مناظرات المستبصرين

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات المستبصرين

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٩

يسطع نوراً ، قد لحق النور بعنان السماء ، ونظر إلى باب قد فتح من السماء ، والملائكة ينزلون كتائب كتائب ويقولون : السلام عليك يا أبا عبدالله ، السلام عليك يا ابن رسول الله ، فجزع الراهب جزعاً شديداً وقال للعسكر : وما الذي معكم؟ فقالوا : رأس خارجيٍّ خرج بأرض العراق فقتله عبيد الله بن زياد ، فقال : ما اسمه؟ قالوا : اسمه الحسين بن علي ، فقال : الراهب : ابن فاطمة بنت نبيّكم وابن عمِّ نبيِّكم؟ قالوا : نعم ، قال : تبّاً لكم!! والله لو كان لعيسى ابن مريم ابن لحملناه على أحداقنا ، وأنتم قتلتم ابن بنت نبيِّكم! ثمَّ قال : صدقت الأخبار في قولها : إذا قتل هذا الرجل تمطر السماء دماً عبيطاً ، ولا يكون هذا إلاَّ في قتل نبيٍّ أو وصيّ نبيٍّ ، ثمَّ قال : لي إليكم حاجة ، قالوا : وما هي؟ قال : قولوا لرئيسكم : عندي عشرة آلاف درهم ، ورثتها عن آبائي ، يأخذها مني ويعطيني الرأس يكون عندي إلى وقت الرحيل ، فإذا رحل رددته إليه ، فوافق عمر بن سعد ، فأخذ الرأس وأعطاهم الدراهم ، وأخذ الرأس فغسله ونظَّفه وطيَّبه بمسك ، ثمَّ جعله في حريرة ووضعه في حجره ، ولم يزل ينوح ويبكي وهو يقول : أيُّها الرأس المبارك! كلِّمني بحقِّ الله عليك ، فتكلَّم الرأس وقال : ما تريد مني؟ قال : من أنت؟ قال : أنا ابن محمّد المصطفى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا المقتول بكربلاء ، أنا الغريب العطشان بين الملا ، فبكى الراهب بكاء شديداً ، وقال : سيدي! يعزُّ والله أن لا أكون أوَّل قتيل بين يديك ، فلم يزل يبكي حتى نادوه وطلبوا منه الرأس ، فقال : يا رأس! والله لا أملك إلاَّ نفسي ، فإذا كان غدا فاشهد لي عند جدِّك محمّد أني أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمّداً عبده ورسوله ، أسلمت على يدك وأنا مولاك.

فبدأ يصيح الشيخ بصوت حزين يقرح القلوب : مسيحيُّ أسلم ، مسيحىٌّ

٣٠١

آوى رأس إمامكم ، وأنتم تدّعون أنكم من الإسلام!!

فأخذني البكاء الشديد ، وصرت أكفكف بدموعي ، وأنظر من حولي لئلا يراني أحد ، وأنا مكابر .. وأسأل : رأس ابن بنت النبيِّ يحمل على الرمح؟ يمثَّل به؟ من بلد إلى بلد؟ ويزيد يدّعي الإسلام!! مسيحيٌّ راهب آمن من وراء معجزة رأس الحسين وأنا مكابر؟ يا إلهي!! السماء تمطر دماً؟ ورأس الحسين يطاف به من بلد إلى بلد؟ فتذكَّرت حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تمثِّلوا ولو بكلب عقور ، فأين هذه الأمّة من الإسلام؟ فصرت ألعن يزيد ومن عيَّن يزيد.

فصرت أسأل : من الذي عيَّن يزيد؟ معاوية؟ من الذي عيَّن معاوية؟ تساؤلات لا تنتهي.

أثَّرت في نفسي قصّة الراهب ودخوله الإسلام ، أثرت في نفسي الجموع الغفيرة وهي تبكي وتلطم ، يا إلهي! ما الخطب؟ ما الأمر؟ ما الذي جرى على الأمّة؟ فخرجت من المسجد ودوَّامة الصراع لا تتركني.

أين شيخنا في القرية الذي يحذِّرني من هؤلاء الشيعة ، ويقول لي : هم الذين قتلوا الحسين عليه‌السلام؟

ما هذه المأساة التي حلَّت بالأمَّة؟ ما هذه الظليمة؟ فخرجت من الجامع الأمويّ متّجهاً باتجاه منطقة السيِّدة زينب عليها‌السلام ، وفي الطريق أفكِّر هل كلام الشيخ عندنا صحيح؟ أم كلام هذا الشابّ الشيعي؟ الراهب يدخل إلى الإسلام؟ ويبكي وينوح؟ ويقول : اشهد لي يا رأس! أسلمت على يدك ، اشهد لي عند جدِّك محمّد؟

كلَّما أهدأ وأتخلَّص من دوَّامة بعض التساؤلات تأتيني عاصفة جديدة من التساؤلات ، يا إلهي!! لماذا لا أعلم كل هذه الأمور؟ يا إلهي! متى أتخلَّص من

