مناظرات المستبصرين

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات المستبصرين

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٩

عن المصادر ، لأرى مدى صدق الشيعة في أقوالهم ، وفعلا عندما أتيت بسنن الترمذي فوجدت الحديث (١) ، فشعرت بالانتصار النفسي ، وفرحت فرحاً شديداً ، وتابعت المصادر فأنزلت تفسير ابن كثير فوجدت فيه الحديث (٢).

الله أكبر! الله أكبر!! صرت أصيح ما هذا الانتصار؟ اصبر اصبر ، أحدِّث نفسي ، تابع البحث ، لا تيأس ، أشجِّع نفسي ، الآن وليس غداً يجب الذهاب إلى الشيخ عبد الفتاح صقر لأناقشه في هذا الحديث الذي سجَّلت مصادره عندي بورقة وضعتها في جيبي ، وأغلقت عليها كأني عثرت على كنز!! أحدِّث نفسي : اصبر ، تابع البحث ، فصبَّرت نفسي على فرحها الشديد.

ورجعت أتابع القراءة ، وأيُّ شيء كان يثيرني كنت أسجِّله ، وأنزل إلى المكتبة فقط ، أنزل إلى مكتباتنا حذراً من الصحاح الموجودة عند الشيعة ، كما يقول علماؤنا السنة : أغلبها مزوَّرة ومحرَّفة!!

ولاية علي بن أبي طالب 7

وأثارني حديث آخر استغربت منه أشدَّ الاستغراب : عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من يريد أن يحيى حياتي ، ويموت موتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فليتولَّ عليَّ بن أبي طالب ، فإنه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة ) ، فسجَّلته وسجَّلت مصادره وتابعت القراءة إلى أن وصلت ص ١٣٧ ، حيث جاءت آية قرآنية تقول : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ

__________________

١ ـ سنن الترمذي : ٥/٣٢٩.

٢ ـ تفسير ابن كثير : ٤/١٢٣.

٢٨١

وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١) (٢) ، وأخرج النسائي في صحيحه نزولها في عليٍّ عليه‌السلام عن طريق رواية عبدالله ابن سلام ، وأخرج نزولها صاحب الجمع بين الصحاح الستة في تفسير سورة المائدة ، وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير نزولها في أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، فراجعت المصادر ووقفت عليها.

واستدلَّ العالم الشيعي على أن الولاية بعد الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وتابع القول في آية أخرى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (٣) ، ويقول : ألم يصدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغها عن الله يوم الغدير حيث خطب خطابه ، وعبَّ عبابه ، فأنزل الله يومئذ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (٤) ألم تر كيف فعل ربك يومئذ بمن جحد ولايته علانية ، وصادر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهرة ، فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فرماه الله بحجر من سجّيل ، كما فعل من قبل بأصحاب الفيل ، وأنزل في تلك الحالة : ( سَأَلَ سَائِلٌ

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٥٥.

٢ ـ قال هشام قطيط معلِّقاً في الهامش : وقفت على صحّة هذه الأقوال ، يقول العالم الشيعي : أجمع المفسِّرون ـ كما اعترف به القوشجي الأشعري ، وهو من فطاحل علماء السنة ، في مبحث الإمامة من شرح التجريد ـ على أن الآية نزلت في علي عليه‌السلام عندما تصدَّق بخاتمه وهو راكع.

٣ ـ سورة المائدة ، الآية : ٦٧ ، نزلت هذه الآية يوم ١٨ من ذي الحجة سنة ١٠ من الهجرة ، في حجّة الوداع ، في رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة إلى المدينة ، في مكان يقال له : غدير خم ، فأمر الله نبيَّه 6 أن ينصب علياً عليه‌السلام إماماً وخليفة من بعده.

٤ ـ سورة المائدة ، الآية : ٣.

٢٨٢

بِعَذَاب وَاقِع * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) (١).

وهنا جاء التأمُّل والصراع ، والمسألة مع النفس ومع الذات ، فراجعت المصادر ، ووقفت عليها ، ووجدت صدق ما يأتي به العالم الشيعي ، فاستغربت من قوّة استدلال هذا العالم ، وإحاطته الدقيقة بالتأريخ والسيرة والصحاح ، واستهواني الكتاب بأسلوبه الجذّاب ، وثوبه الناعم المزركش ، وصرت أفكِّر ، يا إلهي! أين كنت أنا؟ أين علماؤنا من هذه الكتب؟ فهل يعرف علماؤنا ما في هذه الكتب من أدلّة ويتعمَّدون طمس هذه الحقائق عنّا؟ لأنه ليس من اختصاصنا البحث في الدين وإنما هو حكر على الشيوخ والعلماء فقط ، أم أنهم لا يعلمون حقيقة هذه الكتب؟!

