بداية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

بداية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٤

واحدا غير خارج من وجودهما.

وثالثا أن الرابط ، إنما يتحقق في مطابق الهليات المركبة ، التي تتضمن ثبوت شيء لشيء ، وأما الهليات البسيطة ، التي لا تتضمن إلا ثبوت الشيء ، وهو ثبوت موضوعها فلا رابط في مطابقها ، إذ لا معنى لارتباط الشيء بنفسه ونسبته إليها

الفصل الثاني

[كيفية اختلاف الرابط والمستقل]

اختلفوا في أن الاختلاف بين الوجود الرابط والمستقل ، هل هو اختلاف نوعي ، بمعنى أن الوجود الرابط ذو معنى تعلقي ، لا يمكن تعقله على الاستقلال ، ويستحيل أن يسلخ عنه ذلك الشأن ، فيعود معنى اسميا بتوجيه الالتفات إليه ، بعد ما كان معنى حرفيا ، أو لا اختلاف نوعيا بينهما.

والحق هو الثاني ، لما سيأتي في مرحلة العلة والمعلول (١) ، أن وجودات المعاليل رابطة بالنسبة إلى عللها ، ومن المعلوم أن منها ما وجوده جوهري ، ومنها ما وجوده عرضي ، وهي جميعا وجودات محمولية مستقلة ، تختلف حالها بالقياس إلى عللها وأخذها في نفسها ، فهي بالنظر إلى عللها وجودات رابطة ، وبالنظر إلى أنفسها وجودات مستقلة ، فإذن المطلوب ثابت.

ويظهر مما تقدم ، أن المفهوم تابع في استقلاله بالمفهومية وعدمه ، لوجوده الذي ينتزع منه وليس له من نفسه إلا الإبهام.

__________________

(١) المرحلة السابعة الفصل الثالث.

٤١

الفصل الثالث

من الوجود في نفسه ما هو لغيره ومنه ما هو لنفسه

والمراد بكون وجود الشيء لغيره ، أن يكون الوجود الذي له في نفسه ، وهو الذي يطرد عن ماهيته العدم ، هو بعينه يطرد عدما عن شيء آخر ، لا عدم ذاته وماهيته ، وإلا كان لوجود واحد ماهيتان ، وهو كثرة الواحد ، بل عدما زائدا على ذاته وماهيته ، له نوع مقارنة له ، كالعلم الذي يطرد بوجوده العدم عن ماهيته الكيفية ، ويطرد به بعينه عن موضوعه الجهل ، الذي هو نوع من العدم يقارنه ، وكالقدرة فإنها كما تطرد عن ماهية نفسها العدم ، تطرد بعينها عن موضوعها العجز.

والدليل على تحقق هذا القسم وجودات الأعراض ، فإن كلا منها كما يطرد عن ماهية نفسه العدم ، يطرد بعينه عن موضوعه نوعا من العدم ، وكذلك الصور النوعية الجوهرية ، فإن لها نوع حصول لموادها ، تكملها وتطرد عنها نقصا جوهريا ، وهذا النوع من الطرد هو المراد بكون ، الوجود لغيره وكونه ناعتا.

ويقابله ما كان طاردا لعدم نفسه فحسب ، كالأنواع التامة الجوهرية كالإنسان والفرس ، ويسمى هذا النوع من الوجود وجودا لنفسه ، فإذن المطلوب ثابت وذلك ما أردناه.

وربما يقسم الوجود لذاته ، إلى الوجود بذاته والوجود بغيره ، وهو بالحقيقة راجع إلى العلية والمعلولية ، وسيأتي (١) البحث عنهما.

__________________

(١) في المرحلة السابعة.

٤٢

المرحلة الرابعة

في المواد الثلاث الوجوب والإمكان والامتناع

والبحث عنها في الحقيقة بحث عن انقسام الوجود

إلى الواجب والممكن والبحث عن الممتنع تبعي

وفيها تسعة فصول

٤٣

الفصل الأول

في تعريف المواد الثلاث وانحصارها فيها

كل مفهوم إذا قيس إلى الوجود ، فإما أن يجب له فهو الواجب ، أو يمتنع وهو الممتنع ، أو لا يجب له ولا يمتنع وهو الممكن ، فإنه إما أن يكون الوجود له ضروريا وهو الأول ، أو يكون العدم له ضروريا وهو الثاني ، وإما أن لا يكون شيء منهما له ضروريا وهو الثالث.

