بداية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

بداية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٤

الإنسان ضاحك بالقوة ، وصدق الحكم فيها بمطابقته للوجود العيني.

ومنها ما موضوعها ذهني بحكم ذهني ، أو خارجي مأخوذ بحكم ذهني ، كقولنا الكلي إما ذاتي أو عرضي والإنسان نوع ، وصدق الحكم فيها بمطابقته للذهن ، لكون موطن ثبوتها هو الذهن ، وكلا القسمين صادقان بمطابقتهما لنفس الأمر ، فالثبوت النفس الأمري أعم مطلقا ، من كل من الثبوت الذهني والخارجي.

وقيل إن نفس الأمر عقل مجرد فيه صور المعقولات عامة ، والتصديقات الصادقة في القضايا الذهنية والخارجية ، تطابق ما عنده من الصور المعقولة.

وفيه أنا ننقل الكلام إلى ما عنده من الصور العلمية ، فهي تصديقات تحتاج في صدقها ، إلى ثبوت لمضامينها خارج عنها تطابقه.

الفصل التاسع

الشيئية تساوق الوجود

الشيئية تساوق الوجود والعدم لا شيئية له ، إذ هو بطلان محض لا ثبوت له ، فالثبوت والنفي في معنى الوجود والعدم.

وعن المعتزلة أن الثبوت أعم مطلقا من الوجود ، فبعض المعدوم ثابت عندهم وهو المعدوم الممكن ، ويكون حينئذ النفي أخص من العدم ، ولا يشمل إلا المعدوم الممتنع.

وعن بعضهم أن بين الوجود والعدم واسطة ، ويسمونها الحال ، وهي صفة الموجود التي ليست بموجودة ولا معدومة ، كالعالمية والقادرية والوالدية ، من الصفات الانتزاعية التي لا وجود منحازا لها ، فلا يقال إنها موجودة ، والذات الموجودة تتصف بها فلا يقال إنها معدومة ، وأما الثبوت والنفي

٢١

فهما متناقضان لا واسطة بينهما ، وهذه كلها أوهام يكفي في بطلانها قضاء الفطرة ، بأن العدم بطلان لا شيئية له.

الفصل العاشر

في أنه لا تمايز ولا علية في العدم

أما عدم التمايز فلأنه فرع الثبوت والشيئية ، ولا ثبوت ولا شيئية في العدم ، نعم ربما يتميز عدم من عدم ، بإضافة الوهم إياه إلى الملكات وأقسام الوجود ، فيتميز بذلك عدم من عدم ، كعدم البصر وعدم السمع وعدم زيد وعدم عمرو ، وأما العدم المطلق فلا تميز فيه.

وأما عدم العلية في العدم ، فلبطلانه وانتفاء شيئيته ، وقولهم عدم العلة علة لعدم المعلول ، قول على سبيل التقريب والمجاز (١) ، فقولهم مثلا لم يكن غيم فلم يكن مطر معناه بالحقيقة ، أنه لم يتحقق العلية التي بين وجود الغيم ووجود المطر ، وهذا كما قيل ، نظير إجراء أحكام القضايا الموجبة في السالبة ، فيقال سالبة حملية وسالبة شرطية ونحو ذلك ، وإنما فيها سلب الحمل وسلب الشرط.

__________________

(١) فإن قلت : فعلى هذا ، ما ذكرتم مثالا للقضية التي موضوعها المفهوم الاعتباري العقلي أيضا يكون على سبيل التقريب والمجاز.

قلت : إنما مثلنا بها للقضية النفس الأمرية ، وكون الحمل في القضية على التقريب والمجاز لا يخرجها عن الصدق ولا يلحقها بالكواذب ، وحقيقتها التي هي قولنا : " لم تتحقق العلية التي بينهما " قضية نفس الأمرية أيضا. – منه دام ظله ـ

٢٢

الفصل الحادي عشر

في أن المعدوم المطلق لا خبر عنه

ويتبين ذلك بما تقدم (١) ، أنه بطلان محض لا شيئية له بوجه ، وإنما يخبر عن شيء بشيء.

