بداية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

بداية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٤

ويسمى عقلا وتعقلا ، والجزئي ما يمتنع فرض صدقه على كثيرين ، كالعلم بهذا الإنسان ، بنوع من الاتصال بمادته الحاضرة ، ويسمى علما إحساسيا ، وكالعلم بالإنسان الفرد من غير حضور مادته ، ويسمى علما خياليا ، وعد هذين القسمين ممتنع الصدق على كثيرين ، إنما هو من جهة اتصال أدوات الإحساس ، بالمعلوم الخارجي في العلم الإحساسي ، وتوقف العلم الخيالي على العلم الإحساسي ، وإلا فالصورة الذهنية كيفما فرضت ، لا تأبى أن تصدق على كثيرين.

والقسمان جميعا مجردان عن المادة لما تقدم (١) ، من فعلية الصورة العلمية ، في ذاتها وعدم قبولها للتغير.

وأيضا الصورة العلمية كيفما فرضت ، لا تمتنع عن الصدق على كثيرين ، وكل أمر مادي متشخص ، ممتنع الصدق على أزيد من شخص واحد.

وأيضا لو كانت الصورة الحسية أو الخيالية مادية ، منطبعة بنوع من الانطباع في جزء بدني ، لكانت منقسمة بانقسام محلها ، ولكان في مكان وزمان وليس كذلك ، فالعلم لا يقبل القسمة ، ولا يشار إليه إشارة وضعية مكانية ، ولا أنه مقيد بزمان ، لصحة تصورنا الصورة المحسوسة في وقت ، بعد أمد بعيد على ما كانت عليه ، من غير تغير فيها ، ولو كانت مقيدة بالزمان لتغيرت بتقضيه.

وما يتوهم من مقارنة حصول العلم للزمان ، إنما هو مقارنة شرائط حصول الاستعداد له ، لا نفس العلم.

وأما توسط أدوات الحس في حصول الصورة المحسوسة ، وتوقف الصورة الخيالية على ذلك ، فإنما هو لحصول الاستعداد الخاص للنفس ، لتقوى به على تمثيل الصورة العلمية ، وتفصيل القول في علم النفس ، ومما تقدم يظهر أن قولهم ،

__________________

(١) في الفصل السابق.

١٤١

إن التعقل إنما هو بتقشير المعلوم ، عن المادة والأعراض المشخصة له ، حتى لا يبقى إلا الماهية المعراة عن القشور ، كالإنسان المجرد عن المادة الجسمية ، والمشخصات الزمانية والمكانية والوضعية وغيرها ، بخلاف الإحساس المشروط بحضور المادة ، واكتناف الأعراض والهيئات الشخصية ، والخيال المشروط ببقاء الأعراض والهيئات المشخصة ، من دون حضور المادة ، قول على سبيل التمثيل للتقريب ، وإلا فالمحسوس صورة مجردة علمية ، واشتراط حضور المادة والاكتناف بالأعراض ، المشخصة لحصول الاستعداد في النفس للإحساس ، وكذا اشتراط الاكتناف بالمشخصات للتخيل ، وكذا اشتراط التقشير في التعقل ، للدلالة على اشتراط تخيل أزيد من فرد واحد ، في حصول استعداد النفس لتعقل الماهية الكلية ، المعبر عنه بانتزاع الكلي من الأفراد.

وتبين مما تقدم أيضا أن الوجود ينقسم ، من حيث التجرد عن المادة وعدمه ، إلى ثلاثة عوالم كلية ، أحدها عالم المادة والقوة ، والثاني عالم التجرد عن المادة دون آثارها ، من الشكل والمقدار والوضع وغيرها ، ففيه الصور الجسمانية وأعراضها وهيئاتها الكمالية ، من غير مادة تحمل القوة والانفعال ، ويسمى عالم المثال والبرزخ ، بين عالم العقل وعالم المادة ، والثالث عالم التجرد عن المادة وآثارها ، ويسمى عالم العقل.

وقد قسموا عالم المثال إلى ، المثال الأعظم القائم بذاته ، والمثال الأصغر القائم بالنفس ، الذي تتصرف فيه النفس كيف تشاء ، بحسب الدواعي المختلفة الحقة والجزافية ، فتأتي أحيانا بصور حقة صالحة ، وأحيانا بصور جزافية تعبث بها.

والعوالم الثلاثة المذكورة مترتبة طولا ، فأعلاها مرتبة وأقواها وأقدمها وجودا ، وأقربها من المبدإ الأول تعالى ، عالم العقول المجردة ، لتمام فعليتها وتنزه ذواتها عن شوب المادة والقوة ، ويليه عالم المثال المتنزه عن المادة دون آثارها ، ويليه عالم المادة موطن كل نقص وشر ، ولا يتعلق بما فيه علم ، إلا من

١٤٢

جهة ما يحاذيه من المثال والعقل.