وأما احتمال كون الوجود والعدم كليهما ضروريين ، فمرتفع بأدنى التفات.

وهي بينة المعاني لكونها من المعاني العامة ، التي لا يخلو عن أحدها مفهوم من المفاهيم ، ولذا كانت لا تعرف إلا بتعريفات دورية ، كتعريف الواجب بما يلزم من فرض عدمه محال ، ثم تعريف المحال وهو الممتنع بما يجب أن لا يكون ، أو ما ليس بممكن ولا واجب ، وتعريف الممكن بما لا يمتنع وجوده وعدمه.

الفصل الثاني

انقسام كل من المواد إلى ما بالذات وما بالغير وما بالقياس

كل واحدة من المواد ثلاثة أقسام ، ما بالذات وما بالغير وما بالقياس

٤٤

إلى الغير ، إلا الإمكان فلا إمكان بالغير ، والمراد بما بالذات ، أن يكون وضع الذات كافيا في تحققه ، وإن قطع النظر عن كل ما سواه ، وبما بالغير ما يتعلق بالغير ، وبما بالقياس إلى الغير ، أنه إذا قيس إلى الغير كان من الواجب أن يتصف به.

فالوجوب بالذات كما في الواجب الوجود تعالى ، فإن ذاته بذاته يكفي في ضرورة الوجود له ، من غير حاجة إلى شيء غيره.

والوجوب بالغير كما في الممكن ، الموجود الواجب وجوده بعلته.

والوجوب بالقياس إلى الغير ، كما في وجود أحد المتضائفين إذا قيس إلى وجود الآخر ، فإن وجود العلو إذا قيس إليه وجود السفل ، يأبى إلا أن يكون للسفل وجود ، فلوجود السفل وجوب بالقياس إلى وجود العلو ، وراء وجوبه بعلته.

والامتناع بالذات كما في المحالات الذاتية ، كشريك الباري واجتماع النقيضين والامتناع بالغير ، كما في وجود المعلول الممتنع لعدم علته ، وعدمه الممتنع لوجود علته ، والامتناع بالقياس إلى الغير ، كما في وجود أحد المتضائفين إذا قيس إلى عدم الآخر ، وفي عدمه إذا قيس إلى وجود الآخر.

والإمكان بالذات كما في الماهيات الإمكانية ، فإنها في ذاتها لا تقتضي ضرورة الوجود ولا ضرورة العدم ، والإمكان بالقياس إلى الغير ، كما في الواجبين بالذات المفروضين ، ففرض وجود أحدهما لا يأبى وجود الآخر ولا عدمه ، إذ ليس بينهما علية ومعلولية ، ولا هما معلولا علة ثالثة.

وأما الإمكان بالغير فمستحيل ، لأنا إذا فرضنا ممكنا بالغير ، فهو في ذاته إما واجب بالذات ، أو ممتنع بالذات أو ممكن بالذات ، إذ المواد منحصرة في الثلاث ، والأولان يوجبان الانقلاب ، والثالث يوجب كون اعتبار الإمكان بالغير لغوا.

٤٥

الفصل الثالث

[واجب الوجود ماهيته إنيته]

واجب الوجود ماهيته إنيته ، بمعنى أن لا ماهية له وراء وجوده الخاص به ، وذلك أنه لو كانت له ماهية ، وذات وراء وجوده الخاص به ، لكان وجوده زائدا على ذاته عرضيا له ، وكل عرضي معلل بالضرورة فوجوده معلل.

