أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

السيد محمّد الصدر

أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


المحقق: الشيخ كاظم العبادي الناصري
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

المُتجدِّدة ، التي تستحيل على ذات الله سبحانه. فكيف صحَّ نسبتها إليه سبحانه في الكتاب والسنة؟!

وقد أجاب الفلاسفة والمُتكلِّمون بعِدَّة أجوبة عن ذلك ، كان مِن أهمِّها : أنَّه جلَّ جلاله يجعل هذه العواطف المُتجدِّدة في نفوس أوليائه وأنبيائه وأصفيائه ، فإذا علمنا أنَّ أهل البيت هُمْ أولياء الله وأصفيائه ، إذاً؛ فيصدق : أنَّ رضى الله رضاهم أهل البيت ؛ لأنَّ رضى الله ـ كما قال الفلاسفة ـ ليس قائماً بذاته جلَّ جلاله ، بلْ قائم بذواتهم (سلام الله عليهم).

٦١

لماذا لم يعمل الحسين عليه‌السلام بالتقيَّة؟

لا شكَّ أنَّ التقيَّة واجبة عندنا بنصِّ القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة وإجماع علمائنا. أمَّا القرآن الكريم ، ففي أكثر مِن آية واحدة كقوله تعالى : (إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) (١). وأمَّا السُّنَّة الشريفة فأكثر مِن نصٍّ كقوله عليه‌السلام : «التقيَّة ديني ودين آبائي» (٢). وقوله عليه‌السلام : «لا دين لمَن لا تقيَّة له» (٣). وقوله عليه‌السلام : «التقيَّة درع المؤمن الحصينة» (٤) وغير ذلك. وأمَّا الإجماع فهو واضح لمَن استعرض فتاوى علمائنا ، بلْ الحكم يُعتبر مِن ضروريَّات المذهب.

إذاً ؛ فالتقيَّة واجبة. وهذا ما حدى بالمعصومين عليهم‌السلام جميعاً العمل بها إلاَّ الحسين عليه‌السلام ، فلماذا لم يعمل بها هذا الإمام الجليل؟! إذ مِن الواضح أنَّ أحداً مِن المعصومين غيره لم يتحرَّك مثل حركته ، بلْ كانت الثورات مُتعدِّدة ، والحروب في داخل البلاد الإسلاميَّة وخارجها موجودة ، وهم مُعرضون عنها لا يُشاركون بأيِّ شيء منها ، حتَّى لو كان الثوَّار والمُحاربون مِن أبناء عمومتهم كذريَّة الحسن أو الحسين ، الذين تحرَّكوا خلال العهدين الأُموي والعباسي بكثرة ، عَدَّ منهم في (مقاتل الطالبيِّين) عشرات ، إلاَّ أنَّ المعصومين (سلام الله عليهم). لم يكونوا مِن بينهم بأيِّ حال مِن الأحوال ، بل كانوا

__________________

(١) سورة آل عمران آية ٢٨.

(٢) أصول الكافي ج ٢ ص ٢١٩ حديث ١٢ ـ باقتضاب ـ طهران.

(٣) أصول الكافي ج ٢ ص ٢١٧ الحديث الثاني ـ بتصرُّف واقتضاب ـ مُختصر بصائر الدرجات ص ١٠١.

(٤) أصول الكافي ج ٢ ص ٢٢١ حديث ٢٣ ـ بتصرُّف واقتضاب.

٦٢

يسلكون سلوكاً مُغايراً لذلك تماماُ عملاً بالتقيَّة الواجبة ، التي يحسُّون بضرورتها التشريعيَّة والواقعيَّة (عليهم سلام الله) ، لا يُستثنى مِن ذلك إلاَّ واحد مُعيَّن منهم ، هو الإمام الحسين عليه‌السلام في حركته العظيمة. فلماذا كان ذلك؟!

والأسباب المُتصوَّرة لذلك عِدَّة أُمور مُحتملة ، وإنْ لم تكن كلُّها صحيحة ، إلاَّ أنَّنا نذكر الأُمور التي قد تخطر على بال القارئ الاعتيادي أيضاً :

الأمر الأوَّل : إنَّ الأخبار الدالَّة على وجوب التقيَّة لم تكن صادرة في زمن الحسين عليه‌السلام ؛ لأنَّها إنَّما صدرت عن الإمامين الصادقين عليهم‌السلام ، وهما عاشا بعد واقعة كربلاء بحوالي قرن مِن الزمن ، وإذا لم تكن هذه الأخبار موجودة ، فلا دليل على وجوب التقيَّة يوم حركة الحسين عليه‌السلام ؛ ومِن هنا لم يعمل بها.

إلاَّ أنَّ هذا الوجه غير صحيح لأكثر مِن جواب واحد :

أوَّلاً : إنَّ هذه الأخبار المُشار إليها تدلُّنا على حُكم واقعي ثابت في الشريعة ، يعلم به المعصومون جميعاً (سلام الله عليهم) بما فيهم الحسين عليه‌السلام ؛ فإنَّهم ـ جميعاً ـ عالمون بجميع أحكام الشريعة المُقدَّسة.