وأما الشبهة بأن قولهم ، المعدوم المطلق لا يخبر عنه يناقض نفسه ، فإنه بعينه إخبار عنه بعدم الإخبار فهي مندفعة ، بما سيجيء في مباحث الوحدة والكثرة (٢) ، من أن من الحمل ما هو أولي ذاتي ، يتحد فيه الموضوع والمحمول مفهوما ، ويختلفان اعتبارا ، كقولنا الإنسان إنسان ، ومنه ما هو شائع صناعي ، يتحدان فيه وجودا ويختلفان مفهوما ، كقولنا الإنسان ضاحك ، والمعدوم المطلق ، معدوم مطلق بالحمل الأولي ولا يخبر عنه ، وليس بمعدوم مطلق بل موجود من الموجودات الذهنية ، بالحمل الشائع ، ولذا يخبر عنه بعدم الإخبار عنه فلا تناقض.

وبهذا التقريب يندفع الشبهة ، عن عدة قضايا توهم التناقض ، كقولنا الجزئي جزئي وهو بعينه كلي يصدق على كثيرين ، وقولنا شريك الباري ممتنع مع أنه معقول في الذهن ، فيكون موجودا فيه ممكنا ، وقولنا الشيء إما ثابت في الذهن أو لا ثابت فيه ، واللا ثابت في الذهن ثابت فيه لأنه معقول.

وجه الاندفاع أن الجزئي ، جزئي بالحمل الأولي كلي بالشائع ، وشريك الباري شريك الباري بالحمل الأولي ، وممكن مخلوق للباري

__________________

(١) الفصل التاسع

(٢) الفصل الثالث من المرحلة الثامنة.

٢٣

بالشائع ، واللا ثابت في الذهن كذلك بالحمل الأولي ، وثابت فيه بالشائع.

الفصل الثاني عشر

في امتناع إعادة المعدوم بعينه

قالت الحكماء إن إعادة المعدوم بعينه ممتنعة ، وتبعهم فيه بعض المتكلمين وأكثرهم على الجواز.

وقد عد الشيخ ، امتناع إعادة المعدوم ضروريا ، وهو من الفطريات ، لقضاء الفطرة ببطلان شيئية المعدوم ، فلا يتصف بالإعادة.

والقائلون بنظرية المسألة احتجوا عليه بوجوه ، منها أنه لو جاز للمعدوم في زمان ، أن يعاد في زمان آخر بعينه ، لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه وهو محال ، لأنه حينئذ يكون موجودا بعينه ، في زمانين بينهما عدم متخلل.

حجة أخرى ، لو جازت إعادة الشيء بعينه بعد انعدامه ، جاز إيجاد ما يماثله من جميع الوجوه ، ابتداء واستئنافا وهو محال ، أما الملازمة فلأن ، حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، ومثل الشيء ابتداء ومعاده ثانيا لا فرق بينهما بوجه ، لأنهما يساويان الشيء المبتدأ من جميع الوجوه ، وأما استحالة اللازم ، فلاستلزام اجتماع المثلين في الوجود ، عدم التميز بينهما وهو وحدة الكثير ، من حيث هو كثير وهو محال.

حجة أخرى إن إعادة المعدوم ، توجب كون المعاد هو المبتدأ وهو محال ، لاستلزامه الانقلاب أو الخلف ، بيان الملازمة أن إعادة المعدوم بعينه ، يستلزم كون المعاد هو المبتدأ ذاتا ، وفي جميع الخصوصيات المشخصة حتى الزمان ،

٢٤

فيعود المعاد عين المبتدأ وهو الانقلاب أو الخلف.

حجة أخرى لو جازت الإعادة لم يكن عدد العود ، بالغا معينا يقف عليه ، إذ لا فرق بين العودة الأولى والثانية ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، كما لم يكن فرق بين المعاد والمبتدإ ، وتعين العدد من لوازم وجود الشيء المتشخص.

احتج المجوزون بأنه لو امتنعت إعادة المعدوم ، لكان ذلك إما لماهيته وإما للازم ماهيته ، ولو كان كذلك لم يوجد ابتداء وهو ظاهر ، وإما لعارض مفارق فيزول الامتناع بزواله.

ورد بأن الامتناع لأمر لازم ، لكن لوجوده وهويته لا لماهيته ، كما هو ظاهر من الحجج المتقدمة.