وعلته إما ماهيته أو غيرها ، فإن كانت علته ماهيته ، والعلة متقدمة على معلولها بالوجود بالضرورة ، كانت الماهية متقدمة عليه بالوجود ، وتقدمها عليه إما بهذا الوجود ، ولازمه تقدم الشيء على نفسه وهو محال ، وإما بوجود آخر وننقل الكلام إليه ويتسلسل ، وإن كانت علته غير ماهيته ، فيكون معلولا لغيره وذلك ينافي وجوب الوجود بالذات ، وقد تبين بذلك ، أن الوجوب بذاته وصف منتزع من حاق وجود الواجب ، كاشف عن كون وجوده بحتا ، في غاية الشدة غير مشتمل على جهة عدمية ، إذ لو اشتمل على شيء من الأعدام ، حرم الكمال الوجودي الذي في مقابله ، فكانت ذاته مقيدة بعدمه ، فلم يكن واجبا بالذات صرفا له كل كمال.

الفصل الرابع

واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات

إذ لو كان غير واجب بالنسبة إلى شيء من الكمالات ، التي تمكن له بالإمكان العام ، كان ذا جهة إمكانية بالنسبة إليه ، فكان خاليا في ذاته عنه ، متساوية نسبته إلى وجوده وعدمه ، ومعناه تقيد ذاته بجهة عدمية ، وقد

٤٦

عرفت في الفصل السابق استحالته.

الفصل الخامس

في أن الشيء ما لم يجب لم يوجد وبطلان القول بالأولوية

لا ريب أن الممكن ، الذي يتساوى نسبته إلى الوجود والعدم عقلا ، يتوقف وجوده على شيء يسمى علة وعدمه على عدمها.

وهل يتوقف وجود الممكن على أن يوجب العلة وجوده ، وهو الوجوب بالغير أو أنه يوجد بالخروج عن حد الاستواء ، وإن لم يصل إلى حد الوجوب ، وكذا القول في جانب العدم وهو المسمى بالأولويه ، وقد قسموها إلى الأولوية الذاتية ، وهي التي يقتضيها ذات الممكن وماهيته ، وغير الذاتية وهي خلافها ، وقسموا كلا منهما إلى ، كافية في تحقق الممكن وغير كافية.

والأولوية بأقسامها باطلة.

أما الأولوية الذاتية ، فلأن الماهية قبل الوجود باطلة الذات ، لا شيئية لها حتى تقتضي أولوية الوجود ، كافية أو غير كافية وبعبارة أخرى ، الماهية من حيث هي ليست إلا هي ، لا موجودة ولا معدومة ولا أي شيء آخر.

وأما الأولوية الغيرية ، وهي التي تأتي من ناحية العلة ، فلأنها لما لم تصل إلى حد الوجوب ، لا يخرج بها الممكن من حد الاستواء ، ولا يتعين بها له الوجود أو العدم (١) ، ولا ينقطع بها السؤال ، إنه لم وقع هذا دون ذاك ، وهو الدليل على أنه لم تتم بعد للعلة عليتها.

__________________

(١) وليس بين استواء الطرفين وتعيّن أحدهما واسطة ـ منه.

٤٧

فتحصل ، أن الترجيح إنما هو بإيجاب العلة وجود المعلول ، بحيث يتعين له الوجود ويستحيل عليه العدم ، أو إيجابها عدمه فالشيء ، أعني الممكن ما لم يجب لم يوجد.

خاتمة ، ما تقدم من الوجوب ، هو الذي يأتي الممكن من ناحية علته ، وله وجوب آخر يلحقه بعد تحقق الوجود أو العدم ، وهو المسمى بالضرورة بشرط المحمول ، فالممكن الموجود محفوف بالضرورتين ، السابقة واللاحقة.

الفصل السادس

في معاني الإمكان

الإمكان المبحوث عنه هاهنا هو ، لا ضرورة الوجود والعدم بالنسبة إلى الماهية ، المأخوذة من حيث هي ، وهو المسمى بالإمكان الخاص والخاصي.

وقد يستعمل الإمكان بمعنى ، سلب الضرورة عن الجانب المخالف ، سواء كان الجانب الموافق ضروريا أو غير ضروري ، فيقال الشيء الفلاني ممكن أي ليس بممتنع ، وهو المستعمل في لسان العامة ، أعم من الإمكان الخاص ، ولذا يسمى إمكانا عاميا وعاما.

