مناظرات المستبصرين

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات المستبصرين

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٩

أولاً : إنّ الطائفة المحقّة هم أهل السنّة ؛ لأنهم ساروا على منهج السلف ، وذلك لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمإنّ الفرقة الناجية « ما كنت عليه أنا وأصحابي » ، فإنّ الموضوع أوسع من المدّعى ، وبصورة أخرى : إن الصغرى غير تامّة ، فمن الذي يقول : إنّ الذي عليه أنتم هو نفس ما كان عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه؟!

وكون أهل السنة هم الطائفة الوحيدة ، التي جسَّدت ما كان عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، هذه مصادرة من غير دليل ؛ لأن كل الطوائف تدّعي وصلا بليلى.

وثانياً : الاختلافات الكبيرة جدّاً بين أهل السنّة هي دليل على بطلان ما تدّعي ، فليس هناك في الواقع مذهب واحد متكامل يسمَّى أهل السنّة ، وكل ما هنالك عنوان يسمّى أهل السنة ، تنطوي تحته مجموعة من المدارس ، التي تختلف في أبسط المسائل الفقهيّة ، بل حتى في طريقة التعامل مع السلف ، فأيّ أهل السنّة والجماعة تقصد؟ هل هم الوهابية؟ ويوجد هنالك من يدّعون أنهم أهل السنّة ويكفِّرون الوهابيِّة ، فلا تعمّم الكلام ، ولا تحاول أن تلزمني بالعناوين الفضفاضة.

أمَّا كلامك في الصفات الإلهيَّة فيكتنفه نوع من الغموض ، فما معنى أن نثبت لله ما أثبته لنفسه من غير كيف؟! فهذا التبرير لا يقبله صاحب عقل سليم ؛ لأنّ الجهل بالكيفيّة لا يغيّر عنوان القضيّة ، وهو لا يتعدَّى أنّ يكون إبهاماً وألغازاً ؛ لأنّ إثبات هذه الألفاظ هو عين إثبات معانيها الحقيقيّة ، وصرفها عن معناها الحقيقي هو عين التأويل الذي أنكرته ، وإثبات المعنى الحقيقي لها لا ينسجم مع عدم الكيفيّة ؛ لأن الألفاظ قائمة بمعانيها ، والمعاني قائمة بالكيفيّة ، وإجراء هذه الصفات بمعانيها المتعارفة هو عين التجسيم والتشبيه ، والاعتذار بقولك : ( بلا

٤٤١

كيف ) لا يتعدّى أن يكون لقلقة لسان ، وإذا كانت هذه الألفاظ الجوفاء تكفي لإثبات التنزيه لله عزّ وجلَّ فلا إشكال على من يقول : إن لله : جسماً بلا كيف ، ولا كالأجسام ، وله دم بلا كيف ، ولحم وشعر و ... بلا كيف ، كما قال أحد الحشوية : ( إنما استحييت عن إثبات الفرج واللحية ، واعفوني عنهما ، واسألوني عمَّا وراء ذلك ) كما ذكرها الشهرستاني في الملل والنحل.

وإنَّما مشكلتكم هي التقليد في العقائد من غير تفكير ، مع أن التقليد في باب العقائد لا يجوز ، فإذا فكَّرت جيِّداً فيما نسبته للسلف من قولهم : ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ) تجد أنّ هذا الكلام متهافت لأبعد الحدود ؛ لأنّ الاستواء إذا كان معلوماً فالكيف بالتالي يكون معلوماً ، وإذا كان الكيف مجهولا فكذلك الاستواء يكون مجهولا ، ولا ينفصل عنه ، فالعلم بالاستواء هو عين العلم بالكيفيّة ، والعقل لا يفرِّق بين وصف الشيء وبين كيفيّته ؛ لأنهما شيء واحد ، فإذا قلت : فلان جالس فعلمك بجلوسه هو علمك بكيفيّته ، فعندما تقول : الاستواء معلوم فنفس العلم بالاستواء هو العلم بالكيفيّة ، وإلاَّ فيكون في كلامك تناقض ، بل هو التناقض بعينه ، فكل تبرير بعدم الكيف مع إجراء المعاني الحقيقيَّة للألفاظ هو تناقض وتهافت ، فقولك : إن لله يداً بلا كيف ، كلام ينقض آخره أوَّله ، والعكس ؛ لأن اليد بالمعنى الحقيقي لها تلك الكيفيّة المعلومة ، ونفي الكيفيّة منها هو نفي لحقيقتها.

الصفات الإلهية عند السلف والمفسرين

قاطعني قائلا : ماذا نفهم من هذا الكلام؟ هل تخالف السلف الصالح ، وتؤوِّل هذه الآيات؟

٤٤٢

قلت : أولا : إنّ مجرَّد نسبة هذه الأفكار إلى السلف لا يكسبها قدسيّة يمنعها من النقاش.