وعمدة ما دعاهم إلى القول بجواز الإعادة ، زعمهم أن المعاد وهو مما نطقت به الشرائع الحقة ، من قبيل إعادة المعدوم.

ويرده أن الموت نوع استكمال لا انعدام وزوال.

__________________

(١) ولا مرجح لبعض تلك الأعداد ، فالحاصل حينئذ : أن التعين ، أي التشخص ، مما لا بد منه في الوجود ، لأن الشئ ما لم يتشخص لم يوجد ، مع أنه لا مرجح لتعين عدد خاص منها.

(٢) فإن قيل : هذا إنما يتم لو كان الموت استكمالا للروح والبدن جميعا وهو غير مسلم ، وأما لو كان استكمالا للروح فقط ، فالإشكال على حاله ، لأن إعادة البدن حينئذ من إعادة المعدوم.

قيل : شخصية الانسان بنفسه ، دون بدنه المتغير دائما ، فالإنسان العائد في المعاد بالنفس والبدن عين الانسان الذي كان في الدنيا ، سواء كان الموت استكمالا للروح فقط ، وكان البدن العائد معها بايجاد جديد ، أو كان الموت استكمالا للروح والبدن ، وكان البدن العائد مع الروح هو البدن الدنيوي المستكمل ، فالإنسان بنفسه وبدنه هو الذي كان في الدنيا بعينه *. ـ منه (رحمه الله) ـ.

٢٥
٢٦

المرحلة الثانية

في انقسام الوجود إلى خارجي وذهني

وفيها فصل واحد

٢٧

الفصل الأول

في الوجود الخارجي والوجود الذهني

المشهور بين الحكماء أن للماهيات ، وراء الوجود الخارجي ، وهو الوجود الذي ، يترتب عليها فيه الآثار (١) المطلوبة منها ، وجودا آخر لا يترتب عليها فيه الآثار ، ويسمى وجودا ذهنيا ، فالإنسان الموجود في الخارج قائم لا في موضوع ، بما أنه جوهر ، ويصح أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة بما أنه جسم ، وبما أنه نبات وحيوان وإنسان ، ذو نفس نباتية وحيوانية وناطقة ، ويظهر معه آثار هذه الأجناس والفصول وخواصها ، والإنسان الموجود في الذهن المعلوم لنا إنسان ذاتا ، واجد لحده ، غير أنه لا يترتب عليه شيء من تلك الآثار الخارجية.

وذهب بعضهم إلى أن المعلوم لنا ، المسمى بالموجود الذهني شبح الماهية لا نفسها ، والمراد به عرض وكيف قائم بالنفس ، يباين المعلوم الخارجي في ذاته ، ويشابهه ويحكيه في بعض خصوصياته ، كصورة الفرس المنقوشة على الجدار ، الحاكية للفرس الخارجي ، وهذا في الحقيقة سفسطة ، (٢)

__________________

(١) المراد بالأثر في هذا المقام هو كمال الشئ ، سواء كان كمالا أولا تتم به حقيقة الشئ كالحيوانية والنطق في الانسان ، أو كمالا ثانيا مترتبا على الشئ بعد تمام ذاته ، كالتعجب والضحك للانسان. ـ منه (رحمه الله) ـ.

(٢) لمغايرة الصور الحاصلة عند الانسان لما في الخارج مغايرة مطلقة ، فلا علم بشئ مطلقا وهو السفسطة. ـ منه (رحمه الله) ـ.

٢٨

ينسد معها باب العلم بالخارج من أصله.

وذهب بعضهم إلى إنكار الوجود الذهني مطلقا ، وأن علم النفس بشيء إضافة خاصة منها إليه ، ويرده العلم بالمعدوم ، إذ لا معنى محصلا للإضافة إلى المعدوم.

واحتج المشهور على ما ذهبوا إليه ، من الوجود الذهني بوجوه :

الأول أنا نحكم على المعدومات بأحكام إيجابية ، كقولنا بحر من زيبق كذا ، وقولنا اجتماع النقيضين غير اجتماع الضدين (١) ، إلى غير ذلك والإيجاب إثبات ، وإثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، فلهذه الموضوعات المعدومة وجود ، وإذ ليس في الخارج ففي موطن آخر ونسميه الذهن.

