أوضاع المرأة المسلمة ودورها الإجتماعي من منظور إسلامي

الشيخ حسن الجواهري

أوضاع المرأة المسلمة ودورها الإجتماعي من منظور إسلامي

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-91259-0-9
الصفحات: ٢٢٣

وكما أنّ آسية بنت مزاحم قد تحدّت الضغط العائلي في عقيدتها ودينها ، فإنّ مريم بنت عمران قد تحدّت الضغط الاجتماعي الذي يجرف معه النساء ويحرفهن عن عقيدتهن وتديّنهن بالدين الحقّ ، إلاّ أنّ هذا الضغط الاجتماعي في مخالفة الشريعة لا يكون عذراً للمرأة ، فالدين يُطالب المرأة أن تقاوم كلّ المؤثّرات الاجتماعية السلبية وتحافظ على دينها مهما كلّفها ذلك من ثمن.

فقد كانت البيئة الاجتماعية التي تعيش فيها مريم لا تعتني بالقيم الدينية ، ولا تعتني بالرموز المتصدية لتجسيم تلك القيم كالأنبياء والأوصياء ، حيث كان قتل الأنبياء من أهون الأُمور لديهم ، فقد كانوا يقتلون في اليوم والليلة سبعين نبياً من أنبيائهم ، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون وكأن لم يصدر منهم أيّ ذنب وجريمة ، وقد حدث ذلك أيضاً مع الأنبياء المعاصرين لمريم عليها‌السلام كزكريا ويحيى وعيسى (١).

وقد كانت تلك البيئة متهتّكة تنتشر فيها الفاحشة والأوبئة الأخلاقية ، حيث مدح الله مريم بأنّها أحصنت فرجها فقال (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) (٢) ، ومدح الله يحيى بانه (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) (٣).

ومع ذلك فقد ضرب الله لنا مثالاً للمحافظة على العفّة والطهارة والتديّن ، فمن النساء مريم ، ومن الرجال يحيى ، وهذا يدلّ على أنّ الرؤية القرآنية للمرأة

__________________

السلام» فقالت : مَن هنّ يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله «مريم بنت عمران وكلثم اُخت موسى ، وآسية امرأة فرعون». فقالت بالرفاه يا رسول الله ، راجع من لا يحضره الفقيه ، للشيخ الصدوق ١ : ١٣٦.

(١) راجع تفسير الميزان ١٤ : ٢٨ ، ٢٩.

(٢) التحريم : ١٢.

(٣) آل عمران : ٣٩.

٤١

المحافظة على الدين والعبادة حيث ضرب لها كفيلها زكريا من دون الناس حجاباً عندما أدركت وبلغت ، فكانت تعبد الله تعالى ولا يدخل عليها إلاّ زكريا.

فمريم رغم البيئة غير المتديّنة (كَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) ، وقال عنها الله تعالى : (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (١).

__________________

(١) آل عمران : ٤٣.

٤٢

نظرة الإسلام للمرأة وسموّها العقلي (العلم)

وهكذا نظر القرآن الكريم إلى المرأة على أنّها مستقلّة في مجال الفكر والمعرفة ، فأعطاها استقلالها في المعرفة ، ونظر إليها على أنّها صاحبة رأي وحكمة.

وهذا يمكن معرفته من تجربة بلقيس بنت شرحبيل (ملكة اليمن) ، التي عرض القرآن لنا تجربتها على أنّها تجربة إنسانية قابلة لأن تكون مورداً للتأسي والاقتداء ، وقد نظر القرآن لها بعين الرضى والقبول حيث لم يقابلها بالنقد والتجريح.

فقد كانت حكمة بلقيس قد تجلّت في استشارتها لمجلسها الذي شكّلته من عدد أفراد القبائل التي كانت ساكنة باليمن ، وفي خضوعها للحقّ من دون مكابرة عندما بيّن لها أن الذي يدعوها للدخول في الدين الجديد هو نبي من أنبياء الله تعالى ، فقد قال تعالى على لسان بلقيس : (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلاَُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) (١) ، فهي الملكة والأمر أمرها ولكن لم تتخذ قراراً إلاّ بعد التشاور.

