مناظرات المستبصرين

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات المستبصرين

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات ذوي القربى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٩

ولا أترك هذه الفرصة تفوت لأروي قصّة طريفة وقعت لي شخصيّاً مع عالم من علماء أهل السنّة ، التقينا في الطائرة وكنّا من المدعوين لحضور مؤتمر إسلامي في بريطانيا وتحادثنا خلال ساعتين عن الشيعة والسنّة ، وكان من دعاة الوحدة ، وأُعجبت به غير أنّه ساءني قوله : بأنّ على الشيعة الآن أن تترك بعض المعتقدات التي تُسبب اختلاف المسلمين ، والطعن على بعضهم البعض.

وسألته مثل ماذا؟

وأجاب على الفور : مثل المتعة والتقيّة ، وحاولت جهدي إقناعه بأنّ المتعة هي زواج مشروع ، والتقيّة رخصة من الله ، ولكنّه أصرّ على رأيه ولم يقنعه قولي ولا أدلّتي ، مدّعياً أن ما أوردته كلّه صحيح ، ولكن يجب تركه من أجل مصلحة أهم ألا وهي وحدة المسلمين ، واستغربت منه هذا المنطق الذي يأمر بترك أحكام الله من أجل وحدة المسلمين ، وقلت له مجاملة : لو توقّفت وحدة المسلمين على هذا الأمر لكنت أوّل من أجاب.

ونزلنا في مطار لندن وكنتُ أمشي خلفه ولمّا تقدّمنا إلى شرطة المطار سُئل عن سبب قدومه إلى بريطانيا؟ فأجابهم : بأنه جاء للمعالجة ، وأدّعيت أنا بأني جئت لزيارة بعض أصدقائي ، ومررنا بسلام وبدون تعطيل إلى قاعة استلام الحقائب ، عند ذلك همست له : أرأيت كيف أن التقيّة صالحة في كل زمان؟

قال : كيف؟

قلت : لأنّنا كذبنا على الشرطة ، أنا بقولي : جئت لزيارة أصدقائي ، وأنت بقولك : جئت للعلاج ، في حين أنّنا قدمنا للمؤتمر.

إبتسم ، وعرف بأنّه كذب على مسمع منّي فقال : أليس في المؤتمرات الإسلامية علاج لنفوسنا؟ ضحكت قائلا : أو ليس فيها زيارة لإخواننا (١) ؟

__________________

١ ـ مع الصادقين ، الدكتور التيجاني السماوي : ١٨٨.

١٠١

المناظرة الثانية عشر

مناظرة

الدكتور التيجاني مع أحد الأصدقاء في مشروعية

الصلاة والسلام على أهل البيت عليهم‌السلام

يقول الدكتور التيجاني : تحدّثت يوماً مع صديقي ورجوته وأقسمت عليه أن يجيبني بصراحة ، وكان الحوار التالي :

أنتم تُنزلون عليّاً ـ رضي الله عنه وكرّم الله وجهه ـ منزلة الأنبياء عليهم‌السلام ، لأني ما سمعت أحداً منكم يذكره إلاّ ويقول : عليه‌السلام.

قال : فعلا نحن عندما نذكر أمير المؤمنين أو أحد الأئمة من بنيه نقول عليه‌السلام ، فهذا لا يعني أنّهم أنبياء ، ولكنهم ذرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الذين أمرنا الله بالصلاة عليهم في محكم تنزيله ، وعلى هذا يجوز أن نقول : عليهم الصلاة والسلام أيضاً.

قلت : لا يا أخي ، نحن لا نعترف بالصلاة والسلام إلاّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأنبياء الذين سبقوه ، ولا دخل لعلي وأولاده في ذلك ـ رضي الله عنهم ـ.

قال : أنا أطلب منك وأرجوك أن تقرأ كثيراً حتى تعرف الحقيقة.

قلت : أي الكتب أقرأ يا أخي؟ ألست أنت الذي قلت : بأنّ كتب أحمد أمين ليست حجّة على الشيعة ، كذلك كتب الشيعة ليست حجّة علينا ولا نعتمد

١٠٢

عليها ، ألا ترى أنّ كتب النّصارى التي يعتمدونها تذكر أنّ عيسى عليه‌السلام قال : « إنّي ابن الله » في حين أن القرآن الكريم ـ وهو أصدق القائلين ـ يقول على لسان عيسى بن مريم : ( مَا قُلتُ لَهُم إلاّ مَا أمَرْتني بهِ أن اعبدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكم ) (١).

قال : حسناً قلت : لقد قلت ذلك ، والذي أريده منك هو هذا ، أعني استعمال العقل والمنطق والاستدلال بالقرآن الكريم والسنّة الصحيحة ما دمنا مسلمين ، ولو كان الحديث مع يهودي أو نصراني لكان الاستدلال بغير هذا.

قلت : إذاً ، في أي كتاب سأعرف الحقيقة ، وكل مؤلف وكلّ فرقة وكل مذهب يدّعي أنّه على الحق.

