بداية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

بداية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٤

الفصل الخامس

في بعض أحكام الفصل

ينقسم الفصل نوع انقسام إلى المنطقي والاشتقاقي.

فالفصل المنطقي هو أخص اللوازم ، التي تعرض النوع وأعرفها ، وهو إنما يؤخذ ويوضع في الحدود ، مكان الفصول الحقيقية لصعوبة الحصول غالبا ، على الفصل الحقيقي الذي يقوم النوع ، كالناطق للإنسان والصاهل للفرس ، فإن المراد بالنطق مثلا ، إما النطق بمعنى التكلم وهو من الكيفيات المسموعة ، وإما النطق بمعنى إدراك الكليات ، وهو عندهم من الكيفيات النفسانية ، والكيفية كيفما كانت من الأعراض ، والعرض لا يقوم الجوهر وكذا الصهيل ، ولذا ربما كان أخص اللوازم أكثر من واحد ، فتوضع جميعا موضع الفصل الحقيقي ، كما يؤخذ الحساس ، والمتحرك بالإرادة جميعا فصلا للحيوان ، ولو كان فصلا حقيقيا لم يكن إلا واحدا كما تقدم (١).

والفصل الاشتقاقي مبدأ الفصل المنطقي ، وهو الفصل الحقيقي المقوم للنوع ، ككون الإنسان ذا نفس ناطقة في الإنسان ، وكون الفرس ذا نفس صاهلة في الفرس.

ثم إن حقيقة النوع هي فصله الأخير ، وذلك لأن الفصل المقوم هو محصل نوعه ، فما أخذ في أجناسه وفصوله الآخر ، على نحو الإبهام مأخوذ فيه على وجه التحصل.

ويتفرع عليه أن هذية النوع به ، فنوعية النوع محفوظة به ولو تبدل بعض

__________________

(١) في الفصل السابق.

٦١

أجناسه ، وكذا لو تجردت صورته ، التي هي الفصل بشرط لا عن المادة ، التي هي الجنس بشرط لا بقي النوع على حقيقة نوعيته ، كما لو تجردت النفس الناطقة عن البدن.

ثم إن الفصل غير مندرج تحت جنسه ، بمعنى أن الجنس غير مأخوذ في حده ، وإلا احتاج إلى فصل يقومه ، وننقل الكلام إليه ويتسلسل بترتب فصول غير متناهية.

الفصل السادس

في النوع وبعض أحكامه

الماهية النوعية توجد أجزاؤها في الخارج بوجود واحد ، لأن الحمل بين كل منها وبين النوع أولي ، والنوع موجود بوجود واحد ، وأما في الذهن فهي متغايرة بالإبهام والتحصل ، ولذلك كان كل من الجنس والفصل ، عرضيا للآخر زائدا عليه كما تقدم (١).

ومن هنا ما ذكروا ، أنه لا بد في المركبات الحقيقية ، أي الأنواع المادية المؤلفة من مادة وصورة ، أن يكون بين أجزائها فقر وحاجة ، من بعضها إلى بعض حتى ترتبط وتتحد حقيقة واحدة ، وقد عدوا المسألة ضرورية لا تفتقر إلى برهان.

ويمتاز المركب الحقيقي من غيره بالوحدة الحقيقية ، وذلك بأن يحصل من تألف الجزئين مثلا أمر ثالث ، غير كل واحد منهما ، له آثار خاصة غير آثارهما الخاصة ، كالأمور المعدنية التي لها آثار خاصة ، غير آثار عناصرها ، لا

__________________

(١) في الفصل الرابع.

٦٢

كالعسكر المركب من أفراد ، والبيت المؤلف من اللبن والجص وغيرهما.

ومن هنا أيضا ، يترجح القول بأن التركيب ، بين المادة والصورة اتحادي لا انضمامي كما سيأتي(١).