الفصل الثالث

ينقسم العلم انقساما آخر إلى كلي وجزئي

والمراد بالكلي ما لا يتغير بتغير المعلوم بالعرض ، كصورة البناء التي يتصورها البناء ، في نفسه ليبنى عليها ، فالصورة عنده على حالها قبل البناء ، ومع البناء وبعد البناء وإن خرب وانهدم ، ويسمى علم ما قبل الكثرة ، والعلوم الحاصلة من طريق العلل ، كلية من هذا القبيل دائما ، كعلم المنجم بأن القمر منخسف ، يوم كذا ساعة كذا إلى مدة كذا ، يعود فيه الوضع السماوي ، بحيث يوجب حيلولة الأرض بينه وبين الشمس ، فعلمه ثابت على حاله قبل الخسوف ومعه وبعده.

والمراد بالجزئي ما يتغير بتغير المعلوم بالعرض ، كما إذا علمنا من طريق الإبصار بحركة زيد ، ثم إذا وقف عن الحركة ، تغيرت الصورة العلمية من الحركة إلى السكون ، ويسمى علم ما بعد الكثرة.

فإن قلت التغير لا يكون إلا بقوة سابقة ، وحاملها المادة ولازمه كون العلوم الجزئية مادية لا مجردة.

قلنا العلم بالتغير غير تغير العلم ، والمتغير ثابت في تغيره لا متغير ، وتعلق العلم به أعني حضوره عند العالم ، من حيث ثباته لا تغيره وإلا لم يكن حاضرا ، فلم يكن العلم حضور شيء لشيء هذا خلف.

١٤٣

الفصل الرابع

في أنواع التعقل

ذكروا أن التعقل على ثلاثة أنواع ، أحدها أن يكون العقل بالقوة ، أي لا يكون شيئا من المعقولات بالفعل ، ولا له شيء من المعقولات بالفعل ، لخلو النفس عن عامة المعقولات.

الثاني أن يعقل معقولا ، أو معقولات كثيرة بالفعل ، مميزا لبعضها من بعض مرتبا لها ، وهو العقل التفصيلي.

الثالث أن يعقل معقولات كثيرة عقلا ، بالفعل من غير أن يتميز بعضها من بعض ، وإنما هو عقل بسيط إجمالي فيه كل التفاصيل ، ومثلوا له بما إذا سألك سائل ، عن عدة من المسائل التي لك علم بها ، فحضرك الجواب في الوقت ، فأنت في أول لحظة تأخذ في الجواب ، تعلم بها جميعا علما يقينيا بالفعل ، لكن لا تميز لبعضها من بعض ، ولا تفصيل وإنما يحصل التميز والتفصيل بالجواب ، كان ما عندك منبع تنبع وتجري منه التفاصيل ، ويسمى عقلا إجماليا.

الفصل الخامس

في مراتب العقل

ذكروا أن مراتب العقل أربع ، إحداها كونه بالقوة بالنسبة إلى جميع المعقولات ، ويسمى عقلا

١٤٤

هيولانيا ، لشباهته في خلوه عن المعقولات الهيولى ، في كونها بالقوة بالنسبة إلى جميع الصور ، وثانيتها العقل بالملكة ، وهي المرتبة التي تعقل فيها الأمور البديهية ، من التصورات والتصديقات ، فإن تعلق العلم بالبديهيات ، أقدم من تعلقه بالنظريات.

وثالثتها العقل بالفعل ، وهو تعلقه النظريات بتوسيط البديهيات ، وإن كانت مرتبة بعضها على بعض.

ورابعتها عقله لجيمع ما استفاده ، من المعقولات البديهية والنظرية ، المطابقة لحقائق العالم العلوى والسفلى ، باستحضاره الجميع والتفاته إليها بالفعل ، فيكون عالما علميا مضاهيا للعالم العيني ، ويسمى العقل المستفاد.

الفصل السادس

في مفيض هذه الصور العلمية

أما الصور العقلية الكلية فإن مفيضها ، المخرج للإنسان مثلا من القوة إلى الفعل ، عقل مفارق للمادة ، عنده جميع الصور العقلية الكلية ، وذلك أنك قد عرفت أن هذه الصور ، بما أنها علم مجردة عن المادة ، على أنها كلية تقبل الاشتراك بين كثيرين ، وكل أمر حال في المادة ، واحد شخصي لا يقبل الاشتراك ، فالصورة العقلية مجردة عن المادة ، ففاعلها المفيض لها أمر مجرد عن المادة ، لأن الأمر المادي ضعيف الوجود ، فلا يصدر عنه ما هو أقوى منه وجودا ، على أن فعل المادة مشروط بالوضع الخاص ، ولا وضع للمجرد.

