بداية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

بداية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٤

أنه منتسب إلى شيء هو منتسب إليه لهذا المنتسب ، كالأب المنسوب من حيث أنه أب لهذا الابن ، إليه من حيث إنه ابن له.

وتنقسم الإضافة إلى متشابهة الأطراف كالأخوة والأخوة ، ومختلفة الأطراف ، كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية.

ومن خواص الإضافة ، أن المضافين متكافئان وجودا وعدما وفعلا وقوة ، لا يختلفان من حيث الوجود والعدم والفعل والقوة.

واعلم أن المضاف ، قد يطلق على نفس الإضافة كالأبوة والبنوة ، ويسمى المضاف الحقيقي ، وقد يطلق على معروضها كالأب والابن ، ويسمى المضاف المشهوري.

وأما الفعل فهو الهيئة ، الحاصلة من تأثير المؤثر ما دام يؤثر ، كالهيئة الحاصلة من تسخين المسخن ما دام يسخن.

وأما الانفعال فهو الهيئة ، الحاصلة من تأثر المتأثر ما دام يتأثر ، كالهيئة الحاصلة من تسخن المتسخن ما دام يتسخن ، واعتبار التدرج في تعريف الفعل والانفعال ، لإخراج الفعل والانفعال إلا بداعيين ، كفعل الواجب تعالى ، بإخراج العقل المجرد من العدم إلى الوجود ، وانفعال العقل بخروجه من العدم إلى الوجود ، بمجرد إمكانه الذاتي.

٨١
٨٢

المرحلة السابعة

في العلة والمعلول

وفيها أحد عشر فصلا

٨٣

الفصل الأول

في إثبات العلية والمعلولية وأنهما في الوجود

قد تقدم (١) أن الماهية في ذاتها ، ممكنة تستوي نسبتها إلى الوجود والعدم ، وأنها في رجحان أحد الجانبين محتاجة إلى غيرها ، وعرفت (٢) أن القول بحاجتها ، في رجحان عدمها إلى غيرها نوع تجوز ، وإنما الحاجة في الوجود فلوجودها توقف على غيرها.

وهذا التوقف لا محالة على وجود الغير ، فإن المعدوم من حيث هو معدوم لا شيئية له ، فهذا الموجود المتوقف عليه في الجملة ، هو الذي نسميه علة ، والماهية المتوقفة عليه في وجودها معلولتها.

ثم إن المجعول للعلة والأثر الذي تضعه في المعلول ، إما أن يكون هو وجوده أو ماهيته ، أو صيرورة ماهيته موجودة ، لكن يستحيل أن يكون المجعول هو الماهية ، لما تقدم (٣) أنها اعتبارية ، والذي للمعلول من علته أمر أصيل ، على أن الذي تستقر فيه حاجة الماهية المعلولة ، ويرتبط بالعلة هو وجودها لا ذاتها(٤).

__________________

(١) في الفصل السابع من المرحلة الرابعة.

(٢) في الفصل العاشر من المرحلة الاولى.

(٣) في الفصل الرابع من المرحلة الاولى.

(٤) لأنّ الماهية في حدّ نفسها هى هى ، من غير أن ترتبط بشئ وراء نفسها. منه.

٨٤

ويستحيل أن يكون المجعول هو الصيرورة ، لأنها معنى نسبي قائم بطرفيه ، ومن المحال أن يقوم أمر أصيل خارجي ، بطرفين اعتباريين غير أصيلين ، فالمجعول من المعلول والأثر الذي تفيده العلة هو وجوده ، لا ماهيته ولا صيرورة ماهيته موجودة وهو المطلوب.

الفصل الثاني

في انقسامات العلة

تنقسم العلة إلى تامة وناقصة ، فإنها إما أن تشتمل ، على جميع ما يتوقف عليه وجود المعلول ، بحيث لا يبقى للمعلول معها إلا أن يوجد ، وهي العلة التامة ، وإما أن تشتمل على البعض دون الجميع ، وهي العلة الناقصة ، وتفترقان من حيث إن العلة التامة ، يلزم من وجودها وجود المعلول ، ومن عدمها عدمه ، والعلة الناقصة لا يلزم من وجودها وجود المعلول ، ولكن يلزم من عدمها عدمه.