ثم إن من الماهيات النوعية ما هي كثيرة الأفراد ، كالأنواع التي لها تعلق ما بالمادة مثل الإنسان ، ومنها ما هو منحصر في فرد ، كالأنواع المجردة تجردا تاما من العقول ، وذلك لأن كثرة أفراد النوع إما أن تكون تمام ماهية النوع ، أو بعضها أو لازمة لها ، وعلى جميع هذه التقادير لا يتحقق لها فرد ، لوجوب الكثرة في كل ما صدقت عليه ، ولا كثرة إلا مع الآحاد هذا خلف ، وإما أن تكون لعرض مفارق ، يتحقق بانضمامه وعدم انضمامه الكثرة ، ومن الواجب حينئذ أن يكون في النوع ، إمكان العروض والانضمام ، ولا يتحقق ذلك إلا بمادة كما سيأتي (٢) ، فكل نوع كثير الأفراد فهو مادي ، وينعكس إلى أن ما لا مادة له ، وهو النوع المجرد ليس بكثير الأفراد ، وهو المطلوب.

الفصل السابع

في الكلي والجزئي ونحو وجودهما

ربما ظن أن الكلية والجزئية إنما هما في نحو الإدراك ، فالإدراك الحسي لقوته يدرك الشيء بنحو ، يمتاز من غيره مطلقا ، والإدراك العقلي لضعفه يدركه بنحو لا يمتاز مطلقا ، ويقبل الانطباق على أكثر من واحد ، كالشبح المرئي من

__________________

(١) في الفصل السادس من المرحلة السادسة.

(٢) في الفصل الرابع من المرحلة السادسة.

٦٣

بعيد ، المحتمل أن يكون هو زيدا ، أو عمرا أو خشبة منصوبة أو غير ذلك وهو أحدها قطعا ، وكالدرهم الممسوح القابل الانطباق على دراهم مختلفة.

ويدفعه أن لازمه أن لا يصدق المفاهيم الكلية ، كالإنسان مثلا على أزيد من واحد من أفرادها حقيقة ، وأن يكذب القوانين الكلية ، المنطبقة على مواردها اللا متناهية إلا في واحد منها ، كقولنا الأربعة زوج وكل ممكن فلوجوده علة ، وصريح الوجدان يبطله ، فالحق أن الكلية والجزئية نحوان من وجود الماهيات.

الفصل الثامن

في تميز الماهيات وتشخصها

تميز ماهية من ماهية أخرى بينونتها منها ، ومغايرتها لها بحيث لا تتصادقان ، كتميز الإنسان من الفرس باشتماله على الناطق ، والتشخص كون الماهية بحيث يمتنع صدقها على كثيرين ، كتشخص الإنسان الذي هو زيد.

ومن هنا يظهر أولا أن التميز وصف إضافي للماهية ، بخلاف التشخص فإنه نفسي غير إضافي.

وثانيا أن التميز لا ينافي الكلية ، فإن انضمام كلي إلى كلي لا يوجب الجزئية ، ولا ينتهي إليها وإن تكرر بخلاف التشخص.

ثم إن التميز بين ماهيتين إما بتمام ذاتيهما ، كالأجناس العالية البسيطة ، إذ لو كان بين جنسين عاليين مشترك ذاتي ، كان جنسا لهما واقعا فوقهما ، وقد فرضا جنسين عاليين هذا خلف.

وإما ببعض الذات وهذا فيما كان بينهما جنس مشترك ، فتتمايزان

٦٤

بفصلين كالإنسان والفرس.

وإما بالخارج من الذات ، وهذا فيما إذا اشتركتا في الماهية النوعية ، فتتمايزان بالأعراض المفارقة ، كالإنسان الطويل المتميز بطوله من الإنسان القصير.

وهاهنا قسم رابع أثبته من جوز التشكيك في الماهية ، وهو اختلاف نوع واحد بالشدة والضعف والتقدم والتأخر وغيرها ، في عين رجوعها إلى ما به الاشتراك ، والحق أن لا تشكيك إلا في حقيقة الوجود ، وفيها يجري هذا القسم من الاختلاف والتمايز.

