بداية الحكمة

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

بداية الحكمة

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٤

باختلاف جهة الوحدة بالعرض ، فالوحدة في معنى النوع تسمى تماثلا ، وفي معنى الجنس تجانسا ، وفي الكيف تشابها ، وفي الكم تساويا ، وفي الوضع توازيا وفي النسبة تناسبا ، ووجود كل من الأقسام المذكورة ظاهر كذا قرروا.

الفصل الثالث

الهوهوية وهو الحمل

من عوارض الوحدة الهوهوية ، كما أن من عوارض الكثرة الغيرية ، ثم الهوهوية هي الاتحاد في جهة ما ، مع الاختلاف من جهة ما وهذا هو الحمل ، ولازمه صحة الحمل في كل مختلفين بينهما اتحاد ما ، لكن التعارف خص إطلاق الحمل ، على موردين من الاتحاد بعد الاختلاف.

أحدهما أن يتحد الموضوع والمحمول مفهوما وماهية ، ويختلفا بنوع من الاعتبار ، كالاختلاف بالإجمال والتفصيل في قولنا ، الإنسان حيوان ناطق فإن الحد عين المحدود مفهوما ، وإنما يختلفان بالإجمال والتفصيل ، وكالاختلاف بفرض انسلاب الشيء عن نفسه ، فتغاير نفسه نفسه ، ثم يحمل على نفسه لدفع توهم المغايرة ، فيقال الإنسان إنسان ، ويسمى هذا الحمل بالحمل الذاتي الأولي(١).

وثانيهما أن يختلف أمران مفهوما ويتحدا وجودا ، كقولنا الإنسان ضاحك وزيد قائم ، ويسمى هذا الحمل بالحمل الشائع

__________________

(١) سمّي ذاتياَ ، لكون المحمول فيه ذاتياً للموضوع وأوليّاً ، لأنّه من الضروريات الأولية ، التى لا يتوقف التصديق بها على أزيد من تصوّر الموضوع والمحمول منه.

١٠١

الصناعي(١).

الفصل الرابع

تقسيمات للحمل الشائع

وينقسم الحمل الشائع إلى حمل هو هو ، وهو أن يحمل المحمول على الموضوع ، بلا اعتبار أمر زائد ، نحو الإنسان ضاحك ، ويسمى أيضا حمل المواطاة وحمل ذي هو ، وهو أن يتوقف اتحاد المحمول مع الموضوع ، على اعتبار زائد كتقدير ذي ، أو الاشتقاق كزيد عدل أي ذو عدل أو عادل.

وينقسم أيضا إلى بتي وغير بتي ، والبتي ما كانت لموضوعه أفراد محققة ، يصدق عليها عنوانه ، كالإنسان ضاحك والكاتب متحرك الأصابع ، وغير البتي ، ما كانت لموضوعه أفراد مقدرة غير محققة ، كقولنا كل معدوم مطلق فإنه لا يخبر عنه ، وكل اجتماع النقيضين محال.

وينقسم أيضا إلى بسيط ومركب ، ويسميان الهلية البسيطة والهلية المركبة ، والهلية البسيطة ما كان المحمول فيها وجود الموضوع ، كقولنا الإنسان موجود ، والمركبة ما كان المحمول فيها أثرا من آثار وجوده ، كقولنا الإنسان ضاحك.

وبذلك يندفع ما استشكل على قاعدة الفرعية ، وهي أن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، بأن ثبوت الوجود للإنسان مثلا في قولنا ، الإنسان موجود فرع ثبوت الإنسان قبله ، فله وجود قبل ثبوت الوجود له ، وتجري فيه قاعدة الفرعية وهلم جرا فيتسلسل.

__________________

(١) سمّي شائعاً لأنه الشائع في المحاورات وصناعياً لأنّه المعروف والمستعمل في الصناعات والعلوم ـ منه.

١٠٢

وجه الاندفاع أن قاعدة الفرعية ، إنما تجري في ثبوت شيء لشيء ، ومفاد الهلية البسيطة ثبوت الشيء ، لا ثبوت شيء لشيء ، فلا تجري فيها القاعدة.