وقد كان قرار المجلس يميل إلى الحرب إذ قالوا لها : (نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّة وَأُولُوا بَأْس شَدِيد) ، ولكنّها كانت تعلم (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا) (٢) فاختارت أن تعرف نوايا صاحب الرسالة (سليمان) هل هو من الملوك الظلمة ، فإنّه سيفرح بهدية تهديها له هذه الملكة ويكفّ عنها ، وإن لم يكفّ فهم قادرون على مقابلته ، وإن كان

__________________

(١) النمل : ٣٢.

(٢) النمل : ٣٤.

٤٣

هو من الأنبياء فسوف يردّ الهدية ، ولا يرضى إلاّ بدخولهم في طاعته ، والنبي لا طاقة للملكة في مقابلته ، ولذا صمّمت على إرسال الهدية له (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّة فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (١).

ولكن عندما علمت أنّه لم يقبل الهدية حيث كان الجواب : (فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُود لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) (٢) وهنا علمت بلقيس إنّ هذا الذي يدعوها للدخول في طاعته وقبول رسالته هو نبيّ من أنبياء الله ، وهي وقومها لاطاقة لهم في مقابلة النبيّ ، فصمّمت على الارتحال إلى سليمان وقالت : (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيَْمانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٣) فاعترفت بالخطأ الذي كانت عليه وأقرّت بالإيمان بكلّ شجاعة.

فالقرآن حينما يسجّل لنا هذه التجربة الإنسانية ، يريد أن يوضّح لنا موقفه من المرأة التي كانت حكيمة وعالمة ، وحيث لم يقابل هذه التجربة بالنقد والتجريح نفهم أن القرآن الكريم يُجيز للمرأة أن تكون قائدة لاُمّة إذا كانت عالمة وقادرة على قيادة هذه الاُمة بالتدبّر والتفكّر والحكمة والعلم.

إلى هنا تبيّن لنا أنّ المرأة تتمكّن أن تواجه الضغط العائلي كما واجهته آسية زوجة فرعون في صمودها على إيمانها وعبادتها ، وتتمكّن أن تواجه الضغط الاجتماعي كذلك كما واجهته مريم بنت عمران وآمنت بالله وعبدته رغم انحراف مجتمعها عن الحقّ والعدل ، وتتمكّن أن تكون صاحبة عقل وفكر وحكمة وعلم كما في بلقيس.

__________________

(١) النمل : ٣٥.

(٢) النمل : ٣٦ ـ ٣٧.

(٣) النمل : ٤٤.

٤٤

فالمرأة إذن يمكن أن تكون مثالاً للالتزام والتديّن بما تعتقد به ، ومثالاً للحكمة والعلم والسموّ العقلي ، فهي متكاملة وليست ناقصةً متدنيةً عن الرجال كما يريد أن يصوّرها لنا الآخرون.

قد يقال : إنّ ما ذكره القرآن في قصة آسية زوجة فرعون ومريم بنت عمران وبلقيس ، لا يمكن أن يكون هو القاعدة وهو الفطرة في صنف النساء ، بل هذه النساء استثنيت من النساء نتيجة الاصطفاء الإلهي ، فلايمكن أن يقاس عليها غيرها من النساء.

الجواب : إنّ هذه النساء التي تقدّم الكلام عنها ، وكذا بقية النساء التي لها الأثر في تاريخ مسيرة النبوّة الخاتمة نبوّة نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كخديجة وفاطمة وغيرهما من النساء البارزات والمميّزات ، لم يرد النصّ بالاصطفاء في أيّهم سوى السيّدة مريم (أم عيسى).

واصطفاء السيّدة مريم لم يكن بمعنى تمييزها عن سائر النساء بمواهب وكفاءات تماثل فيها الرجال ، وتفوق بها النساء ، بل الاصطفاء هنا بمعنى آخر ، إذ قالت الآية الكريمة : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) (١).

