مناظرات المستبصرين

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات المستبصرين

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٩

بزمن ، ونحن مستعدُّون أن نجلس معك أسبوعاً كاملا ، ونطرح كل العقائد الشيعيّة من الألف إلى الياء.

قال : إن المناظرة لابدَّ أن تنسَّق مع جماعة أنصار السنّة المحمديَّة في الجامعة.

قلت : أنا أريدها معك أنت شخصيّاً ، فلا تحتاج إلى تنسيق.

قال : تكلَّم براحتك .. وكأنه هاربٌ من المناظرة.

مفهوم التشيع ونشاءته التاريخية

وبعدما فسح لي المجال للتحدّث ، رأيت أنّه من الأنسب أن لا أعتمد على منهجيّة الردِّ وحسب ، وإنما أقوم بتوضيح عام لمفهوم التشيُّع ونشوئه التاريخي ومصادره ، بمثابة مقدّمة تأصيليّة.

فقلت : إنّ التشيُّع ليس وليد اللحظة ، ولا وليد حالة تأريخيّة معيَّنة كما يقول البعض : إنّ التشيّع نشأ بعد حرب الجمل ، أو كما يقال : التشيّع أصبح خطّاً في الأمّة الإسلاميّة بعد حادثة كربلاء الأليمة التي ولَّدت تيَّاراً عاطفيَّاً عنيفاً في نفوس المسلمين ، ممَّا جعلهم يتبنّون أهل البيت عليهم‌السلام باعتبارهم قيادةً للمسلمين ، وليس كما يقول المجحفون إنّ التشيُّع وليد الذهنيّة اليهوديَّة التي تمثَّلت في شخصيَّة عبدالله بن سبأ.

إن الناظر إلى التشيُّع بروح موضوعيَّة ، يرى أنه ضارب جذوره في عمق الرسالة المحمديَّة ، فهو كمفهوم واضح من خلال النصّ القرآني ، والأحاديث النبويّة ، فإنّه لا يتجاوز أن يكون نظرة عميقة في سنن الله سبحانه وتعالى ، التي نستخلص منها ضرورة اصطفاء أئمّة وقادة ربانيين ، يتكفَّلون بقيادة البشريّة إلى

٤٠١

نور الهداية ، فالضرورة العقليّة تحتّم وجود إمام من قبل الله ليقود هذه الأمة ، وتؤيِّد هذه الضرورة العقليّة النصوص الشرعيّة التي نجدها ظاهره في تنصيب الأئمة واصطفاء القادة ، فما من مجتمع بشريٍّ مرَّ على تأريخ الإنسانية إلاّ وكان فيه قيادة إلهيَّة تمثِّل حجّة الله على العباد ، فقد أرسل الله مائة وأربعة وعشرين ألف نبيٍّ كما في بعض الروايات ، ولكل نبيٍّ وصيّ يحفظ خطَّ الرسالة من بعد النبيِّ.

وما لاقته الأمّة الإسلاميَّة من تمذهب وفرقة ما كان إلاَّ لفقدان المرجعيَّة الواحدة ، المصطفاة من قبل الله ، وممّا ثبت بالضرورة أنّ فترة وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان المسلمون كياناً واحداً ؛ لوجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم ، وكذلك إذا فرضنا وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليوم لكانت الأمّة الإسلاميّة جسداً واحداً ، فيتّضح بذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمثّل صمّام أمان لهذه الأمّة ، فمجرَّد ما انفلت صمَّام الأمان انفلت الوضع من بعده ، فماذا كان يمثّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

كان يمثّل المرجعيّة المعصومة والقيادة الواحدة ، فيثبت من ذلك أنّ الطريق الوحيد لعصمة الأمّة هو وجود قيادة إلهيَّة معصومة ، وهذا ما تتبنّاه الشّيعة ، ومن هنا كان من الضروريِّ أن ينصب الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إماماً لقيادة المسلمين ، والذي ينكر التنصيب ـ بمعنى أنّ الله لم يعيِّن إماماً ـ يكون بذلك نسب سبب الضلالة إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فهذا هو مفهوم الإمامة ، ولا أتصوَّر أنّ أحداً من المسلمين ينكر الإمامة كضرورة ومفهوم ، ولكنّ الخلاف كل الخلاف في مصاديق الإمامة الخارجيَّة ، فإنّ الشيعة تعتقد أنّ الإمامة جارية في ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلموأهل بيتهعليهم‌السلام، ولم يكن هذا مجرّد افتراض جادت به قريحة الشيعة ، وإنما هو نص قرآني وحديث

٤٠٢

نبوي ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما جاء في الحاكم : أوحى إليَّ في عليٍّ ثلاثة : أنّه سيِّد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغرِّ المحجَّلين (١) ، وحديث جابر بن عبدالله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذٌ بضبع علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو يقول : هذا إمام البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله (٢) ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مرحباً بسيِّد الموحِّدين ، وإمام المتقين ، وعن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأئمة من ولدي ، فمن أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصى الله ، هم العروة الوثقى ، والوسيلة إلى الله جلَّ وعلا (٣) ، ومئات الأحاديث.