الفصل الخامس

في الغيرية والتقابل

قد تقدم أن من عوارض الكثرة الغيرية ، وهي تنقسم إلى غيرية ذاتية وغير ذاتية ، والغيرية الذاتية هي ، كون المغايرة بين الشيء وغيره لذاته ، كالمغايرة بين الوجود والعدم وتسمى تقابلا ، والغيرية غير الذاتية ، هي كون المغايرة لأسباب أخر غير ذات الشيء ، كافتراق الحلاوة والسواد في السكر والفحم ، وتسمى خلافا.

وينقسم التقابل وهو الغيرية الذاتية ، وقد عرفوه بامتناع اجتماع شيئين في محل واحد ، من جهة واحدة في زمان واحد ، إلى أربعة أقسام ، فإن المتقابلين إما أن يكونا وجوديين أو لا ، وعلى الأول إما أن يكون كل منهما ، معقولا بالقياس إلى الآخر ، كالعلو والسفل فهما متضائفان ، والتقابل تقابل التضايف ، أو لا يكونا كذلك كالسواد والبياض ، فهما متضادان والتقابل تقابل التضاد ، وعلى الثاني يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا ، إذ لا تقابل بين عدميين ، وحينئذ إما أن يكون هناك موضوع قابل لكل منهما ،

__________________

(١) هذا الجواب لصدر المتألهين (رحمه الله) *. وقد تخلص الدواني عن الإشكال بتبديل الفرعية بالاستلزام ، فقال : " ثبوت شئ لشئ مستلزم لثبوت المثبت له ، فلا إشكال في الهلية البسيطة ، لأن ثبوت الوجود للماهية مستلزم لثبوت الماهية بهذا الوجود ". وفيه : أنه تسليم لورود الإشكال على القاعدة. وعن الإمام الرازي أن القاعدة مخصصة بالهلية البسيطة. وفيه : أنه تخصيص في القواعد العقلية. ـ منه (رحمه الله) ـ.

١٠٣

كالعمى والبصر ويسمى تقابلهما ، تقابل العدم والملكة ، وإما أن لا يكون كذلك كالنفي والإثبات ، ويسميان متناقضين ، وتقابلهما تقابل التناقض كذا قرروا.

ومن أحكام مطلق التقابل ، أنه يتحقق بين طرفين ، لأنه نوع نسبة بين المتقابلين ، والنسبة تتحق بين طرفين(١).

الفصل السادس

في تقابل التضايف

من أحكام التضايف ، أن المتضايفين متكافئان وجودا وعدما وقوة وفعلا ، فإذا كان أحدهما موجودا ، كان الآخر موجودا بالضرورة ، وإذا كان أحدهما معدوما كان الآخر معدوما بالضرورة ، وإذا كان أحدهما بالفعل أو بالقوة ، كان الآخر كذلك بالضرورة ، ولازم ذلك أنهما معان ، لا يتقدم أحدهما على الآخر لا ذهنا ولا خارجا.

الفصل السابع

في تقابل التضاد

التضاد على ما تحصل من التقسيم السابق ، كون أمرين وجوديين غير

__________________

(١) اي : إنّ مفهوم التقابل بما هو وإن كان يعم التضائف وغيره ، ولكن مصداقه مندرج تحت خصوص التضائف. منه دام ظله.

١٠٤

متضائفين ، متغايرين بالذات أي غير مجتمعين بالذات.

ومن أحكامه ، أن لا تضاد بين الأجناس العالية من المقولات العشر ، فإن الأكثر من واحد منها تجتمع في محل واحد ، كالكم والكيف وغيرهما في الأجسام ، وكذا أنواع كل منها مع أنواع غيره ، وكذا بعض الأجناس المندرجة تحت الواحد منها ، مع بعض آخر كاللون مع الطعم مثلا ، فالتضاد بالاستقراء إنما يتحقق بين نوعين أخيرين ، مندرجين تحت جنس قريب ، كالسواد والبياض المندرجين تحت اللون كذا قرروا.

ومن أحكامه ، أنه يجب أن يكون هناك موضوع يتواردان عليه ، إذ لو لا موضوع شخصي مشترك ، لم يمتنع تحققهما في الوجود ، كوجود السواد في جسم والبياض في آخر.

ولازم ذلك أن لا تضاد بين الجواهر ، إذ لا موضوع لها توجد فيه ، فالتضاد إنما يتحقق في الأعراض ، وقد بدل بعضهم الموضوع بالمحل حتى يشمل مادة الجواهر ، وعلى هذا يتحقق التضاد ، بين الصور الجوهرية الحالة في المادة.