وقد ذكر المفسّرون أنّ المراد من الاصطفاء الأوّل في الآية : هو تفريغها للعبادة والخدمة في الهيكل ، بعد استثنائها من الحظر المفروض على النساء في هذا الشأن ، وذلك استجابة لنذر أُمّها بتحرير حملها للعبادة المحكي في قوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي) (٢).

__________________

(١) آل عمران : ٤٢.

(٢) آل عمران : ٣٥.

٤٥

والاصطفاء الثاني : هو اختيارها لولادة عيسى عليه‌السلام الإعجازية.

فالاصطفاء الأوّل : هو استجابة لدعاء وعوناً على التقوى لإعدادها لموضوع الاصطفاء الثاني ، وهو الحمل الإعجازي.

إذن السيّدة مريم لا تتميّز عن سائر النساء في سائر حالاتها وشؤونها الإنسانية ، فالمرأة بحسب إنسانيّتها وخلقتها الأصليّة قابلة لتولّي المهام في الحياة العامة كالرجل ، فهي كاملة وليست ناقصة ومتدنية عن الرجال في الأعمال العامة إذا سنحت لها الفرصة والتربية والتمرين على ذلك.

نعم ، هناك اصطفاء عام للرجال والنساء ذكره القرآن في موارد ثلاثة :

١ ـ قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (١).

٢ ـ قال تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) (٢)

٣ ـ قال تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣)

وهذه الآية الثالثة تصرّح بأنّ الاصطفاء لا يعني حتميّة التمييز ; لأنّ في هؤلاء المصطفين من لم يعمل بالكتاب وانحرف عن نهج الله.

إذن سيكون معنى الاصطفاء هو الاختيار للمهمة والمعونة عليها ، ولكنّ الأمر في انجاز المهمة متروك لإرادة الإنسان واختياره ، فلايكون الاصطفاء بمعنى التغيير في حالات النساء والشؤون الإنسانية.

ملاحظة : إنّ الهدف من القصص في القرآن هو التعليم بذكر القدوة العملية في

__________________

(١) آل عمران : ٣٣.

(٢) النمل : ٥٩.

(٣) فاطر : ٣٢.

٤٦

مجال الخير ، وذكر أمثلة الانحراف والشرّ للتحذير منها. اذن هي أمثلة للعمل والاتباع ، وليست لمجرّد المعرفة البشرية أو لتوثيق التاريخ أو للتسلية.

اذن يمكن القول : إنّ القصص القرآني يكشف عن مباديء ثابتة في الشريعة الإسلامية ، يمكن للفقيه أن يأخذها في اعتباره عند البحث عن الحكم الشرعي أو الاستدلال عليه في مقام الاجتهاد والاستنباط.

وعليه ستكون نظرة القرآن للمرأة هي المرجع في فهم النصوص التشريعية وتفسيرها ، فلاحظ.

٤٧
٤٨

دور المرأة في الأُسرة في النظرة الإسلامية

يتبيّن دور المرأة في الأُسرة لوظائفها الخاصة من نواحي متعددة :

أولها : أنّها زوجة صالحة ، يسكن إليها الزوج حيث يكون الإيمان بالله والعلم الذي تحصل عليه نتيجة ندب الإسلام إليه ، هما القائدان لها لأن تكون زوجة صالحة في بيت الزوجية يسكن إليها الزوح.

قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَاحِدَة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (١).

وقال سبحانه : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (٢).

فالعلاقة الزوجية هدفها السكن (الاطمئنان) لكلا الطرفين ، فكلّ طرف يجد راحة وسعادة في بيت الزوجية بسبب وجود الآخر.

وكلامنا بما أنّه في الزوجة ، فيجب أن تكون الزوجة صالحة توفّر السكن والاطمئنان للزوج وتسعى لنشر السعادة والهدوء في بيت الزوجية ، فيترقّب منها أن تأتي بكلّ ما من شأنه توفير هذه الحالة.