وتنقسم أيضا إلى الواحدة والكثيرة ، وتنقسم أيضا إلى البسيطة وهي ما لا جزء لها ، والمركبة وهي بخلافها ، والبسيطة إما بسيطة بحسب الخارج ، كالعقل المجرد والأعراض ، وأما بحسب العقل ، وهي ما لا تركيب فيه خارجا من مادة وصورة ، ولا عقلا من جنس وفصل ، وأبسط البسائط ما لم يتركب من وجود وماهية ، وهو الواجب عز اسمه.

وتنقسم أيضا إلى قريبة وبعيدة ، والقريبة ما لا واسطة بينها وبين معلولها ، والبعيدة بخلافها كعلة العلة.

وتنقسم العلة إلى داخلية وخارجية ، والعلل الداخلية وتسمى أيضا علل القوام ، هي المادة والصورة المقومتان للمعلول ، والعلل الخارجية

٨٥

وتسمى أيضا علل الوجود ، وهي الفاعل والغاية ، وربما سمي الفاعل ما به الوجود ، والغاية ما لأجله الوجود.

وتنقسم العلة إلى العلل الحقيقية والمعدات ، وفي تسمية المعدات عللا تجوز ، فليست عللا حقيقية ، وإنما هي مقربات تقرب المادة إلى إفاضة الفاعل ، كورود المتحرك في كل حد من حدود المسافة ، فإنه يقربه إلى الورود في حد يتلوه ، وكانصرام القطعات الزمانية ، فإنه يقرب موضوع الحادث إلى فعلية الوجود.

الفصل الثالث

في وجوب المعلول عند وجود العلة التامة ووجوب وجود العلة

عند وجود المعلول

إذا كانت العلة التامة موجودة وجب وجود معلولها ، وإلا جاز عدمه مع وجودها ، ولازمه تحقق عدمه المعلول لعدم العلة من دون علة.

وإذا كان المعلول موجودا وجب وجود علته ، وإلا جاز عدمها مع وجود المعلول ، وقد تقدم (١) أن العلة ، سواء كانت تامة أو ناقصة يلزم من عدمها عدم المعلول.

ومن هنا يظهر ، أن المعلول لا ينفك وجوده عن وجود علته ، كما أن العلة التامة لا تنفك عن معلولها.

فلو كان المعلول زمانيا موجودا في زمان بعينه ، كانت علته موجودة واجبة في ذلك الزمان بعينه ، لأن توقف وجوده على العلة في ذلك الزمان ،

__________________

(١) في الفصل السابق.

٨٦

فترجيح العلة لوجوده وإفاضتها له في ذلك الزمان ، ولو كانت العلة موجودة في زمان آخر ، معدومة في زمان وجود المعلول ، والإفاضة قائمة بوجودها ، كانت مفيضة للمعلول وهي معدومة هذا محال (١).

برهان آخر :

، حاجة الماهية المعلولة إلى العلة ، ليست إلا حاجة وجودها إلى العلة ، وليست الحاجة خارجة من وجودها ، بمعنى أن يكون هناك وجود وحاجة ، بل هي مستقرة في حد ذات وجودها ، فوجودها عين الحاجة والارتباط ، فهو وجود رابط بالنسبة إلى علته ، لا استقلال له دونها وهي مقومة له ، وما كان هذا شأنه استحال أن يوجد إلا متقوما بعلته ، معتمدا عليها ، فعند وجود المعلول يجب وجود علته وهو المطلوب.

الفصل الرابع

[قاعدة الواحد]

الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد وذلك ، أن من الواجب أن يكون بين العلة ومعلولها ، سنخية ذاتية ليست بين الواحد منهما وغير الآخر ، وإلا جاز كون كل شيء علة لكل شيء ، وكل شيء معلولا لكل شيء ، ففي العلة جهة مسانخة لمعلولها ، هي المخصصة لصدوره عنها ، فلو صدرت عن العلة الواحدة ، وهي

__________________

(١) الفرق بين هذه المسألة ومسألة : أنّ الشئ ما لم يجب لم يوجد ، أنّ المراد بالوجوب ههنا ، الوجوب بالقياس إلى الغير ، وفي تلك المسألة ، الوجوب بالغير. منه دام ظله.