فما ذنب الشيعة بعد ذلك إذا والوا علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأخذوا دينهم منه ، فهو المسار الطبيعي للرسالة ، ولو لاه لم يعرف للدين معنى.

ولذلك نجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد كثيراً على ضرورة الإمامة ، وإمامة عليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام بالذات ، وهذا هو التشيُّع ، فهل لكم معنى آخر للتشيُّع حتى تنسبوه إلى عبدالله بن سبأ؟! بل كلمة الشيعة نفسها لم تكن مصطلحاً غريباً على

__________________

١ ـ المستدرك ، الحاكم : ٣/١٣٧ ـ ١٣٨ ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، المناقب ، الخوارزمي : ٣٢٨ ح ٣٤٠ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢/٣٠٢ ، أسد الغابة ، ابن الأثير : ١/٦٩ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ١/٧٨ و٩/١٢١ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٩/١٦٩ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٤/١٥٣.

٢ ـ المستدرك ، الحاكم : ٣/١٢٩ ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ٣/١٨١ ، رقم : ١٢٠٣ و٤/٤٤١ ، رقم : ٢٢٣١ ، فتح الملك العلي ، المغربي : ٥٧ ، المناقب ، الخوارزمي : ١٧٧ ح ٢١٥ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢/٢٢٦ و٣٨٣ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١/٦٠٢ ح ٣٢٩٠٩ ، فيض القدير ، المناوي : ٤/٤٦٩ ح ٥٥٩١.

٣ ـ ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ٢/٣١٨ ح ٩١٨.

٤٠٣

الأمّة الإسلاميّة ، فقد عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تثبيت هذا المصطلح وتأصيله في ذهنيَّة الأمّة الإسلاميّة ، كما جاء في حديث جابر قال : كنّا عند النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل عليٌّ عليه‌السلام ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والذي نفسي بيده ، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » فأنزل قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (١) ، وكما جاء عن ابن عباس قال : لمَّا أنزل الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيَّين ، ويأتي عدوُّك غضاباً مقمحين (٢).

وغير هذه الروايات الواضحة في تحديد مسار الأمَّة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذلك نجد أنّ لهذه الروايات مصاديق وترجمة خارجيَّة من مجموعة من الصحابة كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والمقداد ، حتى أصبح لفظ الشيعة لقباً لهم. ذكر أبو حاتم في كتابه الزينة : إنّ أوّل اسم لمذهب ظهر في الإسلام هو الشيعة ، وكان هذا لقب أربعة من الصحابة : أبو ذر ، وعمار ، والمقداد ، وسلمان الفارسي (٣).

هذا بالإضافة لوجود كثير من الآيات والأحاديث التي توجب اتّباع أهل

__________________

١ ـ سورة البيِّنة ، الآية : ٧.

٢ ـ شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ٢/٤٦٠ ـ ٤٦١ ح ١١٢٦ ، النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ٤/١٠٦ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٦/٣٧٩ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ٩٢ ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ٢/٤٥٢ ح ٢٥٤ ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : ٢٤٦ ، الآية الحادية عشر.

٣ ـ ذكره في باب الألفاظ المتداولة بين أهل العلم.

٤٠٤

البيت عليهم‌السلام خاصّة ، وأخذ الدين عنهم ، كقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١).

من الضروريِّ أن لا يكون الله طهّرهم من الذنوب عبثاً ، وإنّما تطهيرهم مقدِّمة لاتّباعهم وأخذ الدين منهم ، كما جاء في الحديث : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن العليم الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (٢).

وهذا يدلُّ على أن البعد عن الضلالة لا يتحقّق إلاَّ باتّباعهم وأخذ الدين منهم ، حتى السلف الصالح لا يسمّى صالحاً إلاَّ إذا أخذ دينه عن أهل البيت عليهم‌السلام ، فبأيِّ حجّة بعد ذلك تقول : إن أخذ الدين لابد أن يكون عن طريق السلف؟ وأيَّ سلف تقصد؟ هل الذين لم يتفقوا في أبسط الأحكام الفقهيّة كاختلافهم في قطع يد السارق ، فهل تقطع من أصل الأصابع كما قال بعض الصحابة أو من الكفّ ، أو من المرفق ، أو من الكتف كما قال آخرون (٣)؟

فمن الضروريِّ أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بلَّغ حكماً واحداً لا أحكاماً متعدّدةً ، وهذا يدلُّ على أن الصحابة هم الذين أخطأوا ، فكيف نعتمد على قولهم ، وندين الله تعالى باتّباعهم؟

هل هناك دليل على وجوب اتباع السلف؟

فإذن ليس كما ذهبت أنّ الطريق هو متابعة كل السلف الذين اقتتلوا ،

__________________

١ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

٢ ـ تقدمت تخريجاته في المناظرة الخامسة.

٣ ـ راجع : بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، وتفسير الفخر الرازي في تفسير الآية الشريفة : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) سورة المائدة ، الآية : ٣٨.