قال : سأعطيك الآن دليلا ملموساً ، لا يختلف فيه المسلمون بشتّى مذاهبهم وفرقهم ومع ذلك فأنت لا تعرفه!.

قلت : وقل ربّي زدني علماً.

قال : هل قرأت تفسير الآية الكريمة : ( إنَّ اللهَ وملائكَتَهُ يُصلُّونَ على النَّبي يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلُّوا عليهِ وَسلِّموا تَسلِيماً ) (٢).

فقد أجمع المفسّرون سنّة وشيعة على أن الصحابة الذين نزلت فيهم هذه الآية ، جاؤوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا رسول الله ، عرفنا كيف نسلّم عليك ، ولم نعرف كيف نصّلي عليك! فقال: قولوا اللّهم صلّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد(٣) ولا تصلّوا عليَّ

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ١١٧.

٢ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٥٦.

٣ ـ صحيح البخاري : ٧/١٥٦ ، صحيح مسلم : ٢/١٦ ، صحيح ابن حبان : ٣/١٩٤ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ٥/٢١٨ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ١٠/١٦٣.

١٠٣

الصلاة البتراء ، قالوا : وما الصلاة البتراء يا رسول الله؟ قال : أن تقولوا : اللّهم صلّ على محمد وتصمتوا ، وأنّ الله كامل ولا يقبل إلاّ الكامل (١).

ولكل ذلك عرف الصحابة ومن بعدهم التابعون أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا يصلّون عليه الصلاة الكاملة ، حتى قال الإمام الشافعي في حقّهم :

يا آل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم الشأن أنّكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة له (٢)

علي عليه‌السلام في صحيح البخاري

كان كلامه يطرق سمعي وينفذ إلى قلبي ويجد في نفسي صدىً إيجابياً ، وبالفعل فقد سبق لي أن قرأت مثل هذا في بعض الكتب ، ولكن لا أذكر في أي كتاب بالضبط ، وأعترفت له بأننا عندما نصلّي على النبي نصلّي على آله وصحبه

__________________

١ ـ راجع : الغدير للأميني : ٢/٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، الصواعق المحرقة لابن حجر : ٢٢٥ ، وروى محبّ الدين الطبري في الذخائر : ص ١٩ عن جابر رضي‌الله‌عنه أنّه كان يقول : لو صلّيت صلاةً لم اُصلِّ فيها على محمد وعلى آل محمد ما رأيت أنَّها تُقبل.

وروى الدار قطني عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين عن أبي مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من صلى صلاة لم يصل فيها عليَّ ولا على أهل بيتي لم تقبل منه.

وفي رواية عن أبي مسعود قال : لو صليت صلاة لم يصل فيها عن النبي 6 ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم. راجع : علل الدار قطني : ٦/١٩٧ ـ ١٩٨ ح ١٠٦٦ ، تفسير القرطبي : ١٤/٢٣٦ ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، القاضي عياض : ٢/٦٤ ، ينابيع المودة ، القندوزي : ٢/١١٦.

٢ ـ الإمام الشافعي ، حياته ـ شعره تحقيق إسماعيل اليوسف ص ٧٤ ، ينابيع المودة : ص ٣٥٤ ط الحيدرية وص ٢٥٩ ط إسلامبول و٢/٤٣٤ ح ١٩٧ ط دار الأسوة سنة ١٤١٦ هـ نور الأبصار ، الشبلنجي : ص ١٠٥ ط السعيدية وص ١٠٣ ط العثمانية ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ١٨ ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : ٢٢٨ ، الغدير للأميني : ج٢ ص ٣٠٣ وج٣ ص ١٧٣.

١٠٤

أجمعين ، ولكن لا نفرد عليّاً بالسلام كما يقول الشيعة.

قال : فما رأيك في البخاري؟ أهو من الشيعة؟

قلت : إمام جليل من أئمة أهل السنّة والجماعة ، وكتابه أصحّ الكتب بعد كتاب الله.

عند ذلك قام وأخرج من مكتبته صحيح البخاري وفتحه وبحث عن الصفحة التي يريدها ، وأعطاني لأقرأ فيه : حدّثنا فلان عن فلان عن علي عليه‌السلام ، ولم أصدّق عيني واستغربت حتى أنّني شككت أن يكون ذلك هو صحيح البخاري ، واضطربت وأعدت النظر في الصفحة وفي الغلاف!

ولمّا أحسّ صديقي بشكّي أخذ مني الكتاب وأخرج لي صفحة اُخرى فيها : حدّثنا علي بن الحسين عليهما‌السلام ، فما كان جوابي بعدها إلاّ أن قلت : سبحان الله واقتنع مني بهذا الجواب وتركني وخرج ، وبقيت أفكّر وأراجع قراءة تلك الصفحات وأتثبت في طبعة الكتاب فوجدتها من طبع ونشر شركة الحلبي وأولاده بمصر.