أما التشخص ، فهو في الأنواع المجردة من لوازم نوعيتها ، لما عرفت أن النوع المجرد منحصر في فرد ، وهذا مرادهم بقولهم ، إنها مكتفية بالفاعل توجد بمجرد إمكانها الذاتي ، وفي الأنواع المادية ، كالعنصريات بالأعراض اللاحقة ، وعمدتها الأين ومتى والوضع ، وهي تشخص النوع ، بلحوقها به في عرض عريض ، بين مبدإ تكونه إلى منتهاه ، كالفرد من الإنسان الواقع بين حجم كذا وحجم كذا ، ومبدأ زماني كذا إلى مبدإ زماني كذا ، وعلى هذا القياس هذا هو المشهور عندهم.

والحق كما ذهب إليه المعلم الثاني ، وتبعه صدر المتألهين ، أن التشخص بالوجود ، لأن انضمام الكلي إلى الكلي لا يفيد الجزئية ، فما سموها أعراضا مشخصة ، هي من لوازم التشخص وأماراته.

٦٥
٦٦

المرحلة السادسة

في المقولات العشر

وهي الأجناس العالية التي إليها تنتهي أنواع الماهيات

وفيها أحد عشر فصلا

٦٧

الفصل الأول

[تعريف الجوهر والعرض عدد المقولات]

تنقسم الماهية انقساما أوليا إلى جوهر وعرض ، فإنها إما أن تكون بحيث إذا وجدت في الخارج ، وجدت لا في موضوع مستغن عنها في وجوده ، سواء وجدت لا في موضوع أصلا ، كالجواهر العقلية القائمة بنفسها ، أو وجدت في موضوع لا يستغني عنها في وجوده ، كالصور العنصرية المنطبعة في المادة المتقومة بها ، وإما أن تكون بحيث ، إذا وجدت في الخارج وجدت في موضوع مستغن عنها ، كماهية القرب والبعد بين الأجسام ، وكالقيام والقعود والاستقبال والاستدبار من الإنسان.

ووجود القسمين في الجملة ضروري ، فمن أنكر وجود الجوهر لزمه جوهرية الأعراض ، فقال بوجوده من حيث لا يشعر.

والأعراض تسعة هي المقولات والأجناس العالية ، ومفهوم العرض عرض عام (١) لها لا جنس فوقها ، كما أن المفهوم من الماهية (٢) عرض عام لجميع المقولات العشر ، وليس بجنس لها.

والمقولات التسع العرضية هي ، الكم والكيف والأين ومتى

__________________

(١) وإلا انحصرت المقولات في مقولتين ، والعرض قيام وجود شئ بشئ آخر يستغني عنه في وجوده ، فهو نحو الوجود. ـ منه (رحمه الله) ـ.

(٢) وهو ما يقال في جواب ما هو ـ منه (رحمه الله) ـ.

٦٨

والوضع والجدة والإضافة ، وأن يفعل وأن ينفعل هذا ما عليه المشاءون ، من عدد المقولات ، ومستندهم فيه الاستقراء.

وذهب بعضهم إلى أنها أربع ، بجعل المقولات النسبية ، وهي المقولات السبع الأخيرة واحدة ، وذهب شيخ الإشراق ، إلى أنها خمس ، وزاد على هذه الأربعة الحركة(١).

والأبحاث في هذه المقولات ، وانقساماتها إلى الأنواع المندرجة تحتها ، طويلة الذيل جدا ، ونحن نلخص القول ، على ما هو المشهور من مذهب المشائين ، مع إشارات إلى غيره.

الفصل الثاني

[في أقسام الجوهر]

قسموا الجوهر تقسيما أوليا إلى خمسة أقسام ، المادة والصورة والجسم والنفس والعقل ، ومستند هذا التقسيم في الحقيقة ، استقراء ما قام على وجوده البرهان من الجواهر ، فالعقل هو الجوهر المجرد عن المادة ذاتا وفعلا ، والنفس هي الجوهر المجرد ، عن المادة ذاتا المتعلق بها فعلا ، والمادة هي الجوهر الحامل للقوة ، والصورة الجسمية هي الجوهر ، المفيد لفعلية المادة من حيث الامتدادات الثلاث ، والجسم هو الجوهر الممتد في جهاته الثلاث.