حول الخطبة الشقشقية واحتجاجات الإمام علي 7

وتابعت القراءة إلى أن وصلت إلى الخطبة الشقشقية : ص ٦٨٠ من المراجعات ، فاستوقفتني خطب ومناشدات للإمام علي عليه‌السلام ، وشدَّت انتباهي ، وأسرت تفكيري ؛ لما فيها من البيان والتصريح عن مظلوميّته بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان يبثُّ شكواه من خلال هذه الخطب والمناشدات ، فيقول إمامنا علي عليه‌السلام أيام خلافته متظلِّماً ، يبثُّ آلامه متألِّما منها ، حتى قال :

أما والله لقدتقمَّصها فلان وهو يعلم أن محلّي منها محلُّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها

__________________

١ ـ سورة المعارج ، الآية : ١ ـ ٢ ، نزلت هذه الآيات في النعمان الفهري لمَّا شك في تنصيب النبي لعلي : الخلافة فوقع عليه العذاب. راجع : شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي : ج٢ ، ص ٢٨٦ حديث : ١٠٣٠ ـ ٣١ ـ ٣٢ ، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي : ص ٣٠.

٢٨٣

كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذَّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً ... إلخ الخطبة (١).

وكم وقف متظلِّماً من القوم ، يبثُّ شكواه قائلا : اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم ، فإنهم قطعوا رحمي ، وصغَّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ، ثمَّ قالوا : ألا إن في الحق أن تأخذه ، وفي الحق أن تتركه(٢).

يا الله!! ما أعظم هذه الكلمات! إنها تخرق الحجر ، وليس الدم واللحم ، فيتابع قوله : فنظرت فإذا ليس لي معين إلاَّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، أغضيت على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمرَّ من طعم العلقم (٣).

فصرت أتساءل : ما ذنب عليٍّ عليه‌السلامفي التاريخ؟ الله أكبر! وأتابع البحث من جديد ، وأشحذ همّتي كي أستطيع التأمُّل والتفكُّر في مناشدات وخطابات سيِّدي وإمامي علي عليه‌السلام روحي فداه .. ما قرأت مقطعاً من كلماته إلاَّ وانهمرت دموعي!!

ومرَّة أخرى يبثُّ شكواه بمرارة : فجزت قريشاً عنّي الجوازي ، فقد قطعوا

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ١/٣٠ ـ ٣١ ، خطبة رقم : ٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٢/٨٥ ، خطبة رقم : ١٧٢ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٤/١٠٣ ـ ١٠٤ و٦/٩٦ و٩/٣٠٥ ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : ١/١٧٦.

٣ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ١/٦٧ ، خطبة رقم : ٢٦ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٢/٢٠ ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : ١/١٧٦.

٢٨٤

رحمي ، وسلبوني سلطان ابن أمّي (١).

أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً علينا وبغياً ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم (٢).

وقوله أيضاً في خطبة له خطبها بعد البيعة له : لا يقاس بآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الأمة أحد ، ولا يسوَّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ، ونقل إلى منتقله (٣).

فكلمات الإمام بعد البيعة تؤكِّد على صدق ما ذهبنا إليه ، فكلَّما وصلت إلى مقطع يزداد ألمي.

هذه الكلمات القويّة لا تخرج من إنسان عاديٍّ ، كلمات بحدِّ ذاتها معجزة ، يتدفَّق الإشعاع منها إلى أعماق قلبي ، عبارات رصينة ، أدلّة قوية تسيطر على القارئ المتدبِّر.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٣/٦١ ، خطبة رقم : ٣٦ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦/١٤٨.

٢ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٢/٢٧ ، خطبة رقم : ١٤٤ ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب ١/٢٤٥ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٩/٨٤ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ١/٢٠٧ ح ٧.

٣ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ١/٣٠ ، خطبة رقم : ٢ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١/١٣٨ ـ ١٣٩ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ١/٨٣ ح ٢٣.

٢٨٥

وحسبك قوله في خطبة أخرى : رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتّكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي أمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه ، فبنوه في غير مواضعه ، معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة ، قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون ، من منقطع إلى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين (١).