الإعتراف بالحق

يا إلهي ، لماذا أكابر وأعاند وقد أعطاني حجّة ملموسة من أصحّ الكتب عندنا ، والبخاري ليس شيعياً قطعاً ، وهو من أئمة أهل السنّة ومحدّثيهم ، أأسلم لهم بهذه الحقيقة وهي قولهم : علي عليه‌السلام ، ولكن أخاف من هذه الحقيقة فلعلّها تتبعها حقائق أخرى لا أحبّ الاعتراف بها ، وقد انهزمت أمام صديقي مرّتين ، فقد تنازلت عن قداسة عبد القادر الجيلاني وسلّمت بأنّ موسى الكاظم عليه‌السلام أولى منه ، وسلّمت أيضاً بأنّ عليّاً عليه‌السلام هو أهل لذلك ، ولكنّي لا أُريد

١٠٥

هزيمة اُخرى ، وأنا الذي كنت منذ أيام قلائل عالماً في مصر أفخر بنفسي ويمجّدني علماء الأزهر الشريف ، أجد نفسي اليوم مهزوماً مغلوباً ومع من؟ مع الذين كنت ولا أزال أعتقد أنهم على خطأ ، فقد تعوّدت على أنّ كلمة « شيعة » هي مسبّة.

إنّه الكبرياء وحبّ الذات ، إنّها الأنانية واللجاج والعصبية ، إلهي ألهمني رشدي ، وأعنّي على تقبّل الحقيقة ولو كانت مرّة.

اللّهم افتح بصري وبصيرتي ، واهدني إلى صراطك المستقيم ، واجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، اللّهم أرنا الحق حقّاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.

رجع بي صديقي إلى البيت وأنا أردّد هذه الدعوات ، فقال مبتسماً : هدانا الله وإيّاكم وجميع المسلمين ، وقد قال في محكم كتابه : ( وَالَّذينَ جَاهَدوا فينَا لَنَهدِيَنَّهم سُبُلنا وإِنَّ اللهَ لَمع المُحسِنينَ ) (١).

والجهاد في هذه الآية يحمل معنى البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة ، والله سبحانه يهدي إلى الحقِّ كلّ من بحث عن الحقّ (٢).

__________________

١ ـ سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩.

٢ ـ كتاب : ثم اهتديت ، الدكتور التيجاني : ٤٤ ـ ٤٧.

١٠٦

المناظرة الثالثة عشر

مناظرة

الدكتور التيجاني مع بعض السنّة

في أمر بعض الصحابة

قال الدكتور التيجاني : كنت يوماً في العاصمة التونسية (١) داخل مسجد عظيم من مساجدها ، وبعد أداء فريضة الصلاة جلس الإمام وسط حلقة من المصلّين وبدأ درسه بالتنديد والتكفير لأولئك الذين يشتمون أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واسترسل في حديثه قائلا :

إيّاكم من الذين يتكلّمون في أعراض الصحابة بدعوى البحث العلمي والوصول لمعرفة الحق ، فأولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، إنهم يريدون تشكيك الناس في دينهم ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا وصل بكم الحديث إلى أصحابي فأمسكوا (٢)، فوالله لو أنفقتم مثل أحد ذهباً لما بلغتم معشار

__________________

١ ـ تونس : عاصمة الجمهورية التونسية ، وعاصمة البلاد السياسية والاقتصادية والثقافية ، وهي أهم مدينة وميناء فيها ومركز صناعي في البلاد. ( المنجد ـ قسم الإعلام ـ ص ١٩٧ ).

٢ ـ راجع : المعجم الكبير ، الطبراني : ٢/٩٦ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٧/٢٠٢ ، كتاب المجروحين ، ابن حبان : ٣/١١٥.

١٠٧

أحدهم » (١).

وقاطعه أحد المستبصرين كان يصحبني قائلا : هذا الحديث غير صحيح وهو مكذوب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

وثارت ثائرة الإمام وبعض الحاضرين! والتفتوا إلينا منكرين مشمئزين ، فتداركت الموقف متلطّفاً مع الإمام وقلت له : يا سيدي الشيخ الجليل ، ما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في القرآن قوله : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسولٌ قَد خَلَت من قَبلِهِ الرُّسُلُ أفإن ماتَ أو قُتِل انقَلبتُم على أَعقابِكُم ، وَمَن يَنقَلِب على عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيئاً وَسَيجزي اللهُ الشاكِرين ) (٢).

الصحابة في صحيح البخاري ومسلم

وما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : « سيؤخذ بكم يوم القيامة إلى ذات الشمال ، فأقول : إلى أين؟ فيُقال : إلى النار والله ، فأقول : يا ربّ هؤلاء أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا من بعدك إنّهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ، ولا أرى يخلصُ منهم إلاّ مثل همل النعم » (٣).

وكان الجميع يستمعون إليّ في صمت رهيب ، وسألني بعضهم : إن كنت واثقاً من وجود هذا الحديث في صحيح البخاري؟

__________________

١ ـ راجع : الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، القاضي عياض : ٢/٥٤ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٢٠/١١.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٤٤.

٣ ـ صحيح البخاري : ٧/٢٠٨ ـ ٢٠٩ و٨/٨٧ ، صحيح مسلم : ٧/٦٦ و٨/١٥٧.