ثانياً : إنَّ الآيات الكريمة دالَّة على ذلك أيضاً ، وقد كانت موجودة ومقروءة في زمن الحسين عليه‌السلام.

الأمر الثاني : إنَّ الحسين عليه‌السلام كسائر المعصومين عليهم‌السلام ، عمل بالتقيَّة ردحاً طويلاً في حياته ، وإنَّما ترك العمل بها مِن ناحية واحدة فقط ، هي الناحية التي أدَّت إلى مقتله في واقعة الطَّفِّ ، وهي رفض الطلب الصادر مِن قِبَل الحاكم الأُموي بالبيعة له (١) وتهديده بكلِّ بلاء إذا لم يُبايع ، الأمر الذي استوجب صموده عليه‌السلام ضِدَّ هذا المعنى حتَّى الموت.

__________________

(١) البحار للمجلسي ج ٤ ص ٣٢٦ مناقب ابن شهرآشوب ج ٢ ص ٢٠٨ اللهوف لابن طاووس ص ١١.

٦٣

الأمر الثالث : إنَّ الأدلَّة في الكتاب والسُّنَّة على مشروعيَّة التقيَّة ، ليست دالَّة على الإلزام والوجوب ، بلْ على الجواز على ما سنرى.

أو ـ بتعبير آخر ـ : إنَّ العمل بالتقيَّة رخصة لا عزيمة ؛ ومِن هنا يُمكن القول :

إنَّ الإمام الحسين عليه‌السلام كان مُخيَّراً يومئذ بين العمل بالتقيَّة وبين تركها ، ولم يكن يُحبُّ العمل بالتقيَّة في حَقِّه ، وما دام مُخيَّراً فقد اختار الجانب الأفضل في نظره ، وهو فعلاً الأفضل في الدنيا والأفضل في الآخرة ، وهو نيله للشهادة بعد صموده ضِدَّ الانحراف والظلم والظلال.

ومِن هنا ـ أيضاً ـ كان عمل أصحاب الأئمَّة والمعصومين عموماً ، مع العلم أنَّهم كانوا عارفين بالأحكام مُتفهِّمين للشريعة مُرتفعين في درجات الإيمان.

فعمار بن ياسر (١) عَمِل بالتقيَّة حين طلب منه مُشركو قريش الطعن

__________________

(١) عمار بن ياسر : هو بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين ... ابن يشجب المُذحجي ، وهو مِن السابقين الأوَّلين إلى الإسلام ، وهو حليف بني مخزوم. أُمُّه سمية وهي أوَّل مِن استُشهد في الإسلام ، وقد قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَن عادى عمّاراً عاداه الله ، ومن أبغض عماراً بغضه الله». وعن عليٍّ عليه‌السلام قال : «جاء عمار يستأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إئذنوا له مرحباً بالطيِّب المُطيَّب». وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما خيّر عمار بين أمرين إلاَّ اختار أرشدهما». ومِن مناقبه أنَّه قَدِم المدينة ضحى ، فقال عمار : ما لرسول الله بُدٌّ مِن أنْ نجعل له مكاناً ؛ ليستضلَّ فيه ويُصلِّي فيه فجمع حجارة فبنى مسجد قِبا. وقال عبد الرحمان السلمي : شهدنا صِفِّين مع علي عليه‌السلام فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد مِن أودية صِفِّين إلاَّ رأيت أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتْبعونه كأنَّه عَلَم لهم. وشهد خزيمة بن ثابت الجمل ، وهو لا يسلُّ سيفاً ، وشِهَد صفين ولم يُقاتل وقال : لا أُقاتل حتَّى يُقتل عمار فأنظر مَن يقتله ؛ فإنِّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «تقتله الفئة الباغية» فلمَّا قُتل قال خزيمة : ظهرت له الضلالة. ثمَّ تقدَّم فقاتل حتَّى قُتل : وقُتل عمار في صِفِّين وعمره يومئد (٩٤) سنة ، وقيل : (٩٣) سنة ، وقيل : (٩١) سنة. واختلف في قاتله ، فقيل : قتله أبو العارية المزني ، وقيل : الجهني. طعنه فسقط فلمَّا وقع اكبَّ عليه آخر فاحتزَّ رأسه. أُسد الغابة ج ٤ ص ٤٣. بتصرُّف واقتضاب.

٦٤

بالإسلام ونبيِّ الإسلام. وبتلك المُناسبة نزلت الآية الكريمة (١). في حين أنَّ عدداً مِن الآخرين تركوا العمل بها ، ودفعوا حياتهم في سبيل ذلك : كميثم التمَّار ، وسعيد بن جبير (٢) ، وحجر بن عدي (٣) ، وزيد بن علي

__________________

(١) سورة النحل آية ١٠٦ وهو قوله تعالى : (مَن كَفَرَ باللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله).