وليس هذا المفيض المجرد هو النفس ، العاقلة لهذه الصور المجردة العلمية ،

١٤٥

لأنها بعد بالقوة بالنسبة إليها ، وحيثيتها حيثية القبول دون الفعل ، ومن المحال أن يخرج ما بالقوة ، نفسه من القوة إلى الفعل.

فمفيض الصورة العقلية جوهر عقلي مفارق للمادة ، فيه جميع الصور العقلية الكلية ، على نحو ما تقدم من العلم الإجمالي العقلي ، تتحد معه النفس المستعدة للتعقل ، على قدر استعدادها الخاص ، فيفيض عليها ما تستعد له ، من الصور العقلية وهو المطلوب.

وبنظير البيان السابق يتبين ، أن مفيض الصور العليمة الجزئية ، جوهر مثالي مفارق ، فيه جميع الصور المثالية الجزئية ، على نحو العلم الإجمالي ، تتحد معه النفس على قدر ما لها من الاستعداد.

الفصل السابع

ينقسم العلم الحصولي إلى تصور وتصديق

لأنه إما صورة حاصلة من معلوم واحد أو كثير ، من غير إيجاب أو سلب ، ويسمى تصورا ، كتصور الإنسان والجسم والجوهر ، وإما صورة حاصلة من معلوم معها ، إيجاب شيء لشيء أو سلب شيء عن شيء ، كقولنا الإنسان ضاحك وقولنا ليس الإنسان بحجر ، ويسمى تصديقا ، وباعتبار حكمه قضية.

ثم إن القضية بما تشتمل ، على إثبات شيء لشيء أو نفي شيء عن شيء ، مركبة من أجزاء فوق الواحد.

والمشهور أن القضية الموجبة مؤلفة ، من الموضوع والمحمول والنسبة الحكمية ، وهي نسبة المحمول إلى الموضوع ، والحكم باتحاد الموضوع مع المحمول ، هذا في الهليات المركبة ، التي محمولاتها غير وجود الموضوع ، وأما

١٤٦

الهليات البسيطة التي محمولها وجود الموضوع ، كقولنا الإنسان موجود ، فأجزاؤها ثلاثة ، الموضوع والمحمول والحكم إذ لا معنى لتخلل النسبة ، وهي الوجود الرابط بين الشيء ونفسه.

وأن القضية السالبة مؤلفة ، من الموضوع والمحمول ، والنسبة الحكمية الإيجابية ولا حكم فيها ، لا أن فيها حكما عدميا ، لأن الحكم جعل شيء شيئا ، وسلب الحكم عدم جعله لا جعل عدمه.

والحق أن الحاجة إلى تصور النسبة الحكمية ، إنما هي من جهة الحكم ، بما هو فعل النفس لا بما هو جزء القضية ، أي إن القضية إنما ، هي الموضوع والمحمول والحكم ، ولا حاجة في تحقق القضية ، بما هي قضية إلى تصور النسبة الحكمية ، وإنما الحاجة إلى تصورها ، لتحقق الحكم من النفس ، وجعلها الموضوع هو المحمول ، ويدل على ذلك ، تحقق القضية في الهليات البسيطة ، بدون النسبة الحكمية التي تربط المحمول بالموضوع.

فقد تبين بهذا البيان ، أولا أن القضية الموجبة ذات أجزاء ثلاثة ، الموضوع والمحمول والحكم ، والسالبة ذات جزءين الموضوع والمحمول ، وأن النسبة الحكمية ، تحتاج إليها النفس في فعلها الحكم ، لا القضية بما هي قضية في انعقادها.

وثانيا أن الحكم فعل من النفس ، في ظرف الإدراك الذهني ، وليس من الانفعال التصوري في شيء ، وحقيقة الحكم في قولنا زيد قائم مثلا ، أن النفس تنال من طريق الحس موجودا واحدا ، هو زيد القائم ثم تجزئه إلى مفهومي زيد ، والقائم وتخزنهما عندها ، ثم إذا أرادت حكاية ما وجدته في الخارج ، أخذت صورتي زيد والقائم من خزانتها ، وهما اثنتان ثم جعلتهما واحدا ذا وجود واحد ، وهذا هو الحكم الذي ذكرنا ، أنه فعل للنفس تحكى به الخارج على ما كان.