١٠٨

وأجبتهم : نعم كوثوقي بأن الله واحد لا شريك له ، و محمداً عبدهُ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولمّا عرف الإمام تأثيري في الحاضرين من خلال حفظي للأحاديث التي رويتها قال في هدوء : نحن قرأنا على مشايخنا رحمهم الله تعالى بأنّ الفتنة نائمة فلعن الله من أيقظها.

فقلت : يا سيدي الفتنة عمرها ما نامت ، ولكنّا نحن النائمون ، والذي يستيقظ منّا ويفتح عينيه ليعرف الحق تتهمونه بأنّه أيقظ الفتنة ، وعلى كل حال فإنّ المسلمين مطالبون باتّباع كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا بما يقوله مشايخنا الذين يترضّون على معاوية ويزيد وابن العاص.

وقاطعني الإمام قائلا : وهل أنت لا تترضّى عن سيدنا معاوية ، كاتب الوحي؟

قلت : هذا موضوع يطول شرحه ، وإذا أردت معرفة رأيي في ذلك ، فأنا أهديك كتابي « ثمّ اهتديت » (١) لعلّه يوقظك من نومك ، ويفتح عينيك على بعض الحقائق! وتقبّل الإمام كلامي وهديّتي بشيء من التردّد ، ولكنّه وبعد شهر واحد كتب إليّ رسالة لطيفة يحمد الله فيها أن هداه إلى صراطه المستقيم وأظهر ولاءً وتعلّقاً بأهل البيت عليهم‌السلام وطلبتُ منه نشر رسالته في الطبعة الثالثة لما فيها من معاني الود وصفاء الرّوح التي متى ما عرفت الحق تعلّقت به وهي تعبّر عن حقيقة أكثر أهل السنّة الذين يميلون إلى الحق بمجرد رفع الستار.

__________________

١ ـ وقد شرح فيه كيفية استبصاره والأسباب التي دعته للأخذ بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام وذلك بعد مسيرة ـ ليست قصيرة ـ من البحث والمناظرة في شتى مسائل الخلاف مع الأعلام والمحقّقين في النجف الأشرف وغيره.

١٠٩

ولكنّه طلب منّي كتم الرسالة وعدم نشرها ، لأنّه لا بدّ له من الوقت الكافي حتى يُقنع المجموعة التي تصلي خلفه ، وهو يحبذ أن تكون دعوته سلمية بدون هرج ومرج حسب تعبيره (١).

__________________

١ ـ كتاب فاسألوا أهل الذكر ، الدكتور التيجاني السماوي : ١١٥ ـ ١١٧.

١١٠

المناظرة الرابعة عشر

مناظرة

الدكتور التيجاني مع بعض علماء العامة في بومباي

في بعض المفتريات على الشيعة (١)

قال الدكتور التيجاني في رسالته التي أرسلها إلى السيد أبي الحسن الندوي العالم الهندي ـ معتذراً له عن عدم زيارته له في الهند ـ :

سيدي العزيز قدمتُ إلى الهند في زيارة قصيرة ، وكان أملي أن التقي بحضرتكم لما أسمعه عنكم ، ولما أعلمه بأنّكم المشار إليه بين أهل السنّة والجماعة عندكم ، ولكن عاقني عن ذلك بُعدُ المسافة وضيق الوقت ، واكتفيت بزيارة مدينة بومباي وبونة وجبل بور وبعض المدن الأخرى في كوجراتي ، وتألمت كثيراً لما شاهدته في الهند من عداوة وبغضاء بين أهل السنة والجماعة وإخوانهم المسلمين من الشيعة.

وقد كنت أسمع بأنهم يتحاربون ويتقاتلون أحياناً ، وتُسفك دماء بريئة من الطرفين باسم الإسلام، ولم أكن أصدق، معتقداً بأنّه مبالغة في التشويه ، ولكنّ ما

__________________

١ ـ وسوف تأتي بعض مضامينها أيضاً في مناظرته مع المفتي عزيز الرحمان في بومباي ، وهي نفسها ذكرناهما لتفاوت مضامينهما.

١١١

شاهدته وما سمعته خلال زيارتي يبعث حقّاً على الحيرة والاستغراب ، وأيقنتُ بأنّ هناك نوايا خسيسة ، ومؤامرات خطيرة تُحاك ضد الإسلام والمسلمين ، للقضاء عليهم جميعاً سنّة وشيعة ، ومّما زاد يقيني وضوحاً وعلمي رسوخاً تلك المقابلة التي دارت بيني وبين مجموعة من علماء أهل السنّة يتقدّمهم الشيخ عزيز الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية ، وكان اللقاء في مسجدهم بـ « بومباي » وبدعوة منهم.