٣٠٢

هذه الدوَّامة التي حيَّرتني؟ فدفعتني هذه الكارثة التي حلَّت بالأمَّة إلى أن أشدَّ الهمّة من جديد دون كلل أو ملل بحثاً عن الحقيقة ، لمعرفة كلام الشابّ الشيعيّ هل هو صحيح أم كلام شيخ البلد؟ فصعدت في ( السرفيس ) متّجهاً إلى منطقة السيِّدة زينب عليها‌السلام ، والأفكار والتساؤلات تعصب بي كالموج ، مرَّة أهدأ ومرَّة أثور ، مرّة أهدأ .. أقول كلام الشيخ عندنا هو الصحيح! ومرَّة أثور عندما أتذكَّر قضيّة الراهب وقضيَّة الرأس!! وقضيّة يزيد!! وماذا فعل بالأمَّة؟ حتى أخذتني الأفكار ونسيت أن أنزل في منطقة السيِّدة زينب ، فتجاوزتها ووصلت إلى منطقة الذيابيّة ، فهدأت من التفكير ، وإذا بالسائق يصيح : ذيابيّة ذيابيّة ، من هو نازل؟

فقلت له : على مهلك ، أنزلني ، فنزلت وعدت مرّة أخرى إلى منطقة السيِّدة زينب عليها‌السلام ، أسأل عن الحوزة العلميّة الزينبيّة ، وأخيراً وصلت إلى الحوزة ، فصعدت أسأل عن الشيخ جلال المعاش ، فقال لي شابٌّ : بعد صلاة المغرب يأتي.

ورجعت بعد صلاة المغرب ، وصعدت أسأل عن الشيخ ، فوجدت مكتبة في الطابق الأوّل ، فقرعت الباب ، وسألت عن الشيخ ، فقال لي شاب : تفضّل اجلس ، الآن يأتي الشيخ ، وهذه غرفته ( بجوار المكتبة ).

فجلست وأنا في دوَّامة ، أخمد وأثور ، وإذا بشابٍّ يفاجئني بقوله : هذا هو الشيخ جلال الذي تبحث عنه ، فصافحت الشيخ بحرارة ، وشرحت له موقفي ، ومن أرسلني إليه ، فحيَّاني ورحَّب بي ذلك الترحاب الشديد ، وأدخلني إلى غرفته ، ومن ثمَّ أدخلني إلى المكتبة ، فصرت أحادث نفسي وكأنه عرف مشكلتي .. الحمد لله.

فدخلت معه إلى المكتبة ، وبدأ يجوِّلني في المكتبة ، وأنا أنظر إلى أسماء

٣٠٣

الكتب فشاهدت مباشرة صحيح البخاري ، فقرأت الطبعة وإلاَّ نفس الطبعة الموجودة عند شيخنا في البلد .. صحيح مسلم ، الترمذي ، صحيح النسائي ، كتب السنن والسيرة كلّها .. تفسير ابن كثير ، تفسير الجلالين ، تفسير القرطبي ، تفسير الفخر الرازي ، يا إلهي! هذه مكتبة سنّيّة وليست شيعيّة ، كل كتب السنّة موجودة بالإضافة إلى كتب الشيعة!! يا إلهي! ما هذه الحواجز؟ ما هذه الإشاعات؟

هل علماؤنا يعمدون التجهيل بنا؟ هل علماؤنا مضللون؟ هل علماؤنا لا يعرفون الحقيقة؟ يا إلهي! كيف كان يقول لي أحد علماؤنا : كتبهم محرَّفة ومزوَّرة ومدسوسة؟ ومن هنا كانت انطلاقة البحث ، والثورة في عالم العقائد والإلهيّات ، والانفتاح على القراءة ، ومتابعة البحث دون تردّد ، فودَّعت الشيخ ، وشكرته على ما أطلعني عليه في هذه المكتبة من كتب ، وقلت له : أُريد منك عنوان العالم العراقي الذي كان سنّيّاً وتشيَّع حتى ألتقي به ، فأعطاني العنوان وخرجت (١).

__________________

١ ـ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة ، هشام آل قطيط : ٤٧ ـ ٦٢.

٣٠٤

المناظرة الحادية والأربعون

مناظرة

الشيخ هشام آل قطيط مع العلاّمة السيِّد علي البدري رحمهم‌الله

للقاء الأول : لقاء وتعارف

قال الشيخ هشام آل قطيط : اللقاء الأول مع الداعية الشيعيِّ الكبير ، العلامة البدري.

وفي اليوم الثاني بعد صلاة الظهر ذهبت إلى منزل السيِّد البدري ، وصعدت إلى الطابق الأوَّل ، أنظر إلى الجرس مكتوباً عليه منزل السيِّد علي البدري ، فقرعت الجرس وقلبي يخفق فرحاً ، يا إلهي! يا سيِّدتي زينب! الخلاص الخلاص من هذه الدوَّامة والقلق المستمرّ ، الغوث الغوث ، أدركيني يا بنت علي بن أبي طالب ، وعند وصولي إلى كلمة علي انفتح الباب ، وإذ برجل طويل ، عريض المنكبين ، ذي لحية كثّة طويلة ، وجهه كالنور المشعّ ، تعلوه الهيبة والوقار ، فقال لي : تفضَّل يا ابن الجزيرة ، فدخلت ، وأصبت بقشعريرة حلَّت في جسدي ، يا إلهي! من أين له العلم أني من الجزيرة؟ الله أكبر! الله أكبر! اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد!!