٨٧

التي ليست لها في ذاتها إلا جهة واحدة ، معاليل كثيرة بما هي كثيرة متباينة ، غير راجعة إلى جهة واحدة بوجه من الوجوه ، لزمه تقرر جهات كثيرة في ذاتها وهي ذات جهة واحدة ، وهذا محال.

ويتبين بذلك ، أن ما يصدر عنه الكثير من حيث هو كثير ، فإن في ذاته جهة كثرة ، ويتبين أيضا أن العلل الكثيرة ، لا تتوارد على معلول واحد.

الفصل الخامس

في استحالة الدور والتسلسل في العلل

أما استحالة الدور وهو توقف وجود الشيء ، على ما يتوقف عليه وجوده ، إما بلا واسطة وهو الدور المصرح ، وإما بواسطة أو أكثر وهو الدور المضمر ، فلأنه يستلزم توقف وجود الشيء على نفسه ، ولازمه تقدم الشيء على نفسه بالوجود ، لتقدم وجود العلة على وجود المعلول بالضرورة.

وأما استحالة التسلسل ، وهو ترتب العلل لا إلى نهاية ، فمن أسد البراهين عليها ، ما أقامه الشيخ ، في إلهيات الشفاء ، ومحصله أنا إذا فرضنا معلولا وعلته ، وعلة علته وأخذنا هذه الجملة ، وجدنا كلا من الثلاثة ذا حكم ضروري يختص به ، فالمعلول المفروض معلول فقط ، وعلته علة لما بعدها معلولة لما قبلها ، وعلة العلة علة فقط غير معلولة ، فكان ما هو معلول فقط طرفا وما هو علة فقط طرفا آخر ، وكان ما هو علة ومعلول معا وسطا بين طرفين ، ثم إذا فرضنا الجملة أربعة مترتبة ، كان للطرفين ما تقدم من حكم الطرفين ، وكان الاثنان الواقعان ، بين الطرفين مشتركين في حكم الوسط ، وهو أن لهما العلية والمعلولية معا ، بالتوسط بين طرفين ، ثم كلما زدنا في عدد الجملة إلى ما لانهاية له ، كان الأمر جاريا على مجرى واحد ، وكان مجموع ما بين

٨٨

الطرفين ، وهي العدة التي كل واحد من آحادها ، علة ومعلول معا وسطا له حكمه.

فلو فرضنا سلسلة من العلل مترتبة إلى غير النهاية ، كان ما وراء المعلول الأخير من الجملة غير المتناهية ، وسطا لا طرف له وهو محال.

وهذا البرهان يجري ، في كل سلسلة مترتبة من العلل ، التي لا تفارق وجودها وجود المعلول ، سواء كانت تامة أو ناقصة دون العلل المعدة.

ويدل على وجوب تناهي العلل التامة خاصة ، ما تقدم (١) أن وجود المعلول ، وجود رابط بالنسبة إلى علته ، فإنه لو ترتبت العلية والمعلولية ، في سلسلة غير متناهية ، من غير أن تنتهي إلى علة غير معلولة ، كانت وجودات رابطة متحققة من غير وجود نفسي ، مستقل تقوم به وهو محال.

ولهم على استحالة التسلسل حجج أخرى ، مذكورة في المطولات.

الفصل السادس

[العلة الفاعلية وأقسامها]

العلة الفاعلية وهي ، التي تفيض وجود المعلول وتفعله على أقسام ، وقد ذكروا في وجه ضبطها ، أن الفاعل إما أن يكون له علم بفعله أو لا ، والثاني إما أن يلائم فعله طبعه وهو الفاعل بالطبع ، أو لا يلائم وهو الفاعل بالقسر ، والأول وهو الذي له علم بفعله ، إن لم يكن فعله بإرادته فهو الفاعل بالجبر ، وإن كان بها فإما أن يكون علمه بفعله ، في مرتبة فعله بل عين فعله ، وهو الفاعل بالرضا ، وإما أن يكون علمه بفعله قبل فعله ،

__________________

(١) في الفصل الثالث.