الثاني أنا نتصور أمورا تتصف بالكلية والعموم ، كالإنسان الكلي والحيوان الكلي ، والتصور إشارة عقلية لا تتحقق إلا بمشار إليه موجود ، وإذ لا وجود للكلي بما هو كلي في الخارج ، فهي موجودة في موطن آخر ونسميه الذهن.

الثالث أنا نتصور الصرف من كل حقيقة ، وهو الحقيقة ، محذوفا عنها ما يكثرها بالخلط والانضمام ، كالبياض المتصور بحذف جميع الشوائب الأجنبية ، وصرف الشيء لا يتثنى ولا يتكرر ، فهو واحد وحدة جامعة لكل ما هو من سنخه ، والحقيقة بهذا الوصف غير موجودة في الخارج ، فهي موجودة في موطن آخر نسميه الذهن.

__________________

(١) فإن قيل : إن أدلة الوجود الذهني مصبها إثبات الوجود الذهني للماهيات ، والممتنعات باطلة الذوات ليست لها ماهيات وإنما يختلق العقل مفهوما لأمر باطل الذات ، كشريك البارئ واجتماع النقيضين وغيرهما.

قلنا : إن لهذا الذي يختلقه العقل ثبوتا ما ، لمكان الحمل ، وإذ ليس في الخارج ففي موطن آخر ، نسميه الذهن. ـ منه (رحمه الله) ـ.

٢٩

تتمة

، قد استشكل على وجود الماهيات في الذهن ، بمعنى حصولها بأنفسها فيه إشكالات ، الإشكال الأول ، أن القول بحصول الماهيات بأنفسها في الذهن ، يستلزم كون الشيء الواحد جوهرا وعرضا معا وهو محال ، بيان الملازمة أن الجوهر المعقول في الذهن جوهر ، بناء على انحفاظ الذاتيات ، وهو بعينه عرض لقيامه بالنفس قيام العرض بمعروضه ، وأما بطلان اللازم ، فللزوم كونه قائما بالموضوع وغير قائم به.

الإشكال الثاني ، أن الماهية الذهنية مندرجة تحت مقولة الكيف ، بناء على ما ذهبوا إليه ، من كون الصور العلمية كيفيات نفسانية ، ثم إنا إذا تصورنا جوهرا ، كان مندرجا تحت مقولة الجوهر لانحفاظ الذاتيات ، وتحت مقولة الكيف كما تقدم ، والمقولات متباينة بتمام الذوات فيلزم التناقض في الذات ، وكذا إذا تصورنا مقولة أخرى غير الجوهر ، كانت الماهية المتصورة مندرجة تحت مقولتين ، وكذا لو تصورنا كيفا محسوسا ، كان مندرجا تحت الكيف المحسوس والكيف النفساني ، وهو اندراج شيء واحد تحت نوعين متباينين من مقولة ، واستحالته ضرورية.

قالوا وهذا الإشكال أصعب من الأول ، إذ لا كثير إشكال في كون شيء واحد جوهرا وعرضا ، لأن التباين الذاتي الذي بين المقولات ، إنما هو بين الجوهر والكيف والكم وغيرها ، وأما مفهوم العرض بمعنى القائم

__________________

(١) وهو عرض لا يقبل قسمة ولا نسبة لذاته. ـ منه (رحمه الله) ـ.

(٢) إذ لو لم تكن متباينة بتمام الذات ، كانت مشتركة في بعض الذات ، فكان لها جنس فوقها والمفروض أنها أجناس عالية ليس فوقها جنس ، هذا خلف ، فهي بسائط متباينة بتمام الذات. ـ منه (رحمه الله) ـ.

٣٠

بالموضوع ، فهو عرض عام صادق على تسع من المقولات ، ومن الجائز أن يعم الجوهر الذهني أيضا ويصدق عليه ، لأن المأخوذ في رسم الجوهر أنه ، ماهية إذا وجدت في الخارج وجدت لا في موضوع ، فمن الجائز أن يقوم في الذهن في موضوع ، وهو إذا وجد في الخارج كان لا في موضوع هذا.

وأما دخول الماهية الواحدة تحت مقولتين ، كالجوهر والكيف وكالكم والكيف ، والمقولات متباينات بتمام الذوات ، فاستحالته ضرورية لا مدفع لها.