فالحكم فعل للنفس ، وهو مع ذلك من الصور الذهنية الحاكية لما

١٤٧

وراءها ، ولو كان الحكم تصورا مأخوذا من الخارج ، كانت القضية غير مفيدة لصحة السكوت ، كما في كل من المقدم والتالي في القضية الشرطية ، ولو كان تصورا أنشأته النفس من عندها ، من غير استعانة من الخارج ، لم يحك الخارج وثالثا ، أن التصديق يتوقف على تصور الموضوع والمحمول ، فلا تصديق إلا عن تصور.

الفصل الثامن

وينقسم العلم الحصولي إلى بديهي ونظري

والبديهي منه ما لا يحتاج ، في تصوره أو التصديق به ، إلى اكتساب ونظر ، كتصور مفهوم الشيء والوحدة ونحوهما ، وكالتصديق بأن الكل أعظم من جزئه ، وأن الأربعة زوج ، والنظري ما يتوقف ، في تصوره أو التصديق به على اكتساب ونظر ، كتصور ماهية الإنسان والفرس ، والتصديق بأن الزوايا الثلاث من المثلث ، مساوية لقائمتين ، وأن الإنسان ذو نفس مجردة.

والعلوم النظرية ، تنتهي إلى العلوم البديهية وتتبين بها ، وإلا ذهب الأمر إلى غير النهاية ، ثم لم يفد علما على ما بين في المنطق.

والبديهيات كثيرة مبينة في المنطق ، وأولاها بالقبول الأوليات ، وهي القضايا التي يكفي في التصديق بها ، تصور الموضوع والمحمول ، كقولنا الكل أعظم من جزئه ، وقولنا الشيء لا يسلب عن نفسه.

وأولى الأوليات بالقبول ، قضية استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، وهي قضية منفصلة حقيقية ، إما أن يصدق الإيجاب أو يصدق السلب ، ولا تستغنى عنها في إفادة العلم ، قضية نظرية ولا بديهية حتى الأوليات ، فإن قولنا الكل أعظم من جزئه ، إنما يفيد علما إذا كان نقيضه ، وهو قولنا

١٤٨

ليس الكل بأعظم من جزئه كاذبا.

فهي أول قضية مصدق بها لا يرتاب فيها ذو شعور ، وتبتنى عليها العلوم فلو وقع فيها شك ، سرى ذلك في جميع العلوم والتصديقات.

تتمة

السوفسطي المنكر لوجود العلم ، غير مسلم لقضية أولى الأوائل ، إذ في تسليمها اعتراف ، بأن كل قضيتين متناقضتين ، فإن إحداهما حقة صادقة.

ثم السوفسطي ، المدعي لانتفاء العلم والشاك في كل شيء ، إن اعترف بأنه يعلم أنه شاك ، فقد اعترف بعلم ما ، وسلم قضية أولى الأوائل ، فأمكن أن يلزم بعلوم كثيرة ، تماثل علمه بأنه شاك ، كعلمه بأنه يرى ويسمع ، ويلمس ويذوق ويشم ، وأنه ربما جاع فقصد ما يشبعه ، أو ظمأ فقصد ما يرويه ، وإذا ألزم بها ألزم بما دونها من العلوم ، لأن العلم ينتهي إلى الحس ما تقدم (١).

وإن لم يعترف بأنه يعلم أنه شاك ، بل أظهر أنه شاك في كل شيء ، وشاك في شكه لا يدري شيئا ، سقطت معه المحاجة ولم ينجع فيه برهان ، وهذا الإنسان إما مبتلى بمرض ، أورثه اختلالا في الإدراك ، فليراجع الطبيب ، وإما معاند للحق يظهر ما يظهر لدحضه ، فليضرب وليؤلم وليمنع مما يقصده ويريده ، وليؤمر بما يبغضه ويكرهه ، إذ لايرى حقيقة لشيء من ذلك.

نعم ربما راجع بعضهم هذه العلوم العقلية ، وهو غير مسلح بالأصول المنطقية ، ولا متدرب في صناعة البرهان ، فشاهد اختلاف الباحثين في المسائل بين الإثبات والنفي ، والحجج التي أقاموها على كل من طرفي النقيض ،

__________________

(١) في الفصل الثاني.

١٤٩

ولم يقدر لقلة بضاعته على تمييز الحق من الباطل ، فتسلم طرفي النقيض في مسألة بعد مسألة ، فأساء الظن بالمنطق ، وزعم أن العلوم نسبية غير ثابتة ، والحقيقة بالنسبة إلى كل باحث ما دلت عليه حجته.