٨٩

وحينئذ إما أن يكون علمه مقرونا بداع زائد ، وهو الفاعل بالقصد ، وإما أن لا يكون علمه مقرونا بداع زائد ، بل يكون نفس العلم فعليا منشأ لصدور المعلول ، وحينئذ فإما أن يكون علمه زائدا على ذاته ، وهو الفاعل بالعناية ، أو غير زائد على ذاته وهو الفاعل بالتجلي ، والفاعل في ما تقدم إذا نسب إلى فعله ، من جهة أنه وفعله فعل لفاعل آخر ، كان فاعلا بالتسخير.

فللفاعل أقسام ثمانية ، أحدها الفاعل بالطبع وهو الذي لا علم له بفعله ، مع كون الفعل ملائما لطبعه ، كالنفس في مرتبة القوى البدنية الطبيعية ، تفعل أفعالها بالطبع.

الثاني الفاعل بالقسر ، وهو الذي لا علم له بفعله ولا فعله ملائم لطبعه ، كالنفس في مرتبة القوى عند المرض ، فإن الأفعال تنحرف فيه عن مجرى الصحة لعوامل قاسرة.

الثالث الفاعل بالجبر وهو ما له علم بفعله ، وليس بإرادته كالإنسان يكره على فعل ما لا يريده.

الرابع الفاعل بالرضا وهو الذي له إرادة ، وعلمه التفصيلي بالفعل عين الفعل ، وليس له قبل الفعل إلا علم إجمالي به بعلمه بذاته ، كالإنسان يفعل الصور الخيالية وعلمه التفصيلي بها عينها ، وله قبلها علم إجمالي بها بعلمه بذاته ، وكفاعلية الواجب للأشياء عند الإشراقيين.

الخامس الفاعل بالقصد ، وهو الذي له إرادة وعلم بفعله قبل الفعل ، بداع زائد كالإنسان في أفعاله الاختيارية.

السادس الفاعل بالعناية ، وهو الذي له إرادة وعلم ، سابق على الفعل زائد على ذات الفاعل ، نفس الصورة العلمية منشأ لصدور الفعل ، من غير داع زائد ، كالإنسان الواقع على جذع عال ، فإنه بمجرد توهم السقوط يسقط على الأرض ، وكالواجب في إيجاده على قول المشائين.

السابع الفاعل بالتجلي وهو الذي يفعل الفعل ، وله علم سابق

٩٠

تفصيلي به هو عين علمه الإجمالي بذاته ، كالنفس الإنسانية المجردة ، فإنها لما كانت الصورة الأخيرة لنوعها ، كانت على بساطتها هي المبدأ ، لجميع كمالاتها وآثارها الواجدة لها في ذاتها ، وعلمها الحضوري بذاتها علم بتفاصيل كمالاتها ، وإن لم يتميز بعضها من بعض ، وكالواجب تعالى بناء على ما سيجيء (١) ، من أن له تعالى علما إجماليا ، في عين الكشف التفصيلي.

الثامن الفاعل بالتسخير ، وهو الفاعل إذا نسب إليه فعله ، من جهة أن لنفس الفاعل فاعلا آخر ، إليه يستند هو وفعله فهو فاعل مسخر في فعله ، كالقوى الطبيعية والنباتية والحيوانية ، المسخرة في أفعالها للنفس الإنسانية ، وكالفواعل الكونية المسخرة للواجب ، تعالى في أفعالها.

وفي كون الفاعل بالجبر والفاعل بالعناية ، مباينين للفاعل بالقصد مباينة نوعية ، على ما يقتضيه التقسيم كلام.

الفصل السابع

في العلة الغائية

وهي الكمال الأخير الذي يتوجه إليه الفاعل في فعله.

فإن كان لعلم الفاعل دخل في فاعليته ، كانت الغاية مرادة للفاعل في فعله ، وإن شئت فقل كان الفعل مرادا له لأجلها ، ولهذا قيل إن الغاية متقدمة ، على الفعل تصورا ومتأخرة عنه وجودا.

وإن لم يكن للعلم دخل في فاعلية الفاعل ، كانت الغاية ما ينتهي إليه الفعل ، وذلك أن لكمال الشيء نسبة ثابتة إليه ، فهو مقتض لكماله ، ومنعه

__________________

(١) في الفصل الخامس من المرحلة الثانية عشرة.