ومن أحكامه ، أن يكون بينهما غاية الخلاف ، فلو كان هناك أمور وجودية متغايرة ، بعضها أقرب إلى بعضها من بعض ، فالمتضادان هما الطرفان اللذان ، بينهما غاية البعد والخلاف كالسواد والبياض ، الواقع بينهما ألوان أخرى متوسطة ، بعضها أقرب إلى أحد الطرفين من بعض ، كالصفرة التي هي أقرب إلى البياض من الحمرة مثلا.

ومما تقدم يظهر معنى تعريفهم المتضادين بأنهما ، أمران وجوديان متواردان على موضوع واحد ، داخلان تحت جنس قريب بينهما غاية الخلاف.

١٠٥

الفصل الثامن

في تقابل العدم والملكة

ويسمى أيضا تقابل العدم والقنية ، وهما أمر وجودي لموضوع من شأنه أن يتصف به ، وعدم ذلك الأمر الوجودي في ذلك الموضوع ، كالبصر والعمى الذي هو فقد البصر ، للموضوع الذي من شأنه أن يكون ذا بصر.

فإن أخذ موضوع الملكة هو الطبيعة ، الشخصية أو النوعية أو الجنسية التي من شأنها ، أن تتصف بالملكة في الجملة من غير تقييد بوقت خاص ، سميا ملكه وعدما حقيقيين ، فعدم البصر في العقرب عمى وعدم ملكة ، لكون جنسه وهو الحيوان موضوعا قابلا للبصر ، وإن كان نوعه غير قابل له كما قيل ، وكذا مرودة الإنسان قبل أوان التحائه من عدم الملكة ، وإن كان صنفه غير قابل للالتحاء قبل أوان البلوغ.

وإن أخذ الموضوع هو الطبيعة الشخصية ، وقيد بوقت الاتصاف سميا عدما وملكة مشهوريين ، وعليه فقد الأكمه وهو الممسوح العين للبصر ، وكذا المرودة ليسا من العدم والملكة في شيء.

الفصل التاسع

في تقابل التناقض

وهو تقابل الإيجاب والسلب ، بأن يرد السلب على نفس ما ورد عليه الإيجاب ، فهو بحسب الأصل في القضايا ، وقد يحول مضمون القضية إلى

١٠٦

المفرد فيقال ، التناقض بين وجود الشيء وعدمه ، كما قد يقال نقيض كل شيء رفعه(١).

وحكم النقيضين أعني الإيجاب والسلب ، أنهما لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا ، على سبيل القضية المنفصلة الحقيقية (٢) ، وهي من البديهيات الأولية التي ، عليها يتوقف صدق كل قضية مفروضة ، ضرورية كانت أو نظرية ، إذ لا يتعلق العلم بقضية إلا بعد العلم بامتناع نقيضها ، فقولنا الأربعة زوج إنما يتم تصديقه ، إذا علم كذب قولنا ليست الأربعة زوجا ، ولذا سميت قضية ، امتناع اجتماع النقيضين ، وارتفاعهما أولى الأوائل.

ومن أحكام التناقض ، أنه لا يخرج عن حكم النقيضين شيء البتة ، فكل شيء مفروض ، إما أن يصدق عليه زيد أو اللا زيد ، وكل شيء مفروض ، إما أن يصدق عليه البياض أو اللا بياض وهكذا.

وأما ما تقدم (٣) في مرحلة الماهية ، أن النقيضين مرتفعان عن مرتبة الذات ، كقولنا الإنسان من حيث إنه إنسان ، ليس بموجود ولا لا موجود ، فقد عرفت أن ذلك ، ليس بحسب الحقيقة من ارتفاع النقيضين في شيء ، بل مآله إلى خروج النيقضين معا ، عن مرتبة ذات الشيء ، فليس يحد الإنسان بأنه حيوان ناطق موجود ، ولا يحد بأنه حيوان ناطق معدوم.