وما أن حللتُ بينهم حتّى بدأ الازدراء والتهكّم والسبُّ واللّعنُ لشيعة آل البيت عليهم‌السلام وقد أرادوا بذلك استفزازي وإثارتي ، لعلمهم مُسبقاً بأنّي قد ألّفتُ كتاباً يدعو للتّمسك بمذهب أهل البيت ـ سلام الله عليهم ـ ولكنّي فهمتُ قصدهم ، وتمالكتُ أعصابي وابتسمتُ لهم قائلا : أنا ضيف عندكم ، وأنتم الذين دعوتموني فجئتكم مُسرعاً مُلبّياً ، فهل دعوتموني لتسبّوني وتشتموني ، وهل هذه هي الأخلاق التي علّمكم إيّاها الإسلام؟؟

فأجابوني بكل صلافة ، بأني لم أكن يوماً في حياتي مسلماً لأنني شيعي ، والشيعة ليسوا من الإسلام في شيء ، وأقسموا على ذلك.

قلتُ : اتّقوا الله يا إخوتي ، فربُّنا واحد ونبيُّنا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا واحدة ، والشيعة يوحّدون الله ، ويعملون بالإسلام اقتداءاً بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، وهم يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويحجّون بيت الله الحرام ، فكيف يجوز لكم تكفيرهم؟؟

أجابوني : أنتم لا تؤمنون بالقرآن ، أنتم منافقون تعملون بالتقية ، وإمامكم قال : التقية ديني ودين آبائي (١) ، وأنتم فرقة يهودية أسّسها عبد الله بن سبأ

__________________

١ ـ المحاسن ، البرقي : ٢٥٥ ح ٢٨٦ ، دعائم الإسلام ، القاضي المغربي : ١/١١٠.

١١٢

اليهودي (١).

__________________

١ ـ هذه الفرية .. ألصقها أعداء الشيعة فيهم ليخرجوهم عن الإسلام ويُكرّهوا الناس فيهم!! ومما لا شك فيه أنهم يعلمون جزماً براءة الشيعة من هذه الدعوى الكاذبة المزيفة ، والتي لا أساس لها إلاّ كراهيتهم لهذا المبدأ القويم الذي أسس مبادئه النبي الكريم 9 ، وهو الذي دعى إليه وشيّد أركانه ، وإن شئت فأقرأ ما جاء عن رسول الله 9 فيهم ، ومن ذلك قوله لأمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ إنك ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين. ( المعجم الأوسط ، الطبراني : ٤/١٨٧ ، مجمع الزوائد : ٩/١٣١ ، النهاية لابن الأثير : ٤/١٠٦ ).

٢ ـ أنت أول داخل الجنة من أمّتي ، وأن شيعتك على منابر من نور مسرورون مبيضة وجوههم حولي ، أشفع لهم فيكونون غداً في الجنة جيراني ( مجمع الزوائد : ٩/١٣١ ، كفاية الطالب ، الكنجي الشافعي : ١٣٥ المناقب ، الخوارزمي : ١٢٩ ح ١٤٣ ).

٣ ـ يا علي ، إن الله قد غفر لك ولذريتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك ولمحبّي شيعتك ( الصواعق ، ابن حجر : ١٦١ ، ٢٣٢ ، ٢٣٥ ينابيع المودة : ٢/٤٥٢ ح ٢٥٢ ).

٤ ـ أنت وشيعتك في الجنة ( تاريخ بغداد/٢٨٤ : ١٢ ).

٥ ـ إذا كان يوم القيامة دُعي الناس بأسمائهم ، وأسماء اُمّهاتهم ستراً من الله عليهم إلاّ هذا ـ يعني علياً عليه‌السلام ـ وشيعته فإنّهم يُدعون بأسمائهم وأسماء آبائهم لصحة ولادتهم ( مروج الذهب : ج ٢ ص ٤٤٨ دار الأندلس ، وج ٣ ص ٦ ط السعادة بمصر ).

وإن أردت المزيد في ذلك فراجع ما رواه المفسرون في قوله تعالى : ( إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البرية ) فقد رووا قول النبي 9 لعلي عليه‌السلام : هم أنت وشيعتك. ( راجع : الدر المنثور ، السيوطي : ٦/٣٧٩ في تفسير الآية الكريمة ).

فبعد هذا كلّه هل تجد مسوغاً لأحد أن يطعن في شيعة أهل البيت عليهم‌السلام الذين امتدحهم النبي 9 وبشرهم بموالاتهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ودعاهم للتمسّك به والاعتصام بحبل ولائه ، إذن ما هو ذنبهم بعدما قامت عندهم الحجة البالغة التي تأخذ بإعناقهم حتى يتفوه عليهم كلّ أفّاك أثيم بالقول الباطل والبهتان؟ كأن لم يكن عندهم شغلٌ شاغل في الحياة الدنيا إلاّ التعرض للفرقة الناجية بالسوء والقدح فيهم.

وهنا أترك القارئ الكريم أن يقرأ هذه المقالة القيمة التي جاءت على لسان واحد من الذين نصروا أهل البيت عليهم‌السلام بأيديهم وقلوبهم وألسنتهم وهو العلامة الأميني عليه الرحمة في رده على ابن حزم

١١٣

قلتُ لهم مبتسماً : دعونا من الشيعة ، وتكلّموا معي أنا شخصياً ، فقد كنتُ مالكياً مثلكم ، واقتنعتُ بعد بحث طويل بأن أهل البيت عليهم‌السلام هم أحق وأولى بالاتباع ، فهل عندكم حجّة تجادلوني بها ، أو تسألوني ما هو دليلي وحجّتي عسى أن نفهم بعضنا بعضاً؟

قالوا : أهل البيت هم نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنتَ لا تعرف من القرآن شيئاً.