وقد يستعمل في معنى أخص من ذلك ، وهو سلب الضرورات الذاتية والوصفية والوقتية ، كقولنا الإنسان كاتب بالإمكان ، حيث إن الإنسانية لا تقتضي ضرورة الكتابة ، ولم يؤخذ في الموضوع وصف يوجب الضرورة ، ولا وقت كذلك ، وتحقق الإمكان بهذا المعنى في القضية ، بحسب

٤٨

الاعتبار العقلي ، بمقايسة المحمول إلى الموضوع ، لا ينافي ثبوت الضرورة بحسب الخارج بثبوت العلة ، ويسمى الإمكان الأخص.

وقد يستعمل بمعنى سلب الضرورة من الجهات الثلاث ، والضرورة بشرط المحمول أيضا ، كقولنا زيد كاتب غدا بالإمكان ، ويختص بالأمور المستقبلة التي لم تتحقق بعد ، حتى يثبت فيها الضرورة بشرط المحمول ، وهذا الإمكان إنما يثبت بحسب الظن والغفلة ، عن أن كل حادث مستقبل إما واجب أو ممتنع ، لانتهائه إلى علل موجبة مفروغ عنها ، ويسمى الإمكان الاستقبالي.

وقد يستعمل الإمكان بمعنيين آخرين ، أحدهما ما يسمى الإمكان الوقوعي ، وهو كون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ، أي ليس ممتنعا بالذات أو بالغير ، وهو سلب الامتناع عن الجانب الموافق ، كما أن الإمكان العام سلب الضرورة عن الجانب المخالف.

وثانيهما الإمكان الاستعدادي وهو كما ذكروه ، نفس الاستعداد ذاتا وغيره اعتبارا ، فإن تهيؤ الشيء لأن يصير شيئا آخر ، له نسبة إلى الشيء المستعد ، ونسبة إلى الشيء المستعد له ، فبالاعتبار الأول يسمى استعدادا ، فيقال مثلا النطفة لها استعداد أن تصير إنسانا ، وبالاعتبار الثاني يسمى الإمكان الاستعدادي فيقال ، الإنسان يمكن أن يوجد في النطفة.

والفرق بينه وبين الإمكان الذاتي ، أن الإمكان الذاتي كما سيجيء (١) ، اعتبار تحليلي عقلي ، يلحق الماهية المأخوذة من حيث هي ، والإمكان الاستعدادي صفة وجودية ، تلحق الماهية الموجودة ، فالإمكان الذاتي يلحق الماهية الإنسانية ، المأخوذة من حيث هي ، والإمكان الاستعدادي ، يلحق

__________________

(١) في الفصل الآتي.

٤٩

النطفة الواقعة في مجرى تكون الإنسان.

ولذا كان الإمكان الاستعدادي قابلا للشدة والضعف ، فإمكان تحقق الإنسانية في العلقة أقوى منه في النطفة ، بخلاف الإمكان الذاتي فلا شدة ولا ضعف فيه.

ولذا أيضا ، كان الإمكان الاستعدادي يقبل الزوال عن الممكن ، فإن الاستعداد يزول بعد تحقق المستعد له بالفعل ، بخلاف الإمكان الذاتي فإنه لازم الماهية ، هو معها حيثما تحققت.

ولذا أيضا كان الإمكان الاستعدادي ، ومحله المادة بالمعنى الأعم (١) ، يتعين معه الممكن المستعد له ، كالإنسانية التي تستعد لها المادة ، بخلاف الإمكان الذاتي الذي في الماهية ، فإنه لا يتعين معه لها الوجود أو العدم.

والفرق بين الإمكان الاستعدادي والوقوعي ، أن الاستعدادي إنما يكون في الماديات ، والوقوعي أعم موردا.

الفصل السابع

في أن الإمكان اعتبار عقلي وأنه لازم للماهية

أما أنه اعتبار عقلي ، فلأنه يلحق الماهية المأخوذة عقلا ، مع قطع النظر عن الوجود والعدم ، والماهية المأخوذة كذلك اعتبارية بلا ريب ، فما يلحق بها بهذا الاعتبار كذلك بلا ريب ، وهذا الاعتبار العقلي لا ينافي كونها ، بحسب نفس الأمر إما موجودة أو معدومة ، ولازمه كونها محفوفة بوجوبين أو امتناعين ،

__________________

(١) المادة بالمعنى الأعم تشمل المادة بالمعنى الأخص ، وهي الجوهر القابل للصور المنطبعة فيها ، كمادة العناصر لصورها ، وتشمل متعلق النفس المجردة ، كالبدن للنفس الناطقة ، وتشمل موضوع العرض ، كالجسم للمقادير والكيفيات. ـ منه (رحمه الله) ـ.