وبالتوجه إلى ما تقدم من الإشكال ونحوه ، ذهب بعضهم إلى إنكار الوجود الذهني من أصله ، بالقول بأن العلم بإضافة من النفس إلى الخارج ، فالمعلوم مندرج تحت مقولته الخارجية فقط ، وقد عرفت ما فيه.

وبعضهم إلى أن الماهيات الخارجية ، موجودة في الذهن بأشباحها لا بأنفسها ، وشبح الشيء يغاير الشيء ويباينه ، فالصورة الذهنية كيفية نفسانية ، وأما المقولة الخارجية فغير باقية فيها ، فلا إشكال وقد عرفت ما فيه.

وقد أجيب عن الإشكال بوجوه ، منها ما عن بعضهم أن العلم غير المعلوم ، فعند حصول ماهية من الماهيات الخارجية ، في الذهن أمران أحدهما ، الماهية الحاصلة نفسها على ما كانت عليه في الخارج ، وهو المعلوم وهو غير قائم بالنفس بل قائم بنفسه ، حاصل فيه حصول الشيء في الزمان والمكان ، والآخر صفة حاصلة للنفس قائمة بها ، يطرد بها عنها الجهل وهو العلم ، وعلى هذا فالمعلوم مندرج تحت مقولته الخارجية ، من جوهر أو كم أو غير ذلك ، والعلم كيف نفساني ، فلا اجتماع أصلا لا لمقولتين ولا لنوعين من مقولة.

وفيه أنه خلاف ما نجده من أنفسنا عند العلم ، فإن الصورة الحاصلة في نفوسنا عند العلم بشيء ، هي بعينها التي تطرد عنا الجهل ، وتصير وصفا لنا

٣١

نتصف به.

ومنها ما عن بعض القائلين بأصالة الماهية ، أن الصورة الحاصلة في الذهن ، منسلخة عن ماهيتها الخارجية ، ومنقلبة إلى الكيف ، بيان ذلك أن موجودية الماهية متقدمة على نفسها ، فمع قطع النظر عن الوجود لا ماهية أصلا ، والوجود الذهني والخارجي مختلفان بالحقيقة ، فإذا تبدل الوجود بصيرورة الوجود الخارجي ذهنيا ، جاز أن تنقلب الماهية ، بأن يتبدل الجوهر أو الكم أو غير ذلك كيفا ، فليس للشيء بالنظر إلى ذاته حقيقة معينة ، بل الكيفية الذهنية إذا وجدت في الخارج ، كانت جوهرا أو غيره ، والجوهر الخارجي إذا وجد في الذهن ، كان كيفا نفسانيا ، وأما مباينة الماهية الذهنية للخارجية ، مع أن المدعى حصول الأشياء بأنفسها في الذهن ، وهو يستدعي أصلا مشتركا بينهما ، فيكفي في تصويره أن يصور العقل ، أمرا مبهما مشتركا بينهما ، يصحح به أن ما في الذهن هو الذي في الخارج ، كما يصور المادة المشتركة ، بين الكائن والفاسد الماديين.

وفيه أولا أنه لا محصل لما ذكره ، من تبدل الماهية واختلاف الوجودين في الحقيقة ، بناء على ما ذهب إليه ، من أصالة الماهية واعتبارية الوجود.

وثانيا أنه في معنى القول بالشبح ، بناء على ما التزم به من المغايرة الذاتية ، بين الصورة الذهنية والمعلوم الخارجي ، فيلحقه ما لحقه من محذور السفسطة ومنها ما عن بعضهم ، أن العلم لما كان متحدا بالذات مع المعلوم بالذات ، كان من مقولة المعلوم إن جوهرا فجوهر ، وإن كما فكم وهكذا ، وأما تسميتهم العلم كيفا ، فمبني على المسامحة في التعبير ، كما يسمى كل وصف ناعت للغير كيفا في العرف العام ، وإن كان جوهرا.

وبهذا يندفع إشكال اندراج المقولات الآخر تحت الكيف.

