مناظرات المستبصرين

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات المستبصرين

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٩

الواقع التأريخيِّ الذي لم يذكر لنا شيئاً عنهم بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنهم كانوا يشكِّلون خطراً على الأمَّة الإسلاميَّة ، قال تعالى : ( جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) (١) ، ولم يثبت لنا التأريخ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمقاتل المنافقين ، فهل ياترى من الذي قاتل المنافقين ، غير علي عليه‌السلام؟! وخاصة أن الكتاب والسنّة أثبتا بقاء المنافقين على نفاقهم ، بل هم الأكثريّة الذين شكَّلوا تيَّار الانقلاب بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (٢) ولا يخفى عليك أن قوله : ( الشَّاكِرِينَ ) دلالة على الأقلّيّة ؛ لقوله تعالى : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (٣) ، ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٤).

قلت : قد زدتني حيرة على حيرتي ، كيف يكون كل هذا في الصحابة؟ فكيف تفسّر تلك الحروب التي قدَّم فيها الصحابة أرواحهم ، وضربوا لنا أروع الأمثال في التضحية؟ فيمكن أن ينافق الإنسان في كل شيء إلاَّ في هلاك نفسه.

خالي : لا تحتاري ، فإنَّ مجتمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مجتمعاً بشريّاً فيه الصالح والطالح ، ولا يمكن أن يكون مجرَّد وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم كافياً لعصمة مجتمع بأكمله ، والآيات القرآنيّة حاكمة بذلك كما تقدَّم ، وغيرها كقوله تعالى : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ

__________________

١ ـ سورة التحريم ، الآية : ٩.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٤٤.

٣ ـ سورة المؤمنون ، الآية : ٧٠.

٤ ـ سورة سبأ ، الآية : ١٣.

٥٠١

غُرُوراً ) (١) ، والعطف في الآية دال على أنّ الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين.

وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا ... ) (٢).

ومن المعلوم أنّ الفاسق المقصود كان من الصحابة (٣).

أمَّا قولك كيف ضحّوا بأنفسهم ، فإن مثل هذا السؤال لا تتوقَّف الإجابة عليه على كونهم مؤمنين ، والتأريخ والواقع خير شاهد على ما قلت ، فكم من حروب دارت ، وكم من جماعات ضحّوا ، فهل نحكم على الجميع بالإيمان ، فهناك المكره ، وهناك من فرض عليه الواقع أمراً محكوماً ، والحروب التي كانت قبل الإسلام خير دليل ، ومع ذلك أنا أرمي ( بعض ) الذين حاربوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنهم كانوا مجبرين ، مع أنه كان هناك المجبور والمنافق كشهيد الحمار ، إنَّما أقول حتى المؤمن حقّاً لا تعني حربه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاصمة له من الانحراف بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ مجموعة كبيرة من الصحابة كانت تحارب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يستلهمون الطاقة والحماس منه.

وبمعنى آخر كانوا يعملون بالطاقة التي كانوا يكسبونها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأضرب لك مثالا على ذلك : عندما يستمع الإنسان لخطيب بارع يتحدَّث عن الجهاد والتضحية فسوف تنتاب المستمعين حالة روحيّة عالية ، بحيث لوطلب من كل واحدمنهم أن يضحّي بنفسه فإنّه لايمانع ، ولكن مجرَّد أن

__________________

١ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ١٢.

٢ ـ سورة الحجرات ، الآية : ٦.

٣ ـ وهو الوليد بن عقبة ، راجع : أسباب النزول ، الواحدي : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، تفسير ابن كثير : ٤/٢٢٤ ، تفسير الدرّ المنثور ، السيوطي : ٦/٨٨ ـ ٨٩.

٥٠٢

يغادر المكان ويبتعد عن الخطيب ، تضعف تلك الطاقة ، هذا بخلاف الذي يكون له وعي كامل بالقضية ، فإنه يولِّد تلك الطاقة من نفسه ، وكثير من الثورات الإصلاحيّة تحوَّل الداعون لها إلى مفسدين بعد أن فقدوا قائدهم الروحي ، وهذا أمر طبيعي ينتاب كل البشر.

ولك في الثورة المهديّة في السودان خير مثال ، فبموت محمّد أحمد المهدي انشقَّت صفوف الأنصار ، ووقع الخلاف بينهم ، وهكذا الصحابة بشر فإنهم معرَّضون لذلك ، قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (١) ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما جاء في البخاري وصحيح مسلم ـ : بينما أنا قائم فإذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت : إلى أين؟ فقال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أرى يخلص منهم إلاَّ كهمل ، النعم (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي فرطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثمَّ يحال بيني وبينهم ، فأقول : أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي (٣).