فأدخلني وأجلسني في صدر المكتبة ، وقال لي : أنت مريض وقلق ، مرضك ليس جسديّاً وليس نفسيّاً ، وإنما تعيش في دوَّامة ، بالتأكيد إنك التقيت

٣٠٥

في حياتك بشيعة ، تحاورت معهم فغلبوك في الحوار ، ورجعت إلى علمائكم السنّة ، فغيَّروا أفكارك ، فأصبحت تائهاً ومحتاراً في أفكارك ، وهذا أشدُّ مرضاً وحيرةً ، هنيئاً لك ، هنيئاً لك متابعة البحث ، فالكثير من الشباب سقطوا في البحث ، نتيجة لقائهم مع أخ شيعيٍّ يحاوره ، فيرجع إلى العالم هناك في المنطقة أو في أيِّ مسجد يحذِّره من الشيعة ، فيقف عن متابعة البحث ويصبح أشدَّ عداء للشيعة ، فمتابعة البحث ضرورية.

إلى أن قال السيِّد البدري : أنا من منطقة الكرَّادة الشرقيَّة ( بغداد ) ، كنت سنّيّاً ، وعائلة البدري معروفة في العراق سنّيّة ، فهناك عالم مهمٌّ إذا تسمع به ، الباحث الكبير والدكتور عبد العزيز البدري ، الذي اغتاله صدام لأنّه كان معارضاً له.

نشأت وترعرت في بيئة سنّيّة إلى أن حصلت على الجامعة كليّة الشريعة الإسلاميّة من العراق ، وبعدها التقيت بكثير من الشيعة في العراق ، وأنت تعلم أن نسبة الشيعة في العراق حوالي ٦٥% تقريباً ، أكبر طائفة في العراق ، وبدأت أبحث وألتقي مع علماء الشيعة ، فأحرج أمامهم بالنقاش وأنا خريج جامعة ـ كليَّة الشريعة ـ.

فتابعت البحث بكل ما يستدلُّ به الشيعة على السنّة من خلال الصحاح ، وبعد سبع سنوات من البحث أعلنت عن تشيُّعي ، وبدأت أدعو للمذهب الشيعيِّ الذي اخترته بقناعة ، فحوربت من قبل أهلي وتركت المنطقة.

وكلِّفت من قبل زعيم الطائفة الشيعيَّة في العراق ، المرجع الكبير ، آية الله العظمى السيِّد أبو القاسم الخوئي ، وكيلا عنه للشيعة في مصر ، وتركت زوجتي في العراق ، وتزوَّجت دكتورة مصرية خلال الخمس سنوات من إقامتي في

٣٠٦

القاهرة ، حيث تشيَّعت وهداها الله إلى مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، والآن تسكن هي وأولادها في إيران ، ومن مصر رجعت إلى إيران ، ومن إيران إلى بلدكم الطيِّبة التي احتضنتنا سوريا ، بقيادة هذا الرجل الطيِّب السيِّد الرئيس حافظ الأسد ، يحترم رجال الدين ويقدِّرهم.

وصار لي أكثر من سنة في سوريا ، وتجربتي في الدعوة من فضل الله كبيرة ، حيث أسَّست مراكز للشيعة في السودان (١) ، وفي تنزانيا ، وفي ساحل العاج ، وفي بومباي والباكستان ، وفي مصر .. رموز الشيعة هناك أمثال الشيخ حسن شحاتة من قرية أبو كبير ، والسيِّد حسين الضرغامي وكيل الشيعة في مصر حاليّاً في القاهرة ، والأستاذ محمّد عبد الحفيظ المصري ، ودكاترة من الأزهر أعلنوا عن تشيُّعهم على يدي بفضل الله وبركاته.

وسوف أقدِّم لك كتاباً يفيدك في هذا المجال ، اسمه : ثمَّ اهتديت ، لدكتور تونسيٍّ تشيَّع ، وكتاب اسمه : الحقيقة الضائعة ، لكاتب سودانيٍّ اسمه : الشيخ معتصم سيِّد أحمد ، يكتب قصَّته ، وكيف انتقل من السنة إلى الشيعة بالأدلّة والبراهين ، وكتب أخرى في هذا المجال.

وسوف أصوِّر لك حواريَّة إنسان مسيحيٍّ كان قسّيساً عند المسيحيّة ،

__________________

١ ـ والجدير بالذكر هنا هو ما قاله الشيخ معتصم سيِّد أحمد السوداني في حق هذا السيِّد الجليل في تجوُّله في البلدان ، واهتمامه الشديد ، وعمله الدؤوب في نشر التشيُّع ، والدعوة والإرشاد إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام ، قال : وبعد وصولي إلى مدينة الخرطوم وجدت سماحة العلامة السيِّد علي البدري يعقد المحاضرات والمناظرات تثبيتاً لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام رغم سنّه ، وكثرة الأمراض التي تعجزه عن الحركة ، ولكنه كان ذا روح عاليه تغلَّبت على ألام المرض وضعف الكبر ، فقلت في نفسي : مثل هذا السيِّد وفي بلد غير بلده يقوم بخدمة مذهب أهل البيت عليهم‌السلام أكثر منّا نحن الشباب ، فقرَّرت تأجيل سفري إلى أهلي في شمال السودان ، وأن أقوم بمساعدته. حوارات ، الشيخ معتصم السوداني : ١٨.