ثانياً : إن السلف الذين تدّعي اتباعهم لم يقولوا ما قلت ، بل كانوا يوجِّهون تلك الآيات القرآنيّة التي جاءت في باب الصفات غير توجيهكم ، وفي الواقع إن نسبة هذه الأفكار إلى ابن تيمية وابن عبد الوهاب أقرب وأصدق من نسبتها إلى السلف ، وحتى تتأكَّد من ذلك ارجع إلى أيِّ تفسير من التفاسير المأثورة في باب الصفات ، لتجد تأويلات السلف واضحة لهذه الآيات.

جاء في تفسير الطبري ، في تفسر قوله تعالى : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (١) التي اعتبرها ابن تيمية من أعظم آيات الصفات ، نجد أن الطبري يروي حديثين بإسناد إلى ابن عباس قال : اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي ، فقال بعضهم : هو علم الله تعالى ذكره ، وذكر من قال ذلك بإسناده أن ابن عباس قال : كرسيُّه علمه ، ورواية أخرى بإسناده عن ابن عباس قال : كرسيُّه علمه ، ألا ترى : ( وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ) (٢).

وفي تفسير الطبري نفسه ، ينقل في تفسر قوله تعالى : ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) يقول : اختلف أهل البحث في معنى قوله : وهو العليُّ العظيم ، فقال بعضهم : يعني بذلك هو عليٌّ عن النظير والأشباه ، وأنكروا أن يكون معنى ذلك هو : العلي المكان ، وقالوا : غير جائز أن يخلو منه مكان ، ولا يعني بوصفه بعلوِّ المكان ؛ لأن ذلك وصف بأنه في مكان دون مكان.

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية : ٢٥٥.

٢ ـ تفسير الطبري : ٣/٩٢٧.

٤٤٣

وإليك شاهداً آخر في تفسير قوله تعالى : ( كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (١) وقوله : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْكْرَامِ ) (٢).

قال الطبري : واختلف في معنى قوله : ( إلاَّ وجهه ) ، فقال بعضهم : كل شيء هالك إلاَّ هو ، وقال آخرون : معنى ذلك : إلاَّ ما أريد به وجهه ، واستشهدوا بقول الشاعر :

أستغفر الله ذنباً لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

وقال أبو البغوي : إلاّ وجهه ؛ أي إلاَّ هو ، وقيل : إلاَّ ملكه ، قال أبو العالية : إلاَّ ما أريد به وجهه.

وفي الدرّ المنثور للسيوطي عن ابن عباس قال : المعنى : إلاّ ما يريد به وجهه ، وعن مجاهد : إلاّ ما أريد به وجهه ، وعن سفيان : إلاَّ ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة (٣).

هذا قول السلف ، وأنا لم أخالف قولهم ، بل أنتم الذين تخالفونهم ، وتنسبون لهم ما ليس فيهم.

ثالثاً : نحن لا ندعو إلى التأويل في مثل هذه الآيات ، فلا يجوز صرف ظاهر الكتاب والسنّة بحجّة أنها تخالف العقل ، فلا يوجد في القرآن والسنّة ما يخالف العقل ، وما يتبادر من الظاهر أنه مخالف ليس بظاهر ، وإنما يتخيَّلونه ظاهراً.

ولتوضيح ذلك لابد أنّ تفهم أن اللغة في مدلولها تنقسم إلى قسمين :

__________________

١ ـ سورة القصص ، الآية : ٨٨.

٢ ـ سورة الرحمن ، الآية : ٢٧.

٣ ـ الدرّ المنثور ، السيوطي : ٥/١٤٠.

٤٤٤

١ ـ دلالة إفراديّة.

٢ ـ دلاله تركيبيّة.

أو كما يسمّيها علماء المنطق والأصول دلالة تصوُّريَّة ودلالة تصديقيّة.

فقد يختلف المعنى الإفرادي عن المعنى التركيبي في الكلمة الواحدة ، إذا وجدت قرائن في الجملة تصرفها عن معناها الإفرادي ، فمثلا : عندما أقول : ( أسد ) ينصرف الذهن إلى الحيوان ، ولكن عندما أقول : أسد يقود سيارة فإن الذهن سينصرف إلى الرجل الشجاع ، فمعنى أيِّ كلمة لابد أن يلاحظ فيه السياق والقرائن المتصلة والمنفصلة ، وهذا هو ديدن العرب في فهم الكلام ، ولذلك الذي يفهم بهذه الطريقة لا يسمَّى مؤوِّلا للنصّ ، خارجاً عن الظاهر ، وهكذا الحال في مثل هذه الآيات ، ففي قوله تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) فيكون المعنى الظاهر من اليد هي القدرة والتأييد الإلهي من غير تأويل ، كالذي يقول : البلد في يد السلطان ، أي تحت تصرفه وإدارته ، ويصح هذا القول وإن كان السلطان مقطوع اليد ، وكذلك في بقيَّة الآيات فلا يمكن أن تثبت معنى الكلمة من غير ملاحظة السياق ، وهذا هو الأخذ بالظاهر بعينه.