فما تمالكت من نفسي إلاَّ والدموع تعاودني بالانهمار ، فوقفت مبهوتاً من هذه الأمّة ، وهؤلاء القوم الذين يدّعون الإسلام ، ما أقوى هذه الكلمات! تركت نفسي تقرأ بكل ما أمتلك من تركيز ؛ لأني أقرأ كلمات من سيِّد الوصيين ، وخليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكل ذلك لم أكن أعلم بعد صدق هذه الخطب ، ولكنها هزَّت مشاعري ، وسيطرت عليَّ ، وصرت أتساءل : هل هذه الكلمات تصدر من الإمام علي عليه‌السلام؟

هل غصبت الخلافة من عنده؟ هل هذه الكلمات لها سند معتبر؟ فبدأت تنهال عليَّ موجات عارمة من الأسئلة ، وتابعت البحث حتى عثرت على مناشدة للإمام علي عليه‌السلام يوم الشورى (٢) ، وما أدراك ما يوم الشورى؟!!

وساق الحديث إلى أن قال : بداية الحيرة والشك والتساؤل :

بعد تأثّري الشديد بخطب ومناشدات علي عليه‌السلام الذي أوردها صاحب كتاب المراجعات في الصفحة ٦٨٠ طبع ( الدار الإسلامية ) عام ١٩٨٦ ، صحيح أني تأثَّرت وصدمت إثر قراءتها ، ولكن بدأت بالبحث للتأكُّد من صحّة ما يذهب

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٢/٣٦ ، خطبة رقم : ١٥٠ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٩/١٣٢.

٢ ـ راجع : المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ٢٢٢.

٢٨٦

إليه السيِّد الشيعي رحمهم‌الله و قدس‌سره ، فوجدت قسماً للخطب ينقلها ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة ، فقلت في نفسي : إن ابن أبي الحديد معتزليٌّ ، وليس شيعياً حتى ينتصر لمذهبه أو عقيدته ، وكان لديَّ من المسلَّمات أن نهج البلاغة للإمام علي عليه‌السلام ، وليس للشريف الرضي كما يقول بعض المتقوِّلين والمتعصِّبين ، حيث إنه شرحه وعلَّق عليه أكثر من عالم من علمائنا السنة الكبار ، أمثال الشيخ محمّد عبده شيخ الأزهر ، والدكتور صبحي الصالح الأستاذ في الجامعة اللبنانيّة سابقاً.

وبقي لدي تساؤل واحد ، إذا ثبتت لديَّ خطبة ومناشدة علي عليه‌السلام يوم الشورى سوف أعلن عن تشيُّعي وولائي واستبصاري لخطّ أهل البيت عليهم‌السلام ، وعند ما بدأت أقرأ وأحقِّق مصادر هذه الخطبة فعثرت على أكثر من مصدر منهم:

١ ـ شيخ الإسلام الشافعي الحمويني صاحب كتاب فرائد السمطين.

٢ ـ مناقب علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ابن المغازلي الشافعي.

ومنها رجعت إلى أمر آخر ، وهو تحليل خطبة الشورى ، والوقوف على مصادر ما قاله الإمام علي عليه‌السلام من أحاديث وحجج ، فوجدتها بمصادرها ( من حيث الحديث والآية التي استشهد بهما ) حيث كنت أقف على المصدر ونقله من كتاب المراجعات وأراجع في ذلك فأجد كل هذا الكلام موجوداً (١).

__________________

١ ـ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة ، هشام آل قطيط : ١٩ ـ ٤٦.

٢٨٧

المناظرة الأربعون

مناظرة

هشام آل قطيط مع الشيخ عبد الأمير الهويدي وغيره

وبحثه عن الحقيقة وأشياء يسمعها لأوَّل مرة

قال الشيخ هشام آل قطيط تحت عنوان ( لقاء الصدقة ) : كنت أبحث عن بعض المصادر في مدينة بيروت التي تخصُّ بحثي عن الحقيقة ... وإذا بشيخ موجود في دار النشر ، فدفعني الفضول لأتعرَّف عليه ، فقال لي : أنا الشيخ عبد الأمير الهويدي من العراق ، وسألني : من أين أنت؟

فأجبته : من سوريا.

فسألني : ماذا تعمل هنا؟

فأجبته بكل صراحة : لقد أعارني أحد الشباب الشيعة كتاب المراجعات ، ومن هنا كانت بداية البحث والتساؤل والحيرة.

فقال لي : لماذا تتعب نفسك؟ ١ + ١ = ٢ ، أسألك سؤال : هل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصَّى أم لم يوصِّ؟

فقلت له : ماذا تقصد؟

قال : أقصد خلافنا كله قائم على الخلافة من بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، إذا وصَّى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالخلافة لعلي عليه‌السلام ، وإذا لم يوصِّ فالرسول فيه نقص ، وكلامه

٢٨٨

مخالف للقرآن.