٩١

من مقتضاه دائما أو في أكثر أوقات وجوده ، قسر دائمي أو أكثري ، ينافي العناية الإلهية بإيصال كل ممكن إلى كماله ، الذي أودع فيه استدعاؤه ، فلكل شيء غاية هي كماله الأخير الذي يقتضيه ، وأما القسر الأقلي فهو شر قليل ، يتداركه ما بحذائه من الخير الكثير ، وإنما يقع فيما يقع في نشأة المادة ، بمزاحمة الأسباب المختلفة.

الفصل الثامن

في إثبات الغاية فيما يعد لعبا أو جزافا أو باطلا

والحركات الطبيعية وغير ذلك

ربما يظن أن الفواعل الطبيعية ، لا غاية لها في أفعالها ، ظنا أن الغاية يجب أن تكون معلومة مرادة للفاعل ، لكنك عرفت (١) أن الغاية أعم من ذلك ، وأن للفواعل الطبيعية غاية في أفعالها ، هي ما ينتهى إليه حركاتها.

وربما يظن أن كثيرا من الأفعال الاختيارية لا غاية لها ، كملاعب الصبيان بحركات لا غاية لهم فيها ، وكاللعب باللحية وكالتنفس ، وكانتقال المريض النائم من جانب إلى جانب ، وكوقوف المتحرك إلى غاية عن غايته ، بعروض مانع يمنعه عن ذلك ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

والحق أن شيئا من هذه الأفاعيل لا يخلو عن غاية ، توضيح ذلك أن في الأفعال الإرادية مبدأ قريبا للفعل ، هو القوة العاملة المنبثة في العضلات ، ومبدأ متوسطا قبله ، وهو الشوق المستتبع للإرادة والإجماع ، ومبدأ بعيدا قبله ، هو العلم وهو تصور الفعل على وجه جزئي ، الذي ربما قارن التصديق بأن

__________________

(١) في الفصل السابق.

٩٢

الفعل خير للفاعل.

ولكل من هذه المبادي الثلاثة غاية ، وربما تطابقت أكثر من واحد منها في الغاية ، وربما لم يتطابق.

فإذا كان المبدأ الأول وهو العلم فكريا ، كان للفعل الإرادي غاية فكرية ، وإذا كان تخيلا من غير فكر ، فربما كان تخيلا فقط ثم تعلق به الشوق ، ثم حركت العاملة نحوه العضلات ، ويسمى الفعل عندئذ جزافا ، كما ربما تصور الصبي حركة من الحركات ، فيشتاق إليها فيأتي بها ، وما انتهت إليه الحركة حينئذ غاية للمبادي كلها.

وربما كان تخيلا مع خلق وعادة ، كالعبث باللحية ويسمى عادة ، وربما كان تخيلا مع طبيعة كالتنفس ، أو تخيلا مع مزاج كحركات المريض ، ويسمى قصدا ضروريا ، وفي كل من هذه الأفعال لمباديها غاياتها ، وقد تطابقت في أنها ما انتهت إليه الحرة ، وأما الغاية الفكرية فليس لها مبدأ فكري ، حتى تكون له غايته.

وكل مبدإ من هذه المبادي إذا لم يوجد غايته ، لانقطاع الفعل دون البلوغ إلى الغاية ، بعروض مانع من الموانع ، سمي الفعل بالنسبة إليه باطلا ، وانقطاع الفعل بسبب مانع ، يحول بينه وبين الوصول إلى الغاية ، غير كون الفاعل لا غاية له في فعله.

الفصل التاسع

في نفي القول بالاتفاق وهو انتفاء الرابطة بين

ما يعد غاية للأفعال وبين العلل الفاعلية

ربما يظن أن من الغايات المترتبة على الأفعال ، ما هي غير مقصودة

٩٣

لفاعلها ولا مرتبطة به ، ومثلوا له بمن يحفر بئرا ، ليصل إلى الماء فيعثر على كنز ، والعثور على الكنز ، ليس غاية لحفر البئر مرتبطة به ، ويسمى هذا النوع من الاتفاق بختا سعيدا ، وبمن يأوي إلى بيت ليستظل فينهدم عليه فيموت ، ويسمى هذا النوع من الاتفاق بختا شقيا.