٤٠٥

وكفَّروا بعضهم ، وإنّما يؤخذ الدين عن شريحة خاصة كفل الله عصمتهم من الاختلاف ، وهم أهل البيت عليهم‌السلام الذين تواترت الروايات في حقِّهم ، ووجوب اتباعهم.

أسألك بالله إن كنت صادقاً فيما تقول ، أن تثبت لي دليلا واحداً يقتضي بوجوب اتباع السلف؟! واستدلالك ببعض الآيات كقوله تعالى : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ) (١) فإنها لا يمكن أن تحمل على مطلق السلف ، وإنّما هي عامّة ، وتخصيصها يحتاج إلى دليل ، ولا توجد قرائن تخصّصها إلاَّ ما جاء في حقِّ أهل البيت عليهم‌السلام ، ولا يمكن أن تحملها على مطلق السلف كما ثبت من وقوع الاختلاف بينهم.

ولا نقبل استدلالك بقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) (٢) فإنّها لا تتجاوز أن تكون مدحاً ، وإن تنازلنا وسلّمنا بظهورها فيما تدّعي فإن الظهور لا يقابل النصوص الواضحة القاطعة بوجوب اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام.

ونحن ندري أنّ مشكلتكم ليست الأدلّة والبراهين الواضحة في وجوب اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنكم لم تكونوا سلفيين بمحض إرادتكم ، وإنَّما هذا ما ورثتموه من التاريخ الجائر للحكمين الأموي والعباسي ، الذي عمل جهده حتى يورث الأمَّة تيَّاراً يواجه أهل البيت عليهم‌السلام ، وإلاّ ما كرّرت أنت نفس مالاكه علماؤك الأقدمون ، الذين صنعتهم السلطات الجائرة ، ليشوِّهوا صورة التشيُّع.

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية : ١١٥.

٢ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٩.

٤٠٦

لا علاقة للتشيّع بعبدالله بن سبأ

بالله عليك ، هل هناك عاقل له قليل اطّلاع بالمذهب الشيعيِّ يكون صادقاً مع نفسه إذا نسبه إلى عبدالله بن سبأ؟ نعم قد يكون الجاهل معذوراً ، ولكن ما عذر من يكرّر الجهل ويتبّناه من غير دراية وتحقيق ، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين ، فكيف تتحدَّثون عن الشيعة وكأنهم مخلوق غريب لا ارتباط لهم بالإنسانيّة ، ويعيشون في كوكب غير كوكبنا؟

عزيزي! إنّ الوسائل قد تغيَّرت ، فاتركوا ما ورثتموه عن سلفكم ، ابحثوا عن وسائل جديدة في الردِّ على الشيعة ، فزمنهم غير زمنكم ، فقد تعدَّدت وسائل المعارف ، فهذه الكتب الشيعيّة متوفِّرة في كل مكان فاطّلعوا على براهينهم ، وهذه البلاد الشيعيّة زوروها ، وقفوا على أحوالهم.

وكان بإمكاني أن لا أردّ على ما ذكرت ؛ لأنه لا يرقى إلى مستوى الفكر والنقاش ، ولكن تنازلا أعقّب على ما ذكرته في حديثك.

أولاً: إنّ نسبة الشيعة إلى عبدالله بن سبأ ، يرجع إلى ما رواه الطبري ، وهو أول راوي لذلك ، أمَّا بقية المؤرِّخين فإنهم أخذوا منه ، وروى الطبري ذلك عن سيف بن عمر ، وسيف معروف قدره عند علماء الجرح والتعديل(١)، فإنه رجل

__________________

١ ـ قال يحيى بن معين ـ ت ٢٣٣ هـ ـ : ضعيف الحديث ، فلسٌ خير منه ، وقال أبو داوود ـ ت ٢٧٥ هـ ـ : ليس بشيء كذّاب ، وقال النسائيي صاحب الصحيح ـ ت ٣٠٣ هـ ـ : ضعيف ومتروك الحديث ، ليس بثقة ولا مأمون ، وقال ابن حاتم ـ ت ٣٢٧ هـ ـ : متروك الحديث ، وقال ابن عدي ـ ت ٣٦٥ ـ : يروي الموضوعات اُتهم بالزندقة ، وقال : قالوا : كان يضع الحديث ، وقال الحاكم ـ ت٤٠٥ هـ ـ : متروك ، وقد

٤٠٧

كاذب ومدلِّس ، ولا يؤخذ برواياته ، وللمزيد ارجع إلى كتاب عبدالله بن سبأ وأساطير أخرى للعلامة السيد مرتضى العسكري.

ثانياً : حتى لو سلّمنا بهذه الروايات فإنها لا تقول بأن عبدالله بن سبأ هو مؤسّس الشيعة ، فكل ما فيها أنّ هذا الرجل ادّعى أنّ لكل نبيٍّ وصيّاً ، وأنّ وصيَّ محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عليٌّ عليه‌السلام ، وهذا ليس من مبتكرات عبدالله بن سبأ ، وإنما صرَّح به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل ، فإذا كان قول الشيعة مطابقاً لقول ابن سبأ ، فما هو وجه الملازمة بين هذا وبين أن يكون هو مؤسّس الشيعة؟ فما هو وجه الشبه حتى تربط بين الأمرين؟ ولعمري إنها لسخافة في الرأي.