فقلت له : حاشا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخالف القرآن.

قال لي : أنت متأكِّد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخالف القرآن؟

فقلت له : نعم ، أنا متأكِّد.

فقال : إذن : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) (١) لا يعقل أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يموت بلا وصيَّة ويخالف القرآن ، والقرآن يقول : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٢).

وبعدها قال لصاحب دار النشر : أعطيه كتاب الإمام الصادق عليه‌السلام والمذاهب الأربعة (٣) هديَّة ، وأنا أحاسبك به ، واقرأ في الجزء الثاني رسالة للجاحظ ، تأمَّل بها وتدبَّر فسوف تعرف الحقيقة ، وأنا مشغول ، أريد الذهاب ، في أمان الله.

فقلت له : أين أراك؟

فقال لي : سجِّل رقم هاتفي في دمشق ، فسجَّلته ، وقلت له : في أمان الله .. وخرجت من الدار ذاهباً لزيارة صديق لي ، وبعد أن أنهيت الزيارة رجعت مبكِّراً لقراءة هذه الرسالة التي أشار إليها الشيخ الهويدي ، وهذه هي الرسالة.

رسالة الجاحظ

رسالة الجاحظ (٤) التي أرشدني إليها الشيخ الهويدي في تفضيل علي عليه‌السلام.

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٨٠.

٢ ـ سورة الحشر ، الآية : ٧.

٣ ـ وهو لمؤلِّفه المرحوم المحقِّق الأستاذ الشيخ أسد حيدر النجفي.

٤ ـ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر : ٢/٩٤.

٢٨٩

قال : هذا كتاب من اعتزل الشك والظنّ ، والدعوى والأهواء ، وأخذ باليقين والثقة من طاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبإجماع الأمَّة بعد نبيِّها عليه‌السلام ممَّا يتضمَّنه الكتاب والسنّة ، وترك القول بالآراء ، فإنَّها تخطئ وتصيب ؛ لأنَّ الأمَّة أجمعت أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شاور أصحابه في الأسرى ببدر ، واتّفق على قبول الفداء منهم ، فأنزل الله تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ) (١).

فقد بان لك أن الرأي يخطئ ويصيب ، ولا يعطي اليقين ، وإنّما الحجّة لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أجمعت عليه الأمّة من كتاب الله وسنّة نبيِّها ، ونحن لم ندرك النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفت الأمّة في أحقِّهم ، فنعلم أيّهم أولى ونكون معهم ، كما قال تعالى : ( وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٢) ، ونعلم أيّهم على الباطل فنجتنبهم وكما قال تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) (٣) حتى أدركنا العلم ، فطلبنا معرفة الدين وأهله ، وأهل الصدق والحقّ ، فوجدنا الناس مختلفين ، يبرأ بعضهم من بعض ، ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان : أحدهما قالوا : إن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات ولم يستخلف أحداً ، وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه ، فاختاروا أبا بكر ، والآخرون قالوا : إن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلف عليّاً ، فجعله إماماً للمسلمين بعده ، وادّعى كل فريق منهم الحقَّ.

فلمَّا رأينا ذلك وقفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحقَّ من المبطل ، فسألناهم جميعاً : هل للناس من وال يقيم أعيادهم ، ويجبي زكاتهم ، ويفرِّقها على مستحقيها ، ويقضي بينهم ، ويأخذ لضعيفهم من قويِّهم ، ويقيم حدودهم؟

__________________

١ ـ سورة الأنفال ، الآية : ٦٧.

٢ ـ سورة التوبة ، الآيه : ١١٩.

٣ ـ سورة النحل ، الآية : ٧٨.

٢٩٠

فقالوا : لابدَّ من ذلك.

فقلنا : هل لأحد أن يختار أحداً ، فيولّيه بغير نظر من كتاب الله وسنّة نبيِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فقالوا : لا يجوز ذلك إلاَّ بالنظر.

فسألناهم جميعاً عن الإسلام الذي أمر الله به ، فقالوا : إنه الشهادتان ، والإقرار بما جاء من عند الله ، والصلاة ، والصوم ، والحج ـ بشرط الاستطاعة ـ والعمل بالقرآن ، يحلُّ حلاله ويحرِّم حرامه ، فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم.

ثمَّ سألناهم جميعاً : هل لله خيرة من خلقه ، اصطفاهم واختارهم؟

فقالوا : نعم.

فقلنا : ما برهانكم؟

فقالوا : قوله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (١).

فسألناهم : من الخيرة؟

فقالوا : هم المتقون.