٥٠

وأما كونه لازما للماهية ، فلأنا إذا تصورنا الماهية من حيث هي ، مع قطع النظر عن كل ما سواها ، لم نجد معها ضرورة وجود أو عدم ، وليس الإمكان إلا سلب الضرورتين فهي بذاتها ممكنة ، وأصل الإمكان وإن كان هذين السلبين ، لكن العقل يضع لازم هذين السلبين ، وهو استواء النسبة مكانهما ، فيعود الإمكان معنى ثبوتيا ، وإن كان مجموع السلبين منفيا.

الفصل الثامن

في حاجة الممكن إلى العلة وما هي علة احتياجه إليها

حاجة الممكن إلى العلة من الضروريات الأولية ، التي مجرد تصور موضوعها ومحمولها ، كاف في التصديق بها ، فإن من تصور الماهية الممكنة ، المتساوية النسبة إلى الوجود والعدم ، وتصور توقف خروجها من حد الاستواء إلى أحد الجانبين ، على أمر آخر يخرجها منه إليه ، لم يلبث أن يصدق به.

وهل علة حاجة الممكن إلى العلة هي الإمكان ، أو الحدوث الحق هو الأول وبه قالت الحكماء.

واستدل عليه بأن الماهية ، باعتبار وجودها ضرورية الوجود ، وباعتبار عدمها ضرورية العدم ، وهاتان الضرورتان بشرط المحمول ، وليس الحدوث إلا ترتب إحدى الضرورتين على الأخرى ، فإنه كون وجود الشيء بعد عدمه ، ومعلوم أن الضرورة ، مناط الغنى عن السبب وارتفاع الحاجة ، فما لم تعتبر الماهية بإمكانها لم يرتفع الوجوب ، ولم تحصل الحاجة إلى العلة.

برهان آخر ، إن الماهية لا توجد إلا عن إيجاد من العلة ، وإيجاد العلة

٥١

لها متوقف على وجوب الماهية ، المتوقف على إيجاب العلة ، وقد تبين مما تقدم ، وإيجاب العلة متوقف على حاجة الماهية إليها ، وحاجة الماهية إليها متوقفة على إمكانها ، إذ لو لم تمكن بأن وجبت أو امتنعت ، استغنت عن العلة بالضرورة ، فلحاجتها توقف ما على الإمكان بالضرورة ، ولو توقفت مع ذلك على حدوثها ، وهو وجودها بعد العدم ، سواء كان الحدوث علة والإمكان شرطا ، أو عدمه مانعا ، أو كان الحدوث جزء علة والجزء الآخر هو الإمكان ، أو كان الحدوث شرطا ، أو عدمه الواقع في مرتبته مانعا ، فعلى أي حال يلزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب ، وكذا لو كان وجوبها ، أو إيجاب العلة لها هو علة الحاجة بوجه.

فلم يبق إلا أن يكون الإمكان وحده علة للحاجة ، إذ ليس في هذه السلسلة المتصلة المترتبة عقلا ، قبل الحاجة إلا الماهية وإمكانها.

وبذلك يندفع ما احتج به بعض القائلين ، بأن علة الحاجة إلى العلة هو الحدوث دون الإمكان ، من أنه لو كان الإمكان هو العلة دون الحدوث ، جاز أن يوجد القديم الزماني ، وهو الذي لا أول لوجوده ولا آخر له ، ومعلوم أن فرض دوام وجوده يغنيه عن العلة ، إذ لا سبيل للعدم إليه حتى يحتاج إلى ارتفاعه.

وجه الاندفاع ، أن المفروض أن ذاته هو المنشأ لحاجته ، والذات محفوظة مع الوجود الدائم ، فله على فرض دوام الوجود حاجة دائمة في ذاته ، وإن كان مع شرط الوجود له بنحو الضرورة ، بشرط المحمول مستغنيا عن العلة ، بمعنى ارتفاع حاجته بها.