أمَّا تأليه عليٍّ عليه‌السلام وأنّ عليّاً عليه‌السلام أحرق أتباعه بالنار ، فإن الشيعة لا تؤمن بذلك ، وإنما نعتقد أن عليّاً عليه‌السلام عبدٌ صالح من عباد الله الصالحين ، اختاره الله لحمل رسالته من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثالثاً : ما كانت هذه الفرية إلاَّ حلقة من مسلسل الوضع على الشيعة ، كما قال طه حسين : ( ابن سبأ شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ، ولا وجود له في الخارج ) وتستهدف هذه المحاولة تشويه عقائد الشيعة التي تنبع من القرآن والسنة ، مثل الوصيَّة والعصمة ، فلم يجد أعداؤهم طريقاً إلاَّ ربط هذه العقائد بجذر يهوديٍّ ، يكون بطلها شخصاً خياليّاً اسمه عبدالله ابن سبأ ، فيلقى اللوم بذلك عليه وعلى الذين أخذوا منه ، وهذا بالإضافة إلى تعديل صورة الصحابة

__________________

اتهم بالزندقة ، وهاهُ الخطيب البغدادي ، ونقل ابن عبد البرّ عن ابن حيان أنه قال فيه : سيف متروك ، وإنّما ذكرنا حديثه للمعرفة ، ولم يعقِّب ابن عبد البرِّ عليه ، وقال الفيروز آبادي : صاحب توالف ، وذكره مع غيره وقال عنهم : ضعفاء ، وقال ابن حجر بعد إيراد حديث ورد في سنده اسمه : فيه ضعفاء أشدُّهم سيف ، وقال صفي الدين : ضعَّفوه ، وروى له الترمذي فرد حديث.

٤٠٨

وتنزيههم عن اللوم والعتاب ، بما جرى بينهم من فرقة واختلاف انتهت بقتل عثمان ، وحرب الجمل التي تعتبر أكبر فاجعة بعد حادثة السقيفة ، حيث راح ضحيَّتها آلاف من الصحابة ، وما هذه القصة المفتعلة عن ابن سبأ إلاَّ تغطية على تلك الفترة الزمنيّة الحرجة ، فألقوا مسؤوليَّة ما حدث على هذه الشخصيّة الوهميّة وأسدلوا الستار ، ومن غير ذلك يكون الصحابة أنفسهم مسؤولين عمَّا حدث ، من انشقاق الأمَّة ، وتفرّقهم إلى مذاهب ومعتقدات شتى ، ولكن هيهات يتسنَّى لهذا الدخيل أن يعبث حتى غيَّر تاريخ الإسلام العقائدي ، والصحابة شهود على ذلك!! فإذا لم يكن الصحابة قادرين على قيادة الأمّة إلى برِّ الأمان في حياتهم ، فكيف يقودون الأمَّة بعد وفاتهم ، فالذي فشل في حياته كيف ينجح بعد مماته؟!

الدليل على ولاية علي بن أبي طالب 7 وخلافته

وعندما كنت أتحدَّث كان بعض الوهابيّة يصيحون : الزمن ، الزمن ، ولكن المحاضر صامت وكأنّ على رأسه الطير ، ولم يتفوّه بكلمة واحدة ، وشعرت بأنه يطلب المزيد ، ولذلك ما إن وضعت لاقطة الصوت وقلت : لنا عودة ، قال : أسألك سؤالا ، هل عندك دليل على ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام وخلافته؟

قلت : من القرآن والسنة ، والعقل ، والتاريخ ، فأيّها تحبُّ؟

قال : من القرآن.

فحمدت الله في سرّي على هذه الفرصة الجديدة ، وقلت : إنّ الآيات كثيرة في ذلك ، وسوف أذكر لك بعضها مع التوضيح :

٤٠٩

الآية الأولى : آية ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ ... ).

أولاً : قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١).

هذه الآية تطرح نفس ما قلناه ، وتؤكِّد أولا : ضرورة الولاية في الدين ، وثانياً : استمراريّة ولاية الله ، وهي السلطة والحاكميّة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ من بعده الذين آمنوا الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون.

أمَّا ولاية الله فهي ثابتة بالذات ، وأمَّا ولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين آمنوا فهي بالتبع ، فولاية الله في الأرض وحكومته لا تتمُّ إلاَّ باصطفاء بشر أعطاهم الله القدرة التي تؤهّلهم على أن يكونوا امتداداً لحكومة الله في الأرض ، فلا يحقُّ للإنسان ، مطلق الإنسان ، أن يتصرَّف في إدارة البلاد والعباد من غير إذن الله ؛ لأنّ الله هو الحاكم ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (٢) ولا تتمُّ حكومته في الأرض إلاّ إذا اصطفى الله حاكماً من عباده ، ولذلك جاءت هذه الآية القرآنيّة صريحة في هذا المجال ، فأثبتت أولا : ولاية الله ، ثمَّ أجرت هذه الولاية على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ صرَّحت أن الولاية من بعد الرسول تكون مستمرَّة في الذين آمنوا وآتوا الزكاة في حال الركوع.