ودخول الصورة الجسمية في التقسيم دخول بالعرض ، لأن الصورة هي الفصل مأخوذا بشرط لا ، وفصول الجواهر غير مندرجة تحت مقولة الجوهر ،

__________________

(١) فالد

٦٩

وإن صدق عليها الجوهر كما عرفت (١) في بحث الماهية ، ويجري نظير الكلام في النفس(٢).

الفصل الثالث

في الجسم

لا ريب أن هناك أجساما مختلفة تشترك في أصل الجسمية ، التي هي الجوهر الممتد في الجهات الثلاث ، فالجسم بما هو جسم ، قابل للانقسام في جهاته المفروضة ، وله وحدة اتصالية عند الحس ، فهل هو متصل واحد في الحقيقة كما هو عند الحس ، أو مجموعة أجزاء ذات فواصل على خلاف ما عند الحس.

وعلى الأول فهل الأقسام ، التي له بالقوة متناهية أو غير متناهية ، وعلى الثاني فهل الأقسام التي هي بالفعل ، وهي التي انتهى التجزي إليها لا تقبل الانقسام خارجا ، لكن تقبله وهما وعقلا ، لكونها أجساما صغارا ذوات حجم ، أو أنها لا تقبل الانقسام لا خارجا ولا وهما ولا عقلا ، لعدم اشتمالها على حجم ، وإنما تقبل الإشارة الحسية ، وهي متناهية أو غير متناهية ، ولكل من الشقوق المذكورة قائل.

فالأقوال خمسة.

الأول إن الجسم متصل واحد بحسب الحقيقة ، كما هو عند الحس وله أجزاء بالقوة متناهية ، ونسب إلى الشهرستاني.

__________________

(١) الفصل الخامس من المرحلة الخامسة.

(٢) لأنّ النفس ، فيماله نفس ، صورة للنوع الجوهري ، وفصول الجواهر ليست مندرجة تحت مقولة الجوهر. منه رحمه الله.

٧٠

الثاني : أنه متصل حقيقة كما هو متصل حسا ، وهو منقسم انقسامات غير متناهية بمعنى لا يقف ، أي أنه يقبل الانقسام الخارجي ، بقطع أو باختلاف عرضين ونحوه ، حتى إذا لم يعمل الآلات القطاعة ، في تقسيمه لصغره قسمة الوهم ، حتى إذا عجز عن تصوره لصغره البالغ ، حكم العقل كليا بأنه كلما قسم إلى أجزاء كان الجزء الحاصل ، لكونه ذا حجم له طرف غير طرف ، يقبل القسمة من غير وقوف ، فإن ورود القسمة لا يعدم الحجم ونسب إلى الحكماء.

الثالث أنه مجموعة أجزاء صغار صلبه لا تخلو من حجم ، يقبل القسمة الوهمية والعقلية دون الخارجية ، ونسب إلى ذي مقراطيس.

الرابع أنه مؤلف من أجزاء لا تتجزأ ، لا خارجا ولا وهما ولا عقلا ، وإنما تقبل الإشارة الحسية وهي متناهية ، ذوات فواصل في الجسم تمر الآلة القطاعة من مواضع الفصل ، ونسب إلى جمهور المتكلمين.

الخامس تأليف الجسم منها كما في القول الرابع ، إلا أنها غير متناهية ، ويدفع القولين الرابع والخامس ، أن ما ادعى من الأجزاء التي لا تتجزأ ، إن لم تكن ذوات حجم ، امتنع أن يتحقق من اجتماعها جسم ذو حجم بالضرورة ، وإن كانت ذوات حجم ، لزمها الانقسام الوهمي والعقلي بالضرورة ، وإن فرض عدم انقسامها الخارجي لنهاية صغرها.

على أنها لو كانت غير متناهية ، كان الجسم المتكون من اجتماعها ، غير متناهي الحجم بالضرورة ، وقد أقيمت على بطلان الجزء الذي لا يتجزى ، وجوه من البراهين مذكورة في المطولات.

ويدفع القول الثاني ، وهن الوجوه التي أقيمت على كون الجسم البسيط (١) ، ذا اتصال واحد جوهري ، من غير فواصل كما هو عند الحس ، وقد

__________________

(١) وهو الجسم غير المؤلف من أجسام مختلفة الطبائع ، كأجسام العناصر الأولية ـ منه دام ظله.