فقلنا : ما برهانكم؟

فقالوا : قوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٢).

فقلنا : هل لله خيرة من المتقين؟

قالوا : نعم ، المجاهدون بأموالهم ، بدليل قوله تعالى : ( فَضَّلَ اللّهُ الُْمجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ) (٣).

__________________

١ ـ سورة القصص ، الآية : ٦٨.

٢ ـ سورة الحجرات ، الآية : ١٣.

٣ ـ سورة النساء ، الآية ٩٥.

٢٩١

فقلنا : هل لله خيرة من المجاهدين؟

قالوا جميعاً : نعم ، السابقون من المهاجرين إلى الجهاد ، بدليل قوله تعالى : ( لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) (١).

فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه ، وعلمنا أن خيرة الله من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد.

ثم قلنا : هل لله منهم خيرة؟

قالوا : نعم.

قلنا : من هم؟

قالوا : أكثرهم عناء في الجهاد ، وطعناً وحرباً وقتلا في سبيل الله ، بدليل قوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ ) (٢) ( وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ ) (٣).

فقبلنا منهم ذلك ، وعلمنا وعرفنا : أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناء ، وأبذلهم لنفسه في طاعة الله ، وأقتلهم لعدوِّه ، فسألناهم عن هذين الرجلين ـ علي ابن أبي طالب عليه‌السلام وأبي بكر ـ أيُّهما كان أكثر عناء في الحرب ، وأحسن بلاء في سبيل الله؟

فأجمع الفريقان على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه كان أكثر طعناً وحرباً ، وأشدَّ قتالا ، وأذبَّ عن دين الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فثبت بما ذكرنا من إجماع الفريقين ، ودلالة الكتاب والسنة أن عليّاً عليه‌السلام أفضل.

__________________

١ ـ سورة الحديد ، الآية : ١٠.

٢ ـ سورة الزلزلة ، الآية : ٧.

٣ ـ سورة البقرة ، الآية : ١١٠.

٢٩٢

وسألناهم ـ ثانياً ـ عن خيرته من المتقين ، فقالوا : هم الخاشعون ، بدليل قوله تعالى : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْب مُّنِيب ) (١) ، وقال تعالى : ( وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم ) (٢).

ثم سألناهم : من الخاشعون؟

فقالوا : هم العلماء ، لقوله تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (٣).

ثم سألناهم جميعاً : من أعلم الناس؟ قالوا : أعلمهم بالقول ، وأهداهم إلى الحق ، وأحقُّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً ، بدليل قوله تعالى : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ ) (٤). فجعل الحكومة لأهل العدل.

فقبلنا ذلك منهم ، وسألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو؟

قالوا : أدلُّهم عليه.

قلنا : فمن أدلُّ الناس عليه؟

قالوا : أهداهم إلى الحقِّ ، وأحقُّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً ، بدليل قوله تعالى : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ) (٥) ، فدلَّ كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإجماع : أن أفضل الأمّة بعد نبيِّها أميرالمؤمنين علي ابن أبي طالب عليه‌السلام ، لأنه إذا كان أكثرهم جهاداً كان أتقاهم ، وإذا كان أتقاهم كان

__________________

١ ـ سورة ق ، الآية : ٣١ ـ ٣٣.

٢ ـ سورة الأنبياء ، الآية : ٤٨ ـ ٤٩.

٣ ـ سورة فاطر ، الآية : ١٢٨.

٤ ـ سورة المائدة ، الآية : ٩٥.

٥ ـ سورة يونس ، الآية : ٣٥.

٢٩٣

أخشاهم ، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم ، وإذا كان أعلمهم كان أدلَّ على العدل ، وإذا كان أدلَّ على العدل كان أهدى الأمّة إلى الحقِّ ، وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعاً ، وأن يكون حاكماً ، لا تابعاً ولا محكوماً.

وأجمعت الأمّة بعد نبيِّها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه خلَّف كتاب الله تعالى ذكره ، وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر ، وإلى سنّة نبيِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيتدبَّرونهما ، ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه ، فإذا قرأ قارئكم : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ ) (١) ، فيقال له : أثبتها ، ثمَّ يقرأ : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٢) ، وفي قراءة ابن مسعود : إنَّ خيْرَكُم عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ، ثمَّ يقرأ : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ ) (٣) فدلَّت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشون.

ثمَّ يقرأ فإذا بلغ قوله : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (٤) فيقال له : اقرأ حتى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم أم لا؟ فإذا بلغ قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (٥) علم أن العلماء أفضل من غيرهم.