فدلالة هذه الآية على ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام تكون واضحة إذا اتضح أنّ المراد من قوله تعالى ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) هو علي بن أبي طالبعليه‌السلام، والحمدلله إنّ هذا المعنى ثابت ؛ لما تواتر

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٥٥.

٢ ـ سورة الأنعام ، الآية : ٥٧.

٤١٠

من الأخبار في نزول هذه الآية بخصوص علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأذكر لكم هنا ما جاء عن أبي ذر الغفاري في رواية طويلة أخرجها عنه الحاكم الحسكاني ( ج١ ص ١٧٧ ط. بيروت ) بسنده.

قال أبو ذر الغفاري : أيُّها الناس! من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذرٍّ الغفاري ، سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين وإلاَّ فصمَّتا ، ورأيته بهاتين وإلاَّ فعميتا ، وهو يقول : عليٌّ قائد البررة ، قاتل الكفرة ، منصور من نصره ، ومخذول من خذله ، أما إني صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء ، وقال : اللهم اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعطني أحدٌ شيئاً ، وكان علي عليه‌السلام راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى ، وكان يتختّم فيها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمَّا فرغ النبي من صلاته رفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) ، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ) (٢) ، اللهم وأنا محمّد نبيُّك وصفيُّك ، اللهم فاشرح صدري ، ويسرّ لي أمري ، وجعل لي وزيراً من أهلي ، عليّاً أخي ، اشدد به أزري.

قال : فوالله ما استتمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمالكلام حتى نزل عليه جبرئيلعليه‌السلام من

__________________

١ ـ سورة طه ، الآية : ٢٥ ـ ٣٢.

٢ ـ سورة القصص ، الآية : ٣٥.

٤١١

عند الله ، وقال : يا محمّد! هنيئاً ما وهب لك في أخيك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما ذاك يا جبرئيل؟ قال : أمر الله أمّتك بموالاته إلى يوم القيامة ، وأنزل عليك ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ) ... إلى آخر الآية (١).

فيكون معنى الآية بعد ذلك : إنما وليُّكم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام. ولا يستشكل أحد ، كيف خاطب الله الفرد بصيغة الجمع؟ لأنه أمر جائز في لغة العرب ، وهو ضرب من ضروب التعظيم ، والشواهد على ذلك كثيرة ، كقوله تعالى : ( الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ) (٢). فالقائل هو حيي بن أخطب ، وقوله تعالى : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) (٣) ، وهذه الآية نزلت في رجل من المنافقين ، إما في الجلاس بن سويد ، أو نبتل بن الحرث ، أو عتاب بن قشيرة (٤).

ولا يستشكل أيضاً بأنّ معنى الوليّ هو المحبُّ والناصر ، وإنما هو الأولى بالتصرُّف ، والذي يدلُّ على ذلك هو أن الله تعالى نفى أن يكون لنا وليٌّ غيره وغير رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغير ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) بلفظة ( إِنَّمَا ) ، ولو كان المقصود الموالاة في الدين ما خصّ بها المذكورين ، لأن الموالاة في الدين عامة للمؤمنين جميعاً ، قال تعالى :

__________________

١ ـ شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ١/٢٢٩ ـ ٢٣١ ح ٢٣٥ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ٨٧.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٨١.

٣ ـ سورة التوبة ، الآية : ٦١.

٤ ـ تفسير الطبري : ٨/١٩٨.

٤١٢

( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض ) (١) فالتخصيص يدلُّ على أنّ نوع الولاية يختلف عن ولاية المؤمنين لبعضهم البعض ، فلا يكون المراد من قوله : ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ... ) مجمل ومطلق المؤمنين ، وإنّما تكون خاصّة بعلي عليه‌السلام بدليل ( إنّما ) التي تفيد التخصيص فتنفي جملة المؤمنين ، وهذا بالإضافة للأحاديث التي أثبتت أن هذا الوصف ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لم ينطبق على أحد ، ولم يدّعه أحد غير أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، وهو كونه أتى الزكاة وهو راكع.

الآية الثانية : آية ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ... ).

ثانياً : قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٢).

تعالوا لنتدبَّر في هذه الآية المباركة ، فإننا نلاحظ أنّ هذه الآية خاطبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلهجة غريبة : « وإن لم تفعل » فمتى توانى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر تبليغ الرسالة حتى يخاطبه الله بقوله : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ) فنستظهر من ذلك أن هذا الأمر الذي يأمر المولى بتبليغه في غاية الأهمّيّة والشأن ، هذا أولا.

وثانياً : صعوبة تبليغ هذا الأمر من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الصعوبة تتحتَّم أن تكون من باب عدم قبول سائر الناس لهذا الأمر ، وإلاَّ لم تكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصلحة في عدم تبليغه لهذا الأمر ، ويؤكِّد ذلك ذيل الآية ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية : ٧١.