وليعالج أمثال هؤلاء بإيضاح القوانين المنطقية ، وإراءة قضايا بديهية لا تقبل الترديد في حال من الأحوال ، كضرورة ثبوت الشيء لنفسه ، واستحالة سلبه عن نفسه وغير ذلك ، وليبالغ في تفهيم معاني أجزاء القضايا ، وليؤمروا أن يتعلموا العلوم الرياضية.

وهاهنا طائفتان أخريان من الشكاكين ، فطائفة يتسلمون الإنسان وإدراكاته ، ويظهرون الشك في ما وراء ذلك ، فيقولون نحن وإدراكاتنا ونشك فيما وراء ذلك ، وطائفة أخرى تفطنوا بما في قولهم ، نحن وإدراكاتنا من الاعتراف بحقائق كثيرة ، من أناسي وإدراكات لهم ، وتلك حقائق خارجية ، فبدلوا الكلام بقولهم ، أنا وإدراكاتي وما وراء ذلك مشكوك.

ويدفعه أن الإنسان ربما يخطي في إدراكاته ، كما في موارد أخطاء الباصرة واللامسة ، وغيرها من أغلاط الفكر ، ولو لا أن هناك حقائق ، خارجة من الإنسان وإدراكاته ، تنطبق عليها إدراكاته أو لا تنطبق ، لم يستقم ذلك بالضرورة.

وربما قيل ، إن قول هؤلاء ليس من السفسطة في شيء ، بل المراد أن من المحتمل ، أن لا تنطبق الصور الظاهرة للحواس ، بعينها على الأمور الخارجية ، بما لها من الحقيقة كما قيل ، إن الصوت بما له من الهوية الظاهرة على السمع ، ليس له وجود في خارجه ، بل السمع إذا اتصل بالارتعاش بعدد كذا ، ظهر في السمع في صورة الصوت ، وإذا بلغ عدد الارتعاش كذا ارتعاشا ، ظهر في البصر في صورة الضوء واللون ، فالحواس التي هي مبادي الإدراك ، لا تكشف عما وراءها من الحقائق ، وسائر الإدراكات منتهية إلى الحواس.

١٥٠

وفيه أن الإدراكات ، إذا فرضت غير كاشفة عما وراءها ، فمن أين علم أن هناك حقائق وراء الإدراك ، لا يكشف عنها الإدراك ، ثم من أدرك أن حقيقة الصوت في خارج السمع ، ارتعاش بعدد كذا ، وحقيقة المبصر في خارج البصر ارتعاش بعدد كذا ، وهل يصل الإنسان إلى الصواب الذي يخطى فيه الحواس ، إلا من طريق الإدراك الإنساني.

وبعد ذلك كله تجويز ، أن لا ينطبق مطلق الإدراك على ما وراءه ، لا يحتمل إلا السفسطة ، حتى أن قولنا ، يجوز أن لا ينطبق شيء من إدراكاتنا على الخارج ، لا يؤمن أن لا يكشف ، بحسب مفاهيم مفرداته والتصديق ، الذي فيه عن شيء.

الفصل التاسع

وينقسم العلم الحصولي إلى حقيقي واعتباري

والحقيقي هو المفهوم الذي يوجد ، تارة بوجود خارجي فيترتب عليه آثاره ، وتارة بوجود ذهني لا يترتب عليه آثاره ، وهذا هو الماهية ، والاعتباري ما كان بخلاف ذلك ، وهو إما من المفاهيم التي حيثية مصداقها ، حيثية أنه في الخارج ، كالوجود وصفاته الحقيقية ، كالوحدة والفعلية وغيرهما ، فلا يدخل الذهن وإلا لانقلب ، وإما من المفاهيم التي حيثية مصداقها ، حيثية أنه في الذهن ، كمفهوم الكلي والجنس والنوع ، فلا يوجد في الخارج وإلا لانقلب.

وهذه المفاهيم إنما يعملها الذهن بنوع من التعمل ، ويوقعها على مصاديقها ، لكن لا كوقوع الماهية وحملها على أفرادها ، بحيث تؤخذ في حدها.

ومما تقدم يظهر أولا ، أن ما كان من المفاهيم ، محمولا على الواجب

١٥١

والممكن معا ، كالوجود والحياة فهو اعتباري ، وإلا لكان الواجب ذا ماهية تعالى عن ذلك.

وثانيا أن ما كان منها ، محمولا على أزيد من مقولة واحدة ، كالحركة فهو اعتباري ، وإلا كان مجنسا بجنسين فأزيد وهو محال.