٧١

تسلم علماء الطبيعة أخيرا ، بعد تجربات علمية ممتدة ، أن الأجسام مؤلفة من أجزاء صغار ذرية ، مؤلفة من أجزاء أخرى ، لا تخلو من نواة مركزية ذات جرم ، وليكن أصلا موضوعا لنا.

ويدفع القول الأول أنه يرد عليه ، ما يرد على القول الثاني والرابع والخامس ، لجمعه بين القول باتصال الجسم بالفعل ، وبين انقسامه بالقوة إلى أجزاء متناهية ، تقف القسمة دونها على الإطلاق.

فالجسم الذي هو جوهر ذو اتصال ، يمكن أن يفرض فيه الامتدادات الثلاث ثابت لا ريب فيه ، لكن مصداقه الأجزاء الأولية ، التي يحدث فيها الامتداد الجرمي ، وإليها تتجزأ الأجسام النوعية دون غيرها ، على ما تقدمت الإشارة إليه ، وهو قول ذي مقراطيس ، مع إصلاح ما.

الفصل الرابع

في إثبات المادة الأولى والصورة الجسمية

إن الجسم من حيث هو جسم ، ونعني به ما يحدث فيه الامتداد الجرمي ، أولا وبالذات أمر بالفعل ، ومن حيث ما يمكن أن يلحق به ، شيء من الصور النوعية ولواحقها أمر بالقوة ، وحيثية الفعل غير حيثية القوة ، لأن الفعل متقوم بالوجدان والقوة متقومة بالفقدان ، ففيه جوهر هو قوة الصور الجسمانية ، بحيث إنه ليس له من الفعلية إلا فعلية أنه قوة محضة ، وهذا نحو وجودها ، والجسمية التي بها الفعلية صورة مقومة لها ، فتبين أن الجسم مؤلف من مادة وصورة جسمية ، والمجموع المركب منهما هو الجسم.

٧٢

تتمة

فهذه هي المادة الشائعة ، في الموجودات الجسمانية جميعا ، وتسمى المادة الأولى والهيولى الأولى.

ثم هي مع الصورة الجسمية مادة ، قابلة للصور النوعية اللاحقة ، وتسمى المادة الثانية.

الفصل الخامس

في إثبات الصور النوعية

الأجسام الموجودة في الخارج ، تختلف اختلافا بينا من حيث الأفعال والآثار ، وهذه الأفعال لها مبدأ جوهري لا محالة ، وليس هو المادة الأولى ، لأن شأنها القبول والانفعال دون الفعل ، ولا الجسمية المشتركة لأنها واحدة مشتركة ، وهذه الأفعال كثيرة مختلفة ، فلها مباد مختلفة ، ولو كانت هذه المبادي أعراضا مختلفة ، وجب انتهاؤها إلى جواهر مختلفة ، وليست هي الجسمية لما سمعت من اشتراكها بين الجميع ، فهي جواهر متنوعة تتنوع بها الأجسام ، تسمى الصور النوعية.

تتمة

، أول ما تتنوع الجواهر المادية ، بعد الجسمية المشتركة ، إنما هو بالصور النوعية التي تتكون بها العناصر ، ثم العناصر مواد لصور أخرى تلحق بها ، وكان القدماء من علماء الطبيعة ، يعدون العناصر أربعا ، وأخذ الإلهيون ذلك أصلا

٧٣

موضوعا ، وقد أنهاها الباحثون أخيرا ، إلى ما يقرب من مائة وبضع عنصر.

الفصل السادس

في تلازم المادة والصورة

المادة الأولى والصورة متلازمتان ، لا تنفك إحداهما عن الأخرى.

أما أن المادة لا تتعرى عن الصورة ، فلأن المادة الأولى حقيقتها ، أنها بالقوة من جميع الجهات ، فلا توجد إلا متقومة بفعلية جوهرية متحدة بها ، إذ لا تحقق لموجود إلا بفعلية ، والجوهر الفعلي الذي هذا شأنه هو الصورة ، فإذن المطلوب ثابت.