٢ ـ سورة المائدة ، الآية : ٦٧.

٤١٣

مِنَ النَّاسِ ) أي بمعنى أنك ستواجه معارضة عنيفة في تبليغ هذا الأمر لدرجة أنه يمكن أن يلحق الأذى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهنا كفل الله له العصمة والضمانة.

وقوله تعالى : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) إنّ هذا الأمر بلغ من الأهمّيّة جعلته يوضع في كفّة قبال كل الرسالة بما فيها من صبر على العناء والجهاد ودماء الشهداء ، وما لاقاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أذى ، حتى قال : ما أوذي نبيٌّ كما أوذيت ، يكون كل هذا لا اعتبار له إلاَّ بتبليغ هذا الأمر.

فياترى ماذا يكون؟ هل الصيام ، أم الزكاة ، أم الحج ، أو التوحيد وسائر المفردات العقائدية؟ لا يمكن أن يكون ذلك ؛ لأنّ هذه الآية في سورة المائدة ، وهي مدنيَّة ، كما أنّها من أواخر سور القرآن كما جاء في مستدرك الحاكم ، هذا بالإضافة إلى نزول هذه الآية بالذات بعد حجّة الوداع ، وهي آخر حجّة في الإسلام ، وكانت كل أحكام الدين مبلَّغةً وواضحةً ، فيكون الأمر خلاف ذلك ، وإنّما له ربط بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فهل هنالك أمر غير تعيين الإمام والخليفة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمرٌ يكون بقاء الرسالة منوطاً به ، حيث لو لاه لما كانت رسالة ، وهل هنالك أمرٌ وقع الخلاف فيه بين المسلمين غير الخلافة والولاية كما قال الشهرستاني : ( ما سُلّ سيف في الإسلام كما سلّ في الخلافة ) (١) ، هذا بالإضافة لما أوضحناه في بداية حديثنا أن الإمامة والمرجعيّة الواحدة هي كفيلة بعصمة الأمّة من الضلال ، فيتحتَّم أن يكون الأمر المراد تبليغه هو ذلك.

وهذا ما أثبته المفسِّرون ، وأصحاب السير ، ورواة الأحاديث بأن هذه الآية

__________________

١ ـ الملل والنحل ، الشهرستاني : ١/٣٠.

٤١٤

نزلت بخصوص علي بن أبي طالبعليه‌السلام، في غدير خم ، ذكر السيوطي في تفسيره ( الدرّ المنثور ) في تفسير الآية عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر ، بأسانيدهم عن أبي سعيد قال : ( نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم في علي عليه‌السلام ) ونقل أيضاً عن ابن مردويه بإسناده إلى ابن مسعود قوله : كنّا نقرأ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ـ أن عليّاً مولى المؤمنين ـ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١).

وروى الواحدي في أسباب النزول : ص ١٥٠ عن أبي سعيد قال : ( نزلت في غدير خم في علي عليه‌السلام ) (٢) ، وروى الحافظ ابن عساكر الشافعي بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب (٣).

فقد جاء عن زيد بن أرقم أنه قال : لمَّا نزل النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغدير خم ، في رجوعه من حجّة الوداع ، وكان في وقت الضحى والحرّ شديد ، أمر بالدوحات فقمِّمن ، ونادى : الصلاة جامعة فاجتمعنا ، فخطب خطبة بليغة ، ثمَّ قال : إنّ الله تعالى أنزل إليَّ : ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) وقدأمرني جبرائيل عن ربي أن أقوم في هذا المشهد، وأعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالبعليه‌السلامأخي ووصيّي وخليفتي والإمام من بعدي .. فاعلموا معاشر الناس ذلك ، فإنّ الله قد نصبه لكم وليّاً وإماماً ، وفرض طاعته على كل أحد ، ماض حكمه ، جائز قوله ، ملعون من خالفه ، مرحوم من صدَّقه، اسمعوا وأطيعوا، فإنّ الله مولاكم ، وعليٌّ إمامكم ، ثمَّ الإمامة في ولده من

__________________

١ ـ الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢/٢٩٨ ، فتح القدير ، الشوكاني : ٢/٦٠.

٢ ـ أسباب نزول الآيات ، الواحدي : ١٣٥.

٣ ـ تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢/٢٣٧.

٤١٥

صلبه إلى يوم القيامة ... (١).

وبعدما بلَّغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولاية علي عليه‌السلام التي لو لاها لم يكتمل الدين ، كما هو واضح من منطوق الآية : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) أمَّا مفهومها ( إذا بلغت أكملت الرساله ) ومن هنا نزل قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (٢) فإكمال الدين وإتمام النعمة بولاية عليٍّ عليه‌السلام (٣).

الآية الثالثة : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (٤).