ومن أحكامه أن تحققه في القضايا ، مشروط بثمان وحدات معروفة ، مذكورة في كتب المنطق ، وزاد عليها صدر المتألهين ، ره وحدة الحمل ، بأن يكون الحمل فيهما جميعا حملا أوليا ، أو فيهما معا حملا شايعا من غير اختلاف ،

__________________

(١) فالمراد برفع الشئ طرده وإبطاله ، فرفع الانسان ، اللا انسان ، كما أن طرد اللا انسان ، الانسان. لا كما توهمه بعضهم : أن رفع الشئ نفيه وأن نقيض الانسان اللا انسان ، ونقيض اللا انسان اللا لا انسان ، وأن الانسان لازم النقيض وليس به * ـ منه (رحمه الله) ـ.

(٢) وهي قولنا : إما أن يصدق الإيجاب أو يصدق السلب. ـ منه (رحمه الله) ـ.

(٣) في الفصل الأول من المرحلة الخامسة.

١٠٧

فلا تناقض بين قولنا ، الجزئي جزئي أي مفهوما ، وقولنا ليس الجزئي بجزئي أي مصداقا.

الفصل العاشر

في تقابل الواحد والكثير

اختلفوا في تقابل الواحد والكثير ، هل هو تقابل بالذات أو لا ، وعلى الأول ذهب بعضهم إلى أنهما متضائفان ، وبعضهم إلى أنهما متضادان ، وبعضهم إلى أن تقابلهما نوع خامس ، غير الأنواع الأربعة المذكورة.

والحق أن ما بين الواحد والكثير من الاختلاف ، ليس من التقابل المصطلح في شيء ، لأن اختلاف الموجود المطلق ، بانقسامه إلى الواحد والكثير اختلاف تشكيكي ، يرجع فيه ما به الاختلاف إلى ما به الاتفاق ، نظير انقسامه إلى الوجود الخارجي والذهني ، وانقسامه إلى ما بالفعل وما بالقوة ، والاختلاف والمغايرة التي في كل من أقسام التقابل الأربع ، يمتنع أن يرجع إلى ما به الاتحاد ، فلا تقابل بين الواحد والكثير ، بشيء من أقسام التقابل الأربعة.

تتمة ، التقابل بين الإيجاب والسلب ، ليس تقابلا حقيقيا خارجيا ، بل عقلي بنوع من الاعتبار ، لأن التقابل نسبة خاصة بين المتقابلين ، والنسب وجودات رابطة قائمة بطرفين موجودين محققين ، واحد الطرفين في التناقض هو السلب ، الذي هو عدم وبطلان ، لكن العقل يعتبر السلب طرفا للإيجاب ، فيرى عدم

١٠٨

جواز اجتماعهما لذاتيهما.

وأما تقابل العدم والملكة ، فللعدم فيه حظ من التحقق ، لكونه عدم صفة من شأن الموضوع أن يتصف بها ، فينتزع عدمها منه ، وهذا المقدار من الوجود الانتزاعي ، كاف في تحقق النسبة.

١٠٩
١١٠

المرحلة التاسعة

في السبق واللحوق والقدم والحدوث

وفيها ثلاثة فصول

١١١

الفصل الأول

في معنى السبق واللحوق وأقسامهما والمعية

إن من عوارض الموجود بما هو موجود السبق واللحوق ، وذلك أنه ربما كان لشيئين بما هما موجودان ، نسبة مشتركة إلى مبدإ وجودي ، لكن لأحدهما منها ما ليس للآخر ، كنسبة الاثنين والثلاثة إلى الواحد ، لكن الاثنين أقرب إليه فيسمى سابقا ومتقدما ، وتسمى الثلاثة لاحقة ومتأخرة ، وربما كانت النسبة المشتركة ، من غير تفاوت بين المنتسبين ، فتسمى حالهما بالنسبة إليه معية وهما معان.

وقد عدوا للسبق واللحوق أقساما عثروا عليها بالاستقراء.

منها السبق الزماني ، وهو السبق الذي لا يجامع فيه السابق اللاحق ، كتقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض ، كالأمس على اليوم ، وتقدم الحوادث الواقعة في الزمان السابق ، على الواقعة في الزمان اللاحق ، ويقابله اللحوق الزماني.

ومنها السبق بالطبع ، وهو تقدم العلة الناقصة على المعلول ، كتقدم الاثنين على الثلاثة.

ومنها السبق بالعلية ، وهو تقدم العلة التامة على المعلول.