__________________

١ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٤٤.

٢ ـ صحيح البخاري : ٧/٢٠٨ ـ ٢٠٩ ، كتاب الدعوات ، باب في الحوض ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١/١٣٢ ـ ١٣٣ ح ٣٠٩١٨.

٣ ـ صحيح البخاري : ٧/٢٠٧ ـ ٢٠٨ ، صحيح مسلم : ٧/٦٦ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ٦/١٤٣.

٥٠٣

موقف علي 7 من خلافة أبي بكر

طأطأت رأسي غارقة في تفكير عميق ومردِّدة .. عجيب ، عجيب ، عجيب.

خالي : ممَ تعجُّبكِ؟

قلت : وفق ما ذكرت من هذه الأدلّة القاطعة ، وخاصة في مورد الإمامة ، فلماذا لم يعترض عليٌّ كرَّم الله وجهه على القوم ، بل أكَّد على موقف الشورى ، حيث قال في النص الذي سجَّلته لك : وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردُّوه إلى ما خرج منهم ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين.

خالي : كما أثبتُّ لك أن الشورى باطلة ، وأن النص والتعيين هو المتحقِّق ، وهذا هو مبحثنا ، أمَّا أن عليّاً عليه‌السلام لماذا سكت فهذا بحث آخر.

قلت مقاطعة : هذا الكلام لا أقبله منك ، أليست الخلافة حقاً لعليٍّ؟ فسكوت الإمام علي عليه‌السلام هو سكوت عن حقِّه.

خالي : أجمعت الأمَّة على أنّ علياً عليه‌السلام وسائر بني هاشم لم يشهدوا البيعة ، ولا دخلوا السقيفة يومئذ ، كانوا منشغلين بتجهيز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى أكمل أهل السقيفة أمرهم ، وعقدوا البيعة لأبي بكر ، فأين كان الإمام عليه‌السلام عن السقيفة ، وعن بيعة أبي بكر ليحتجّ عليهم؟

وقد أجاب الإمام عليٌّ عليه‌السلام عن هذا الإشكال عندما سأله الأشعث ابن قيس ، عندما قال للإمام عليعليه‌السلام: ما منعك ـ يا ابن أبي طالب ـ حين بويع أخو

٥٠٤

بني تيم ، وأخو بني عدي ، وأخو بني أمية ـ أن تقاتل وتضرب بسيفك وأنت لم تخطبنا مذ قدمت العراق إلاَّ قلت قبل أن تنزل عن المنبر : والله إنّي لأوّل الناس ، وما زلت مظلوماً مذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : يا ابن قيس! لم يمنعني من ذلك الجبن ، ولا كراهية لقاء ربّي ، ولكن منعني من ذلك أمر النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهده إليّ .. أخبرني بما الأمّة صانعة بعده ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليُّ! ستغدر بك الأمّة من بعدي ، فقلت : يا رسول الله! فما تعهد إليّ إذا كان كذلك؟ فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فكفَّ يدك ، واحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنّتي أعواناً (١).

وفي رواية الخطيب البغدادي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن علي عليه‌السلام قال : أخذ عليٌّ يحدِّثنا إلى أن قال : « جذبني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكى ، فقلت : يا رسول الله! ما يبكيك؟ قال : ضغائن في صدور قوم لن يبدوها لك إلاَّ بعدي ... فقلت : بسلامة من ديني؟ قال : نعم بسلامة من دينك (٢).

كما سئل هذا السؤال الإمام الرضا عليه‌السلام ، وهو الإمام الثامن من أهل البيت عليهم‌السلام ، فأجاب : لأنّه ـ أي أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ـ اقتدى برسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تركه جهاد المشركين بمكة بعد النبوَّة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة تسعة عشر شهراً (٣).

__________________

١ ـ الاحتجاج ، الطبرسي : ١/٢٨٠ ـ ٢٨١ ، كتاب سليم بن قيس ، ٢١٤ ـ ٢١٥ ، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة ، التستري : ٤/٥١٩.

٢ ـ تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ١٢/٣٩٤ ، رقم : ٦٨٥٩ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢/٣٢٣.