__________________

(١) الأعراف : ١٨٩.

(٢) الروم : ٢١.

٤٩

ومن مميّزات صلاح المرأة أنّها ذات دين تحفظ الزوح إذا غاب عنها في نفسها وماله ، وتسرّه إذا حضر عندها ، وتطيعه إذا أمرها.

فقد ورد في معتبرة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «ما أفاد عبد فائدة خيراً من زوجة صالحة ، إذا رآها سرّته ، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله» (١).

وورد في معتبرة بريد بن معاوية العجلي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله عزّ وجلّ : إذا أردتُ أن أجمع للمسلم خير الدنيا وخير الآخرة جعلت له قلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وجسداً على البلاء صابراً ، وزوجة مؤمنة تسرّه إذا نظر إليها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله» (٢).

وورد عن عبدالله بن ميمون القدّاح عن الإمام الصادق عن آبائه قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما استفاد امرء مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها ، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله» (٣).

وقد ورد عن النوفلي عن السكوني عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من سعادة المرء الزوجة الصالحة» (٤).

ثانيها : أنّها أُمّ مربّية ، فمن مسؤوليات المرأة حسب الرؤية الإسلامية (القرآنية) أنّها أُمّ مربّية ، تتبنّى دور الرعاية والتربية للأبناء ، وهو الدور المختصّ بالمرأة ، ولا يمكن أن يتناسب مع تركيبة الرجل وأدواره المكلّف بها.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٤ : باب ٩ من مقدّمات النكاح ، حديث ٦.

(٢) المصدر السابق : حديث ٨.

(٣) المصدر السابق : حديث ١٠.

(٤) المصدر السابق : حديث ١٢.

٥٠

وفي الخطاب القرآني حيث يؤكّد على برِّ الوالدين من ناحية تربيتهم للولد ، قال تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلا كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (١).

فبرّ الوالدين بالإحسان لهما له سبب ، وهو الدور التربوي الذي يقومان به ، فالأب له دور تربوي وكذا الأُمّ ، وهذه الآية تؤكّد على الدور التربوي بمعناه العام الذي يشمل الأب والأُمّ.

ولكن هناك نصوص قرآنية تتعلّق بالدور التربوي للأُمّ ، ويتمثل في موردين :

الأوّل : الحمل والرضاعة ، وهو على رأس الأدوار التربوية التي تضطلع به الأُمّ ، فقد جاء في سورة لقمان : (وَوَصَّيْنَا الاِْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٢).

وجاء في سورة الأحقاف : (وَوَصَّيْنَا الاِْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً) (٣).

فالأُمّ تقوم بدور عظيم في سنتين ونصف السنة ، ألاّ وهو الحمل والرضاعة.

الثاني : الحنان والرعاية (الحضانة) ، ويظهر هذا الدور من خلال تجربة أُمّ موسى ، فيظهر مستوى الحبّ والحنان الذي كان يتدفّق من قلب أُمّ موسى اتجاه ابنها ، قال تعالى في سورة القصص : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ

__________________

(١) الإسراء : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) لقمان : ١٤.

(٣) الاحقاف : ١٥.

٥١

* وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْن لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لاُِخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُب وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (١).

فخوف أُمّ موسى وحزنها في بداية الأمر ، وقرّة عينها في نهاية الأمر ، تعبير بليغ عن الحبّ والحنان اللذان هما من الشروط التربوية المهمة لرعاية الطفل.

وفي معرض الحديث عن الأُسرة لا بأس بذكر كلمة الرئيس السابق «جورباتشوف» في كتابه عن البروستريكا فقال ما مضمونه : «إنّ المرأة بعد أن اشتغلت في مجالات الانتاج والخدمات والبناء ، وشاركت في النشاط الإبداعي ، لم يعد لديها وقت للقيام بواجباتها اليومية من أعمال المنزل وتربية الأطفال».