٣٠٧

وجاء إلى قبَّة الإسلام في بغداد ، وحاور علماء السنّة في المذاهب الأربعة ، واهتدى إلى الإسلام بعد كشفه التناقض في المذاهب الأربعة وأعلن عن تشيُّعه.

وسوف أقدِّم لك كتاباً يشفي غليلك إن شاءالله تعالى ، اسمه : لماذا اخترت مذهب الشيعة مذهب أهل البيتعليهم‌السلام؟ للشيخ محمّدمرعي الأنطاكي ، وهو أزهريٌّ تخرَّج من الأزهر منذ ثلاثين سنة ، وأعلن عن تشيُّعه ، وهو من مدينة حلب ، وكان قاضياً للقضاء في حلب ، وتشيَّع عن طريقه أخوه الشيخ أحمد مرعي الأنطاكي ، وكتب كتاباً في هذا الخصوص اسمه : في طريقي إلى التشيع.

وهنالك محامي أردني تشيَّع أخيراً ، وألَّف كتاباً اسمه : نظرية عدالة الصحابة والمواجهة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال هشام قطيط بعدما أهداه فضيلة السيِّد البدري مجموعة من الكتب القيِّمة : فودَّعته شاكراً ، وقبَّلت جبينه ، وطلبت منه الدعاء ، وخرجت.

اللقاء الثاني : تحديد موعد للمناظرة والمحاورة

قال الشيخ هشام آل قطيط : اللقاء الثاني.

قرعت جرس الباب في تمام الساعة العاشرة صباحاً ، ففتح لي سماحة السيِّد البدري ، وأدخلني بيته ، وأجلسني في صدر المكتبة ، إلى أن قال :

سيِّدنا الجليل! بكل صراحة لا أخفيك الأمر ، أنا لديَّ مجموعة كبيرة من الأسئلة ، فجمعت كل ما يطرحه عندنا العالم السنّيّ لأسأله ، لأني محتاج ومتعطِّش للاطّلاع ، فأريد منك أن تحدِّد لي جلسة للبدء في الحوار.

فقال لي: بعد أسبوع تجهِّز ما عندك من أسئلة ، وتأتيني بعد صلاة المغرب مباشرة لنبدأ بالحوار ، فودَّعت سماحة السيِّد ، وشكرته على رحابة صدره

٣٠٨

وتواضعه ، والقبول بكل ما أسأل ، يا إلهي! ما أعظم هذا الرجل!!

اللقاء الثالث : ( بداية البحث الفعلي والحوار )

حضرت بعد صلاة المغرب مباشرة وأنا أحضر أسئلتي للحوار الذي لا يرحم ، حيث فيه تقرير المصير والوصول إلى النهاية بعد بحث ونظر.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد البدري! إذا كنتم أهل الشيعة تعتقدون بأن علياً عليه‌السلام هو الإمام بعد النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخليفة دون غيره ، وأنَّه أحقُّ بها وأهلها ، فما الوجه في تقدُّم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ، وادّعائهم الإمامة دونه ، وإظهارهم أنهم أحقُّ بها منه؟

السيِّد البدري : إني عندما بدأت بالبحث كان أوَّل سؤال يخطر في ذهني هو هذا التساؤل ، ويسأله كل سنّيٍّ ، والإجابة عليه يا بني : إن ذلك ليس مما أعتقده أنا وأريد إقناعك به ، وإنما أراده الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعة المؤمنين أجمعين ، بحكم ما جاء من أدلّة ونصوص تثبت خلافة علي عليه‌السلام في الأحاديث الصحيحة والمتواترة عند جميع المسلمين ، والآيات الكريمة المتّفق عليها من الفريقين السنّيِّ والشيعيِّ ، فمن الأدلّة القرآنيّة التي تثبت أحقّيّة علي عليه‌السلام بالخلافة :

أولا : ( آية التبليغ ) وهي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١).

يأمر الله تعالى نبيَّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة غدير خم في تبليغ هذه الآية

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٦٧.

٣٠٩

الكريمة ، وقد أجمع المفسِّرون من السنّة والشيعة على أنها نزلت في غدير خم ، في شأن علي عليه‌السلام ، في تحقيق أمر الخلافة والإمامة ، وأنها نصٌّ من الله سبحانه وتعالى.

هشام آل قطيط : سماحة العلامة البدري! بعد ذكرك لهذه الأدلّة القيِّمة التي أثبتَّ من خلالها أحقّيّة علي عليه‌السلام بالخلافة ، لكن لم أسمع الجواب على سؤالي بالتحديد ، وخاصّة أن الأكثريّة أجمعوا على خلافة أبي بكر.