ومنها السبق بالماهية ، ويسمى أيضا التقدم بالتجوهر ، وهو تقدم علل القوام على معلولها ، كتقدم أجزاء الماهية النوعية على النوع ، وعد منه تقدم

١١٢

الماهية على لوازمها ، كتقدم الأربعة على الزوجية ، ويقابله اللحوق والتأخر بالماهية والتجوهر.

وتسمى هذه الأقسام الثلاثة ، أعني ما بالطبع وما بالعلية ، وما بالتجوهر سبقا ولحوقا بالذات.

ومنها السبق بالحقيقة ، وهو أن يتلبس السابق بمعنى من المعاني بالذات ، ويتلبس به اللاحق بالعرض ، كتلبس الماء بالجريان حقيقة وبالذات ، وتلبس الميزاب به بالعرض ، ويقابله اللحوق بذاك المعنى ، وهذا القسم مما زاده صدر المتألهين.

ومنها السبق والتقدم بالدهر ، وهو تقدم العلة الموجبة على معلولها ، لكن لا من حيث إيجابها ، لوجود المعلول وإفاضتها له كما في التقدم بالعلية ، بل من حيث انفكاك ، وجودها وانفصاله عن وجود المعلول ، وتقرر عدم المعلول في مرتبة وجودها ، كتقدم نشأة التجرد العقلي على نشأة المادة ، ويقابله اللحوق والتأخر الدهري.

وهذا القسم قد زاده السيد الداماد ، ره ، بناء على ما صوره من الحدوث والقدم الدهريين ، وسيجيء بيانه(١).

ومنها السبق والتقدم بالرتبة ، أعم من أن يكون الترتيب بحسب الطبع ، أو بحسب الوضع والاعتبار ، فالأول كالأجناس والأنواع المترتبة ، فإنك إن ابتدأت آخذا من جنس الأجناس ، كان سابقا متقدما على ما دونه ثم الذي يليه ، وهكذا حتى ينتهي إلى النوع الأخير ، وإن ابتدأت آخذا من النوع الأخير ، كان الأمر في التقدم والتأخر بالعكس.

والثاني كالإمام والمأموم ، فإنك إن اعتبرت المبدأ هو المحراب ، كان الإمام هو السابق على من يليه من المأمومين ، ثم من يليه على من يليه ، وإن

__________________

(١) في الفصل الثالث.

١١٣

اعتبرت المبدأ هو الباب ، كان أمر السبق واللحوق بالعكس.

ويقابل السبق والتقدم بالرتبة ، اللحوق والتأخر بالرتبة.

ومنها السبق بالشرف وهو السبق في الصفات الكمالية ، كتقدم العالم على الجاهل والشجاع على الجبان.

الفصل الثاني

في ملاك السبق في أقسامه

وهو الأمر المشترك فيه بين المتقدم والمتأخر ، الذي فيه التقدم.

ملاك السبق في السبق الزماني هو النسبة إلى الزمان ، سواء في ذلك نفس الزمان والأمر الزماني ، وفي السبق بالطبع هو النسبة إلى الوجود ، وفي السبق بالعلية هو الوجوب ، وفي السبق بالماهية والتجوهر هو تقرر الماهية ، وفي السبق بالحقيقة هو مطلق التحقق ، الأعم من الحقيقي والمجازي ، وفي السبق الدهري هو الكون بمتن الواقع ، وفي السبق بالرتبة النسبة إلى مبدإ محدود ، كالمحراب أو الباب في الرتبة الحسية ، وكالجنس العالي أو النوع الأخير في الرتبة العقلية ، وفي السبق بالشرف هو الفضل والمزية.

الفصل الثالث

في القدم والحدوث وأقسامهما

كانت العامة تطلق اللفظتين ، القديم والحادث على أمرين ، يشتركان في الانطباق على زمان واحد ، إذا كان زمان وجود أحدهما ، أكثر من

١١٤

زمان وجود الآخر ، فكان الأكثر زمانا هو القديم ، والأقل زمانا هو الحادث والحديث ، وهما وصفان إضافيان ، أي إن الشيء الواحد ، يكون حادثا بالنسبة إلى شيء ، وقديما بالنسبة إلى آخر ، فكان المحصل من مفهوم الحدوث هو ، مسبوقية الشيء بالعدم في زمان ، ومن مفهوم القدم عدم كونه مسبوقا بذلك.