وأيضا سيجيء أن وجود المعلول ، سواء كان حادثا أو قديما وجود رابط ، متعلق الذات بعلته غير مستقل دونها ، فالحاجة إلى العلة ذاتية

__________________

(١) في الفصل الثالث من المرحلة السابعة.

٥٢

ملازمة له.

الفصل التاسع

الممكن محتاج إلى علته بقاء كما أنه محتاج إليها حدوثا

وذلك لأن علة حاجته إلى العلة ، إمكانه اللازم لماهيته ، وهي محفوظة معه في حال البقاء ، كما أنها محفوظة معه في حال الحدوث ، فهو محتاج إلى العلة حدوثا وبقاء ، مستفيض في الحالين جميعا.

برهان آخر أن وجود المعلول ، كما تكررت الإشارة إليه وسيجيء (١) بيانه ، وجود رابط متعلق الذات بالعلة ، متقوم بها غير مستقل دونها ، فحاله في الحاجة إلى العلة ، حدوثا وبقاء واحد والحاجة ملازمة.

وقد استدلوا على استغناء الممكن ، عن العلة في حال البقاء بأمثلة عامية ، كمثال البناء والبناء ، حيث إن البناء يحتاج في وجوده إلى البناء ، حتى إذا بناه استغنى عنه في بقائه.

ورد بأن البناء ليس علة موجدة للبناء ، بل حركات يده علل معدة لحدوث الاجتماع بين أجزاء البناء ، واجتماع الأجزاء علة لحدوث شكل البناء ، ثم اليبوسة علة لبقائه مدة يعتد بها.

خاتمة

قد تبين من الأبحاث السابقة ، أن الوجوب والإمكان والامتناع ،

__________________

(١) في الفصل الثالث من المرحلة السابعة.

٥٣

كيفيات ثلاث لنسب القضايا ، وأن الوجوب والإمكان أمران وجوديان ، لمطابقة القضايا الموجهة بهما للخارج ، مطابقة تامة بما لها من الجهة ، فهما موجودان لكن بوجود موضوعهما ، لا بوجود منحاز مستقل ، فهما كسائر المعاني الفلسفية ، من الوحدة والكثرة والقدم والحدوث ، والقوة والفعل وغيرها ، أوصاف وجودية موجودة للموجود المطلق ، بمعنى كون الاتصاف بها في الخارج وعروضها في الذهن ، وهي المسماة بالمعقولات الثانية باصطلاح الفلسفة.

وذهب بعضهم إلى كون الوجوب والإمكان ، موجودين في الخارج بوجود منحاز مستقل ولا يعبؤ به ، هذا في الوجوب والإمكان ، وأما الامتناع فهو أمر عدمي بلا ريب.

هذا كله بالنظر إلى اعتبار العقل الماهيات ، والمفاهيم موضوعات للأحكام ، وأما بالنظر إلى كون الوجود ، هو الموضوع لها حقيقة لأصالته ، فالوجوب كون الوجود في نهاية الشدة ، قائما بنفسه مستقلا في ذاته على الإطلاق ، كما تقدمت (١) الإشارة إليه ، والإمكان كونه متعلق النفس بغيره ، متقوم الذات بسواه كوجود الماهيات ، فالوجوب والإمكان وصفان قائمان بالوجود ، غير خارجين من ذات موضوعهما.

__________________

(١) في الفصل الثالث.

٥٤

المرحلة الخامسة

في الماهية وأحكامها

وفيها ثمانية فصول

٥٥

الفصل الأول

[الماهية من حيث هي ليست إلا هي]

الماهية وهي ما يقال في جواب ما هو ، لما كانت تقبل الاتصاف بأنها موجودة أو معدومة ، أو واحدة أو كثيرة أو كلية أو فرد ، وكذا سائر الصفات المتقابلة ، كانت في حد ذاتها ، مسلوبة عنها الصفات المتقابلة.

فالماهية من حيث هي ليست إلا هي ، لا موجودة ولا لا موجودة ولا شيئا آخر ، وهذا معنى قولهم ، إن النقيضين يرتفعان عن مرتبة الماهية ، يريدون به أن شيئا من النقيضين غير مأخوذ في الماهية ، وإن كانت في الواقع غير خالية عن أحدهما بالضرورة.