٣ ـ والرواية هي عن الصدوق عليه الرحمة ، عن الهيثم بن عبدالله الرماني قال: سألت علي بن موسى

٥٠٥

وجاء في كتاب معاوية إلى عليٍّ عليه‌السلام : وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر ، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلاَّ دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ، فلم يجبك منهم إلاَّ أربعة أو خمسة ... مهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمَّا حرّكك وهيّجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم (١).

فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ترك جهاد القوم ، لقلّة ناصريه ، فصبر وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، يرى تراثه ينهب ، ويعلِّل ذلك بأنّه لم يسكت إلاَّ تأسِّياً بالأنبياء عليهم‌السلام ، حيث قال : إنّ لي بسبعة من الأنبياء أسوة :

الأول : نوح عليه‌السلام ، قال الله تعالى مخبراً عنه في سورة القمر ( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) (٢) فإن قلت : لم يكن مغلوباً فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت : كان مغلوباً فعليٌّ أعذر.

الثاني : إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، حيث حكى الله تعالى عنه قوله : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ

__________________

الرضا عليه‌السلام ، فقلت له : يابن رسول الله! أخبرني عن علي بن أبي طالب لم لم يجاهد أعدائه خمساً وعشرين سنة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ جاهد في أيام ولايته؟ فقال : لأنَّه اقتدى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تركه جهاد المشركين بمكة ثلاث عشرة سنة بعد النبوَّة ، وبالمدينة تسعة عشر شهراً ، وذلك لقلّة أعوانه عليهم ، وكذلك علي عليه‌السلام ترك مجاهدة أعدائه لقلّة أعوانه عليهم ، فلمَّا لم تبطل نبوَّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع تركه الجهاد ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهراً ، كذلك لم تبطل إمامة علي عليه‌السلام مع تركه الجهاد خمساً وعشرين سنة ؛ إذ كانت العلّة المانعة لهما من الجهاد واحدة.

علل الشرائع ، الصدوق : ١/١٤٨ ح ٥ ، عيون أخبار الرضا 7 ، الصدوق : ١/٨٧ ـ ٨٨ ح ١٦.

١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٢/٤٧.

٢ ـ سورة القمر ، الآية : ١٠.

٥٠٦

وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) (١) فإن قلت : اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرت ، وإن قلت : رأى المكروه فاعتزلهم فعليٌّ أعذر.

الثالث : نبيُّ الله لوط عليه‌السلام ، إذ قال لقومه على ما حكاه الله تعالى : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْن شَدِيد ) (٢) فإن قلت : كان له بهم قوَّة كذّبت القرآن ، وإن قلت : إنه ما كان له بهم قوَّة فعليٌّ أعذر.

الرابع : نبيُّ الله يوسف عليه‌السلام ، فقد حكى الله تعالى عنه : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (٣) فإن قلت : إنّه دعي إلى غير مكروه يسخط الله تعالى فقد كفرت ، وإن قلت : إنه دعي إلى ما يسخط الله فاختار السجن فعليٌّ أعذر.

الخامس : كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام ، إذ يقول ما ذكره الله تعالى عنه : ( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٤) ، فإن قلت : إنه فرَّ منهم من غير خوف فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت : فرَّ منهم خوفاً فعليٌّ أعذر.

السادس : نبيُّ الله هارون بن عمران عليه‌السلام ، إذ يقول على ما حكاه الله تعالى عنه : ( قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (٥) فإن قلت : إنهم ما استضعفوه فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت : إنهم استضعفوه وأشرفوا على قتله فعليٌّ أعذر.

__________________

١ ـ سورة مريم ، الآية : ٤٨.

٢ ـ سورة هود ، الآية : ٨.

٣ ـ سورة يوسف ، الآية : ٣٣.

٤ ـ سورة الشعراء ، الآية : ٢١.

٥ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٥٠.

٥٠٧

السابع : محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث هرب إلى الغار ، فإن قلت : إنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هرب من غير خوف فقد كفرت ، وإن قلت : أخافوه وطلبوا دمه وحاولوا قتله فلم يسعه غير الهرب فعليٌّ أعذر (١).

إمامة عليٍّ 7 على نحو الاختيار وليس الجبر

إنّ الأحكام الشرعيّة ـ يا عزيزتي ـ معلَّقة على حرِّيَّة المكلَّف واختياره ، فإنّ الله لا يجبر عباده على طاعته ، فكون علي عليه‌السلام إماماً من قبل الله تعالى لا يعني أن تجبر الخلائق على اتباعه ( مَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ) (٢) وهذا ما جرى على الأنبياء جميعهم ، وقال تعالى : ( أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) (٣) ، فالبيعة لعليٍّ لا يفرضها الله على عباده (٤) كما لم يفرض بيعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) (٥) والمجيء دالٌ على أنّ الأمر بالبيعة معلَّق على مجيء المؤمنات طائعات.

لذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق علي عليه‌السلام ـ كما أخرجه الطبري في الرياض النضرةـ : يا علي! إني أعلم ضغائن في صدور قوم سوف يخرجونها لك

__________________

١ ـ راجع : مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ١/٢٣٢ ـ ٢٣٣.

٢ ـ سورة الكهف ، الآية : ٢٩.

٣ ـ سورة البقرة ، الآية : ٨٧.

٤ ـ يعني بالجبر والإكراه ، قال تعالى : ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) البقرة ، الآية : ٢٥٦.

٥ ـ سورة الممتحنة ، الآية : ١٢.

٥٠٨

من بعدي ، أنت كالبيت تؤتى ولا تأتي ، إن جاءوك وبايعوك فاقبل منهم ، وإلاَّ فاصبر حتى تلقاني مظلوماً.

فإذا كان هنالك قصور فهو من الذين لم يبايعوه ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن في الأمر تزاحم مصالح ، فولاية علي عليه‌السلام مصلحة ، والحفاظ على بيضة الإسلام مصلحة أخرى (١) ، فقدَّم عليٌّ مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة إمامته ، كما فعل نبيُّ الله هارون عندما عبد قومه العجل ، فلم يمنعهم حفاظاً على وحدة بني إسرائيل ، قال تعالى : ( إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (٢).

قلت : إذاً بماذا تفسّر كلمة الإمام ( كرَّم الله وجهه ) التي جاءت في نهج البلاغة : وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمَّوه إماماً كان ذلك لله رضى؟

خالي : باختصار شديد أجيبك قائلا : إن ابن أبي الحديد المعتزلي هو أول من احتجّ بهذه الكلمة ، على أن صيغة الحكومة بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلممستندة إلى الاختيار ونظام الشورى ، وتبعه من تبعه ، ولكنّه غفل ـ أو بالأصحِّ تغافل ـ عن صدر الكلمة التي تعرب عن أن الاستدلال بالشورى من باب الجدل ، خضوعاً لقوله تعالى: ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٣) فإن الإمام علياًعليه‌السلامبدأ كلمته ـ مخاطباً معاوية بن أبي سفيان ـ بقوله : أمَّا بعد ، فإنَّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت

__________________

١ ـ إن الدولة الإسلاميّة كانت مهدَّدة من المنافقين من جهة ، ودولة فارس والروم من جهة أخرى ، وهذا بالإضافة لما أخبر به القرآن الكريم من حوادث تقع بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كاية الانقلاب.

٢ ـ سورة طه ، الآية : ٩٤.

٣ ـ سورة النحل ، الآية : ١٢٥.

٥٠٩

بالشام ، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردَّ ... إلى قوله : وإن طلحة والزبير بايعاني ثمَّ نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردِّهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق ، ظهر أمر الله وهم كارهون .. فادخل فيما دخل فيه المسلمون (١).

فقد ابتدأ أميرالمؤمنين عليه‌السلام بخلافة الشيخين ، وذلك يعرب على أنه في مقام إسكات معاوية الذي خرج على إمام زمانه ، وقد أتمَّ عليه‌السلام كلمته بقوله : فإن اجتمعوا على رجل .. احتجاجاً بمعتقد معاوية ، بمعنى : ألزموهم ما ألزموا به أنفسهم.

وهذه هي الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « أما والله لقد تقمَّصها (٢) ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عنّي السيّل ، ولا يرقى إليّ الطَّير (٣) ، فسدلت (٤) دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً (٥) ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيدجذّاء (٦)، أو أصبر على طخية عمياء(٧) ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٣/٧٥ ، و١٤/٣٦ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٥٩/١٢٨ ، المناقب ، الخوارزمي : ٢٠٢.

٢ ـ الضمير عائد على الخلافة ، فهنا شبَّه الإمام علي 7 خلافة أبي بكر كالذي لبس قميصاً ليس قميصه.

٣ ـ تمثيل لسمو قدره 7 ، وقربه من مهبط الوحي ، وأن ما يصل إلى غيره من فيض الفضل فإنما يتدفَّق من حوضه ، ثمَّ ينحدر عن مقامه العالي ، فيصيب منه من شاء الله.

٤ ـ كناية عن غضّ نظره عن الخلافة ، وسدل الثوب : أرخاه.