هذه الآية تلخِّص ما أوضحناه بأن استمراريّة الرسالة منوطة بطاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونجد هنا أن مفهوم الولاية وكأنه ثابت في فطرة الإنسان ، ولذلك تتَّكي الآية عليه لإثبات حكم آخر ، وهو الملاك والمناط الذي من خلاله نتعرَّف على وليِّ الأمر ، وهو العصمة.

__________________

١ ـ راجع : الغدير ، الأميني : ١/٢١٤ ـ ٢١٥ ، روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري : ٩٢ ـ ٩٣.

٢ ـ سورة المائدة ، الآية : ٣ ، وقد صرَّح بنزول هذه الآية في علي عليه‌السلام كثيرٌ من المحدِّثين ، وذكر منهم الأميني في كتابه الغدير : ١/٢٣٠ ـ ٢٣٧ ستة عشر مصدراً ، فراجع.

٣ ـ روى ابن عساكر ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة قال : لمَّا أخذ رسول الله 6 بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست وليَّ المؤمنين؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : فأخذ بيد علي بن أبي طالب ، فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال له عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، قال : فأنزل الله عزَّوجلَّ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) قال أبو هريرة : وهو يوم غدير خم ، من صام ثماني عشرة من ذي الحجّة كتب الله له صيام ستين شهراً ـ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢/٢٣٣.

٤ ـ سورة النساء ، الآية : ٥٩.

٤١٦

إنّ العصمة للوالي ثابتة بالضرورة العقليّة ، ولكن هذا ليس موضع حديثنا ، ويكفي في هذا المقام أنّ الآية ظاهرة ، بل نصٌّ صريح في المدَّعى وهو العصمة ، فإنّ الله سبحانه وتعالى أمر بطاعة وليِّ الأمر على سبيل الجزم ، وكل من يأمر الله بطاعته على سبيل الجزم لابد أن يكون معصوماً ، وإلاّ اجتمع الأمر والنهي في موضع واحد ، وهذا محال ؛ لأنه لا يأمر بالمعصية وينهى عنها.

وتقرير ذلك : إذا أمرنا الله بالطاعة الحتميّة لوليِّ الأمر ، مع افتراض المعصية والخطأ منه ، فنقع بالتبع في المعصية والخطأ منّا لطاعتنا له ، فيكون بذلك قد أمرنا الله بالمعصية والخطأ بطريقة غير مباشرة ، وفي الوقت نفسه قد نهانا الله عن الخطأ والمعصية ، وهذا تناقض ومحال ، فتتحتَّم وتتعيَّن العصمة للإمام ، وهذا هو المقياس الذي جعله الله لنا لنكتشف من خلاله المصداق الخارجي للإمام ، وهذا يعني الكفر بكل وال ادّعى خلافة المسلمين وهو غير معصوم ، فضلا على أن يكون فاسقاً مجاهراً بالفجور.

وياترى من الذين كفل الله عصمتهم وطهارتهم حتى يكونوا ولاة أمورنا؟ لم نجد في آيات الذكر الحكيم ، ولا أحاديث النبيِّ الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا من بين دفّات التاريخ جماعة طهّرهم الله وأذهب عنهم الرجس غير أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١).

وإفادة العصمة واضحة من هذه الآية ، وذلك لاستحالة تخلُّف المراد ، إذا كان المريد هو الله سبحانه ، وهي تطهير أهل البيت عليهم‌السلام خاصة ، وأداة الحصر

__________________

١ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

٤١٧

( إنّما ) شاهدةٌ على ذلك ، وهذا بالإضافة لتأكيدات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تعضيد هذا المعنى ، كما في حديث الثقلين : إنّي أوشك أن أُدعى فأجيب ، وإنّي تاركٌ فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا بم تخلِّفوني فيهما ، ومن المعلوم أنّ القرآن معصوم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأهل البيت متلازمون معه إلى الحوض ، فإن كان يأتيهم الباطل كانوا حتماً يفترقون عن القرآن ، وهذا ما أكَّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمعلى عدمه بـ ( لن ) التي تفيد التأبيد ( لن يفترقا ) وغيره من النصوص الدالّة على ذلك مثل قوله : عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ ، يدور معه حيثما دار (١).

وبذلك تكون الآية نصّاً في ولاية أهل البيت عليهم‌السلام ، وعلى رأسهم عليٌّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فيكون معنى الآية : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وعليَّ بن أبي

__________________

١ ـ روى الخطيب البغدادي عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال : دخلت على أم سلمة فرأيتها تبكي وتذكر علياً عليه‌السلام وقالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : علي مع الحق ، والحق مع علي ، ولن يفترقا حتّى يردا علي الحوض يوم القيامة.

( تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ١٤/٣٢٢ ، رقم : ٧٦٤٣ تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢/٤٤٩ ).

وعن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : علي مع الحق والحق معه.

( مناقب أميرالمؤمنين 7 ، الكوفي : ١/٢٩٧ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٧/٢٣٥ ) وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٢/٢٩٧ عن تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي وقد أيدهم ، قالوا جميعاً : قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال علي مع الحق ، والحق مع علي ، يدور حيثما دار.