بدأت الحيرة على وجه الوهابي ، وهو لا يدري ماذا يقول ، إلاَّ أنه قاطعني قائلا : هذا الكلام فيه تكلُّف ومراوغة ، فالإسلام دين يسر ، ولا يحتمل هذه السفسطة ، فقد خاطب علماؤنا المسلمين بأبسط الكلمات من غير تعقيد وتكلُّف ، وقد أجمع المسلمون على فضلهم وأعلميَّتهم ، مثل : الإمام أحمد بن حنبل ، وشيخ الإسلام ابن تيميّة ، فإنهم بتوفيق الله ردُّوا على أصحاب المذاهب الباطلة بأوضح البراهين ، ولم يقولوا كلمة واحدة مما قلت ، مع أنهم لا يجرأ على مخالفتهم أحد.

٤٤٥

فمن أنت؟ وما هو مذهبك؟ فإنّي لا أراك إلاَّ من المعتزلة الذين يتمنطقون بالكلام.

يا شيخنا! ألم أقل لك إنّك تجترُّ ما قاله ابن تيميّة ، وابن عبد الوهاب ، من غير تدبر؟ فإن هؤلاء كلامهم لا يتجاوزهم ، وهو حجّة عليهم لا علينا ، وخصَّ الله سبحانه كل إنسان بعقل ، ولا يحاكمنا بعقولهم ، هذا بالإضافة إلى أن هؤلاء لم يكونوا موضع إجماع الأمّة ، فقد خالفهم جلُّ علماء المسلمين ، وكان أكثر مخالفيهم من علماء أهل السنّة والجماعة.

رأي الذهبي وابن حجر في ابن تيمية

قال الذهبي في رسالته لابن تيمية : يا خيبة من اتّبعك ، فإنه معرَّض للزندقة والانحلال ، ولا سيَّما إذا كان قليل العلم والدين ، باطنيّاً شهوانيّاً ، فهل أتباعك إلاَّ قعيد مربوط خفيف العقل ، أو عاميٌّ كذَّاب بليد الذهن ، أو غريب واجم قويُّ المكر ، أو ناشف طالح عديم الفهم؟ فإن لم تصدِّقني ففتِّشهم وزنهم بالعدل ) (١).

وجاء في الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني : ج١ ص ١٤١ : ( فمن هنا وهناك ردوّا عليه ـ يعني ابن تيمية ـ ما ابتدعته يده الأثيمة من المخاريق التافهة ، والآراء المحدثة الشاذّة عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، ونودي عليه بدمشق : ممن اعتقد عقيدة ابن تيمية حلَّ دمه وماله ).

__________________

١ ـ السيف الصقيل ، السبكي : ٢١٨ ، التوفيق الرباني : ٢٠٦ ، ذيل تذكرة الحفاظ ، الذهبي : ٣٢٠ ( في الهامش ).

٤٤٦

هذا ، غير عشرات الكتب التي ردَّت على ابن تيميَّة وكشفت عقائده الباطلة ، مثل كتاب ( الدرر المضيّة في الردِّ على ابن تيمية ) للحافظ عبدالكافي السبكي.

ويكفيك في هذا المقام ما قاله الحافظ شهاب الدين ابن حجر الهيثمي في ترجمته لابن تيمية : ( ابن تيمية عبدٌ خذله الله ، وأضلّه ، وأعماه وأصمّه وأذلّه ، بذلك صرَّح الأئمة الذين بيَّنوا فساد أحواله ، وكذّبوا أقواله ) (١).

هذا غيضٌ من فيض من علماء أهل السنة في ابن تيمية ، أمَّا الطوائف الأخرى فمجمعون على ضلاله وسخافة رأيه.

أمَّا ابن عبد الوهاب فإنه لا يمثّل شيئاً حتى يخصّ بالكلام.

الدعوة إلى المباهلة

وهنا رفع صوته صارخاً : من أين تأتي بهذا الكلام؟! ... وأنا لا أسمح لك أبداً أن تتحدَّث بهذه الطريقة عن علمائنا العظام ، وما أنت إلاَّ رجل مجادل تماري العلماء ، فمن تكون أنت مقابل شيخ الإسلام ابن تيمية؟!

فاسمع : إذا كنت صادقاً فيما تقول تعال لنتباهل ، وانتصب واقفاً وقال : قم أيُّها المفتري ، قم حتى تباهلني ، والله إني أراك وقد خسف الله بك الأرض.