ثمَّ يقال: اقرأ ، فإذا بلغ إلى قوله:( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات )(٦) قيل : قد دلَّت هذه الآية على أن الله قداختار العلماء ، وفضَّلهم

__________________

١ ـ سورة القصص ، الآية : ٦٨.

٢ ـ سورة الحجرات ، الآية : ١٣.

٣ ـ سورة ق ، الآية : ٣١ ـ ٣٣.

٤ ـ سورة فاطر ، الآية : ٢٨.

٥ ـ سورة الزمر ، الآية : ٩.

٦ ـ سورة المجادلة ، الآية : ١١.

٢٩٤

ورفعهم درجات ، وقد أجمعت الأمّة على أن العلماء من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة : علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعبد الله بن العبّاس ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت.

وقالت طائفة : عمر ، فسألنا الأمّة : من أولى الناس بالتقديم إذا حضرت الصلاة؟

فقالوا : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يؤمُّ القوم أقرؤهم ، ثمَّ أجمعوا على أن الأربعة كانوا أقرأ من عمر فسقط عمر.

ثمَّ سألنا الأمَّة : أيُّ هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب الله ، وأفقه لدينه فاختلفوا ، فأوقفناهم حتى نعلم ، ثمَّ سألناهم : أيُّهم أولى بالإمامة؟

فأجمعوا على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا كان عالمان فقيهان من قريش فأكبرهما سنّاً وأقدمهما هجرة ، فسقط عبدالله بن العبّاس ، وبقي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، فيكون أحقَّ بالإمامة ؛ لما أجمعت عليه الأمّة ، ولدلالة الكتاب والسنة عليه. انتهى (١).

الاقتناع بأحقية أهل البيت عليهم‌السلام

وبعد أن أنهيت هذه الرسالة القيِّمة من القراءة أصبح لديَّ اليقين القاطع بأحقّيّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وبخلافة الإمام علي عليه‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكنَّ متابعة البحث ضروريٌّ للردِّ على كلِ التساؤلات التي تثار ،

__________________

١ ـ ذكر هذه الرسالة الإربلي في كشف الغمة : ١/٣٧ ـ ٤٠ ، وقال : إنها نسخت عن مجموع للأمير أبي محمّد الحسن بن عيسى المقتدر بالله.

٢٩٥

فاتّصلت تلفونياً بالشيخ الهويدي ، وحدَّدنا موعداً بمقام السيِّدة زينب عليها‌السلام.

وجاء الموعد ، واقترب اللقاء ، وبعد أن جلسنا وتحادثنا وتحاورنا قال لي : هل تعرف الحوزة العلميّة الزينبية؟ فقلت له : لا أعرفها ، فقال لي : تخرج من المقام ، وتمشي مع الطريق الذي يذهب إلى دمشق .. مقابل قسم الأمن الجنائي ، تسأل عن شيخ اسمه ( جلال المعاش ) تقول له : يسلِّم عليك الشيخ الهويدي .. وترشدني إلى منزل الداعية الشيعيِّ السيِّد علي البدري.

زيارة مرقد السيدة الجليلة رقية 3 بنت الحسين 7

وأخذت منه العنوان ، وكتبه لي على قصاصة من ورق .. وودَّعته وخرجت ، وعاودتني دوَّامة التساؤل بعد أن ودَّعت الشيخ الهويدي ، وخرجت من مقام السيِّدة زينب عليها‌السلام ، وأنا في الطريق أسمع سائق ( السرفيس ) يصيح بصوت عال : ( رقيّة رقيّة ).

فلفت نظري تساؤل : هل هناك منطقة في دمشق اسمها ( رقيَّة ) فدفعني الفضول لأسأله : أين تقع هذه المنطقة؟ فسألته .. فقال لي : من أين أنت فأجبته : من القامشلي.

فقال : أوه!! في آخر سوريا .. قال لي : يا أخي! الإيرانيّون واللبنانيّون والخليجيّون يقدِّسون هذه المقامات ، فأنا أصيح حتى أشتغل ، وهذا موسمهم ، لأنّه كل صيفيّة يأتون إلى هنا لزيارة هذه المقامات ، وفعلا عزمت على الذهاب مع السائق لأرى هذه المنطقة التي أجهلها.

ومشت السيارة ، وأنا أتساءل لأوَّل وهلة أسمع هذا النداء وأسمع بهذه المنطقة، فوصلت إلى هذا المقام الشريف، ولم أستطع الدخول من شدّة الزحمة ،

٢٩٦

أمَّة من البشر!! الله أكبر! ما هذه الزحمة؟ من أين أتت كل هذه الجموع الغفيرة؟ وبعد انتظار ساعة من الوقت استطعت الدخول ، ورأيت الناس يلطمون على صدورهم ويصيحون يا حسين .. يا حسين ، يا رقية يا رقية .. الظليمة .. الظليمة.