السيِّد البدري : أنا ذكرت لك هذا الدليل من القرآن لكي تأخذه بالاعتبار ؛ لأن مصدرنا التشريعي الأوَّل هو القرآن ، والثاني هو السنة النبويّة ، والآن أعطيك الجواب ، وأبيِّن لك على أن رأي الأكثريَّة ليس بحجَّة ، ولو أنك ـ يا بني ـ وقفت قليلا على ما سجَّله التاريخ الصحيح لعلمت أن عليّاً عليه‌السلام لم يقرَّهم على ذلك ، أو أنه رضي بذلك إلاَّ أن رضا أكثرهم لا يكون دليلا علميّاً على صوابهم وأن الحق في جانبهم ، كما صرَّحت بذلك الكثير من آيات الكتاب العزيز.

فعل الأكثرين لا يكون دليلا على الصواب ، فمن ذلك قوله تعالى : ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) (١) ، وقال تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٢) ، وقال تعالى : ( وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْد وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) (٣) ، وقال تعالى : ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (٤) ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ

__________________

١ ـ سورة ص ، الآية : ٢٤.

٢ ـ سورة سبأ ، الآية : ١٧.

٣ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٠٢.

٤ ـ سورة الفرقان ، الآية : ٥٠.

٣١٠

لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) (١) ، وقال تعالى : ( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ) (٢) ، وقال تعالى : ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) (٣).

وكل هذه الآيات تدلُّ على أن الحقَّ لا يكون دائماً بجانب الكثرة ، وإنما يكون غالباً بجانب القلّة ، ولو أنك تدبَّرت ـ يا أخي ـ لوجدت على مرّ التاريخ أن الأغلبيّة عصاة ، والمخلص المطيع منهم قليل ، والأكثر منهم جهَّال ، والعلماء منهم قليلون ، وأهل المروءة والشجاعة فيهم أقلّ ، وأهل الفضائل والمناقب أفراد ، وأن المدار في معرفة الحقّ والوقوف عليه يعتمد على الدليل والبرهان.

أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام له أسوة بسبعة من الأنبياء ، وأمَّا ترك علي عليه‌السلام جهاد المتقدِّمين بالسيف والسنان فحسبك في جوابه قوله عليه‌السلام فيما تضافر عنه نقله ، وحكاه ابن أبي الحديد في شرح النهج ، وغيره من مؤرِّخيكم ، حيث يقول : لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله تعالى على أولياء الأمر ، أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالم ، أو سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها .. (٤).

وأنت ترى ـ يا أخي ـ أن قول عليعليه‌السلامهذا صريح كل الصراحة في أنه عليه‌السلامإنما ترك جهاد وقتال الخلفاء الثلاثة لعدم وجود الناصر ، وجاهدالناكثين أيام

__________________

١ ـ سورة يونس ، الآية ٦٢.

٢ ـ سورة النحل ، الآية : ٨٣.

٣ ـ سورة الأنبياء ، الآية : ٢٤.

٤ ـ نهج البلاغة ، خطب أميرالمؤمنين ٧ : ١/٣٦ ـ ٣٧ ، خطبة رقم : ٣ ، علل الشرائع ، الصدوق : ١/١٥١ ح ١٢ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١/٢٠٢.

٣١١

حرب الجمل ، والقاسطين أيام معاوية ، والمارقين ( أي الخوارج ) لوجود الأنصار معه ، ولأنه في قتاله المتقدِّمين عليه ذهاب الدين بأصوله وفروعه ؛ لأن الناس جديدو عهد بالإسلام كما لا يخفى عليك ، وعلى من له أدنى فطنة بخلاف الطوائف الثلاث.

ولقد قال عليعليه‌السلام في جواب من قال : لم لم ينازع علي الخلفاء الثلاثة كما نازع طلحة والزبير ومعاوية؟ إليك قولهعليه‌السلام : إن لي بسبعة من الأنبياء أسوة :

الأوَّل : نوح عليه‌السلام ، قال الله تعالى مخبراً عنه في سورة القمر : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) (١) ، فإن قلت لي : لم يكن مغلوباً فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي كذلك فعلي عليه‌السلام أعذر.

الثاني : إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، حيث حكى الله تعالى عنه قوله في سورة مريم : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) (٢) ، فإن قلت لي : اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرت ، وإن قلت لي : رأى المكروه فاعتزلهم فعليٌّ عليه‌السلام أعذر.

الثالث : ابن خالة إبراهيم ، نبي الله تعالى لوط عليه‌السلام ، إذ قال لقومه على ما حكاه الله تعالى في سورة هود عليه‌السلام : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْن شَدِيد ) (٣) ، فإن قلت لي : كان له بهم قوَّة فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : إنه ما كان له بهم قوَّة فعليٌّ عليه‌السلام أعذر.

الرابع : نبي الله يوسف عليه‌السلام ، فقد أخبرنا الله تعالى عنه في قوله في سورة

__________________

١ ـ سوره القمر ، الآية : ١٠.

٢ ـ سورة مريم ، الآية : ٤٨.

٣ ـ سورة هود ، الآية : ٨١.