وهو على هذا الصراخ حتى اجتمع الناس حولنا ، وهو يقول : إنّه رافضيٌ ، إنّه شيعيٌّ ، وقد خدعني بعدما ظننت فيه الخير.

قلت : اهدأ أيُّها الشيخ ، والله إنّي لا أراك إلاَّ هارباً من الحوار ، فلم نتحدَّث بعد عن عدالة الصحابة.

قال : اسكت ، إنّ الصحابة عدالتهم أوضح وأكبر من أن نختلف فيها ، وإن

__________________

١ ـ الفتاوى الحديثية ، ابن حجر : ١١٤ ، الغدير ، الأميني : ٣/٢١٧.

٤٤٧

كنت تؤمن بما تقول قم وباهلني.

قلت : أنا موافق على المباهلة ، ولكن قبلها أريد أن أطلب منك طلباً أمام كل الحضور ، وهو أن تقيم معي مناظرة علنيّة أمام جميع أهل هذه البلد ، حتى لا يبقى لوجودك ولا لوجود أمثالك أثر.

أمَّا المباهلة ، أتهدّدني أنت بالمباهلة وقد باهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأئمتي نصارى نجران؟ والله لو أقسمت على الله بحقّهم لمسخت قرداً يلعب بك الصبيان ، ولكن نحن لا نختبر ربَّنا ، إنما الله هو الذي يختبرنا.

ووقفت قائماً وقلت : هيَّا ابدأ بالمباهلة ، فبدأ الخوف على وجهه.

ابدأ ، لماذا سكتَّ؟

قال : أباهلك على البخاري ومسلم ، فضحكت ، وانتهرته .. يا أحمق ، ما البخاري ومسلم ، حتى نتباهل حولهم؟ وإنما أباهلك بأن مذهب التشيُّع ـ مذهب أهل البيت ، الأئمة الاثني عشر عليه‌السلام ـ هو الحق ، وما غيره باطل.

فسكت ثمَّ قال : أنا لا أباهلك في أهل البيت عليهم‌السلام.

وعلى أيِّ شيء نتحدّث؟ أعلى غير إمامة أهل البيت عليه‌السلام؟

قال : أنا لا أباهلك رحمةً بك ، وانصرف.

قلت : سبحان الله! فإن الراحم هو الله ، كيف ترحمني وعندكم هذا من مصاديق الشرك (١)؟

__________________

١ ـ حوارات ، الشيخ معتصم السوداني : ٨١ ـ ٩٤.

٤٤٨

المناظرة السابعة والأربعون

مناظرة

الشيخ معتصم السوداني مع الدكتور عمر مسعود

في صلح الإمام الحسن 7 وحديث الثقلين

قال الشيخ معتصم السوداني : بعد رجوعي من مدينة ( مروي ) وأنا في طريقي إلى الخرطوم ، مررت بجامعة وادي النيل ، كلّيّة التجارة ، فالتقيت بالدكتور عمر مسعود ، ودار بيني وبينه حوار حول صلح الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية.

الدكتور : أنتم تقولون : إنّ الإمام الحسن عليه‌السلام معصوم ، ونحن نقول : إنه من الصحابة العظام ، ومرتبته عالية عند كل المسلمين ، ولكنه غير معصوم ، وهذه هي النظرة الصحيحة ؛ لأنّ القول بعصمة الإمام الحسن عليه‌السلام مع أنه صالح معاوية فيكون هذا الصلح أعطى الشرعيّة لمعاوية .. أمَّا إذا قلنا ـ على حسب ما نرى ـ إنه رجلٌ مجتهد اجتهد وأخطأ ، فله أجر الاجتهاد ، ولا يستلزم ذلك أن نحمِّله ما جرى ، وهذا يدلُّ على أن أهل السنّة تقدِّس الإمام الحسن عليه‌السلام أكثر من الشيعة ..

قال الشيخ معتصم : لم أفهم ما هو وجه الملازمة بين أن يكون الإنسان معصوماً ، وبين أن نحمِّله ذنب الآخرين.

قال الدكتور عمر مسعود : أنا لم أقل ذلك على إطلاقه ، وإنما بخصوص

٤٤٩

حادثة محدودة ، وهذه الحادثة غيَّرت مسار الأمّة الإسلاميّة ، فالملازمة موجودة ، فإذا لم يصالح الإمام الحسن عليه‌السلام وثار كما ثار أخوه الحسين عليه‌السلام لكان مصير الأمَّة غير الذي كانت عليه ، بل كان بإمكانه أن يجلس في بيته كما فعل عبدالله بن عمر وغيره ، ولا يصالح ولا يبايع.