قلت : فإنّ صحيح البخاري وصحيح مسلم يُفيدان غير ما ذكرتم!

قالوا : كل ما في البخاري ومسلم ، وكتب السنة الأخرى من حجج

__________________

الذي كال التهم إلى الشيعة الإمامية بلا تثبت فيما كتبه عنهم! قال عليه الرحمة :

نعم ذنبهم الوحيد الذي لا يغفر عند ابن حزم أنّهم يوالون علياً أمير المؤمنين عليه‌السلام وأولاده الأئمّة الأمناء صلوات الله عليهم إقتداءً بالكتاب والسنة ، ومن جزاء ذلك يستبيح صاحب الفصل من أعراضهم ما لا يُستباح من مسلم ، والله هو الحكم الفاصل.

وأما ما حسبه من أن مبدء التشيع كان إجابةً ممّن خذله الله لدعوة من كاد الإسلام ، وهو يريد عبدالله بن سبأ الذي قتله أمير المؤمنين عليه‌السلام إحراقاً بالنار على مقالته الإلحادية وتبعته شيعته على لعنه والبراءة منه.

فمتى كان هذا الرجس من الحزب العلوي حتى تأخذ الشيعة منه مبدءَها القويم؟! وهل تجد شيعياً في غضون أجيالها وأدوارها ينتمي إلى هذا المخذول ويمتُّ به؟! لكن الرجل أبى إلاّ أن يقذفهم بكل مائنة وشائنة ، ولو استشفَّ الحقيقة لعلم بحق اليقين أنّ ملقي هذه البذرة ـ التشيع ـ هو مشرع الإسلام 9 يوم كان يُسمّي من يوالي علياً عليه‌السلام بشيعته ويضيفهم إليه ويطريهم ويدعو أمّته إلى موالاته واتباعه.

ولتفاهة هذه الكلمة لا نسهب الإفاضة في ردّه ونقتصر على كلمة ذهبيّة للأُستاذ محمد كرد علي في خطط الشام : ج ٦ ص ٢٤٦ قال : أما ما ذهب إليه بعض الكتاب من أنَّ أصل مذهب التشيع من بدعة عبدالله بن سبأ المعروف بابن السوداء فهو وهمٌ!! وقلّة علم بتحقيق مذهبهم! ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك ، علم مبلغ هذا القول من الصواب.

الغدير : ج ٣ ص ٩٤ ـ ٩٥ ، ولتقف أيضاً على المزيد من حقيقة هذا الإفتراء راجع نفس المصدر : ج ٨ ص ٣٨٠ ـ ٣٨٢ ، وج ٩ ص ٢١٨ ـ ٢٢٢.

١١٤

تحتجّون بها هي من وضع الشيعة دسّوها في كتبنا.

أجبتهم ضاحكاً : إذا كان الشيعة وصلوا للدّس في كتبكم وفي صحاحكم فلا عبرة ولا قيمة لها ولا لمذهبكم القائم عليها!!

فسكتوا وأُفحموا ، ولكنّ أحدهم عَمَدَ إلى التهريج والإثارة من جديد فقال : من لا يؤمن بخلافة الخلفاء الراشدين سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي عليه‌السلام وسيدنا معاوية وسيدنا يزيد فليس بمسلم!

ودهشت لهذا الكلام ، الذي ما سمعتُ مثله في حياتي ، وهو تكفير من لا يعتقد بخلافة معاوية وابنه يزيد ، وقلتُ في نفسي : معقول أن يترضّى المسلمون على أبي بكر وعمر وعثمان فهذا أمرٌطبيعي، أما على يزيد فلم أسمع ذلك إلاّ في الهند، والتفتُّ إليهم جميعاً أسألهم: أتوافقون هذا على رأيه! فأجابوا كلّهم : نعم.

وعند ذلك عرفتُ بأن لا فائدة في مواصلة الكلام ، وفهمتُ بأنهم إنّما يريدون إثارتي حتّى ينتقموا منّي ، وربّما يقتلوني بدعوى سبّ الصحابة فمن يدري؟

ورأيت في أعينهم شرّاً ، وطلبتُ من مرافقي الذي جاء بي إليهم أن يُخرجني فوراً ، فأخرجني وهو يتحسّر ويعتذر إليَّ على ما وقع ، وهذا الشخص البريء الذي كان يرمي من وراء هذا اللقاء أن يتعرّف على الحقيقة هو الشاب المهذّب شرف الدين صاحب المكتبة والمطبعة الإسلامية في « بومباي » فهو شاهد على كل ما دار بيننا من هذه المحاورة المذكورة ، ولم يُخفِ استياءه من هؤلاء الذين كان يعتقد بأنهم من أكابر العلماء (١).

__________________

١ ـ كتاب : فاسألوا أهل الذكر ، الدكتور التيجاني : ١١ ـ ١٣.