٥ ـ مال عن الخلافة ، وهو مثل لمن جاع ، فمن جاع طوى كشحه ، ومن شبع فقد ملأه.

٦ ـ الجذّاء : المقطوعة ، ومراده 7 هنا قلّة الناصر والمعين.

٧ ـ الطخية : الظلمة ، ونسبة العمى إليها مجاز عقليٌّ ، وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها.

٥١٠

يلقى ربَّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً (١) ، حتى مضى الأوَّل لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، ثم تمثّل بقول الأعشى :

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجباً! بينا هو يستقيلها في حياته (٢) إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (٣) ، فصّيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسُّها .. إلى أن يقول عليه‌السلام : فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فيالله وللشورى! متى اعترض الرّيب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفُّوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه (٤) ، ومال الآخر لصهره (٥) ، مع هن وهن (٦) ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه .. (٧).

إلى أن ختمها بقوله عليه‌السلام : أما والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على

__________________

١ ـ وهذا تأكيد منه عليه‌السلام بأنّ الخلافة حق ثابت له.

٢ ـ إشارة لقول أبي بكر : أقيلوني فلست بخيركم.

٣ ـ وهي إشارة منه عليه‌السلام إلى تقسيم الخلافة بين أبي بكر وعمر.

٤ ـ يشير عليه‌السلام إلى سعد بن أبي وقاص الذي صغى إلى ضغنه وهو عبد الرحمن بن عوف.

٥ ـ يشير عليه‌السلام إلى عبد الرحمن بن عوف الذي مال إلى صهره وهو عثمان بن عفان.

٦ ـ إشارة منه عليه‌السلام إلى أغراض أخر يكره ذكرها.

٧ ـ يشير عليه‌السلام إلى عثمان وكان ثالثاً بعد انضمام كل من طلحة والزبير وسعد إلى صاحبه ، ونافجاً حضنيه : رافعاً لهما ، والحضن : ما بين الابط والكشح ، يقال للمتكبِّر : جاء نافجاً حضنيه ، والنثيل : الروث ، والمعتلف : موضع العلف ، أي أراد عليه‌السلام بقوله : لاهمَّ له إلاَّ ما ذكره.

٥١١

كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتُم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (١).

احتجاج السيدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام

تجمَّد فكري ، وعقدت الحيرة لساني ، فوضعت كلتا يديّ على رأسي ، ثمَّ قلت : كل هذا ونحن لا ندري ، أمرٌ لا يصدَّق.

فلم يدعني خالي أرتاح قليلا ... حتى أنعش أعصابي فبادرني قائلا : هذا فيما يتعلّق باحتجاج أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ودعيني أقرأ عليك ممّا جاء عن احتجاج الزهراء عليها‌السلام.

خالي : بغضّ النّظر عمَّا جاء في المصادر الشيعيّة من استنكار أهل بيت العصمة والطهارة عليه‌السلام ، فقد ذكر أبو الفضل أحمد بن طيفور (٢) ، وجاء في شرح ابن أبي الحديد في المجلَّد الرابع (٣) ، وفي أعلام النساء لعمر رضا كحالة (٤) ، قالت عليها‌السلام في خطبتها ـ التي كان أهل البيت عليهم‌السلام يلزمون أولادهم بحفظها كما يلزمونهم بحفظ القرآن ـ :

« ويحهم ، أنّى زحزحوها (٥) عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوَّة ، ومهبط

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ١/٣٠ ، رقم الخطبة : ٣ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١/١٦٢.

٢ ـ بلاغات النساء ، ابن طيفور : ٢٠ ، السقيفة وفدك ، الجوهري : ١٢٠.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦/٢٣٣.

٤ ـ ج ٣ ، ص ١٢٠٨.

٥ ـ أي الخلافة.

٥١٢

الروح الأمين ، والطبين (١) بأمور الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين .. ومانقموا من أبي الحسن؟! نقموا والله منه نكير سيفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله ، وتالله لو تكافأوا (٢) على زمام نبذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه لاعتلقه ، لسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه (٣) ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا رويّاً فضفاضاً (٤) تطفح ضفّتاه ، ولا يترنّم جانباه ، ولأصدرهم بطاناً (٥) ونصح لهم سرّاً وإعلاناً ، غير متحلٍّ منهم بطائل ، إلاَّ بغمر الناهل (٦) ، وردعه سورة الساغب (٧) ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ، ألا هلمَّ فاستمع ، وما عشت أراك الدهر عجباً ، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث ، إلى أيِّ لجأ استندوا ؟! وبأيِّ عروة تمسَّكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، بئس للظالمين بدلا ، استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ألا إنّهم المفسدون ولكن لا يشعرون ، ويحهم ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن

__________________

١ ـ أي الخبير.