فدخلت إلى داخل المقام ، ووصلت إلى الضريح ، وقرأت الفاتحة ، وصلَّيت قربة إلى الله ركعتين زيارة لهذه السيِّدة ، دون أن أعرفها بنت من؟ لكن عندما رأيت الناس تدخل وتزور وتقبِّل هذا الضريح فعلت مثلهم ، فعرفت أن هنا مقاماً لسيِّدة فاضلة.

فاقتربت من أحد الشباب الذين يلطمون على رؤوسهم وصدورهم ، حيث يضع شريطاً أسوداً مربوطاً برأسه ، وعلى جبينه مكتوب ( يا حسين ) .. فقلت له : إذا سمحت .. السيِّدة رقيّة بنت من؟

فضحك هذا الشابّ من سؤالي ، واستغرب!! وقال لي : من أين أنت؟

فأجبته : من القامشلي.

فقال لي : أين تقع مدينة القامشلي؟

فقلت له : تبعد من هنا ما يقارب ١٠٠٠ كم ، وقال : أنت من سوريا ولا تعرف هذا المقام لمن؟

فقال لي : أنت سنّيٌّ؟

فأجبته : نعم.

فقال لي : حقّك لا تعلم ، هذه السيِّدة رقيَّة بنت الإمام الحسين عليه‌السلام ، عندما جاءوا بأهل البيت سبايا من العراق إلى الشام ، والحسين رأسه محمول على الرمح من هناك إلى هنا ، وعندما وصلوا إلى الجامع الأموي وضعوا رأس الحسينعليه‌السلامفي المسجد أمام اللعين يزيد ، وبدأ يزيد يرغي ويزبد ويصيح : أتينا

٢٩٧

برأس زعيم الخوارج الحسين بن علي بن أبي طالب.

فقاطعته الحديث ، الحسين سيِّد شباب أهل الجنّة يحملون رأسه على الرمح ويأتون به إلى الشام؟ ماذا تقول يا أخي؟ أليس الشيعة هم الذين قتلوه ، وهم الآن يبكون ويندبون ويلطمون ندماً وحزناً لأنهم هم الذين قتلوه؟

قاطعني الشابُّ بحماس ، وقال لي : أنت متعلِّم؟

فقلت له: نعم .. وأنهيت الدراسة الجامعيّة ، لكن والله العظيم لم أسمع بهذه الأحداث ؛ لأن هذه القضايا ليست من اختصاصي ، فالصدفة أتت بي إلى هنا.

فقال لي : يا أخي! أعذرك كلَّ العذر ؛ لأن الإنسان عدوُّ ما يجهل ، وأنا لم أفرض عليك اعتقاداتي وقناعاتي .. ولكن أنت ابحث بنفسك عن هذه الحقائق ، وقال لي : إذا أردت أن تزور رأس الحسين عليه‌السلام مقامه في الجامع الأموي.

وشطَّ بنا الحديث وتفرَّع ، ورجعنا في الحديث عن السيِّدة رقية ، فقال لي : هذه السيِّدة بنت الإمام الحسين عليه‌السلام ، وعندما توفِّيت كان عمرها ثلاث سنوات تقريباً .. أهل البيت عليهم‌السلام عندما جاءوا بهم إلى الشام كانت هذه الطفلة مع عمّتها زينب عليها‌السلام ، أتعرف مقام السيِّدة زينب عليها‌السلام أخت الإمام الحسين عليه‌السلام؟

فأجبته : نعم ، الآن جئت من هناك.

فقال: عندما وضعوا رأس الحسين عليه‌السلام في طشت كانت هذه الطفلة تصيح وتبكي ، طفلة تبكي تريد أباها ، فقال يزيد اللعين : خذوا هذا الرأس ، وضعوه أمام الطفلة لكي ترى أباها ، فعندما شاهدت الطفلة رأس والدها انكبَّت على وجهها ، فلم تطق الطفلة ذلك الموقف إلى أن فارقت الحياة فوق رأس والدها.

ماذا تحكي يا أخي؟ ماذا تقول؟ هل هذا صحيح؟ فضيَّعني كلام هذا الشابّ الشيعيّ.

