلام تُرقّص الحسن (ع) ، وتقول :

إشبهْ أباك يا حَسنْ

إشبهْ أباك يا حَسنْ

واعبدْ إلهاً ذا مِننْ

ولا توالِ ذا الإحنْ

وقالت للحسين (ع) :

أنتَ شبيهٌ بأبيْ

لستَ شبيهاً بِعليْ

وكان الحسين (ع) يخضب بالحنّاء والكتم ، وقُتل صلوات الله عليه وقد نصل الخضاب من عارضيه.

وأقوى دليل وأوضح برهان على كمال فضل الحسنَين عليهما‌السلام وعلوّ مقامهما وإمامتهما للمسلمين ؛ أنّ النبي (ص) باهَلَ بهما وهما صبيّان ، كما دلّ عليه قوله تعالى في آية المباهلة (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ). وبايع لهما النبي (ص) وهما صبيّان لم يبايع صبيّاً غيرهما ، وأوجب لهما الجنّة على عملهما وهما طفلان بقوله تعالى في سورة هل أتى : (فَوَقَاهُمُ اللّهُ شَرّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنّةً وَحَرِيراً). وقال رسول الله (ص) في الحسنَين عليهما‌السلام : «هما ريحانتاي من الدّنيا». وقال (ص) : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة». وقال (ص) فيهما : «هذان ابناي ، فمَن أحبَّهما فقد أحبّني ، ومَن أبغضهما فقد أبغضني». وقال (ص) فيهما : «اللهمَّ ، إنّي

١٨

اُحبّهما فأحبهما». وقال (ص) : «ابناي هذان ، إمامان قاما أو قعدا». وكان النبي (ص) يصلّي ، فإذا سجد وثب الحسَنان عليهما‌السلام على ظهره ، فإذا أرادوا أنْ يمنعوهما ، أشار إليهم أنْ دعُوهما ، فلمّا قضى الصلاة وضعهما في حجره وقال : «مَن أحبّني فليُحب هذين». وكان (ص) يجثو للحسنَين عليهما‌السلام فيركبان على ظهره ، ويقول : «نِعمَ الجملُ جملكما! ونعم العدلان أنتما!». وحملهما (ص) مرّة على عاتقه ، فقال رجل : نعم الفرس لكما! فقال (ص) : «ونِعمَ الفارسان هما!». وحجّ الحسَنان عليهما‌السلام ماشيين ، فلم يمرّا برجل راكب إلاّ نزل يمشي ، فقال بعضهم لسعد بن أبي وقّاص : قد ثقل علينا المشي ، ولا نستحسن أنْ نركب وهذان السيّدان يمشيان. فرغب إليهما سعد في أنْ يركبا ، فقال الحسن (ع) : «لا نركب ، قد جعلنا على أنفسنا المشي إلى بيت الله الحرام على أقدامنا ، ولكننا نتنكّب عن الطريق». فأخذا جانباً من النّاس. وكان ابن عبّاس مع علمه وجلالة قدره يمسك بركاب الحسنَين عليهما‌السلام حتّى يركبا ، ويقول : هما ابنا رسول الله (ص). وسمع النبيُّ (ص) بكاءهما وهو على المنبر ، فقام فزعاً. وكان (ص) يخطب على المنبر ، فجاء الحسَنان عليهما‌السلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل (ص) من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ، ثمّ قال : (إنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) فإذا كان بكاء الحسنَين عليهما‌السلام ـ وهما طفلان صغيران ـ وعثورهما في ثوبيهما أزعج النبي (ص) كلّ هذا الإزعاج حتّى نزل عن المنبر فزعاً مدهوشاً ، وحملهما ووضعهما بين يديه ، فما كان يجري على النبي (ص) لو رأى ولده الحسن (ع) يلفظ كبده قطعاً من السمّ الذي دُسّ إليه؟! وما كان يجري عليه لو رأى ولده الحسين (ع) وهو وحيد فريد لا ناصر له ولا معين ، يستغيث فلا يُغاث ، ويطلب شربة من الماء فلا يُجاب ، وقد أحاط به ثلاثون ألفاً يرمونه بالسّهام ويطعنونه بالرماح ، ويضربونه بالسيوف ويرشقونه بالحجارة حتّى اُثخن بالجراح ، وصارت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ حتّى ذبحوه كما يُذبح الكبش ، ونساؤه وعياله تنظر إليه؟! أما كان النبي (ص) يبكي ويجزع ويتفطّر قلبه ويتصدّع؟

يا رسولَ اللهِ لو عاينْتهُمْ

وهُمُ ما بين قتلٍ وسِبا

لرأتْ عيناك منهمْ منظراً

للحشى شجواً وللعينِ قذا

١٩

المجلس الخامس

قال رسول الله (ص) : «إنّ الله تعالى جعل ذرّيّة كلِّ نبيٍّ من صلبه خاصّة ، وجعل ذرّيتي من صلب علي بن أبي طالب».

وقال الحسين (ع) لأصحاب ابن زياد يوم الطفّ : «ما لكم تناصرون علَيّ؟! أما والله ، لئن قتلتموني لتقتلنّ حجّة الله عليكم. لا والله ، ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ أحتجّ به عليكم غيري».

وأجلس النبي (ص) الحسن (ع) على فخذه اليمنى والحسين (ع) على فخذه اليسرى ، وأجلس عليّاً وفاطمة عليهما‌السلام بين يديه ، ثمّ لفّ عليهما كساءه أو ثوبه ، ثمّ قرأ (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً). ثمّ قال : «هؤلاء أهل بيتي حقّاً». وقال النبي (ص) لعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع) : «أنا سِلم لمَن سالمتُم ، وحرب لمَن حاربتُم». ونظر (ص) إلى الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فقال : «مَن أحبّ هذين وأباهما واُمّهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة». وقال (ص) : «حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ الله من أحبّ حسيناً». وقال (ص) : «مَن أحبّ أنْ ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء ، فلينظر إلى الحسين (ع)». وكان (ص) يخطب على المنبر إذ خرج الحسين (ع) ، فوطئ في ثوبه فسقط فبكى ، فنزل النبي (ص) عن المنبر ، فضمّه إليه وقال : «قاتل الله الشيطان! إنّ الولد لفتنة. والذي نفسي بيده ، ما دريت أنني نزلت عن منبري». ومرّ (ص) من بيت فاطمة عليها‌السلام ، فسمع الحسين (ع) يبكي ، فقال : «ألم تعلمي أنّ بكاءه يؤذيني؟».

إذا كان بكاء الحسين (ع) ـ وهو طفل صغير ـ يؤذي النبي (ص) ، فما كان يجري على النبي (ص) لو نظر إلى ولده الحسين (ع) وهو ينادي : «هل من ذابّ يذبّ

٢٠