٢ ـ التكافؤ : التساوي ، والزمام الذي نبذه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أي ألقاه إليه ـ في أمور دينها ودنياها ، والمعنى أنهم لو تساووا جميعاً في الانقياد بذلك الزمام والاستسلام إلى ذلك القائد العام ، لا عتلقه أي وضعه بين ركابه ، وساقه كما يعتقل الرمح.

٣ ـ سار بهم سيراً سجحاً أي سيراً سهلا ؛ ولا يكلم خشاشة أي لا يجرح أنف البعير ، والخشاش : عود يجعل في أنف البعير يشدُّ به الزمام ، ولا يتعتع راكبه ، أي لا يصيبه أذى.

٤ ـ أي يفيض منه الماء.

٥ ـ أي شبعانين.

٦ ـ أي ريّ الظمآن.

٧ ـ أي كسر شدّة الجوع.

٥١٣

يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (١) ... إلى آخر الخطبة.

بينما هو يقرأ أحسست برعشة تسري إلى جميع أجزاء بدني ، وجرت دمعة على خدّي .. وكيف لا أبكي وقد أحسست بأنفاس الزهراء الطاهرة عليها‌السلام تتسرَّب مع أنفاسي إلى أعماق نفسي ، فكانت تلك الكلمات حروفاً من نور تشعُّ في وجداني ، وربّ السماء والأرض لو أنكر أهل الدنيا جميعاً هذه الكلمات لعشت بها وحيدة في فيافي الأرض وقفارها ، أترنّم بأجراس كلماتها ، وترقص نفسي طرباً بأزيز أنغامها ، وهنا يكون العشق والحبُّ ، وتهيم الروح سكراً بلبِّ معناها.

كفكفت دمعي ، وتوسَّلت بخالي أن لا يقطع الحوار بسبب اضطرابي ... دعاني إلى النوم لكي تهدأ أعصابي ، قلت : كم هي الليالي التي لم نستفد منها إلاَّ النوم ، فإن كانت ليلة القدر خيراً من ألف شهر فهذه الليلة خير من ألف يوم ، فتلك الليلة تكتب فيها الأقدار ، وهذه الليلة تبعث فيها الأرواح.

وبعد إلحاح قال خالي : أختم لك هذه الليلة بحوار عمر مع جدِّنا عبد الله بن العباس ـ الذي نتشرَّف بالانتساب إليه ـ كما جاء في الكامل لابن الأثير (٢) ، وشرح النهج لابن أبي الحديد (٣) ، وتاريخ الطبري (٤).

قال عمر : أتدري ما منع قومكم بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

قال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه ، فقلت له : إن لم أكن أدري فإن

__________________

١ ـ سورة يونس ، الآية : ٣٥.

٢ ـ ج٣ ، ص ٦٣.

٣ ـ شرح نهج البلاغة : ١٢/٥٣.

٤ ـ تأريخ الطبري : ٣/٢٨٩.

٥١٤

أميرالمؤمنين يدري!

فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً (١) ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.

عندها قال ابن عباس : يا أميرالمؤمنين! إن تأذن لي في الكلام وتمط عنّي الغضب ، تكلَّمت ..

قال : تكلَّم.

فقال ابن عباس : أمَّا قولك ـ يا أمير المؤمنين ـ : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت ، فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأمَّا قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة فإنّ الله عزّ وجلَّ وصف قوماً بالكراهة ، فقال : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (٢).

قال عمر : هيهات يا ابن عباس! قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرّك عليها فتزيل منزلتك منّي.

فقال ابن عباس : ما هي يا أميرالمؤمنين؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

قال عمر : بلغني أنك تقول : إنّما صرفوها عنّا حسداً وبغياً وظلماً.

فقال ابن عباس : أمَّا قولك ـ يا أميرالمؤمنين ـ : ظلماً ، فقد تبيَّن للجاهل والحليم ، وأمَّا قولك : حسداً ، فإن آدم حُسدَ ، ونحن ولده المحسودون.

__________________

١ ـ التبجُّح بالشي ، أي الفرح به.

٢ ـ سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الآية : ٤٧.

٥١٥

فقال عمر : هيهات ، هيهات ، أبت والله قلوبكم ـ يا بني هاشم ـ إلاَّ حسداً لا يزول.