٢٩٨

وسألت آخر وآخر .. وكنت في كلِّ مرّة أحصل على نفس الجواب ، فرجعت مرَّة أخرى إلى القفص ، ففاضت دموعي بالبكاء ، وصرت أصيح وأسأل : بنت الحسين سيِّد شباب أهل الجنة هكذا قتلت؟ هكذا ماتت؟ فصرت أردِّد بدون شعور كما تردِّد الشيعة : الظليمة الظليمة ، يا رقيّة! يا رقية! ثمَّ بعد هذا ودَّعتها متّجهاً إلى الجامع الأمويّ ، وشاهدت الحشود والجموع تتّجه باتّجاه الشرق ، وتصيح وتلطم : يا حسين! يا حسين! لعن الله من ظلمك ، لعن الله من قتلك ، لعن الله يزيد .. فوصلت إلى الباب ، ودخلت بقوَّة من شدّة الازدحام ، حيث وصلت إلى مكان رأس الحسين عليه‌السلام فقبَّلته ، وانهارت دموعي بالبكاء ، فصرت أحدِّث نفسي : ما الذي حصل؟ ما الأمر؟ ما القضيَّة؟ ما الذي حدث؟ هذا الأخ الشيعي يقول لي : يزيد الذي قتل الحسين عليه‌السلام ، وليس الشيعة ـ كما يقول أحد علمائنا في المنطقة الشرقية!!

فعاودني الصراع السابق الذي عشته ، ورجعت إليَّ دوّامة التساؤل والحيرة ، هل الشيعة بريئون من دم الحسين؟ هل صحيح أن الشيعة لم يقتلوا الحسين؟ فإذن لماذا يلطمون ويبكون ويصيحون يا حسين يا حسين؟ وصرت أفكِّر بكلام الشيخ عندنا عندما كان يحذِّرنا من الجلوس مع الشيعة ، وعدم محاورة الشيعة ، والشيعة هم الذين قتلوا الحسين ، فخرجت من مقام رأس الحسين عليه‌السلام لزيارة النبيِّ يحيى بن زكريا عليه‌السلام في قلب الجامع الأمويِّ.

الاستماع إلى مصائب الحسين 7

وعندما وصلت الضريح قبَّلته وصلَّيت ركعتين ، ولم أستطع أن أكمل من شدّة الصياح واللطم والبكاء ، فحاولت مرَّة ثانية إعادة صلاتي ، وأنهيتها بعد

٢٩٩

الجهد ، وشاهدت بعد الصلاة شيخاً يبدو أنه عراقيٌّ من خلال اللهجة والبحّة ، يصيح ويخطب بالناس : يا موالين! يا شيعة! اليوم قتل إمامكم ، اليوم ـ الظليمة الظليمة ـ بقي الحسين ثلاث ساعات ملقياً على وجه الأرض ، قد صنع وسادة من الرمل ، فظنَّ بعض العسكر أن الحسين عليه‌السلام قد صنع لهم مكيدة ، فقالوا : إن الحسين لا يمكنه فعل شيء ، وقال بعضهم : إنه مثخن بالجراح ، ولا يقوى على القيام ، وقال بعضهم : إن الرجل غيور ، إذا أردتم أن تعرفوا حاله فاهجموا على المخيَّم ، فهجموا على المخيَّم ، وروَّعوا النساء والأطفال ، فخرجت الحوراء زينب ووقفت على التلّ ، ثمَّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب : يا ابن أمي يا حسين! يا حبيبي يا حسين! إن كنت حيّاً فأدركنا ، فهذه الخيل قد هجمت علينا ، وإن كنت ميّتاً فأمرنا وأمرك إلى الله ، فلمَّا سمع الحسين صوت أخته قام ووقع على وجهه ، ثمَّ قام ووقع على وجهه ثانية ، ثمَّ قام ثالثة ووقع على وجهه ، عند ذلك صاح : يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون ، فنادى الشمر : ما تقول يا ابن فاطمة؟ قال : أنا الذي أقاتلكم ، والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم وأشراركم عن التعرُّض لحرمي ما دمت حيّاً ، قال الشمر : إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه ، فانكفأت الخيل والرجال على أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام.

وانتهى الشيخ من كلامه وبدأ يخطب ويتكلَّم ، والناس تضجّ وتبكي ، وهو يقول : وهم في طريقهم إلى الشام نزلوا منزلا فيه دير راهب ، فرفعوا الرأس على قناة طويلة ( رأس الحسين ) إلى جانب دير الراهب ، فلمَّا عسعس الليل سمع الراهب للرأس دويّاً كدويِّ النحل ، وتسبيحاً وتقديساً ، فنظر إلى الرأس وإذا هو

٣٠٠