وجاء في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري : ١/٩٨ قال : وأتى محمّد بن أبي بكر فدخل على أخته عائشة ـ يعني في حرب الجمل لما خرجت على أميرالمؤمنين 7 ـ قال لها : أما سمعت رسول 6 يقول : علي مع الحق ، والحق مع علي؟ ثم خرجت تقاتلينه بدم عثمان!؟

٤١٨

طالب ، وأولاده الأحد عشر (١) ، وغيرها من الآيات الدالّة على ذلك ، فبعضها نصٌّ في الأمر ، وبعضها ظاهر الدلالة ، ويمكنك أن تراجع في ذلك كتاب ابن حجر ( الصواعق المحرقة ) باب ما نزل في أهل البيت عليهم‌السلام من القرآن (٢).

سكوت المُحاضِر ولم يعقب بشيء

وبعدما وضعت لاقطة الصوت وانصرفت ، لم يعقّب الوهابي المتحدِّث على كلامي ولوبنصف كلمة ، وبينما هو في سكوته رفع أحد إخواننا يده ـ وهو طالب في الجامعة ـ فأذن له المحاضر ، وكان يظنُّ أنه وهابي أتى لنجدته.

وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال : لي نقطة ، أودّ أن أقرّها قبل أن أورد ملاحظاتي على الشيخ ، وهي عندما يتحدَّث الشيخ عن السودان ، وكأنه مستعمرة لمحمّدبن عبد الوهاب ، وأنّ دخول التشيُّع يُعدُّ أمراً شاذّاً إلى هذا البلد الطيِّب ، وأقول له من باب ردَّ الحجر من حيث أتى : وأنت من الذي أدخلك إلى السودان ، فهل تظنُّه مقاطعة من صحارى نجد؟! إن السودان بلد فطر على حبّ

__________________

١ ـ روى القندوزي الحنفي في ينابيع المودة : ١٠٤ ، منشورات مؤسَّسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، و٣/٢٨٩ ط. أسوة عام ١٤١٦ ، قال ذكر يحيى بن الحسن في كتاب العمدة من عشرين طريقاً أن الخلفاء من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنا عشر خليفة ، كلهم من قريش ، وفي البخاري من ثلاثة طرق ، وفي مسلم من تسعة طرق ، وفي أبي داود من ثلاثة طرق ، وفي الترمذي من طريق واحد ، وفي الحميدي من ثلاثة طرق. ففي البخاري عن جابر رفعه : يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فسألت أبي : ماذا قال؟ قال : قال كلهم من قريش ، وفي مسلم عن عامر بن سعد ، قال : كتبتُ إلى ابن سمرة : أخبرني بشيء سمعته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكتبت إليَّ : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم عشية رجم الأسلمي يقول : لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.

٢ ـ ص ٢٢٠.

٤١٩

محمّد وآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنتم الغرباء لا نحن (١).

حادثة الإرتداد بعد النبي 6 في صحيح البخاري ومسلم

أمَّا النقطة الثانية : هي مسألة الارتداد في عصر النبيِّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي لم يبتدعها الشيعة من عند أنفسهم ، بل طفحت بها الكتب المعتمدة لديكم ، كالبخاري ومسلم وغيرهما ، وهي واضحة بحيث لا يشك فيها أحد ، هذا إذا لم نأخذ بالاعتبار الآيات القرآنية المتحدِّثة في هذا المجال ، إنّ الردّة ـ يا شيخ ـ قد حدثت ، ولم تقدر أنت ، ولا من معك ، ولا من كان قبلك ، ولا من سيأتي بعدك على إنكارها ، وحروب الردّة التي قامت في صدر الإسلام فهي تؤكِّد أن هناك حقاً ارتدّ عنه ، ولذا نشب القتال ، فحاصل الأمر أن هناك ارتداداً ، أم تقول : إن الذين قاتلهم أبو بكر كانوا أمريكان ولم يكونوا مسلمين؟

وأمَّا النقطة الثالثة : هل فات الشيخ أنه يخاطب عقولا ناضجة وصلت إلى هذه المرحلة ، أم أنه يستهزئ بها ، إنّ وصف الشيعة باليهوديّة أمرٌ لا يقبله العقل ، والدليل على ذلك ـ أيُّها الشيخ ـ من الذي يدافع عن الإسلام اليوم ضدَّ الزحف اليهودي؟ إلى من ينتمي حزب الله في لبنان ، وحركة المقاومة الإسلاميَّة؟ إنّ وصفاً كهذا يسفِّه قائله قبل أيّ شخص آخر ، فنرجوا احترام العقول هنا.

وبعدأن أكمل الطالب حديثه قال له الوهابي : لي سؤال واحد ، فقد ذكرت في حديثك أنّ مجموعة من الصحابة ارتدّوا، فهل تستطيع أن تذكر لي أسماءهم؟

__________________

١ ـ قال في الهامش : مع العلم أنّ المتحدِّث كان وهابياً متشدِّداً ، هداه الله إلى التشيُّع.

٤٢٠