١١٥

المناظرة الخامسة عشر

مناظرة

الدكتور التيجاني التونسي مع طه المصري (١)

في حديث الثقلين

يقول الدكتور التيجاني في رحلته إلى مصر : وصادف ذات يوم أن دخلنا إلى مسجد سيِّدنا الحسين عليه‌السلام لأداء صلاة الظهر ، وما أنهيت الصلاة ورفعت رأسي أقرأ الكتابات والنقوش الدائرة على جدران المسجد حتى شدَّني حديث الثقلين المكتوب قرب المحراب ، وفيه إضاءة كهربائيّة ، ناديت طه وطلبت منه قراءة الحديث ، قرأ : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي أبداً : كتاب الله وعترتي أهل بيتي (٢) ، فصاح يقول : مش معقول ، أنت ـ يا تيجاني ـ جئت بهذا الحديث وعلَّقته هنا؟!

وزادني استغراب طه فرحاً وسروراً؛ لأنه طالما جادلني في مضمون هذا الحديث ، وأنكر أن يقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: كتاب الله وعترتي ، بل كان دائماً يردِّد : كتاب الله وسنّتي ، وادّعى أنه ماسمع طيلة عمره أحداً يحدِّث بحديث: كتاب الله

__________________

١ ـ أكمل دراسته في النمسا ، وهو شابٌّ له اطّلاع وثقافة واسعة ، وقد تبع التيجاني في تجولاته في مصر وقت زيارته لها سنة ١٩٨٥ م.

٢ ـ تقدمت تخريجاته في المناظرة الخامسة.

١١٦

وعترتي ..

أخرجته من المسجد ، ثمَّ اتّجهت به إلى الأزهر الشريف حيث كان هناك معرض للكتاب ، قلت له : يا طه! اتق الله ولا تتكبَّر ، فأنا ما جئت بشيء من عندي ، وإن كان الحديث المكتوب في المسجد قد علَّقته أنا في هذه الأيام ، فما هو ردُّك على صحيح مسلم الذي بين يديك الآن ، وهو يباع في معرض الكتاب ، وهو من أقدم الكتب الإسلاميّة؟

قال : وهل فيه حديث : عترتي؟

فتحت له باب فضائل أهل البيت عليهم‌السلام وأطلعته على الحديث (١) ، فقرأه مرَّتين أو ثلاثاً ، فسكت طويلا وكأنه يفكِّر ، مصفرّاً وجهه ، وكأنه يعيد أنفاسه.

قلت : هذا غيض من فيض ، فلو أردت سأطلعك على عشرات الأحاديث التي تؤيِّد هذا المعنى ، وكلها من صحاح السنة.

قال بصوت خافت : الآن تشيَّعت ، واقتنعت بكل أقوالك في حقّ أهل البيت عليهم‌السلام.

وعمل طه في السهرات المتتالية على إقناع من تبقَّى من المجموعة ، وكان يؤيِّد كل ما أقول بالشواهد والأدلّة ، ويتحمَّس لها ، فتشيَّع بقية الشبّان ، وعددهم ثمانية (٢).

__________________

١ ـ جاء في صحيح مسلم : ٧/١٢٢ ـ ١٢٣ عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله 6 يوماً فينا خطيباً ، بماء يدعى خمّاً ، بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكَّر ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، ألا أيُّها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه ، ثمَّ قال : وأهل بيتي ، أذكِّركم الله في أهل بيتي ، أذكركِّم الله في أهل بيتي ، أذكركِّم الله في أهل بيتي.

٢ ـ كتاب : فسيروا في الأرض فانظروا ، التيجاني السماوي : ١٨ ـ ١٩.

١١٧

المناظرة السادسة عشر

مناظرة

الدكتور التيجاني التونسي مع بعض مرافقيه

في تايلاند فيما جرى على الأُمّة بعد النبيِّ 6

ورزية يوم الخميس

يقول الدكتور التيجاني في حديثه عن زيارته إلى تايلاند ـ بعد أن ذكر زيارته لمفتي جمهورية تايلاند ـ : وخرجت من عنده ، وركبت السيارة مع الأخ عبد الله النجفي ، وأنا أنظر إلى البنايات العالية وناطحات السحاب ، وأستحضر في خاطري عدد السكان في تايلاند ، الذي يتعدَّى الستين مليون نسمة ، منهم أكثر من أربعين مليون يعبدون الأصنام ، ويقيمون في كل مكان تمثالا لبوذا ، وما عبد فيها من الأصنام ، ثمَّ أستحضر عدد البوذيين في العالم ، وعدد الملحدين ، وعدد النصارى واليهود ، ثمَّ أستعرض عدد المظلَّلين من أمَّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأقول بصوت باك : ماذا ستلقى عند ربِّك يابن الخطاب؟

قال أحد المرافقين : وما دخل ابن الخطاب في هذا؟

قلت : إنّه هو المسؤول عن كل ضلالة حدثت بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : عجيب! بشر واحد يتسبَّب في ضلالة أمَّة كاملة؟