وإما أن الصور التي من شأنها أن تقارن المادة ، لا تتجرد عنها ، فلأن شيئا من الأنواع التي ينالها الحس والتجربة ، لا يخلو من قوة التغير وإمكان الانفعال ، وهذا أصل موضوع مأخوذ من العلوم الطبيعية ، وما فيه القوة والإمكان لا يخلو من مادة ، فإذن المطلوب ثابت.

الفصل السابع

في أن كلا من المادة والصورة محتاجة إلى الأخرى

بيان ذلك أما إجمالا ، فإن التركيب بين المادة والصورة ، تركيب حقيقي اتحادي ذو وحدة حقيقية ، وقد تقدم (١) أن بعض أجزاء المركب ، الحقيقي محتاج إلى بعض.

__________________

(١) في الفصل السادس من المرحلة الخامسة.

٧٤

وأما تفصيلا فالصورة محتاجة إلى المادة في تعينها ، فإن الصورة إنما يتعين نوعها ، باستعداد سابق تتحمله المادة ، وهي تقارن صورة سابقة وهكذا.

وأيضا هي محتاجة إلى المادة في تشخصها ، أي في وجودها الخاص بها ، من حيث ملازمتها للعوارض ، المسماة بالعوارض المشخصة ، من الشكل والوضع والأين ومتى وغيرها.

وأما المادة فهي متوقفة الوجود حدوثا وبقاء ، على صورة ما من الصور الواردة عليها تتقوم بها ، وليست الصورة علة تامة ولا علة فاعلية لها ، لحاجتها في تعينها وفي تشخصها إلى المادة ، والعلة الفاعلية إنما تفعل بوجودها الفعلي ، فالفاعل لوجود المادة جوهر ، مفارق للمادة من جميع الجهات ، فهو عقل مجرد أوجد المادة ، وهو يستحفظها بالصورة ، بعد الصورة التي يوجدها في المادة.

فالصورة جزء للعلة التامة ، وشريكة العلة للمادة وشرط لفعلية وجودها.

وقد شبهوا استبقاء العقل المجرد المادة بصورة ما ، بمن يستحفظ سقف بيت بأعمدة متبدلة ، فلا يزال يزيل عمودا وينصب مكانه آخر.

واعترض عليه بأنهم ذهبوا إلى كون هيولى ، عالم العناصر واحدة بالعدد ، فكون صورة ما وهي واحدة بالعموم شريكة العلة لها ، يوجب كون الواحد بالعموم علة للواحد بالعدد ، وهو أقوى وجودا من الواحد بالعموم ، مع أن العلة يجب أن تكون أقوى من معلولها.

ولو أغمضنا عن ذلك فلا ريب ، أن تبدل الصور يستوجب بطلان الصورة السابقة ، وتحقق حقه في محلها ، وإذ فرض أن الصورة جزء العلة التامة للمادة ، فبطلانها يوجب بطلان الكل أعني العلة التامة ، ويبطل بذلك المادة ، فأخذ صورة ما شريكة العلة لوجود المادة ، يؤدى إلى نفي المادة.

والجواب أنه سيأتي في مرحلة القوة والفعل (١) ، أن تبدل الصور في

__________________

(١) في الفصل الحادي عشر من المرحلة العاشرة.

٧٥

الجواهر المادية ، ليس بالكون والفساد وبطلان صورة وحدوث أخرى ، بل الصور المتبدلة موجودة بوجود واحد ، سيال يتحرك الجوهر المادي فيه ، وكل واحد منها حد من حدود هذه الحركة الجوهرية ، فهي موجودة متصلة واحدة بالخصوص ، وإن كانت وحدة مبهمة ، تناسب إبهام ذات المادة التي هي قوة محضة ، وقولنا إن صورة ما واحدة بالعموم ، شريكة العلة للمادة ، إنما هو باعتبار ما يطرأ عليها من الكثرة بالانقسام.