وإما إشكال كون شيء واحد جوهرا وعرضا معا ، فالجواب عنه

٣٢

ما تقدم ، أن مفهوم العرض عرض عام ، شامل للمقولات التسع العرضية وللجوهر الذهني ، ولا إشكال فيه.

وفيه أن مجرد صدق مفهوم مقولة من المقولات على شيء ، لا يوجب اندراجه تحتها كما ستجيء الإشارة إليه.

على أن كلامهم صريح ، في كون العلم الحصولي كيفا نفسانيا ، داخلا تحت مقولة الكيف حقيقة من غير مسامحة.

ومنها ما ذكره صدر المتألهين ، ره في كتبه ، وهو الفرق في إيجاب الاندراج ، بين الحمل الأولي وبين الحمل الشائع ، فالثاني يوجبه دون الأول ، بيان ذلك ، أن مجرد أخذ مفهوم جنسي أو نوعي ، في حد شيء وصدقه عليه ، لا يوجب اندراج ذلك الشيء تحت ذلك الجنس أو النوع ، بل يتوقف الاندراج تحته على ترتب آثار ، ذلك الجنس أو النوع الخارجية على ذلك الشيء.

فمجرد أخذ الجوهر والجسم مثلا في حد الإنسان ، حيث يقال ، الإنسان جوهر جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق ، لا يوجب اندراجه تحت مقولة الجوهر أو جنس الجسم ، حتى يكون موجودا لا في موضوع باعتبار كونه جوهرا ، ويكون بحيث يصح أن يفرض فيه ، الأبعاد الثلاثة باعتبار كونه جسما وهكذا.

وكذا مجرد أخذ الكم والاتصال في حد السطح حيث يقال ، السطح كم متصل قار منقسم في جهتين ، لا يوجب اندراجه تحت الكم والمتصل مثلا ، حتى يكون قابلا للانقسام بذاته من جهة أنه كم ، ومشتملا على الفصل المشترك من جهة أنه متصل وهكذا.

ولو كان مجرد صدق مفهوم على شيء موجبا للاندراج ، لكان كل مفهوم كلي فردا لنفسه ، لصدقه بالحمل الأولي على نفسه ، فالاندراج يتوقف على ترتب الآثار ، ومعلوم أن ترتب الآثار ، إنما يكون في الوجود الخارجي دون الذهني.

٣٣

فتبين أن الصورة الذهنية ، غير مندرجة تحت ما يصدق عليها من المقولات ، لعدم ترتب آثارها عليها ، لكن الصورة الذهنية ، إنما لا تترتب عليها آثار المعلوم الخارجي من حيث هي وجود ، مقيس إلى ما بحذائها من الوجود الخارجي ، وأما من حيث إنها حاصلة للنفس ، حالا أو ملكة تطرد عنها الجهل ، فهي وجود خارجي موجود للنفس ناعت لها ، يصدق عليه حد الكيف بالحمل الشائع ، وهو أنه عرض لا يقبل قسمة ولا نسبة لذاته ، فهو مندرج بالذات تحت مقولة الكيف ، وإن لم يكن من جهة كونه وجودا ذهنيا ، مقيسا إلى الخارج داخلا تحت شيء من المقولات ، لعدم ترتب الآثار ، اللهم إلا تحت مقولة الكيف بالعرض.

وبهذا البيان يتضح اندفاع ما أورده بعض المحققين ، على كون العلم كيفا بالذات ، وكون الصورة الذهنية كيفا بالعرض ، من أن وجود تلك الصور في نفسها ووجودها للنفس واحد ، وليس ذلك الوجود والظهور للنفس ، ضميمة تزيد على وجودها تكون هي كيفا في النفس ، لأن وجودها الخارجي لم يبق بكليته ، وماهياتها في أنفسها كل من مقولة خاصة ، وباعتبار وجودها الذهني لا جوهر ولا عرض ، وظهورها لدى النفس ، ليس سوى تلك الماهية وذلك الوجود ، إذ ظهور الشيء ليس أمرا ينضم إليه ، وإلا لكان ظهور نفسه ، وليس هناك أمر آخر والكيف من المحمولات بالضميمة ، والظهور والوجود للنفس لو كان نسبة مقولية ، كان ماهية العلم إضافة لا كيفا ، وإذا كان إضافة إشراقية كان وجودا ، فالعلم نور وظهور وهما وجود ، والوجود ليس ماهية.