وثالثا أن المفاهيم الاعتبارية لا حد لها ، ولا تؤخذ في حد ماهية من الماهيات.

وللاعتباري معان أخر خارجة عن بحثنا ، منها الاعتباري مقابل الأصيل كالماهية مقابل الوجود ، ومنها الاعتباري بمعنى ما ليس له وجود منحاز ، مقابل ما له وجود منحاز ، كالإضافة الموجودة بوجود طرفيها ، مقابل الجوهر الموجود بنفسه (١) ، ومنها ما يوقع ويحمل على الموضوعات ، بنوع من التشبيه والمناسبة ، للحصول على غاية عملية ، كإطلاق الرأس على زيد ، لكون نسبته إلى القوم كنسبة الرأس إلى البدن ، حيث يدبر أمرهم ويصلح شأنهم ، ويشير إلى كل بما يخصه من واجب العمل.

الفصل العاشر

في أحكام متفرقة

منها أن المعلوم بالعلم الحصولي ينقسم ، إلى معلوم بالذات ومعلوم بالعرض ، والمعلوم بالذات هو ، الصورة الحاصلة بنفسها عند العالم ، والمعلوم بالعرض هو ، الأمر الخارجي الذي يحكيه الصورة العلمية ، ويسمى معلوما بالعرض والمجاز ، لاتحاد ما له مع المعلوم بالذات.

__________________

(١) وفي نهاية الحكمة : في نفسه.

١٥٢

ومنها أنه تقدم أن كل معقول فهو مجرد ، كما أن كل عاقل فهو مجرد ، فليعلم أن هذه المفاهيم الظاهرة للقوة العاقلة ، التي تكتسب بحصولها لها الفعلية ، حيث كانت مجردة ، فهي أقوى وجودا من النفس العاقلة ، التي تستكمل بها وآثارها مترتبة عليها ، فهي في الحقيقة موجودات مجردة ، تظهر بوجوداتها الخارجية للنفس العالمة ، فتتحد النفس بها إن كانت صور جواهر ، وبموضوعاتها المتصفة بها إن كانت أعراضا ، لكنا لاتصالنا من طريق أدوات الإدراك بالمواد ، نتوهم أنها نفس الصور القائمة بالمواد ، نزعناها من المواد من دون آثارها ، المترتبة عليها في نشأة المادة ، فصارت وجودات ذهنية للأشياء ، لا يترتب عليها آثارها.

فقد تبين بهذا البيان ، أن العلوم الحصولية في الحقيقة علوم حضورية.

وبان أيضا أن العقول المجردة عن المادة ، لا علم حصوليا عندها ، لانقطاعها عن المادة ذاتا وفعلا.

الفصل الحادي عشر

كل مجرد فهو عاقل

لأن المجرد تام ذاتا لا تعلق له بالقوة ، فذاته التامة حاضرة لذاته موجودة لها ، ولا نعني بالعلم إلا حضور شيء لشيء ، بالمعنى الذي تقدم (١) ، هذا في علمه بنفسه وأما علمه بغيره ، فإن له لتمام ذاته ، إمكان أن يعقل كل ذات تام يمكن أن يعقل ، وما للموجود المجرد بالإمكان فهو له بالفعل ، فهو عاقل بالفعل لكل مجرد تام الوجود ، كما أن كل مجرد فهو معقول بالفعل وعقل بالفعل.

__________________

(١) في الفصل الأول.

١٥٣

فإن قلت مقتضى ما ذكر ، كون النفس الإنسانية عاقلة لكل معقول ، لتجردها وهو خلاف الضرورة.

قلت هو كذلك ، لكن النفس مجردة ذاتا لا فعلا ، فهي لتجردها ذاتا تعقل ذاتها بالفعل ، لكن تعلقها فعلا ، يوجب خروجها من القوة إلى الفعل تدريجا ، بحسب الاستعدادات المختلفة ، فإذا تجردت تجردا تاما ، ولم يشغلها تدبير البدن ، حصلت لها جميع العلوم حصولا بالعقل الإجمالي ، وتصير عقلا مستفادا بالفعل.

وغير خفي أن هذا البرهان ، إنما يجري في الذوات المجردة الجوهرية ، التي وجودها لنفسها ، وأما أعراضها التي وجودها لغيرها ، فلا بل العاقل لها موضوعاتها.