وعلى ذلك بنى بعض علماء الطبيعة كينونة العالم ، فقال إن عالم الأجسام مركبة من أجزاء ، صغار ذرية مبثوثة في خلاء غير متناه ، وهي دائمة الحركة فاتفق أن تصادمت جملة منها ، فاجتمعت فكانت الأجسام فما صلح للبقاء بقي ، وما لم يصلح لذلك فنى سريعا أو بطيئا.

والحق أن لا اتفاق في الوجود ، ولنقدم لتوضيح ذلك مقدمة ، هي أن الأمور الكائنة ، يمكن أن تتصور على وجوه أربعة ، منها ما هو دائمي الوجود ، ومنها ما هو أكثري الوجود ، ومنها ما يحصل بالتساوي ، كقيام زيد وقعوده مثلا ، ومنها ما يحصل نادرا وعلى الأقل ، كوجود الإصبع الزائد في الإنسان.

والأمر الأكثري الوجود يفارق الدائمي الوجود ، بوجود معارض يعارضه في بعض الأحيان ، كعدد أصابع اليد فإنها خمسة على الأغلب ، وربما أصابت القوة المصورة للإصبع مادة زائدة صالحة لصورة الإصبع ، فصورتها إصبعا ومن هنا يعلم ، أن كون الأصابع خمسة مشروط بعدم مادة زائدة ، وأن الأمر بهذا الشرط دائمي الوجود لا أكثريه ، وأن الأقلي الوجود مع اشتراط المعارض ، المذكور أيضا دائمي الوجود ، لا أقليه وإذا كان الأكثري والأقلي دائميين بالحقيقة ، فالأمر في المساوي ظاهر ، فالأمور كلها دائمية الوجود ، جارية على نظام ثابت لا يختلف ولا يتخلف.

وإذا كان كذلك ، فلو فرض أمر كمالي مترتب على فعل فاعل ، ترتبا دائميا لا يختلف ولا يتخلف ، حكم العقل حكما ضروريا فطريا بوجود رابطة وجودية ، بين الأمر الكمالي المذكور وبين فعل الفاعل ، رابطة تقضي بنوع من الاتحاد الوجودي بينهما ، ينتهي إليه قصد الفاعل لفعله وهذا هو الغاية.

٩٤

ولو جاز لنا أن نرتاب ، في ارتباط غايات الأفعال بفواعلها ، مع ما ذكر من دوام الترتب ، جاز لنا أن نرتاب في ارتباط الأفعال ، بفواعلها وتوقف الحوادث والأمور على علة فاعلية ، إذ ليس هناك إلا ملازمة وجودية وترتب دائمي ، ومن هنا ما أنكر كثير من القائلين بالاتفاق ، العلة الفاعلية كما أنكر العلة الغائية ، وحصر العلية في العلة المادية ، وستجيء (١) الإشارة إليه.

فقد تبين من جميع ما تقدم ، أن الغايات النادرة الوجود المعدودة من الاتفاق ، غايات دائمية ذاتية لعللها ، وإنما تنسب إلى غيرها بالعرض ، فالحافر لأرض تحتها كنز يعثر على الكنز دائما ، وهو غاية له بالذات ، وإنما تنسب إلى الحافر للوصول إلى الماء بالعرض ، وكذا البيت الذي اجتمعت عليه أسباب الانهدام ، ينهدم على من فيه دائما ، وهو غاية للمتوقف فيه بالذات ، وإنما عدت غاية للمستظل بالعرض ، فالقول بالاتفاق من الجهل بالسبب.

الفصل العاشر

في العلة الصورية والمادية

أما العلة الصورية فهي الصورة ، بمعنى ما به الشيء هو هو بالفعل ، بالنسبة إلى النوع المركب منها ومن المادة ، فإن لوجود النوع توقفا عليها بالضرورة ، وأما بالنسبة إلى المادة ، فهي صورة وشريكة العلة الفاعلية على ما تقدم (٢) ، وقد تطلق الصورة على معان أخر خارجة من غرضنا.