وجه الاندفاع ، أن الصورة العلمية هي الموجودة للنفس الظاهرة لها ، لكن لا من حيث كونها موجودا ذهنيا ، مقيسا إلى خارج لا تترتب عليها آثاره ، بل من حيث كونها حالا أو ملكة للنفس تطرد عنها عدما ، وهي كمال للنفس زائد عليها ناعت لها ، وهذا أثر خارجي مترتب عليها ، وإذا كانت النفس

٣٤

موضوعة لها مستغنية عنها في نفسها ، فهي عرض لها ويصدق عليها حد الكيف ، ودعوى أن ليس هناك أمر زائد على النفس ، منضم إليها ممنوعة.

فظهر أن الصورة العلمية من حيث كونها ، حالا أو ملكة للنفس كيف حقيقة وبالذات ، ومن حيث كونها موجودا ذهنيا ، كيف بالعرض وهو المطلوب.

الإشكال الثالث ، أن لازم القول بالوجود الذهني ، وحصول الأشياء بأنفسها في الأذهان كون النفس ، حارة باردة عريضة طويلة ، متحيزة متحركة مربعة مثلثة مؤمنة كافرة وهكذا ، عند تصور الحرارة والبرودة إلى غير ذلك ، وهو باطل بالضرورة بيان الملازمة ، أنا لا نعني بالحار والبارد والعريض والطويل ونحو ذلك ، إلا ما حصلت له هذه المعاني وقامت به.

والجواب عنه ، أن المعاني الخارجية كالحرارة والبرودة ونحوهما ، إنما تحصل في الأذهان بماهياتها لا بوجوداتها العينية ، وتصدق عليها بالحمل الأولي دون الشائع ، والذي يوجب الاتصاف حصول هذه المعاني ، بوجوداتها الخارجية وقيامها بموضوعاتها ، دون حصول ماهياتها لها وقيام ما هي هي بالحمل الأولي.

الإشكال الرابع أنا نتصور المحالات الذاتية ، كشريك الباري واجتماع النقيضين وارتفاعهما ، وسلب الشيء عن نفسه ، فلو كانت الأشياء حاصلة بأنفسها في الأذهان ، استلزم ذلك ثبوت المحالات الذاتية.

والجواب عنه ، أن الحاصل من المحالات الذاتية في الأذهان ، مفاهيمها بالحمل الأولي دون الحمل الشائع ، فشريك الباري في الذهن شريك الباري بالحمل الأولي ، وأما بالحمل الشائع فهو كيفية نفسانية ممكنة مخلوقة للباري ، وهكذا في سائر المحالات.

الإشكال الخامس أنا نتصور الأرض ، بما رحبت بسهولها وجبالها و

٣٥

براريها وبحارها ، وما فوقها من السماء بأرجائها البعيدة ، والنجوم والكواكب بأبعادها الشاسعة ، وحصول هذه المقادير العظيمة في الذهن ، بمعنى انطباعها في جزء عصبي أو قوة دماغية كما قالوا به ، من انطباع الكبير في الصغير وهو محال ، ودفع الإشكال بأن المنطبع فيه ، منقسم إلى غير النهاية لا يجدي شيئا ، فإن الكف لا تسع الجبل ، وإن كانت منقسمة إلى غير النهاية.

والجواب عنه أن الحق كما سيأتي (١) ، أن الصور الإدراكية الجزئية غير مادية ، بل مجردة تجردا مثاليا ، فيها آثار المادة من مقدار وشكل وغيرهما ، دون نفس المادة ، فهي حاصلة للنفس في مرتبة تجرده المثالي ، من غير أن تنطبع في جزء بدني أو قوة متعلقة بجزء بدني.

وأما الأفعال والانفعالات الحاصلة في مرحلة المادة ، عند الإحساس بشيء أو عند تخيله ، فإنما هي معدات تتهيأ بها النفس ، لحصول الصور العلمية الجزئية المثالية عندها.