وأضاف قوله : «لقد اكتشفنا أنّ كثيراً من مشاكلنا في سلوك الأطفال والشباب وفي معنوياتنا وثقافتنا وإنتاجنا تعود جميعاً إلى تدهور العلاقات الأُسريّة ، وهذه نتيجة طبيعيّة لرغبتنا الملحّة والمسوَّغة سياسياً بضرورة مساواة المرأة بالرجل» (٢).

المرأة والعمل :

بالإضافة إلى أعمال المرأة الخاصة من كونها زوجة وأُمّ ومربيّة وحاضنة ، لها أن

__________________

(١) القصص : ٧ ـ ١٣.

(٢) من مقال لمحمود كريم سليمان بعنوان : أساليب تغريب المرأة وآثارها ، مجلة البيان www.albayan ـ magazine.com

٥٢

تقوم بالأعمال العامة إذا سنحت لها المكنة ، فلا يوجد ردع عن مزاولة الأعمال خارج البيت في عفّة وطهارة منها ، فبالإضافة إلى الخطابات العامة الحاثّة على العمل الشاملة للذكر والاُنثى ، هناك إشارات قرآنية تدلّ على أنّ المرأة بالخصوص لها الحقّ في مزاولة الأعمال خارج نطاق البيت ، فتشارك في الحياة الاجتماعية كالرجل ، ولكن بشرط العفّة وعدم الانزلاق في ما لا يرضى الله نتيجة أعمالها الاجتماعية.

عمل المرأة إذا جاء ضمن حدود الله في الزيّ والعفّة والعلاقات الزوجية :

الإسلام أقرّ عمل المرأة المهني كالرجل ، فهي يجوز لها أن تستثمر طاقتها ووقتها لإغناء المجتمع بالعمل المنتج ، كالتعليم والتمريض والطبّ والجراحة ، وأعمال الخير والتوعية الاجتماعية ، وغيرها. بل هناك واجبات عامة (١) على الأُمّة والمجتمع ، وهي ما تسمّى بالواجبات الكفائية على الأفراد ، إلاّ أنّها واجبات عينية على الأُمّة ، حيث يكون المخاطب بها المجموع ، فتكون المرأة مشمولة بالعمل لهذه الأعمال الواجبة ، وهذا يقتضي أن يعدّ المجتمع (نساءً ورجالاً) للقيام بأعباء الواجبات العامّة من تعليم عليها وإعداد لها مع الستر والعفّة للنساء ، والدليل على ذلك :

١ ـ قوله تعالى : (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ) (٢) ، فدلّت على جواز اكتسابها بالعمل.

٢ ـ عموم وإطلاق الأدلّة الأوليّة على إباحة العمل المهني والاجتماعي للإنسان لكسب المال حيث قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا

__________________

(١) كحفظ النظام ، والدفاع عن الدين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأمثال ذلك.

(٢) النساء : ٣٢.

٥٣

وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١) والمشي في مناكب الأرض يراد منه العمل واستخراج الثروة وابتغاء الرزق ، وهذا يشمل كلّ عمل لم يرد فيه تحريم من الشريعة.

وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الاَْرْضِ) (٢).

وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (٣).

وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ) (٤).

فالخطاب في الآيات المتقدّمة لكلّ البشر ، فيشمل النساء والرجال معاً ، ومعنى تسخير الأرض أو السماء هو جعلها في متناول الإنسان لأجل العمل واستخراج الثروة منها.

٣ ـ الآيات القرآنية الدالّة على جواز أخذ الاُجرة على عملية الإرضاع ، قال تعالى : (وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ) (٥).

وقال تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوف وَإِن

__________________

(١) الملك : ١٥.

(٢) الحج : ٦٥.

(٣) لقمان : ٢٠.

(٤) الجاثية : ١٢ ـ ١٣.

(٥) البقرة : ٢٣٣.

٥٤

تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) (١).

وهاتان الآيتان صريحتان على أنّ الأب له الحقّ في استئجار امرأة لترضع له ابنه ، فيدلّ بالضرورة على جواز إيجار المرأة نفسها لهذا العمل.