فقال ابن عباس : مهلا يا أميرالمؤمنين! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً.

خالي : والدليل على أنّ أهل البيت عليهم‌السلام محسودون على المكانة التي خصّهم بها الله قوله تعالى : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (١) ، والتدبُّر في هذه الآية يكشف لنا أنّ الحسد وقع على هؤلاء الناس بسبب عطاء ربِّك لهم ( الكتاب والحكمة والملك العظيم ) لأنّ المعلوم والمحكم في هذه الآية أنّ الله أعطى آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك العظيم ، والمتشابه علينا في هذه الآية هو من المقصود بالناس في هذه الآية؟ وما هو الفضل الذي أُعطي لهم؟ ولاستجلاء المعنى المقصود لابد من إجراء المقابلة ، فالناس يقابلهم آل إبراهيم ، والفضل يقابله الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فهل ياترى من هؤلاء الناس في أمَّة محمّد يقابلون آل إبراهيم؟ هل تجدين غير آل محمّد كفؤاً ونظيراً لآل إبراهيم؟ فيتضح بذلك أنّ الناس المقصودين في هذه الآية هم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

أمَّا الفضل الذي أُعطي لهم فهو الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فيكون

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية : ٥٤.

٢ ـ روى الحاكم الحسكاني ، عن أبان بن تغلب ، عن جعفر بن محمّد عليه‌السلام في قوله تعالى : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) قال : نحن المحسودون. شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ١/١٨٣ ح ١٩٥ ، ينابيع المودة ، القندوزي : ٢/٣٦٩ ح ٥٢ ، عن المناقب لابن المغازلي : ٢٦٧ حديث ٣١٤.

٥١٦

معنى الآية : أم يحسدون آل محمّد على ما آتاهم الله من الكتاب والحكمة والملك العظيم ، ولقد آتينا آل إبراهيم مثل ما أعطيناهم من الكتاب والملك العظيم ، فهل عرفت بذلك السبب الذي جعلهم يزيلون آل محمّد عن مراتبهم التي رتبهم الله بها؟.

يا عزيزتي! قد تبيَّن للجاهل قبل العالم ، وإياك أن تحيدي عن قوم أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.

قلت : كل ما ذكرته مقنع ، ومستند على الأدلّة والبراهين الساطعة ، وهذا خلاف ما كنّا نعرفه عن الشيعة الذين كانوا في تصوُّرنا أبعد الناس عن الحقِّ ، وكل ما يمكن أن أجزم به الآن ـ حتى لا أكون متعجِّلة بالحكم بأحقّيّة مذهبكم ـ أنَّ الشيعة طائفة إسلاميَّة يجب أن تحترم ، وإن كانوا يختلفون مع عامّة المسلمين من أهل السنّة في بعض الأمور التي يمكن تجاوزها في سبيل الوحدة الإسلاميّة ، وللإنصاف ـ يا خالي ـ لقد سررت جداً بهذا الحوار ، وقد تعلَّمت منه درساً لن أنساه أبداً ، وهو عدم الحكم على الآخرين بالأفكار المسبقة ، والرجوع إليهم لا إلى من يخالفهم ، وأنا أعتقد أنّ من أعظم المصائب التي تعيشها أمتنا هي فقدانها لأرضيَّة الحوار.

ولكن عفواً يا خالي! ما زال هناك سؤال يراودني ، هل غاب هذا عن العلماء؟ ولماذا لم يتوصَّل أحد منهم لما ذكرت؟

خالي : لقد أثلجت صدري بهذا الكلام الذي ينمُّ عن وعي وشعور كاملين بالمسؤولية ، التي أمرنا القرآن الكريم أن نتحلّى بها من معرفة المنهج القرآنيِّ في المباحثة والمناظرة العلميّة الذي يعترف بالطرفين ، قال تعالى معلِّماً رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥١٧

مخاطبة الكفار والمشركين : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَل مُّبِين ) (١) ، فانظري إلى هذا التعامل الأخلاقي النبيل ، فلم يقل لهم : إني على حق وأنتم على ضلال ، بل قال : إمَّا نحن أو أنتم على حق أو على باطل .. فهذا هو منهج القرآن عندما طرح للجميع حرّيّة المناقشة قائلا : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٢) ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع براهينهم ويردُّها بالتي هي أحسن ، وقد سجَّل القرآن نماذج كثيرةً سواء كانت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مع الأنبياء السابقين ، ففي قصّة إبراهيم ونمرود ، وموسى وفرعون ، خير عبر ، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى حجج وبراهين الكافرين في قرآنه ، وأعطاها من القداسة ما أعطى غيرها من الآيات ، ولم يجوّز لمسلم أن يمسَّها من غير وضوء بناء على الفقه الشيعي ، فأين هؤلاء الذين يشنِّعون ويفترون على الشيعة بكل ما هو باطل من هذا المنهج القرآني الأصيل (٣)؟