الفصل الثاني عشر

في العلم الحضوري وأنه لا يختص بعلم الشيء بنفسه

قد تقدم أن الجواهر المجردة ، لتمامها وفعليتها حاضرة في نفسها لنفسها ، فهي عالمة بنفسها علما حضوريا ، فهل يختص العلم الحضوري بعلم الشيء بنفسه ، أو يعمه وعلم العلة بمعلولها إذا كانا مجردين ، وبالعكس المشاءون ، على الأول ، والإشراقيون ، على الثاني وهو الحق.

وذلك لأن وجود المعلول كما تقدم (١) ، رابط لوجود العلة قائم به غير مستقل عنه ، فهو إذا كانا مجردين ، حاضر بتمام وجوده عند علته لا حائل بينهما ، فهو بنفس وجوده معلوم لها علما حضوريا.

وكذلك العلة حاضرة بوجودها ، لمعلولها القائم بها المستقل باستقلالها ، إذا كانا مجردين من غير حائل يحول بينهما ، فهي معلومة لمعلولها علما حضوريا ، وهو المطلوب.

__________________

(١) في الفصل الثالث من المرحلة السابعة.

١٥٤

المرحلة الثانية عشر

فيما يتعلق بالواجب تعالى

من إثبات ذاته وصفاته وأفعاله

وفيها أربعة عشر فصلا

١٥٥

الفصل الأول

في إثبات ذاته تعالى

حقيقة الوجود التي هي أصيلة لا أصيل دونها ، وصرفة لا يخالطها غيرها ، لبطلان الغير فلا ثاني لها ، كما تقدم في المرحلة الأولى (١) واجبة الوجود ، لضرورة ثبوت الشيء لنفسه ، وامتناع صدق نقيضه وهو العدم عليه ، ووجوبها إما بالذات أو بالغير ، لكن كون وجوبها بالغير خلف ، إذ لا غير هناك ولا ثاني لها ، فهي واجبة الوجود بالذات.

حجة أخرى

الماهيات الممكنة المعلولة موجودة ، فهي واجبة الوجود ، لأن الشيء ما لم يجب لم يوجد ووجوبها بالغير ، إذ لو كان بالذات لم يحتج إلى علة ، والعلة التي بها يجب وجودها موجودة واجبة ، ووجوبها إما بالذات ، أو بالغير وينتهي إلى الواجب بالذات ، لاستحالة الدور والتسلسل.

__________________

(١) في الفصل الرابع والفصل السابع.

١٥٦

الفصل الثاني

في إثبات وحدانيته تعالى

كون واجب الوجود تعالى ، حقيقة الوجود الصرف التي لا ثاني لها ، يثبت وحدانيته تعالى بالوحدة الحقة ، التي يستحيل معها فرض التكثر فيها ، إذ كل ما فرض ثانيا لها عاد أولا ، لعدم الميز بخلاف الوحدة العددية ، التي إذا فرض معها ثان عاد مع الأول اثنين وهكذا.

حجة أخرى

، لو كان هناك واجبان فصاعدا ، امتاز أحدهما من الآخر ، بعد اشتراكهما في وجوب الوجود ، وما به الامتياز غير ما به الاشتراك بالضرورة ، ولازمه تركب ذاتهما مما به الاشتراك وما به الامتياز ، ولازم التركب الحاجة إلى الأجزاء ، وهي تنافي الوجوب الذاتي ، الذي هو مناط الغنى الصرف.

تتمة

أورد ابن كمونة ، على هذه الحجة ، أنه لم لا يجوز أن يكون هناك هويتان بسيطتان ، مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهية ، يكون كل منهما واجب الوجود بذاته ، ويكون مفهوم واجب الوجود منتزعا منهما ، مقولا عليهما قولا عرضيا.

وأجيب عنه ، بأن فيه انتزاع مفهوم واحد من مصاديق مختلفة ، بما هي

١٥٧

مختلفة وهو غير جائز.

على أن فيه إثبات الماهية للواجب ، وقد تقدم (١) إثبات أن ماهيته تعالى وجوده ، وفيه أيضا اقتضاء الماهية للوجود ، وقد تقدم أصالته واعتباريتها ، ولا معنى لاقتضاء الاعتباري للأصيل.

ويتفرع على وحدانيته تعالى بهذا المعنى ، أن وجوده تعالى ، غير محدود بحد عدمي يوجب انسلابه عما وراءه.

ويتفرع أيضا أن ذاته تعالى بسيطة ، منفي عنها التركيب بأي وجه فرض ، إذ التركيب بأي وجه فرض ، لا يتحقق إلا بأجزاء يتألف منها الكل ، ويتوقف تحققه على تحققها ، وهو الحاجة إليها ، والحاجة تنافي الوجوب الذاتي.