قال الشيخ معتصم : أولا : هذا الكلام خلاف الفرض ، فإذا ثبتت عصمته فيكون كل ما يفعله هو عين الصواب ، سواء صالح أو حارب ، والمعصوم لا يحاسب.

ثانياً : هناك مهم وأهم ، وتزاحم في المصالح ، فحكم الإمام الحسن عليه‌السلام مصلحة ، والحفاظ على بيضة الإسلام مصلحة ، فصلح الإمام عليه‌السلام هو تقديم مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة حكمه (١) ، خاصة أن الظروف كانت تعاكسه تماماً بعد أن خذله جماعته ، وهرب منه قادة جيشه ، كما حدث لنبيِّ الله هارون عليه‌السلام عندما جعله موسى عليه‌السلام خليفة على بني إسرائيل ، فأضلّهم السامريُّ ، وعبدوا العجل ، فصبر هارون على ذلك لمصلحة عدم التفريق بين بني إسرائيل ، قال تعالى : ( قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) (٢).

قال الدكتور : هذا الكلام ضعيف جداً ، ويمكن أن يقال كتبرير لاجتهاده

__________________

١ ـ روى أبو الحسن المدائني ، قال : خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الكوفة وصلح الحسن عليه‌السلام له ، فأرسل معاوية إلى الحسن عليه‌السلام يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج ، فقال الحسن : سبحان الله! تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأمَّة وألفتهم ، أفتراني أقاتل معك! راجع : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦/١٤.

٢ ـ سورة طه ، الآية : ٩٤.

٤٥٠

الخاطئ إذا قلنا بالرأي الثاني ، إنّه اجتهد وأخطأ ، وسبب اجتهاده وخطأه هو ما ذكرته ، فكلامك ينسجم مع القول الثاني لا القول بالعصمة.

قال الشيخ معصتم : .. ولكن هذا لا ينفي أن يكون معصوماً ، خاصة أنّ عصمته ثابتة بالقرآن والسنة وبحكم العقل ، وبعد ثبوت العصمة لا يمكن أن يقدح فيها لوجود حادثة لم تفهم مقاصدها ، وإلاَّ يعتبر خلفاً.

قال الدكتور : خُلف بالنسبة لكم ، أمَّا نحن فلا نسلِّم بالعصمة.

قال الشيخ معتصم : إذن يتحدَّد النقاش ويتعيَّن في مسألة العصمة والأدلّة عليها ، أمَّا صلح الإمام الحسن عليه‌السلام فلا يكون كافياً لإثبات العصمة أو نفيها ، وخاصَّة أنه كان صلح المغلوب على أمره ، وليس هو كعبد الله بن عمر ، فإنّ عبدالله لا يشكِّل خطراً على الدولة الأمويّة كالإمام الحسن عليه‌السلام ، ولذلك كان أخذ البيعة منه من أهمِّ الأمور ، حتى وإن لم يبايع كل المسلمين ، فبالتالي لا يكون هنالك ملازمة بين صلحه وما جرى على المسلمين في العهد الأموي ؛ لأنه لا خيار غيره.

قال الدكتور : هذا الكلام غير مقنع وكاف ، وكل الشيعة يقولون بالظروف.

وفي هذه الأثناء دخل عينا الدكتور أبشر العوض ، وهو متخصِّص في علم الحديث ، وقد كان أستاذي في الجامعة في علم مصطلح الحديث ، فما إن رآني حتى سلَّم عليَّ ببشاشة ، وقال : أين هذه الغيبة الطويلة؟

وقبل أن أجيب تدخَّل الدكتور عمر قائلا : معتصم الآن صار من الشيعة الكبار ، وقد درس في الحوزة العلميّة ، وله كتاب اسمه « الحقيقة الضائعة ».

قال الدكتور أبشر : وما هي المواضيع التي تناقشها في هذا الكتاب؟

قلت : موضوعه هو الخلاف بين السنّة والشيعة ، وقد أثبتُّ فيه ممَّا لا يدع

٤٥١

مجالا للشك أن الشيعة هي الطائفة المحقّة ، وغيرها باطل وضلال.

وهنا تدخَّل الدكتور عمر قائلا : أيّ فرقة في الشيعة تقصد؟ الزيديّة ، أم الإماميّة ، أم الإسماعيليّة؟ فالفرق الشيعيّة متعدِّدة ، فأيُّها الحقُّ؟

قال الشيخ معتصم : سماحة الدكتور! بغضّ النظر عن هذه التفاصيل ، فنحن الآن أمام إطار عام وعناوين مجرّدة ، وبعد تجاوزها يكون المجال مفتوحاً لمناقشة التفاصيل ، والإطار العام هو وجوب اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام والأخذ عنهم ، ويمكننا أن نثبت هذا الإطار بشتّى الطرق ، سواء كان قرآناً أو سنّة ، ويكفيك مفارقة واحدة بين السنّة والشيعة ، وهو أخذ الشيعة بحديث : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي (١) ، وتمسّك أهل السنة بحديث « كتاب الله وسنّتي » وهذا الشاهد كاف في الحكم بأحقّيّة الشيعة ، وبطلان أهل السنّة في هذه الحيثيّة ، وهكذا يمكن أن نتدرَّج في بقيَّة المسائل.