الفصل الثامن

النفس والعقل موجودان

أما النفس ، وهي الجوهر المجرد من المادة ذاتا ، المتعلق بها فعلا ، فلما نجد في النفوس الإنسانية من خاصة العلم وسيأتي ، في مرحلة العاقل والمعقول (١) ، أن الصور العلمية مجردة من المادة ، موجودة للعالم حاضرة عنده ، ولو لا تجرد العالم ، بتنزهه عن القوة ومحوضته في الفعلية ، لم يكن معنى لحضور شيء عنده ، فالنفس الإنسانية العاقلة مجردة من المادة ، وهي جوهر لكونها صورة لنوع جوهري ، وصورة الجوهر جوهر على ما تقدم (٢).

وأما العقل فلما سيأتي (٣) ، أن النفس في مرتبة العقل الهيولاني ، أمر بالقوة بالنسبة إلى الصور المعقولة لها ، فالذي يفيض عليها الفعلية فيها ، يمتنع أن يكون نفسها وهي بالقوة ، ولا أي أمر مادي مفروض ، فمفيضها جوهر مجرد ، منزه عن القوة والإمكان وهو العقل.

__________________

(١) في الفصل الأول والثاني من المرحلة الحادي عشرة.

(٢) في الفصل الثاني.

(٣) في فصل الخامس من المرحلة الحادية عشرة.

٧٦

وأيضا تقدم أن مفيض الفعلية للأنواع المادية ، بجعل المادة والصورة واستحفاظ المادة بالصورة ، عقل مجرد فالمطلوب ثابت.

وعلى وجودهما براهين كثيرة آخر ستأتي الإشارة إلى بعضها.

خاتمة

، من خواص الجوهر أنه لا تضاد فيه ، لأن من شرط التضاد تحقق موضوع يعتوره الضدان ، ولا موضوع للجوهر.

الفصل التاسع

في الكم وانقساماته وخواصه

الكم عرض يقبل القسمة الوهمية (١) بالذات ، وقد قسموه قسمة أولية إلى المتصل والمنفصل.

والمتصل ما يمكن أن يفرض فيه أجزاء بينها حد مشترك ، والحد المشترك ما إن اعتبر بداية لأحد الجزءين ، أمكن أن يعتبر بداية للآخر ، وإن اعتبر نهاية لأحدهما أمكن أن يعتبر نهاية للآخر ، كالنقطة بين جزئي الخط والخط بين جزئي السطح ، والسطح بين جزئي الجسم التعليمي ، والان بين جزئي الزمان.

والمنفصل ما كان بخلافه كالخمسة مثلا ، فإنها إن قسمت إلى ثلاثة واثنين ، لم يوجد فيها حد مشترك ، وإلا فإن كان واحدا منها عادت الخمسة أربعة ، وإن كان واحدا من خارج عادت ستة هذا خلف.

__________________

(١) واما القسمة الخارجية ، فهي تعدم الكم وتفنيه ـ منه.

٧٧

الثاني أعني المنفصل ، هو العدد الحاصل من تكرر الواحد ، وإن كان الواحد نفسه ليس بعدد ، لعدم صدق حد الكم عليه ، وقد عدوا كل واحدة من مراتب العدد نوعا على حدة ، لاختلاف الخواص.

والأول أعني المتصل ينقسم إلى قار وغير قار ، والقار ما لأجزائه المفروضة اجتماع في الوجود ، كالخط مثلا ، وغير القار بخلافه وهو الزمان ، فإن كل جزء منه مفروض ، لا يوجد إلا وقد انصرم السابق عليه ، ولما يوجد الجزء اللاحق.

والمتصل القار على ثلاثة أقسام ، جسم تعليمي وهو الكمية السارية في الجهات الثلاث ، من الجسم الطبيعي المنقسمة فيها ، وسطح وهو نهاية الجسم التعليمي المنقسمة في جهتين ، وخط وهو نهاية السطح المنقسمة في جهة واحدة.

وللقائلين بالخلاء ، بمعنى الفضاء الخالي من كل موجود شاغل يملؤه ، شك في الكم المتصل القار ، لكن الشأن في إثبات الخلاء بهذا المعنى.

تتمة

يختص الكم بخواص ، الأولى أنه لا تضاد بين شيء من أنواعه ، لعدم اشتراكها في الموضوع ، والاشتراك في الموضوع من شرط التضاد.