أمَّا قولك : لماذا لم يتوصَّل أحد لما ذكرت؟

قال تعالى : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (٤) ، وقال : ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (٥) ، ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) (٦) ، ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ

__________________

١ ـ سورة سبأ ، الآية : ٢٤.

٢ ـ سورة النمل ، الآية : ٦٤.

٣ ـ راجع كتاب الحقيقة الضائعة ، لمعتصم سيد أحمد ، ص ٣٠ تحت عنوان : ملاحظات للباحث لابد منها ، وص ٢١٨ مع إحسان إلهي ظهير.

٤ ـ سورة المؤمنون ، الآية : ٧٠.

٥ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٨٧.

٦ ـ سورة يوسف ، الآية : ٣٨.

٥١٨

بِمُؤْمِنِينَ ) (١) ، ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (٢) ، ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (٣) .. هذا أوَّلا.

ثانياً : هناك من هو مصداق قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) (٤).

ثالثاً : هنالك مجموعة من نخبة السنّة وعلمائها من كسر الأغلال ، وتعدَّى حواجز الكبت الإعلامي ، والتحقوا بركب التشيٌّع في كل أنحاء العالم ، فتمسُّك بعض العلماء بموقفهم ليس دليلا على بطلان مذهب آل البيت عليهم‌السلام وإلاَّ حكمنا ببطلان مذهب أهل السنّة أيضاً لتمسّك علماء الطوائف الأخرى بعقيدتهم.

مسح الأرجل في الوضوء

لو سمحت لي ـ يا خالي ـ بآخر سؤال : لقد رأيتك تمسح على رجليك في الوضوء بدلا عن الغسل ، فما هو السبب؟ أليس الغسل أنظف وآمن للنجاسة من المسح؟

خالي وهو مستغرب لهذا الانتقال المفاجئ : نعم الغسل أنظف ، ولكن الله أعرف ، ثم ابتسم.

قلت : ولكن لم يأمر الله بالمسح؟

خالي : صبراً عليَّ : قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية : ١٠٣.

٢ ـ سورة الإسراء ، الآية : ٨٩.

٣ ـ سورة الرعد ، الآية : ١.

٤ ـ سورة النمل ، الآية : ١٤.

٥١٩

فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) (١) ، فقوله : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) دال على وجوب المسح بكلتا القراءتين : بالكسر أو بالفتح ، أمَّا الكسر فواضح ؛ لأنها معطوفة على الرأس ، وأمَّا النصب فإنه يدل على المسح أيضاً ، وذلك لأنه معطوف على موضع الرؤوس لوقوع المسح عليهما ، ولا يمكن العطف على الأيدي ، وذلك لوجود فاصل أجنبيٍّ وهو المسح ، فلا يجوز العطف على البعيد مع إمكانيَّة العطف على القريب.

وهذا ما أكَّدت عليه روايات أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام، بل هنالك أحاديث من مصادر أهل السنة تؤيِّد المسح ، وممَّن قال بالمسح ابن عباس والحسن البصري والجبائي والطبري وغيرهم ، قال ابن عباس وأنس : الوضوء غسلتان ومسحتان ، كما جاء في الدر المنثور (٢) ، وقال عكرمة : ليس على الرجلين غسل ، إنما فيهما المسح ، وبه قال الشعبي : ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلا ، ويلغي ما كان مسحاً (٣) ، وروى أوس بن أوس ، قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضَّأ ومسح على رجليه (٤) ، ووصف ابن عباس وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه مسح على رجليه ، وقال : إنّ في كتاب الله المسح ، ويأبى الناس إلاَّ الغسل (٥).

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٦.

٢ ـ الدر المنثور : ٢/٢٦٢.

٣ ـ نفس المصدر : ٢٦٢.

٤ ـ أسد الغابة ، ابن الأثير : ١/٢١٧.

٥ ـ مجمع البيان ، الطبرسي : ٣/٢٨٤ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢/٢٦٢ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ٩/٤٣٢ ح ٢٦٨٣٧.

٥٢٠