٣١٢

يوسف : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (١) ، فإن قلت لي : إنه دعي إلى غير مكروه يسخط الله تعالى فقد كفرت ، وإن قلت لي : إنه دعي إلى ما يسخط الله فاختار السجن فعلي عليه‌السلام أعذر.

الخامس : نبي الله هارون بن عمران عليه‌السلام ، إذ يقول على ما أخبرنا الله تعالى عنه في قوله : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (٢) فإن قلت لي : إنهم ما استضعفوه فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : إنهم استضعفوه ، وأشرفوا على قتله فعليٌّ أعذر.

السادس : كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام ، إذ يقول على ما ذكره الله تعالى عنه : ( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٣) ، فإن قلت لي : إنه فرَّ منهم من غير خوف فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : فرَّ منهم خوفاً فعلي عليه‌السلام أعذر.

السابع : سيدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث هرب إلى الغار ، فإن قلت لي : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هرب من غير خوف فقد كفرت ، وإن قلت لي : إنهم أخافوه وطلبوا دمه وحاولوا قتله فلم يسعه غير الهرب فعلي عليه‌السلام أعذر (٤).

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! من المعلوم لدى جميع الطوائف الإسلاميَّة وغير الإسلاميّة أن علياً عليه‌السلام أشجع الناس ، وتدّعون أنتم الشيعة أن

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية : ٢٢.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٥٠.

٣ ـ سورة الشعراء ، الآية : ٢١.

٤ ـ هذا الاحتجاج الذي ساقه السيِّد البدري مأخوذ من احتجاج علي بن ميثم في مناظرته مع بعضهم ، وهي المناظرة السابعة والثلاثون ، راجع الجزء الثالث من كتابنا المناظرات ص ١٩١.

٣١٣

عليّاً معصوم ، فلو لم تكن خلافة أبي بكر حقّة لنازعه في ذلك ، وترك المنازعة ـ سماحة السيد ـ مخلٌّ بالعصمة ، وأنتم الشيعة توجبونها في الإمام ، وتعتبرونها شرطاً في الصحّة.

السيِّد البدري : أولا : إن ترك علي عليه‌السلام منازعة أبي بكر بالحرب والقتال لا يكون مخّلا بعصمته ولا بأشجعيّته ، ولا يدلُّ على صحَّة ما قام به أقوامهم ، وبطلانه واضح لا يشكُّ فيه من له عقل أو شيء من الدين.

ثانياً : كان في توقُّف الإمام علي عليه‌السلام عن حربهم وقتالهم منافع عظيمة ، وفوائد جليلة ، حصرت المدارك والأفهام عن الوصول إليها ، منها : أنه لو قاتلهم لتولَّد الشك من النائين عن المدينة وغيرها من البلدان الإسلاميّة بنبَّوة النبِّي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لعلمهم بأن القتل والقتال لا يقع إلاَّ على طلب الملك والزعامة الدنيويّة ، لا على النبوَّة والإمامة والخلافة ، فيوجب ذلك وقوع الشك في صحّة نبوَّة سيِّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا سيّما وهم جديدو عهد بالإسلام ، خاصّة إذا لا حظت وجود من يتربَّص الدوائر بالإسلام من المنافقين ، ويريد الوقيعة فيه ، فهل تجد حينئذ فساداً أعظم من أن يخرج عن الإسلام من دخل فيه بفعل المنافقين ، وتلبيسهم ذلك الأمر على البله المغفلين؟!

ومنها : أن ترك قتالهم يومئذ كان سبباً لأن يكثر فيهم التشيُّع ، وفي التابعين إلى يومنا هذا.

والدليل على ذلك يا أخي ، انظر إلى ( ميزان الذهبي ) عند ترجمته لأبان بن تغلب من جزئه الأول ، فإنكم ترونه يقول : فهذا كثير ـ يعني التشيُّع ـ في التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ، فلو ردَّ حديث هؤلاء لذهبت جملة من الآثار النبوّيّة ؛ وهذه مفسدة بيِّنة (١).

__________________

١ ـ ميزان الاعتدال ، الذهبي : ١/٥ ، رقم : ٢ ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ١/٥٩.

٣١٤

الخطبة الشقشقية واحتجاجات الإمام علي 7

هشام آل قطيط مقاطعاً السيّد : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (١) أين نذهب بمفاد هذه الآية؟

السيِّد البدري : على كيفك ـ ( رويداً ) ـ على كيفك يا أخي ، أنتهي من إثبات الأدلّة ، وأبيِّن لك توجيه ومفاد الآية الكريمة.

ومنها : ذهاب السنن الدالّة على إمامة الإمام علي عليه‌السلام ، إن هو قاتلهم وقتلهم يختفي الحقّ ملتبساً ، لا يعرف أين هو ، ولذلك ترونه قد رضي عليه‌السلام بالهدنة عندما رفع أهل الشام المصاحف في صفّين ، فانخدع بذلك جمٌّ غفير من أهل العراق ، فكان عليه‌السلام بإمكانه أن يقلب الصفَّ على الصفِّ ، لكنَّه عليه‌السلام آثر ذلك لأنه أهون الضررين ؛ لعلمه عليه‌السلام برجوع الكثير منهم إلى الحقِّ بعد خروجهم عليه ، فمثل هذه النتائج القيِّمة والغايات الحسنة أوجب ترك قتالهم وأوجب مهادنتهم.