٤ ـ هناك روايات كثيرة تدلّ على جواز كسب المرأة ، منها الرواية الصحيحة عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «دخلت ماشطة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لها : هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ فقالت : يا رسول الله أنا أعمله إلاّ أن تنهاني عنه فانتهي عنه. فقال : افعلي ، فإذا مشّطت فلا تجلي الوجه بالخرق فإنّه يذهب بماء الوجه ولا تصلي الشعر بالشعر» (٢).

فهي تدلّ على جواز كسب المرأة في عملية تجميل النساء ، ولكن بما أنّه لا خصوصيّة لهذه المهنة ، فنستفيد جواز عمل النساء في كلّ مهنة لم تكن محرّمة.

ومنها حسنة الحسين بن يزيد الهاشمي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «جاءت زينب العطّارة (الحولاء) إلى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (وبناته فكانت تبيع منهن العطر) فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا هي عندهن ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أتيتنا طابت بيوتنا. فقالت : بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإذا بعتِ فأحسني ولا تغشي (ولا تغبني) فإنّه أتقى لله وأبقى للمال» (٣).

فهذه كانت تدخل البيوت للبيع وتختلط بالرجال والنساء ، وقد أقرّها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على عملها.

ولا نرى حاجة إلى سرد الأدلّة الباقية الكثيرة الدالّة على جواز عمل المرأة

__________________

(١) الطلاق : ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٢ : باب ١٩ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢.

(٣) وسائل الشيعة ١٢ : باب ٤ من أبواب آداب التجارة ، الحديث ١.

٥٥

المهني للكسب ; لوضوحه هذا الزمان.

قد يقال : إنّ عمل المرأة إذا كان في بيتها فلابأس به ، ولكن إذا كان ملازماً لاختلاط النساء بالرجال ـ كما في المؤسسات الحكومية والعامة من وجود رئيس ومرؤوس ، أو طالب وطالبة ، أو استاذ وتلميذ ، وقد يؤدي إلى خلوة الرجال بالمرأة ـ فهو عمل لا يجوز ; لأنّه يؤدّي إلى الفساد وإثارة الغرائز تحت ستار العمل.

والجواب : إنّنا نفترض أنّ العمل إذا كان مختلطاً من الرجال والنساء في أوضاع موافقة لأحكام الشريعة «لا مخالفة لها كما في السفور والميوعة ووجود الريبة والاختلاط المحرم» فالاختلاط الحاصل من العمل إذا فرض في حدود الشريعة الإسلامية وآدابها ، فلا دليل على انتهائه إلى الفساد وإثارة الغرائز ، فلا دليل على حرمته ، على أنّ هذا إذا كان دليلاً على الحرمة فهو يدلّ على حرمة بيع الرجال للنساء في الأسواق الإسلامية.

بالإضافة إلى أنّنا نرى لابديّة أن يحرص ربّ العمل أو الجامعة أو الحكومة على تهيئة ظروف نقيّة عند حصول الاختلاط ، بحيث لا يكون أيّ مناخ للنزوات المريبة والممارسات غير الشرعية واللقاءات المريبة البعيدة عن علاقات الدراسة أو العمل.

وقد يقال : إنّ عمل المرأة المتزوّجة يخلّ بعملها في البيت الزوجي واهتمامها بالأولاد والزوج ، وهو يتنافى مع الوظيفة المهمة للمرأة في البيت الزوجي ، فهو يؤدّي إلى تفكيك الأُسرة التي اهتمّ بها الإسلام.

والجواب : إنّ الزوجة ملزمة باستجابتها للاُمور الجنسية المتعارفة وتهيئة السكن اللازم للزوج ، كما أنّه ملزم هو بذلك أيضاً ، وهذا السكن هو أكبر إنجاز للمرأة والرجل إذا تحقّق لهما ، وبعد ذلك يأتي دور العمل خارج البيت ، فيكون جائزاً في

٥٦

صورة موافقة الزوج عليه بعد التشاور ومراعاة مصلحة الأُسرة والبيت الزوجي ، فإذا اقتنع الزوج بعدم وجود ما يلكأ السكن الروحي لهما إذا عملت خارج البيت ، فهو الذي يجيز خروجها ; لأنّه هو المدبّر لاُمورها والراعي لها والمدافع عنها.