وأما العلة المادية فهي المادة ، بالنسبة إلى النوع المركب منها ومن الصورة ، فإن لوجود النوع توقفا عليها بالضرورة ، وأما بالنسبة إلى الصورة فهي ،

__________________

(١) في الفصل الآتي.

(٢) في الفصل السابع من المرحلة السادسة.

٩٥

مادة قابلة معلولة لها على ما تقدم.

وقد حصر قوم من الطبيعيين العلة في المادة ، والأصول المتقدمة ترده ، فإن المادة سواء كانت الأولى أو الثانية ، حيثيتها القوة ولازمها الفقدان ، ومن الضروري أنه لا يكفي ، لإعطاء فعلية النوع وإيجادها ، فلا يبقى للفعلية إلا أن توجد من غير علة وهو محال.

وأيضا قد تقدم أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، والوجوب الذي هو الضرورة واللزوم ، لا مجال لاستناده إلى المادة ، التي حيثيتها القبول والإمكان ، فوراء المادة أمر يوجب الشيء ويوجده ، ولو انتفت رابطة التلازم ، التي إنما تتحقق بين العلة والمعلول ، أو بين معلولي علة ثالثة وارتفعت من بين الأشياء ، بطل الحكم باستتباع أي شيء لأي شيء ، ولم يجز الاستناد إلى حكم ثابت ، وهو خلاف الضرورة العقلية ، وللمادة معان أخر غير ما تقدم خارجة من غرضنا.

الفصل الحادي عشر

في العلة الجسمانية

العلل الجسمانية متناهية أثرا ، من حيث العدة والمدة والشدة ، قالوا لأن الأنواع الجسمانية ، متحركة بالحركة الجوهرية ، فالطبائع والقوى التي لها ، منحلة منقسمة إلى حدود وأبعاض ، كل منها محفوف بالعدمين محدود ذاتا وأثرا.

وأيضا العلل الجسمانية لا تفعل ، إلا مع وضع خاص بينها وبين المادة ، قالوا لأنها لما احتاجت في وجودها إلى المادة ، احتاجت في إيجادها إليها ، والحاجة إليها في الإيجاد هي ، بأن يحصل لها بسببها وضع خاص مع المعلول ، ولذلك كان للقرب والبعد والأوضاع الخاصة ، دخل في تأثير العلل الجسمانية.

٩٦

المرحلة الثامنة

في انقسام الموجود إلى الواحد والكثير

وفيها عشرة فصول

٩٧

الفصل الأول

في معنى الواحد والكثير

الحق أن مفهومي الوحدة والكثرة ، من المفاهيم العامة التي تنتقش في النفس انتقاشا أوليا ، كمفهوم الوجود ومفهوم الإمكان ونظائرهما ، ولذا كان تعريفهما بأن ، الواحد ما لا ينقسم من حيث إنه لا ينقسم ، والكثير ما ينقسم من حيث إنه ينقسم تعريفا لفظيا ، ولو كانا تعريفين حقيقيين ، لم يخلوا من فساد ، لتوقف تصور مفهوم الواحد على تصور مفهوم ما ينقسم ، وهو مفهوم الكثير ، وتوقف تصور مفهوم الكثير على تصور مفهوم المنقسم ، الذي هو عينه ، وبالجملة الوحدة هي حيثية عدم الانقسام ، والكثرة حيثية الانقسام.

تنبيه

، الوحدة تساوق الوجود مصداقا ، كما أنها تباينه مفهوما ، فكل موجود فهو من حيث إنه موجود واحد ، كما أن كل واحد فهو من حيث إنه واحد موجود ، فإن قلت انقسام الموجود المطلق ، إلى الواحد والكثير يوجب كون الكثير موجودا كالواحد ، لأنه من أقسام الموجود ، ويوجب أيضا كون الكثير غير الواحد مباينا له ، لأنهما قسيمان والقسيمان متباينان بالضرورة ، فبعض

٩٨

الموجود وهو الكثير من حيث هو كثير ليس بواحد ، وهو يناقض القول بأن كل موجود فهو واحد.