ومنها : أن ترك علي عليه‌السلام قتال القوم لا يوجب الرضا بتقدُّمهم عليه ، ولا يقتضي سقوط حقِّه في الخلافة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلاَّ لزم أن يكون النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتركه قتال المشركين عام الحديبية ، ومحو اسمه من النبوّة معزولا عن النبوَّة ، وراضياً بما ارتكبه المشركون ، وكان يومئذ أربعمائة وألف رجل ـ على ما أخرجه البخاري في صحيحه في غزوة الحديبية ـ على قتالهم ، فإذا صحَّ لديكم هذا ، وقلتم بسقوط حقِّ النبوَّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحَّ لكم ذاك ، وهذا معلوم البطلان ، وذاك منه باطل ، نعم إنما قبل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورضي به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحكم وغايات

__________________

١ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٩.

٣١٥

جليلة ، غابت عن ذهن الكثيرين ، ولم يهتدوا لها.

ومنها : كراهته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقتل والقتال وحرصه على صون الدماء ما استطاع إليه سبيلا ، وليس في محو لاسمه الشريف من الرسالة ما يوجب الوهن فيها ؛ لثبوتها بآياتها البيّنات ومعجزاتها النيِّرات.

مقارنات بين محمَّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين ما اتّبعه علي 7

علم سيِّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن أكثر هؤلاء سوف يسلمون بعد فتح مكة.

محافظته على حياة أصحابه ولو رجل منهم من غير ضرورة تدعو إلى قتالهم ؛ لعلمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه سيدخل مكة المكرمة مع أصحابه في العام القادم من غير سلاح وقتال.

إنه لو قاتلهم في عام الحديبية لم يتيسَّر له فتحها بتلك السهولة ، بل تنكَّر منه القوم ، ولجعل دعاتهم العيون في الطريق خوفاً من صولته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم بغتة وهم لا يشعرون.

إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنَّ بذلك دستوراً جميلا ، ومنهاجاً عالياً لمن يأتي بعده ليسير عليه كل من عرض له مثل ما عرض له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولهذا وأضعاف أمثاله جنح للسلم والمصالحة ، ويقول القرآن في سورة الأنفال : ( وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا )(١)، لذا ترون عليّاًعليه‌السلامترك قتلهم وقتالهم مقتدياً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، ومتّبعاً له في شرعه ومنهاجه ، فلم يقاتل دافعيه عن حقِّه لمقاصد سامية ، أعظمها ـ كما ذكرت ـ حفظ الدين بأصوله وفروعه وقوانينه

__________________

١ ـ سورة الأنفال ، الآية : ٦١.

٣١٦

وآثاره ، الأمر الذي كان يدعوه كثيراً إلى أن يقدِّم نفسه الزكيَّة قرباناً في سبيل حفظه وبقائه واستمراره وانتشاره ، فضلا عن حقّه وتراثه.

وجملة القول : كانت رعايته عليه‌السلام لصيانة الدين وحفظه أكثر من رعايته لحقّه ، وكان ضياع حقِّه عنده أهون عليه من ذهاب الدين وزواله ، وما فعله عليه‌السلام هو الواجب عقلا وشرعاً ؛ إذ أن مراعاة الأهمّ ـ وهو احتفاظه بالأمّة ، وحياطته على الملّة ـ وتقديمه على المهمّ ـ وهو احتفاظه بحقّه ـ عند التعارض من الواجب الضروريِّ في الدين الإسلاميِّ ، وميله للسلم والموادعة كان هو الأفضل في الصواب.

هشام آل قطيط : سماحة السيد! أدلّتك مقنعة وقويّة ، ولكن أين نذهب بقوله تعالى:( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (١).

السيِّد البدري : لماذا أنت متمسِّك بهذه الآية؟ اتركني أنتهي من الأدلّة وأردُّ عليك إن شاء الله تعالى ، اصبر ، اصبر يا أخي .. ألم تسمع بكتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه‌السلام ، إذ قال في خطبته المشهورة بالشقشقيّة :

أما والله لقد تقمَّصها ابن أبي قحافة ، وإنه ليعلم أن محلّي منها محلُّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب منها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً ، حتى مضى الأوَّل لسبيله ، فأدلى بها إلى ابن

__________________

١ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٩.

٣١٧

الخطاب بعده ... (١).

ونقل ابن أبي الحديد أيضاً في شرح نهج البلاغة في ٣٠٨ تحت عنوان ( خطبته عند مسيره للبصرة ) قال : روى الكلبي أنّه لمَّا أراد عليٌّ عليه‌السلام المسير إلى البصرة قام فخطب الناس ، فقال بعد أن حمد الله وصلَّى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله لمَّا قبض نبيَّه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حقٍّ نحن أحقُّ به من الناس كافّة ، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلُّ خلف (٢).