وإذا رأى أنّ خروجها من البيت للعمل سوف يؤدّي إلى الاعتداء عليها وتضييعها وتميعها ، كما إذا كانت قرائن كثيرة تدلّ على ذلك ، فله الحقّ في منعها ; لأنّه القيّم عليها والمحافظ عليها والمدبّر لامورها ، فهو المسؤول عن هداية هذا البيت الزوجي لشاطئ السلامة ، ولا نرى حاجة لتكرار عدم قيمومته عليها إذا كان يتحكّم في عدم خروجها قاصداً أذيّتها ومظهراً لتجبّره وتكبّره عليها.

المرأة البنت :

قد تكون المرأة بنتاً في بيت أبيها ، وفي هذه الحالة ، فالأب له ولاية على بنته غير البالغة ، ولاية مطلقة في الأموال والزواج ، فيتمكّن الأب في هذه الصورة من التصرّف في أموال الصغيرة ، وأن يزوّجها فيما كان فيه مصلحة لهذه البنت الصغيرة. فإن بلغت هذه البنت وبان رشدها فقد ارتفعت ولاية الأب عليها إلاّ في الزواج ، بمعنى أنّ زواجها موقوف على رضى الأب ورضاها معاً (١).

وطبعاً تكون ولاية الأب في زواجها في هذه الصورة من باب مصلحتها واختيار مايناسبها ، فإنّها تحتاج إلى من له خبرة في هذا الأمر الكبير ، وهو الزواج.

وفي هذه المرحلة يجب على الأب والاُمّ تربية هذه البنت تربية حسنة والرعاية الكاملة لها التي تحتاجها في هذه المرحلة ، كما يلزمها البرِّ بوالديها ، ويحرم عليها

__________________

(١) هذا القول هو المنصور ، وإلاّ فالأقوال خمسة في هذه المسألة ، ولعلّ المشهور هو أنّه لا ولاية عليها إذا بلغت.

٥٧

أن تكون عاقّة للوالدين ، وقد اعتبرت الروايات العقوق من الكبائر حتى ورد في صحيح عبدالله بن المغيرة عن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : «كن باراً وأقصر على الجنة وإن كنت عاقّاً فاقصر على النار» (١).

وقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «أدنى العقوق اُفٍّ ، ولو علم الله شيئاً أهون منه لنهى عنه» (٢).

وعلى هذا فإنّ الأب وإن لم يكن له ولاية على البنت بعد بلوغها إلاّ في الزواج ، إلاّ أنها يجب عليها أن لا تقدم على شيء يلزم منه الأذى للاُبوين ; لأنّه من العقوق المحرّم.

وبهذا نفهم أنّ هذه البنت في هذه المرحلة يجب أن تكون علاقاتها بالوسط العام الاجتماعي في مرأى من الأبوين ، فهي بحاجة إلى إجازة وإخبار الأبوين عند مغادرتها البيت ، وإعلام لهما عن وجهتها خارج البيت ، وإخبارهما عن المسائل المهمة التي تصادفها خارج البيت ، وتستشيرهما وتستجيزهما قبل إقدامها على اتخاذ أيّ قرار يتعلّق بمصيرها وسمعتها وما شابه ذلك ، لأنّ هذه الاُمور لو تفاجأ بها الأبوان في حال اشتباه البنت وعدم إخبارها لهما بما تعمله خارج البيت ، لسبب ذلك أذىً شديداً لهما وهو من العقوق.

المرأة الزوجة :

إنّ الزواج الذي يقدم عليه الذكر والاُنثى بالإضافة إلى أنّه حاجة جسدية يطلبها كلّ من الذكر والاُنثى ، إلاّ أنّه له هدفان :

الأوّل : السكن والطمأنينة التي تحصل من الزواج ويقدّمها كلّ صنف للآخر.