قلت للواحد اعتباران ، اعتباره في نفسه من دون قياس الكثير إليه ، فيشمل الكثير فإن الكثير من حيث هو موجود فهو واحد ، له وجود واحد ولذا يعرض له العدد ، فيقال مثلا ، عشرة واحدة وعشرات وكثرة واحدة وكثرات ، واعتباره من حيث يقابل الكثير فيباينه.

توضيح ذلك أنا كما نأخذ الوجود ، تارة من حيث نفسه ووقوعه قبال مطلق العدم ، فيصير عين الخارجية وحيثية ترتب الآثار ، ونأخذه تارة أخرى فنجده في حال تترتب عليه آثاره ، وفي حال أخرى لا تترتب عليه تلك الآثار ، وإن ترتبت عليه آثار أخرى ، فنعد وجوده المقيس وجودا ذهنيا لا تترتب عليه الآثار ، ووجوده المقيس عليه ، وجودا خارجيا تترتب عليه الآثار ، ولا ينافي ذلك قولنا ، إن الوجود يساوق العينية والخارجية ، وإنه عين ترتب الآثار.

كذلك ربما نأخذ مفهوم الواحد ، بإطلاقه من غير قياس ، فنجده يساوق الوجود مصداقا ، فكل ما هو موجود فهو من حيث وجوده واحد ، ونجده تارة أخرى وهو متصف بالوحدة في حال ، وغير متصف بها في حال أخرى ، كالإنسان الواحد بالعدد ، والإنسان الكثير بالعدد المقيس إلى الواحد بالعدد ، فنعد المقيس كثيرا مقابلا للواحد الذي هو قسيمه ، ولا ينافي ذلك قولنا ، الواحد يساوق الموجود المطلق ، والمراد به الواحد بمعناه الأعم المطلق من غير قياس.

الفصل الثاني

في أقسام الواحد

الواحد إما حقيقي وإما غير حقيقي ، والحقيقي ما اتصف بالوحدة

٩٩

بنفسه ، من غير واسطة في العروض كالإنسان الواحد ، وغير الحقيقي بخلافه ، كالإنسان والفرس المتحدين في الحيوانية.

والواحد الحقيقي إما ذات متصفة بالوحدة ، وإما ذات هي نفس الوحدة ، الثاني هي الوحدة الحقة ، كوحدة الصرف من كل شيء ، وإذا كانت عين الذات ، فالواحد والوحدة فيه شيء واحد ، والأول هو الواحد غير الحق كالإنسان الواحد.

والواحد بالوحدة غير الحقة ، إما واحد بالخصوص وإما واحد بالعموم ، والأول هو الواحد بالعدد ، وهو الذي يفعل بتكرره العدد ، والثاني كالنوع الواحد والجنس الواحد.

والواحد بالخصوص ، إما أن لا ينقسم من حيث الطبيعة ، المعروضة للوحدة أيضا ، كما لا ينقسم من حيث وصف وحدته ، وإما أن ينقسم والأول ، إما نفس مفهوم الوحدة وعدم الانقسام ، وإما غيره ، وغيره إما وضعي كالنقطة الواحدة ، وإما غير وضعي كالمفارق ، وهو إما متعلق بالمادة بوجه كالنفس ، وإما غير متعلق كالعقل ، والثاني وهو الذي يقبل الانقسام ، بحسب طبيعته المعروضة ، إما أن يقبله بالذات كالمقدار الواحد ، وإما أن يقبله بالعرض ، كالجسم الطبيعي الواحد من جهة مقداره.

والواحد بالعموم إما واحد بالعموم المفهومي ، وإما واحد بالعموم بمعنى السعة الوجودية ، والأول إما واحد نوعي كوحدة الإنسان ، وإما واحد جنسي كوحدة الحيوان ، وإما واحد عرضي كوحدة الماشي والضاحك ، والواحد بالعموم بمعنى السعة الوجودية كالوجود المنبسط.

والواحد غير الحقيقي ما اتصف بالوحدة بعرض غيره ، بأن يتحد نوع اتحاد مع واحد حقيقي كزيد وعمرو ، فإنهما واحد في الإنسان ، والإنسان والفرس فإنهما واحد في الحيوان ، وتختلف أسماء الواحد غير الحقيقي ،

١٠٠