الفصل الثالث

في أن الواجب تعالى هو المبدأ المفيض لكل

وجود وكمال وجودي

كل موجود غيره تعالى ممكن بالذات ، لانحصار الوجوب بالذات فيه تعالى ، وكل ممكن فإن له ماهية ، هي التي تستوي نسبتها إلى الوجود والعدم ، وهي التي تحتاج في وجودها إلى علة ، بها يجب وجودها فتوجد ، والعلة إن كانت واجبة بالذات فهو ، وإن كانت واجبة بالغير انتهى ذلك إلى الواجب بالذات ، فالواجب بالذات هو الذي يفيض عنه ، وجود كل ذي وجود من الماهيات.

__________________

(١) في الفصل الثالث من المرحلة الرابعة.

١٥٨

ومن طريق آخر:

ما سواه تعالى من الوجودات الإمكانية ، فقراء في أنفسها متعلقات في حدود ذواتها ، فهي وجودات رابطة ، لا استقلال لها حدوثا ولا بقاء وإنما تتقوم بغيرها ، وينتهي ذلك إلى وجود مستقل في نفسه غني في ذاته ، لا تعلق له بشيء تعلق الفقر والحاجة ، وهو الواجب الوجود تعالى وتقدس.

فتبين أن الواجب الوجود تعالى ، هو المفيض لوجود ما سواه ، وكما أنه مفيض لها مفيض لآثارها القائمة بها ، والنسب والروابط التي بينها ، فإن العلة الموجبة للشيء المقومة لوجوده ، علة موجبة لآثاره والنسب القائمة به ومقومة لها.

فهو تعالى وحده المبدأ الموجد لما سواه ، المالك لها المدبر لأمرها ، فهو رب العالمين لا رب سواه.

تتمة

، قالت الثنوية ، إن في الوجود خيرا وشرا ، وهما متضادان لا يستندان إلى مبدإ واحد ، فهناك مبدئان مبدأ الخيرات ومبدأ الشرور.

وعن أفلاطون ، في دفعه ، أن الشر عدم والعدم لا يحتاج إلى علة فياضة ، بل علته عدم الوجود ، وقد بين الصغرى بأمثلة جزئية ، كالقتل الذي هو شر مثلا ، فإن الشر ليس هو قدرة القاتل عليه فإنه كمال له ، ولا حدة السيف مثلا وصلاحيته للقطع فإنه كمال فيه ، ولا انفعال رقبة المقتول من الضربة ، فإنه من كمال البدن ، فلا يبقى للشر إلا بطلان حياة المقتول بذلك ، وهو أمر عدمي وعلى هذا القياس في سائر الموارد.

وعن أرسطو ، أن الأقسام خمسة ، ما هو خير محض وما خيره كثير وشره

__________________

(١) في الفصل السابق.

١٥٩

قليل ، وما خيره وشره متساويان ، وما شره كثير وخيره قليل ، وما هو شر محض ، وأول الأقسام موجود ، كالعقول المجردة التي ليس فيها إلا الخير ، وكذا القسم الثاني كسائر الموجودات المادية ، التي فيها خير كثير بالنظر إلى النظام العام ، فإن في ترك إيجاده شرا كثيرا ، وأما الأقسام الثلاثة الباقية فهي غير موجودة ، إما ما خيره وشره متساويان ، فإن في إيجاده ترجيحا بلا مرجح ، وأما ما شره كثير وخيره قليل ، فإن في إيجاده ترجيح المرجوح على الراجح ، وأما ما هو شر محض فأمره واضح ، وبالجملة لم يستند بالذات إلى العلة ، إلا الخير المحض والخير الكثير ، وأما الشر القليل ، فقد استند إليها بعرض الخير الكثير الذي يلزمه.

الفصل الرابع

في صفات الواجب الوجود تعالى ومعنى اتصافه بها

تنقسم الصفات الواجبية بالقسمة الأولية ، إلى ما تكفي في ثبوته الذات المتعالية ، من غير حاجة إلى فرض أمر خارج ، كحياته تعالى وعلمه بنفسه ، وتسمى الصفة الذاتية ، وما لا يتم الاتصاف به إلا مع فرض أمر خارج من الذات ، كالخلق والرزق والإحياء وتسمى الصفة الفعلية.

والصفات الفعلية كثيرة ، وهي على كثرتها منتزعة من مقام الفعل ، خارجة عن الذات ، والكلام في هذه الفصول في الصفات الذاتية ، فنقول قد عرفت أنه تعالى ، هو المبدأ المفيض لكل وجود وكمال وجودي ، وقد ثبت في المباحث السابقة ، أن العلة المفيضة لشيء ، واجدة

١٦٠