الثانية قبول القسمة الوهمية بالفعل كما تقدم.

الثالثة وجود ما يعده ، أي يفنيه بإسقاطه منه مرة بعد مرة ، فالكم المنفصل وهو العدد مبدؤه الواحد ، وهو عاد لجميع أنواعه ، مع أن بعض أنواعه عاد لبعض ، كالإثنين للأربعة والثلاثة للتسعة ، والكم المتصل منقسم ذو أجزاء فالجزء منه يعد الكل.

الرابعة المساواة واللا مساواة ، وهما خاصتان للكم وتعرضان غيره

٧٨

بعروضه.

الخامسة النهاية واللا نهاية وهما كسابقتيهما.

الفصل العاشر

في الكيف

وهو عرض لا يقبل القسمة ولا النسبة لذاته ، وقد قسموه بالقسمة الأولية إلى أربعة أقسام ، أحدها الكيفيات النفسانية ، كالعلم والإرادة والجبن والشجاعة واليأس والرجاء.

وثانيها الكيفيات المختصة بالكميات ، كالاستقامة والانحناء والشكل ، مما يختص بالكم المتصل ، وكالزوجية والفردية في الأعداد ، مما يختص بالكم المنفصل.

وثالثها الكيفيات الاستعدادية ، وتسمى أيضا القوة واللا قوة ، كالاستعداد الشديد نحو الانفعال كاللين ، والاستعداد الشديد نحو اللا انفعال كالصلابة ، وينبغي أن يعد منها مطلق الاستعداد القائم بالمادة ، ونسبة الاستعداد إلى القوة الجوهرية ، التي هي المادة ، نسبة الجسم التعليمي ، الذي هو فعلية الامتداد في الجهات الثلاث ، إلى الجسم الطبيعي الذي فيه إمكانه(١).

ورابعها الكيفيات المحسوسة بالحواس الخمس الظاهرة ، وهي إن كانت سريعة الزوال ، كحمرة الخجل وصفرة الوجل سميت انفعالات ،

__________________

(١) راجع أيضاً : الفصل الأول والفصل الثالث عشر ، من المرحلة العاشرة.

٧٩

وإن كانت راسخة كصفرة الذهب وحلاوة العسل ، سميت انفعاليات.

ولعلماء الطبيعة اليوم تشكيك ، في كون الكيفيات المحسوسة موجودة في الخارج ، على ما هي عليه في الحس مشروح في كتبهم.

الفصل الحادي عشر

في المقولات النسبية

وهي الأين ومتى والوضع والجدة ، والإضافة والفعل والانفعال ، أما الأين فهو هيئة ، حاصلة من نسبة الشيء إلى المكان.

وأما متى فهو هيئة ، حاصلة من نسبة الشيء إلى الزمان ، وكونه فيه أعم من كونه في نفس الزمان كالحركات ، أو في طرفه وهو الان كالموجودات الانية الوجود ، من الاتصال والانفصال والمماسة ونحوها ، وأعم أيضا من كونه على وجه الانطباق ، كالحركة القطعية ، أو لا على وجهه كالحركة التوسطية.

وأما الوضع فهو هيئة حاصلة ، من نسبة أجزاء الشيء بعضها إلى بعض ، والمجموع إلى الخارج ، كالقيام الذي هو هيئة حاصلة للإنسان ، من نسبة خاصة بين أعضائه نفسها ، وبينها وبين الخارج ، من كون رأسه إلى فوق وقدميه إلى تحت.

وأما الجدة ويقال له ، الملك فهو هيئة حاصلة من إحاطة شيء بشيء ، بحيث ينتقل المحيط بانتقال المحاط ، سواء كانت الإحاطة إحاطة تامة كالتجلبب ، أو إحاطة ناقصة كالتقمص والتنعل.

وأما الإضافة ، فهي هيئة حاصلة من تكرر النسبة بين شيئين ، فإن مجرد النسبة لا يوجب إضافة مقولية ، وإنما تفيدها نسبة الشيء الملحوظ ، من حيث

٨٠