فماهية الإنسان وهي الحيوان الناطق ، مثلا وإن كانت إما موجودة وإما معدومة ، لا يجتمعان ولا يرتفعان ، لكن شيئا من الوجود والعدم غير مأخوذ فيها ، فللإنسان معنى ولكل من الوجود والعدم معنى آخر ، وكذا الصفات العارضة حتى عوارض الماهية ، فلماهية الإنسان مثلا معنى ، وللإمكان العارض لها معنى آخر ، وللأربعة مثلا معنى وللزوجية العارضة لها معنى آخر.

ومحصل القول إن الماهية ، يحمل عليها بالحمل الأولى نفسها ، ويسلب عنها بحسب هذا الحمل ما وراء ذلك.

٥٦

الفصل الثاني

في اعتبارات الماهية وما يلحق بها من المسائل

للماهية بالإضافة إلى ما عداها ، مما يتصور لحوقه بها ثلاث اعتبارات ، إما أن تعتبر بشرط شيء أو بشرط لا ، أو لا بشرطي شيء والقسمة حاصرة ، أما الأول فإن تؤخذ بما هي ، مقارنة لما يلحق بها من الخصوصيات ، فتصدق على المجموع كالإنسان ، المأخوذ مع خصوصيات زيد فيصدق عليه.

وأما الثاني ، فإن يشترط معها أن لا يكون معها غيرها ، وهذا يتصور على قسمين أحدهما ، أن يقصر النظر في ذاتها ، وأنها ليست إلا هي وهو المراد من كون الماهية ، بشرط لا في مباحث الماهية كما تقدم ، وثانيهما أن تؤخذ الماهية وحدها ، بحيث لو قارنها أي مفهوم مفروض كان زائدا عليها غير داخل فيها ، فتكون إذا قارنها جزء من المجموع ، مادة له غير محمولة عليه.

وأما الثالث فأن لا يشترط معها شيء ، بل تؤخذ مطلقة ، مع تجويز أن يقارنها شيء أو لا يقارنها.

فالقسم الأول هو الماهية بشرط شيء وتسمى المخلوطة ، والقسم الثاني هو الماهية بشرط لا وتسمى المجردة ، والقسم الثالث هو الماهية لا بشرط وتسمى المطلقة.

والماهية التي هي المقسم للأقسام الثلاثة ، هي الكلي الطبيعي

__________________

(١) في الفصل السابق.

٥٧

وهي التي تعرضها الكلية في الذهن ، فتقبل الانطباق على كثيرين ، وهي موجودة في الخارج لوجود قسمين من أقسامها ، أعني المخلوطة والمطلقة فيه ، والمقسم محفوظ في أقسامه موجود بوجودها.

والموجود منها في كل فرد ، غير الموجود منها في فرد آخر بالعدد ، ولو كان واحدا موجودا بوحدته في جميع الأفراد ، لكان الواحد كثيرا بعينه وهو محال ، وكان الواحد بالعدد متصفا بصفات متقابلة وهو محال.

الفصل الثالث

في معنى الذاتي والعرضي

المعاني المعتبرة في الماهيات المأخوذة في حدودها ، وهي التي ترتفع الماهية بارتفاعها تسمى الذاتيات ، وما وراء ذلك عرضيات محمولة ، فإن توقف انتزاعها وحملها على انضمام ، سميت محمولات بالضميمة ، كانتزاع الحار وحملها ، على الجسم من انضمام الحرارة إليه ، وإلا فالخارج المحمول كالعالي والسافل.

والذاتي يميز من غيره بوجوه من خواصه ، منها أن الذاتيات بينة ، لا تحتاج في ثبوتها لذي الذاتي إلى وسط ، ومنها أنها غنية عن السبب ، بمعنى أنها لا تحتاج إلى سبب وراء سبب ذي الذاتي ، فعله وجود الماهية بعينها علة أجزائها الذاتية.

ومنها أن الأجزاء الذاتية متقدمة على ذي الذاتي.