وهنا واصل الدكتور عمر قائلا : إنّ حديث العترة نؤمن به ، ولكن لا نفهم منه ما فهمته الشيعة ، فإنّ الحديث يدلّ على التمسُّك بالقرآن فحسب.

قال الشيخ معتصم : قلت : سبحان الله! إنّ واو العطف في الحديث واضحة « كتاب الله وعترتي » هذا بالإضافة إلى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الثقلين » ، « ما إن تمسَّكتم بهما ».

عارضني قائلا : ليس كل واو دالة على العطف ، فإن للواو معاني عدَّة ، ولقد كتبت رسالة خاصة في هذا المورد.

__________________

١ ـ تقدَّمت تخريجاته في المناظرة الخامسة.

٤٥٢

قال الشيخ معتصم : لا خلاف في ذلك ، ولكن معنى كل حرف يعرف من خلال السياق العام للجملة ، فسياق الحديث واضح في العطف في قوله « الثقلين » ، و « ما إن تمسَّكتم بهما » كافية لإثبات المدّعى ، وهو وجوب اتباع أهل البيت عليهم‌السلام.

قال الدكتور : على العموم ، ليس لنا اعتراض على مذهب أهل البيتعليهم‌السلام، ونحن نعتقد أنّه الحقُّ ، ولكنّه لم يتعيَّن لنا ، ولو تعيَّن لكنت أول الناس اتّباعاً له.

قال الشيخ معتصم : قلت : لماذا تتبعه؟

قال الدكتور : لأنّه الحقُّ.

قال الشيخ معتصم : قلت : وما عليه أنت الآن؟! فإذا كان مذهب أهل البيت عليهم‌السلام فقد تعيَّن لك ، وإن كان لا ، فإذن أنت على ضلالة ، بحكمك على نفسك.

قال : هذه سفسطة!

وفي هذه الأثناء استأذن الدكتور أبشر ، وأخذ يتحدَّث مع الدكتور عمر في موضوع جانبيٍّ ، فاستأذنته وخرجت ؛ لعلمي أنّه ليس هناك فائدة (١).

كلمة في صلح الإمام الحسن 7 وشروطه

إن الذي يعتقد بأن الإمام الحسن عليه‌السلام إمام معصوم مفترض الطاعة يحكم بلا شك أن الإمام عليه‌السلام لا يفعل إلاّ الصواب ، وليس للعبد إلاّ التسليم لإمامه ومولاه ، هذا وقد بين الإمام الحسن عليه‌السلام من خلال كلماته الشريفة الأسباب التي

__________________

١ ـ ( حوارات ) للكاتب السوداني المستبصر ، الفاضل الشيخ معتصم السيّد أحمد السوداني : ٩٥ ـ ١٠٠.

٤٥٣

دعته إلى الصلح ، فهو عليه‌السلام الإمام المفترض الطاعة سواء كانت بيده الخلافة أم لم تكن ، وليس له غرض في الخلافة إلاّ إصلاح الناس ، ما أمكنه ذلك ، وهو نفس أبيه بين جنبيه ، وكما قال أبوه علي أمير المؤمنين عليه‌السلام لابن عباس كما في نهج البلاغة ، لما دخل عليه وهو يخصف نعله قال له : ما قيمة هذا النعل؟ فقال له ابن عباس : لا قيمة لها ، فقال عليه‌السلام : والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلا (١) وقال عليه‌السلام : لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشة (٢).

فأهل البيت عليهم‌السلام ليسوا كسائر الناس الذين يقاتلون في سبيل الحكم ، والخلافة حتى ولو تعرض الناس إلى سفك دمائهم وانتهاك حرماتهم ، وهدر كرامتهم ، وإليك هنا بعض كلماته عليه‌السلام في أسباب الصلح.

روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن أبي سعيد عقيصا قال : قلت للحسن ابن علي بن أبي طالب عليه‌السلام : يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته ، وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟

فقالعليه‌السلام: يا أباسعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه ، وإماما عليهم بعد أبي عليه‌السلام؟ قلت : بلى ، قال : ألست الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي ولأخي : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت : بلى ، قال : فأنا إذن إمام لو قمت ، وأنا إمام إذا قعدت ، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبني ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ، ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل ، يا أبا سعيد إذا كنت إماما من

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ١/٨٠ ، رقم : ٣٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام ، رقم : ٣٦.