ثم عمموا مفهومي اللفظين ، بأخذ العدم مطلقا يعم العدم المقابل ، وهو العدم الزماني الذي لا يجامع الوجود ، والعدم المجامع الذي هو عدم الشيء في حد ذاته ، المجامع لوجوده بعد استناده إلى العلة.

فكان مفهوم الحدوث مسبوقية الوجود بالعدم ، ومفهوم القدم عدم مسبوقيته بالعدم ، والمعنيان من الأعراض الذاتية لمطلق الوجود ، فإن الموجود بما هو موجود ، إما مسبوق بالعدم وإما ليس بمسبوق به ، وعند ذلك صح البحث عنهما في الفلسفة.

فمن الحدوث الحدوث الزماني ، وهو مسبوقية وجود الشيء بالعدم الزماني ، كمسبوقية اليوم بالعدم في أمس ، ومسبوقية حوادث اليوم بالعدم في أمس ، ويقابله القدم الزماني ، وهو عدم مسبوقية الشيء بالعدم الزماني ، كمطلق الزمان الذي لا يتقدمه زمان ولا زماني ، وإلا ثبت الزمان من حيث انتفى هذا خلف.

ومن الحدوث الحدوث الذاتي ، وهو مسبوقية وجود الشيء بالعدم في ذاته ، كجميع الموجودات الممكنة ، التي لها الوجود بعلة خارجة من ذاتها ، وليس لها في ماهيتها وحد ذاتها إلا العدم.

فإن قلت الماهية ليس لها في حد ذاتها إلا الإمكان ، ولازمه تساوي نسبتها إلى الوجود والعدم ، وخلو الذات عن الوجود والعدم جميعا ، دون التلبس بالعدم كما قيل.

قلت الماهية وإن كانت في ذاتها ، خالية عن الوجود والعدم ، مفتقرة في

١١٥

تلبسها بأحدهما إلى مرجح ، لكن عدم مرجح الوجود وعلته كاف في كونها معدومة ، وبعبارة أخرى خلوها في حد ذاتها ، عن الوجود والعدم وسلبهما عنها ، إنما هو بحسب الحمل الأولى ، وهو لا ينافي اتصافها بالعدم حينئذ بحسب الحمل الشائع.

ويقابل الحدوث بهذا المعنى القدم الذاتي ، وهو عدم مسبوقية الشيء بالعدم في حد ذاته ، وإنما يكون فيما كانت الذات ، عين حقيقة الوجود الطارد للعدم بذاته ، وهو الوجود الواجبي الذي ماهيته إنيته.

ومن الحدوث الحدوث الدهري ، الذي ذكره السيد المحقق الداماد ، ره ، وهو مسبوقية وجود مرتبة من مراتب الوجود ، بعدمه المتقرر في مرتبة ، هي فوقها في السلسلة الطولية ، وهو عدم غير مجامع ، لكنه غير زماني ، كمسبوقية عالم المادة بعدمه المتقرر في عالم المثال ، ويقابله القدم الدهري وهو ظاهر.

١١٦

المرحلة العاشرة

في القوة والفعل

وفيها ستة عشر فصلا

١١٧

المرحلة العاشرة في القوة والفعل وجود الشيء في الأعيان ، بحيث يترتب عليه آثاره المطلوبة منه يسمى فعلا ، ويقال إن وجوده بالفعل ، وإمكانه الذي قبل تحققه يسمى قوة ، ويقال إن وجوده بالقوة بعد ، وذلك كالماء يمكن أن يتبدل هواء ، فإنه ما دام ماء ماء بالفعل وهواء بالقوة ، فإذا تبدل هواء صار هواء بالفعل وبطلت القوة ، فمن الوجود ما هو بالفعل ومنه ما هو بالقوة ، والقسمان هما المبحوث عنهما في هذه المرحلة ، وفيها ستة عشر فصلا

الفصل الأول

كل حادث زماني مسبوق بقوة الوجود

كل حادث زماني فإنه مسبوق بقوة الوجود ، لأنه قبل تحقق وجوده ، يجب أن يكون ممكن الوجود ، يجوز أن يتصف بالوجود كما يجوز أن لا يوجد ، إذ لو كان ممتنع الوجود استحال تحققه ، كما أنه لو كان واجبا لم يتخلف عن الوجود ، لكنه ربما لم يوجد ، وإمكانه هذا غير قدرة الفاعل عليه ، لأن إمكان وجوده وصف له بالقياس إلى وجوده ، لا بالقياس إلى شيء آخر كالفاعل.