ولعليٍّعليه‌السلامفي نهج البلاغة كتاب إلى أهل مصر ، بعثه مع مالك الأشتر رحمهم‌الله ، جاء فيه : أمَّا بعد ، فإن الله سبحانه بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمنذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلمَّا مضىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمتنازع المسلمون الأمرمن بعده ، فو الله ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمعن أهل بيته ، ولا أنه نحوَّه عنّي من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فماراعني إلاَّ انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي

__________________

١ ـ نهج البلاغة ؛ خطب أميرالمؤمنين ٧ : ١/٣٠ ـ ٣٢ ، رقم : ٣ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١/١٥١ ، الإرشاد ، المفيد : ١/٢٨٧ ـ ٢٨٨ ، الأمالي ، الطوسي : ٣٧٢ ـ ٣٧٣ ح ٥٤ ، علل الشرائع ، الصدوق : ١٥٠ ـ ١٥١ ح ١٢ ، معاني الأخبار ، الصدوق : ٣٦٠ ـ ٣٦١ ح ١ ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ٢/٤٨.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١/٣٠٨ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٣٢/٦٢.

٣١٨

متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب ، وكما ينسطع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأنّ الدين وتنهنه (١).

ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة تحت عنوان ( خطبة الإمام علي عليه‌السلام بعد قتل محمّد بن أبي بكر ) قال : روى إبراهيم ـ صاحب كتاب الغارات ـ عن رجاله ، عن عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه قال : خطب علي عليه‌السلام بعد فتح مصر ، وقتل محمّد بن أبي بكر ، فنقل خطبة بليغة ذكر فيها وقائع أليمة وقعت بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر بعض ما كتبه لأهل مصر ، وأشار في خطبته إلى الشورى التي أمر بها عمر بن الخطاب وخرج بالنتيجة قائلا :

فصرفوا الولاية إلى عثمان ، وأخرجوني منها ، ثمَّ قالوا : هلمَّ فبايع وإلاَّ جاهدناك ، فبايعت مستكرهاً ، وصبرت محتسباً ، فقال قائلهم : يا بن أبي طالب! إنك على هذا الأمر لحريص ، فقلت : أنتم أحرص منّي وأبعد ، أيُّنا أحرص أنا الذي طلبت ميراثي وحقّي الذي جعلني الله ورسوله أولى به ، أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه ، وتحولون بيني وبينه؟ فبهتوا ، والله لا يهدي القوم الظالمين (٢).

ولا أطيل عليك بعدِّ هذه الأدلّة من كلمات الإمام عليه‌السلام وخطبه المشهورة التي تبيِّن مظلوميَّته وسكوته عن حقّه وقعوده.

هشام آل قطيط : هل الخطبة الشقشقيّة للإمام عليعليه‌السلامأم من إنشاء وأقوال الشريف الرضي الذي جمع نهج البلاغة؟ وقد ثبت في التأريخ أنه لم يكن ناقماً على خلافة الخلفاء الراشدين قبله ، بل كان راضياً منهم ، ومن آمن لهم.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ٧ : ٣/١١٨ ـ ١١٩ ، رقم الكتاب : ٦٢ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٧/١٥١.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٦/٩٦ ، الغارات ، الثقفي : ١/٣٠٨.

٣١٩

سماحة السيد! إعطني دليلا على أن نهج البلاغة من أقوال الإمام علي عليه‌السلام وكرَّم الله وجهه ، وإلاَّ هذه الأقوال والخطب مردودة.

السيِّد البدري : الشارحون لنهج البلاغة من علمائكم يا أستاذ ، ابن أبي الحديد المعتزلي لم يكن شيعيّاً ، هذا أوّلا.

ثانياً : الشيخ محمّد عبده مفتي الديار المصرية له شرح على نهج البلاغة ، ويثبت أنه من أقوال الإمام علي عليه‌السلام.

ثالثاً : الشيخ محمّد الخضري من أعلام السنة ، وله كتاب بعنوان ، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ، صفحة : ٢٧ ، وقد صرَّح أن الخطبة الشقشقيّة من بيان الإمام علي عليه‌السلام ، وهناك أكثر من أربعين عالماً من الفريقين السني والشيعي قد صرَّحوا بأن الخطبة الشقشقيّة من كلام الإمام علي عليه‌السلام ؛ لأنها على نسق خطبه الأخرى في النهج.

وقد نقل لنا ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة الشقشقيَّة عن ابن الخشاب قال : أنّى للرضيِّ ولغير الرضيِّ هذا النفس وهذا الأسلوب ، قد وقفنا على رسائل الرضيِّ وعرفنا طريقته وفنَّه في الكلام المنثور.

الخطبة الشقشقيّة موجودة قبل ولادة الرضي ، وقد ذكر ابن الخشاب وغيره أنهم وجدوا هذه الخطبة في الكتب منتشرة قبل أن يولد الشريف الرضيّ ، وقبل أن يولد أبوه أبو أحمد النقيب ـ نقيب الطالبيين ، فقد نقل ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة ، عن الشيخ عبدالله بن أحمد المعروف بابن الخشاب أنه قال : في كتب صنِّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، أعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.

٣٢٠