٤٥٤

قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة ، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا ، ألا ترى الخضر عليه‌السلام لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى عليه‌السلام فعله ، لا شتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي ، هكذا أنا سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه ، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلاّ قتل (١).

وروي أنه قال عليه‌السلام أيضاً لما عاتبه بعضهم : ما أنا بمذل المؤمنين ولكني معز المؤمنين ، إني لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة سلمت الأمر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم ، كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها وكذلك نفسي وأنتم لنبقى بينهم (٢).

وعن أبي العريف قال : كنا في مقدمة الحسن بن علي عليه‌السلام اثني عشر ألفا مستميتين حرصاً على قتال أهل الشام ، فلما جاء الحسن الكوفة أتاه شيخ منا يُكنى أبا عمر وسفيان بن أبي ليلى فقال : السلام عليك .. فقال عليه‌السلام : لا تقل يا أبا عمرو ، فإني لم أذل المؤمنين ، ولكن كرهت أن أقتلهم في طلب الملك. خرجه أبو عمر (٣).

وعن جبير بن نفير قال : قدمت المدينة فقال الحسن بن علي عليه‌السلام : كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ، ويحاربون من حاربت ، فتركتها

__________________

١ ـ علل الشرائع ، الصدوق : ١/٢١١ ح ٢ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٤٤/١ ح ٢.

٢ ـ تحف العقول ، ابن شعبة الحراني : ٣٠٨ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٧٥/٢٨٧.

٣ ـ ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : ١٣٩ ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ١٠/٣٠٥ ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣/١٧٥ ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ١٣/٢٧٩ ، تهذيب الكمال ، المزي : ٦/٢٥٠.

٤٥٥

ابتغاء لوجه الله تعالى ، وحقن دماء المسلمين. خرجه الدولابي (١).

وروى الدينوري عن علي بن محمّد بن بشير الهمداني ، قال : خرجت أنا وسفيان ابن ليلى حتّى قدمنا على الحسن المدينة ، فدخلنا عليه ، وعنده المسيب بن نجبة وعبدالله بن الوداك التميمي ، وسراج بن مالك الخثعمي ، فقلت : ( السلام عليك ... قال : وعليك السلام ، اجلس ، لست مذل المؤمنين ، ولكني معزهم ، ما أردت بمصالحتي معاوية إلاّ أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب ، ونكولهم عن القتال ، ووالله لئن سرنا إليه بالجبال والشجر ما كان بد من إفضاء هذا الأمر إليه (٢).

وجاء في شرح النهج لابن أبي الحديد : التفت حجر بن عدي إلى الحسن عليه‌السلام ، فقال : ... إنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبوا. فتغير وجه الحسن عليه‌السلام ، وغمز الحسين عليه‌السلام حجرا ، فسكت ، فقال الحسن عليه‌السلام : يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب ، ولا رأيه كرأيك ، وما فعلت إلاّ إبقاء عليك ، والله كل يوم في شأن (٣).

وجاء في كتاب الإمامة والسياسة من كلام لهعليه‌السلامفي ذلك : ... ولكني أشهد الله وإياكم أني لم أرد بما رأيتم إلاّ حقن دمائكم ، وإصلاح ذات بينكم ، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله ، وسلموا لأمرالله ، والزموا بيوتكم ، وكفوا أيديكم (٤).

فالخلاصة نستفيد من مجموع هذه الكلمات الشريفة أن الأمور في زمانه

__________________

١ ـ ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : ١٣٩.

٢ ـ الأخبار الطوال ، الدينوري : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦/١٥.

٤ ـ الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : ١/١٨٦.

٤٥٦

وصلت حدا لا يمكن معها أن يزج بجيش أهل العراق في حرب مع معاوية مع كثرة المتخاذلين ، وتفشي الخلاف عليه ، وقلة الأنصار ، فكان حاله مختلف عما كان عليه الحال في زمن أبيه أميرالمؤمنين عليه‌السلام ولهذا وجد عليه‌السلام أن يصونهم عن سفك دمائهم ، والإبقاء عليهم خير من أن يعرضهم لأمر لا منفعة فيه ، وضرره بيِّن ، وقد أغرى معاوية ضعاف النفوس ، وشرى منهم أديانهم ، والناس تبع الدنيا أين ما مالت مالوا معها ، وكما قال سيد الشهدا أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام : إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادرت معائشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون (١).