والإشكال في تقدم الأجزاء على الكل ، بأن الأجزاء هي الكل بعينه فكيف تتقدم على نفسها ، مندفع بأن الاعتبار مختلف ، فالأجزاء بالأسر متقدمة ، على الأجزاء بوصف الاجتماع والكلية ، على أنها إنما

٥٨

سميت أجزاء ، لكون الواحد منها جزءا من الحد ، وإلا فالواحد منها عين الكل أعني ذي الذاتي.

الفصل الرابع

في الجنس والفصل والنوع وبعض ما يلحق بذلك

الماهية التامة التي لها آثار خاصة حقيقية ، من حيث تمامها تسمى نوعا كالإنسان والفرس.

ثم إنا نجد بعض المعاني الذاتية التي في الأنواع ، يشترك فيه أكثر من نوع واحد ، كالحيوان المشترك بين الإنسان والفرس وغيرهما ، كما أن فيها ما يختص بنوع كالناطق المختص بالإنسان ، ويسمى المشترك فيه جنسا والمختص فصلا ، وينقسم الجنس والفصل إلى قريب وبعيد ، وأيضا ينقسم الجنس والنوع إلى عال ومتوسط وسافل ، وقد فصل ذلك في المنطق ، ثم إنا إذا أخذنا ماهية الحيوان مثلا ، وهي مشترك فيها أكثر من نوع ، وعقلناها بأنها جسم نام حساس متحرك بالإرادة ، جاز أن نعقلها وحدها ، بحيث يكون كل ما يقارنها من المفاهيم ، زائدا عليها خارجا من ذاتها ، وتكون هي مباينة للمجموع غير محمولة عليه ، كما أنها غير محمولة على المقارن الزائد ، كانت الماهية المفروضة ، مادة بالنسبة إلى ما يقارنها وعلة مادية للمجموع ، وجاز أن نعقلها مقيسة إلى عدة من الأنواع ، كان نعقل ماهية الحيوان بأنها ، الحيوان الذي هو إما إنسان ، وإما فرس وإما بقر وإما غنم ، فتكون ماهية ناقصة غير محصلة ، حتى ينضم إليها فصل أحد تلك الأنواع ، فيحصلها نوعا تاما فتكون هي ذلك النوع بعينه ، وتسمى الماهية المأخوذة بهذا الاعتبار ، جنسا والذي يحصله فصلا.

__________________

(١) في الفصل الرابع من المرحلة السادسة.

٥٩

والاعتباران في الجزء المشترك ، جاريان بعينهما في الجزء المختص ، ويسمى بالاعتبار الأول صورة ، ويكون جزءا لا يحمل على الكل ولا على الجزء الآخر ، وبالاعتبار الثاني فصلا يحصل الجنس ، ويتمم النوع ويحمل عليه حملا أوليا.

ويظهر مما تقدم أولا أن الجنس هو النوع مبهما ، وأن الفصل هو النوع محصلا ، والنوع هو الماهية التامة ، من غير نظر إلى إبهام أو تحصيل.

وثانيا أن كلا من الجنس والفصل ، محمول على النوع حملا أوليا ، وأما النسبة بينهما أنفسهما ، فالجنس عرض عام بالنسبة إلى الفصل ، والفصل خاصة بالنسبة إليه.

وثالثا أن من الممتنع أن يتحقق جنسان في مرتبة واحدة ، وكذا فصلان في مرتبة واحدة لنوع ، لاستلزام ذلك كون نوع واحد نوعين.

ورابعا أن الجنس والمادة متحدان ذاتا ، مختلفان اعتبارا ، فالمادة إذا أخذت لا بشرط كانت جنسا ، كما أن الجنس إذا أخذ بشرط لا كان مادة ، وكذا الصورة فصل إذا أخذت لا بشرط ، كما أن الفصل صورة إذا أخذ بشرط لا.

واعلم أن المادة في الجواهر المادية ، موجودة في الخارج على ما سيأتي ، وأما الأعراض فهي بسيطة غير مركبة في الخارج ، ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز ، وإنما العقل يجد فيها مشتركات ومختصات ، فيعتبرها أجناسا وفصولا ، ثم يعتبرها بشرط لا فتصير مواد وصورا عقلية.

٦٠