قلت : وما العجيب في ذلك؟ لقد حكى لنا القرآن الكريم أن رجلا واحداً

١١٨

اسمه السامري تسبَّب في ضلالة بني إسرائيل إلاَّ القليل القليل ، وهي أمَّة بأسرها ، كل ذلك مع وجود رسول الله موسى عليه‌السلام ، وفيهم هارون عليه‌السلام ، وغياب موسى عليه‌السلام ، فما بالك بأمَّة توفِّي نبيُّها ، وأبعد وليُّها وصيُّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها حتى كادوا يقتلونه لو لا سكوته؟

فأنا أؤمن متيقِّناً أنه لو لا وقوف عمر تلك الوقفة الجريئة على الله ورسوله ، ومنعه الناس أن يدخلوا بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وادّعائه أن محمّداً لم يمت ، وتهديده بالقتل من يقول بذلك.

أقول : لولا الوقفتان لما اختلف الناس ووقعوا في الضلالة.

قال مرافقي : فهمنا موقفه من رزيَّة يوم الخميس (١)، وأنه لو كتب ذلك الكتاب لما اختلف من الأمَّة اثنان كما قال ابن عباس(٢)، ولكن لم نفهم موقفه من

__________________

١ ـ والذي سمَّاها رزيّة هو ابن عباس ، وذلك لمَّا منع عمر رسول الله 6 من كتابة الكتاب ، وقد رواها البخاري ، فقد روى أنَّ عبيد الله قال : وكان ابن عباس يقول : إن الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. صحيح البخاري : ٧/٩ و٨/١٦١ ، صحيح مسلم : ٥/٧٦ وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث في مناظرة السيِّد الرضوي مع الدكتور طه حسين.

٢ ـ روى أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس قال : إنّي كنت عند عبد الله بن عباس في بيته ، وعنده رهط من الشيعة ، قال : فذكروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموته ، فبكى ابن عباس ، وقال : قال رسول الله 6 يوم الاثنين ـ وهو اليوم الذي قبض فيه ـ وحوله أهل بيته وثلاثون رجلا من أصحابه : ايتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لن تضلُّوا بعدي ، ولن تختلفوا بعدي ، فمنعهم ( فلان ) فقال : إن رسول الله يهجر ، فغضب رسول الله 6 وقال : إني أراكم تخالفوني وأنا حيٌّ ، فكيف بعد موتي؟ فترك الكتف.

قال سليم : ثمَّ أقبل عليَّ ابن عباس فقال : يا سليم! لو لا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا يضلُّ أحد ولا يختلف ، فقال رجل من القوم : ومن ذلك الرجل؟ فقال : ليس إلى ذلك سبيل ، فخلوت بابن عباس

١١٩

منع الناس أن يدخلوا بيت النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته ، وقوله : بأنه لم يمت ، فهل عندك تفسير لذلك؟

قلت : طبعاً ، الأمر واضح وضوح الشمس ، لأن عمر أدرك بدهائه أن الصحابة إذا ما دخلوا إلى البيت النبويِّ ، ورأوه ميِّتاً وإلى جانبه الإمام علي عليه‌السلام فسيبايعونه على الفور ، وإذا ما بايع جمع من الصحابة عليّاً عليه‌السلام فسيكون من المستحيل بعدها مبايعة خليفة ثان.

قال مرافقي عند سماعه هذا التحليل : الله أكبر! من يفكر بهذا التفكير؟ .. إلخ (١).

لماذا لم يدعُ أميرالمؤمنين عليه‌السلام الناس إلى بيعته ولم يغتنم الفرصة؟

ولعلّه يقول قائل : إذا كان الخليفة إنّما فعل ما فعل ليحول بين الناس وبين بيعة أميرالمؤمنين عليه‌السلام فهذه الخطّة إذن لم تكن لتخفى على أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، فلماذا لم يخرج إلى الناس ويخبرهم بحقيقة الأمر ، ويدعوهم للبيعة لنفسه؟

والجواب على ذلك نفهمه من خلال كلام أميرالمؤمنينعليه‌السلاممع عمِّه العباس ابن عبد المطلب ، فقد روى الشيخ المفيد عليه الرحمة أن العباس قال لعلي عليه‌السلام في اليوم الذي قبض فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمبما اتفق عليه أهل النقل: ابسط يدك ـ يا بن أخ ـ أبايعك ، فيقول الناس : عمُّ رسول الله بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك

__________________

بعد ما قام القوم ، فقال : هو عمر ، فقلت : صدقت ، قد سمعت عليّاً عليه‌السلام وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون : إنه عمر ، فقال : يا سليم! اكتم إلاَّ ممن تثق بهم من إخوانك ، فإن قلوب هذه الأمَّة .. إلخ.

كتاب سليم بن قيس ، تحقيق محمّد باقر الأنصاري : ٣٢٤ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٢٢/٤٩٧ ـ ٤٩٨ ح ٤٤.

١ ـ فسيروا في الأرض فانظروا ، الدكتور محمّد التيجاني : ٣١٣ ـ ٣١٥.

١٢٠