والإمام الحسن عليه‌السلام صالح ولكن بشروط ومواثيق أخذها على معاوية ، وهي كفيلة أن تعيد الحق إلى نصابه لو التزم معاوية بالوفاء بها ، ولكنه الغدر الذي ما نفك عن معاوية ابن آكلة الأكباد؟

قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة : وأمَّا جنايات معاوية على ذلك الإمام المطهَّر فقد سارت بها الركبان ، وحفظ التاريخ له منها صحائف مشوّهة المجلى ، مسودّة الهندام ، فهو الذي باينه وحاربه ، وانتزع حقَّه الثابت له بالنصِّ والجدارة ، وخان عهوده التي اعترف بها عندما تنازل الإمام عليه‌السلام له بالصلح حقناً لدماء شيعته ، وحرصاً على كرامة أهل بيته ، وصوناً لشرفه الذي هو شرف الدين. إلى أن قال :

فعهد إليه عليه‌السلام أن لا يسبَّ أباه عليه‌السلام على منابر المسلمين ، وقد سبَّه وجعله سنّة متبعة في الحواضر الإسلاميّة كلِّها ، وعهد إليه أن لا يتعرَّض بشيعة أبيه الطاهر بسوء ، وقد قتلهم تقتيلا ، واستقرأهم في البلاد تحت كل حجر ومدر ، فطنَّب عليهم الخوف في كل النواحي ، بحيث لو كان يقذف الشيعيُّ باليهوديَّة

__________________

١ ـ تحف العقول ، الحراني : ٢٤٥.

٤٥٧

لكان أسلم له من انتسابه إلى أبي تراب سلام الله عليه.

وعهد إليه أن لا يعهد إلى أحد بعده ...

ولمَّا تصالحا كتب به الحسن عليه‌السلام كتاباً لمعاوية صورته : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي عليهما‌السلام معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية المسلمين ، على أن يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنَّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، إلى أن قال : وعلى أنَّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى ، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى أن أصحاب عليٍّ وشيعته آمنون على أنفسهم و أموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وأن لا يبتغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غائلة سرّاً وجهراً ، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق ، أشهد عليه فلان ابن فلان وكفى بالله شهيداً (١).

فلمَّا استقرَّ له الأمر ودخل الكوفة وخطب أهلها فقال : يا أهل الكوفة! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج؟ وقد علمت أنكم تصلُّون وتزكُّون وتحجُّون ، ولكنني قاتلتكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم ( إلى أن قال ) : وكل شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين (٢) (٣).

__________________

١ ـ الصواعق المحرقة ، ابن حجر : ٢٠٩ ـ ٢١٠ ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ٢/٤٢٥ ـ ٤٢٦ ح ١٩٣ ، كشف الغمّة ، الإربلي : ٢/١٩٣.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦/١٤ ـ ١٥ ، مقاتل الطالبيين ، الإصبهاني : ٤٥.

٣ ـ الغدير : الأميني : ١١/٥.

٤٥٨

أقول : كل إناء بما فيه ينضح ، فهل بعد هذا كله أترى عذراً لأُولئك الذين يدافعون عن معاوية ويلتمسون له الأعذار ، أو حينما يعدونه في جملة الصحابه الذين يُترضى عنهم ، وأنه أحد النجوم الذين ( بأيهم اقتديتم اهتديتم ) ومن كان هذا حاله في عدم الوفاء بالعهود ، واتخاذه الغدر سنة وعداوته لعترة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهل يرتجى منه الهداية أو يهتدى به؟!

٤٥٩

المناظرة الثامنة والأربعون

مناظرة

أم محمّد علي المعتصم السودانيّة

مع خالها وقصّة تشيُّعها

وطرق التشيُّع بابنا

الأستاذة السيِّدة أم محمّد علي المعتصم السودانيّة تحكي عبر هذا الحوار العلميِّ والموضوعيِّ والشيِّق مع خالها الشيعي قصة تشيُّعها وأخذها بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، حاكية في بداية البحث ما انتابها من الهواجس والتفكير والحيرة في شأن التعرُّف على العقيدة الحقّة واتّخاذ القرار.

قالت في كتابها القيِّم ( من حقّي أن أكون شيعيّة ) : وفي غمرة تلك الهواجس التي تتزاحم على خاطري كان في بيتنا ازدحام من نوع آخر ، فقد بدأ الأهل بحزم أغراضهم بقصد السفر إلى قريتنا في شمال السودان ، فهناك مناسبة زواج ابن عمّي ، وفي تلك المناسبة تجتمع كل العائلة قادمة من كل مدن السودان ، فظروف العمل تفرّق البيت الواحد ، وتفصل الأحبّة عن الأحبّة ، خاصّة أن المسافات في السودان بين المدن كبيرة ، ويتعسّر على الأهل مقابلة بعضهم إلاَّ في بعض المناسبات.

ففرحة اللقاء بالأهل والأقارب أسكنت ذلك البركان الذي يتنفّس في

٤٦٠