١١٨

وهذا الإمكان أمر خارجي ، لا معنى عقلي اعتباري لاحق بماهية الشيء ، لأنه يتصف بالشدة والضعف والقرب والبعد ، فالنطفة التي فيها إمكان أن يصير إنسانا ، أقرب إلى الإنسانية من الغذاء الذي يتبدل نطفة ، والإمكان فيها أشد منه فيه.

وإذ كان هذا الإمكان أمرا موجودا في الخارج ، فليس جوهرا قائما بذاته وهو ظاهر ، بل هو عرض قائم بشيء آخر ، فلنسمه قوة ولنسم موضوعه مادة ، فإذن لكل حادث زماني ، مادة سابقة عليه تحمل قوة وجوده.

ويجب أن تكون المادة ، غير آبية عن الفعلية التي تحمل إمكانها ، فهي في ذاتها قوة الفعلية التي فيها إمكانها ، إذ لو كانت ذات فعلية في نفسها ، لأبت عن قبول فعلية أخرى ، بل هي جوهر فعلية وجوده أنه قوة الأشياء ، وهي لكونها جوهرا بالقوة قائمة بفعلية أخرى ، إذا حدثت الفعلية التي فيها قوتها ، بطلت الفعلية الأولى ، وقامت مقامها الفعلية الحديثة ، كالماء إذا صار هواء بطلت الصورة المائية ، التي كانت تقوم المادة الحاملة لصورة الهواء ، وقامت الصورة الهوائية مقامها ، فتقومت بها المادة التي كانت تحمل إمكانها.

ومادة الفعلية الجديدة الحادثة ، والفعلية السابقة الزائلة واحدة ، وإلا كانت حادثة بحدوث الفعلية الحادثة ، فاستلزمت إمكانا آخر ومادة أخرى وهكذا ، فكانت لحادث واحد ، مواد وإمكانات غير متناهية وهو محال ، ونظير الإشكال لازم فيما لو فرض للمادة حدوث زماني.

وقد تبين بما مر أيضا أولا ، أن كل حادث زماني ، فله مادة تحمل قوة وجوده.

وثانيا أن مادة الحوادث الزمانية ، واحدة مشتركة بينها.

وثالثا أن النسبة بين المادة وقوة الشيء ، التي تحملها نسبة الجسم الطبيعي والجسم التعليمي ، فقوة الشيء الخاص تعين قوة المادة المبهمة ، كما أن الجسم التعليمي تعين ، الامتدادات الثلاث المبهمة في الجسم الطبيعي.

ورابعا أن وجود الحوادث الزمانية ، لا ينفك عن تغير في صورها إن

١١٩

كانت جواهر ، أو في أحوالها إن كانت أعراضا.

وخامسا أن القوة تقوم دائما بفعلية ، والمادة تقوم دائما بصورة تحفظها ، فإذا حدثت صورة بعد صورة ، قامت الصورة الحديثة مقام القديمة وقومت المادة.

وسادسا يتبين بما تقدم ، أن القوة تتقدم على الفعل الخاص تقدما زمانيا ، وأن مطلق الفعل يتقدم على القوة ، بجميع أنحاء التقدم ، من علي وطبعي وزماني وغيرها.

الفصل الثاني

في تقسيم التغير

قد عرفت أن من لوازم خروج الشيء ، من القوة إلى الفعل حصول التغير ، إما في ذاته أو في أحوال ذاته ، فاعلم أن حصول التغير إما دفعي وإما تدريجي ، والثاني هو الحركة وهي نحو وجود تدريجي للشيء ، ينبغي أن يبحث عنها من هذه الجهة في الفلسفة الأولى.

الفصل الثالث

في تحديد الحركة

قد تبين في الفصل السابق ، أن الحركة خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجا ، وإن شئت فقل هي تغير الشيء تدريجا ، والتدريج معنى بديهي التصور بإعانة الحس عليه ، وعرفها المعلم الأول ، بأنها ، كمال أول لما بالقوة من حيث إنه بالقوة ، وتوضيحه أن حصول ، ما يمكن أن يحصل

١٢٠