الثاني : المعاشرة بالمعروف التي تحقّق السكن لكلّ من الزوجين.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٤ : باب ١٠٤ من أحكام الأولاد ، حديث ١.

(٢) المصدر السابق : حديث ٢.

٥٨

أمّا الهدف الأوّل : فأشارت إليه آيتان مباركتان من القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ) (١).

وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَاحِدَة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (٢)

فالسكن : هو الاطمئنان الذي يقدّمه كلّ من الزوجين للآخر ، وبعبارة أُخرى : هو التعامل اليومي بين الزوجين الذي يزرع بينهما السعادة والاطمئنان والراحة ، فيكون الجوّ العائلي جوّاً ساكناً يبعث على الاطمئنان والهدوء لكلّ من الزوجين ، بعيداً عن التوترات والاضطرابات والمشاحنات التي تنفرّ كلّ واحد من صاحبه.

وقد جاء في الأثر ما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنة من عملها حتى تعينه وترضيه وإن صامت الدهر وقامت ، وأعتقت الرقاب وأنفقت الأموال في سبيل الله ، وكانت أوّل من ترد النار» ، ثمّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وعلى الرجل مثل ذلك الوزر إذا كان مؤذياً» (٣).

المعاشرة بالمعروف : قال تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (٣) ، وهذه الآية تدلّ على أنّ التعامل بين الزوجين الذي يجب أن يؤدي إلى السكن يجب أن يكون بالمعروف الشرعي والعرفي ، فيؤدي كلّ منهما حقّ الآخر بالمستوى المتعارف أو المنصوص عليه بالشكل الذي ينظر إليه العرف العام ، ما لم يلزم منه تجاوز لحكم شرعي آخر.

__________________

(١) الروم : ٢١.

(٢) الأعراف : ١٨٩.

(٣) عقاب الأعمال ، للشيخ الصدوق : ٤٦.

(٤) البقرة : ٢٢٨.

٥٩

وبعبارة أُخرى ، المعروف : هو الذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفطرة من هداية العقل وحكم الشرع وفضيلة الخلق وسُنن الآداب.

ثمّ لابدّ أن نعلم أنّ المعروف هو عنوان يختلف من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر ; لأنّ المراد من المعروف هو الشائع المستساغ وما أمرت به الفطرة ، وهذا يختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر ، قد يكون المستساغ والمعروف في هذا الزمان هو أتمّ وأكمل ممّا كان معروفاً وسائغاً في غابر السنين ، بحيث خرج ذلك الحدّ السابق عن المعروفية والاستساغة الآن نتيجة اختلاف الظروف الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، فسوف يتوسّع عنوان المعروف ممّا عليه سابقاً ، فيجب المعروف في هذه المرتبة من الحقوق ولا تكفى المراتب السابقة التي كانت فيما سبق.

وهذا عبارة عن تدخّل العرف العام والسيرة العقلائية في تكوين الموضوع الشرعي من ناحية التوسعة.

وقد ينعكس الأمر ، كما لو تغيّرت الظروف الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الحالية إلى التدهور والرجوع إلى مجتمع بدائي كالمجتمعات السابقة ، أو سافرنا إلى مجتمع يعيش الحالة السابقة للاقتصاد والتفكير ، وكان المجتمع كلّه على هذا النحو ، فيصدق عنوان المعروف بالحدّ الضيّق السابق.

ولعلّ ما جاء في قصة قضاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بين علي وفاطمة عليهما‌السلام ، هو من باب المعاشرة بالمعروف في ذلك الزمان ، فقد روى عبدالله بن جعفر في قرب الإسناد عن السندي بن محمّد ، عن أبي البختري ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن أبيه أنّه قال : «تقاضى علي وفاطمة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخدمة ، فقضى على فاطمة بخدمتها ما دون الباب ، وقضى على علي عليه‌السلام بما خلفه. قال : فقالت فاطمة : فلايعلم ما دخلني من السرور

٦٠