الإشكال السادس أن علماء الطبيعة بينوا ، أن الإحساس والتخيل بحصول صور الأجسام المادية ، بما لها من النسب والخصوصيات الخارجية ، في الأعضاء الحاسة وانتقالها إلى الدماغ ، مع ما لها من التصرف فيها بحسب طبائعها الخاصة ، والإنسان ينتقل إلى خصوصية ، مقاديرها وأبعادها وأشكالها بنوع من المقايسة ، بين أجزاء الصورة الحاصلة عنده ، على ما فصلوه في محله ، ومع ذلك لا مجال للقول ، بحضور الماهيات الخارجية بأنفسها في الأذهان.

والجواب عنه ، أن ما ذكروه من الفعل والانفعال المادي ، عند حصول العلم بالجزئيات في محله ، لكن هذه الصور المنطبعة ، المغايرة للمعلومات الخارجية ، ليست هي المعلومة بالذات ، بل هي معدات تهيىء النفس ، لحضور الماهيات الخارجية عندها ، بوجود مثالي غير مادي ، وإلا لزمت السفسطة لمكان

__________________

(١) في المرحلة الحادية عشرة الفصل الأول والثاني.

٣٦

المغايرة بين الصور ، الحاصلة في أعضاء الحس والتخيل وبين ذوات الصور.

بل هذا من أقوى الحجج على حصول الماهيات ، بأنفسها عند الإنسان بوجود غير مادي ، فإن الوجود المادي لها كيفما فرض ، لم يخل عن مغايرة ما بين الصور الحاصلة ، وبين الأمور الخارجية ذوات الصور ، ولازم ذلك السفسطة ضرورة.

الإشكال السابع ، أن لازم القول بالوجود الذهني ، كون الشيء الواحد كليا وجزئيا معا وبطلانه ظاهر ، بيان الملازمة أن ماهية الإنسان المعقولة مثلا ، من حيث تجويز العقل صدقها على كثيرين كلية ، ومن حيث حصولها لنفس عاقلها الشخصية ، وقيامها بها جزئية متشخصة بتشخصها ، متميزة من ماهية الإنسان المعقولة ، لغير تلك النفس من النفوس ، فهي كلية وجزئية معا.

والجواب عنه أن الجهة مختلفة ، فهي من حيث إنها وجود ذهني مقيس إلى الخارج كلية ، تقبل الصدق على كثيرين ، ومن حيث إنها كيفية نفسانية ، من غير مقايسة إلى الخارج جزئية.

٣٧
٣٨

المرحلة الثالثة

في انقسام الوجود

إلى ما في نفسه وما في غيره وانقسام ما في نفسه إلى ما لنفسه وما لغيره

وفيها ثلاثة فصول

٣٩

الفصل الأول

[الوجود في نفسه والوجود في غيره]

من الوجود ما هو في غيره ومنه خلافه ، وذلك أنا إذا اعتبرنا القضايا الصادقة ، كقولنا الإنسان ضاحك ، وجدنا فيها وراء الموضوع والمحمول أمرا آخر ، به يرتبط ويتصل بعضهما إلى بعض ، ليس يوجد إذا اعتبر الموضوع وحده ولا المحمول وحده ، ولا إذا اعتبر كل منهما مع غير الآخر فله وجود ، ثم إن وجوده ليس ثالثا لهما ، واقعا بينهما مستقلا عنهما ، وإلا احتاج إلى رابطين آخرين يربطانه بالطرفين ، فكان المفروض ثلاثة خمسة ، ثم الخمسة تسعة وهلم جرا وهو باطل.

فوجوده قائم بالطرفين موجود فيهما ، غير خارج منهما ولا مستقل بوجه عنهما ، لا معنى له مستقلا بالمفهومية ، ونسميه الوجود الرابط ، وما كان بخلافه كوجود الموضوع والمحمول ، وهو الذي له معنى مستقل بالمفهومية ، نسميه الوجود المحمولي والوجود المستقل ، فإذن الوجود منقسم إلى مستقل ورابط وهو المطلوب.

ويظهر مما تقدم أولا ، أن الوجودات الرابطة لا ماهية لها ، لأن الماهية ما يقال في جواب ما هو ، فلها لا محالة وجود محمولي ذو معنى مستقل بالمفهومية ، والرابط ليس كذلك.

وثانيا أن تحقق الوجود الرابط بين أمرين ، يستلزم اتحادا ما بينهما ، لكونه

٤٠