(٢) سعيد بن جبير : لقد كان سعيد مِن التابعين ، وكان معروفاً بالزُّهد والعبادة وعلم التفسير ، وكان يُسمَّى (جَهْبد العلماء) ، وكان يُصلِّي خلف الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، فأخذه خالد بن عبد الله القسري وأرسله إلى الحجَّاج فلمَّا رآه قال له : ما اسمك؟ قال : سعيد بن جبير. قال : بلْ شقيُّ بن كُسير. قال : إنَّ أُمِّي أعلم باسمي منك. قال : شقيت أنت شقيت أُمُّك. قال : الغيب يعلمه غيرك. قال : لأبدِّلنَّك ناراً تلظى. قال : لو علمت أنَّ ذلك بيدك لاتَّخذتك إلهاً. قال : فما قولك في محمّد؟ قال : نبيُّ الرحمة وإمام الهُدى. قال : فما قولك في علي : أهو في الجَنَّة أو في النار؟ قال : لو دخلتها وعرفت مَن فيها عرفت أهلها. قال : فما قولك في الخلفاء؟ قال : لستْ عليهم بوكيل. قال : فأيُّهم أحبُّ إليك؟ قال : أرضاهم للخالق. قال : فأيُّهم أرضى للخالق؟ قال : علم ذلك عند الذي يعلم سِرَّهم ونجواهم. قال : أبيت أنْ تُصدِّقني! قال : بلْ لم أُحبَّ أنْ أُكذِّبك. قال الحجَّاج : فاختر أيَّ قتله أقتلك. قال سعيد : اختر لنفسك ـ يا حجَّاج ـ فو الله ، ما تقتلني قتله إلاَّ قتلك الله مثلها في الآخرة قال : أفتُريد أنْ أعفو عنك؟ قال : إنْ كان العفو فمِن الله. وأمَّا أنت فلا براءة لك ولا عذر. قال الحجَّاج : اذهبوا به فاقتلوه ، فلمَّا خرج من الباب ضحك. فأُخبر الحجَّاج بذلك فأمر بردِّه وقال : ما أضحكك؟! قال : عجبت مِن جُرأتك على الله وحِلم الله عنك. فأمر الحجَّاج بالنطع فبًسط ، فقال : أقتلوه. قال سعيد : وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مُسلماً وما أنا مِن المُشركين. قال : شدُّوا به لغير القبلة! قال سعيد : فأينما تولُّوا فثمَّ وجه الله. قال : كبُّوه على وجهه. قال سعيد : منها خلقناكم وفيها نُعيدكم ومنها نُخرجكم تارة أُخرى. قال الحجَّاج : اذبحوه. قال سعيد : أمَّا أنَّي أَشهد وأحاجُّ أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ، وأنَّ محمّداً عبده ورسوله. خُذْها منِّي حتَّى تلقاني يوم القيامة. ثمَّ دعا سعيد الله فقال : اللَّهمَّ لا تُسلِّطه على أحد يقتله بعدي ، فذبح على النطع رحمه‌الله. ولم يعش الحجَّاج بعده إلاَّ خمس عشرة ليلة ظلَّ يُنادي فيها مالي ولسعيد بن جبير كلَّما أردت النوم أخذ برجلي. وفيات الأعيان لابن خلكان ج ٢ ص ٣٧٢ ط بيروت مُقارنة بمروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ١٦٤.

(٣) حجر بن عدي : بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة ... بن كندة الكندي ، وهو المعروف بحجر الخير ، وهو بن الأدبر ، وإنَّما قيل لأبيه : عدي الأدبر ؛ لأنَّه طعن على إليته مولِّياً فسُمِّي : الأدبر. وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو وأخوه هاني ، وشهد القادسيَّة وكان مِن فُضلاء الصحابة ، وكان على كندة بصِفِّين وعلى الميسرة يوم النهروان ، وشهد الجمل ـ أيضاً ـ مع عليٍّ عليه‌السلام وكان مِن أعيان أصحابه ، ولمَّا ولِّي زياد العراق وأظهر مِن الغلظة وسوء السيرة ما أظهر. خلعه حجر ولم يخلع مُعاوية وتابعه جماعة مِن شيعة

٦٥

الشهيد (١) وغيرهم.

ولو كانت التقيَّة واجبة إلزاماً لكان حال هؤلاء وغيرهم على باطل ، مع العلم أنَّهم لا شكَّ على حقٍّ ؛ لأنَّهم مُتَّفقهون بالأحكام الإسلاميَّة جزماً. ولاشكَّ أنَّها ـ مع ذلك ـ مشروعة ؛ فيتعيَّن أنْ تكون مشروعة بنحو التخيير لا بنحو الإلزام.

ومِمَّا دلَّ على ذلك ما روي عن رجلين مِن أهل الكوفة أُخِذا. فقيل لهما : ابريا مِن أمير المؤمنين عليه‌السلام. فبرئ واحد منهما وآبى الآخر. فخُلِّي سبيل الذي برئ. وقُتِل الآخر. فقال الإمام الباقر عليه‌السلام : «أمَّا الذي برئ فرجل فقيه في دينه ، وأمَّا الذي لم يبرأ فرجل تعجَّل إلى الجنَّة» (٢).

__________________

عليٍّ عليه‌السلام ، فكتب فيه زياد إلى مُعاوية ، فأمره بأنْ يبعث به وبأصحابه إليه ، فبعث بهم مع وائل بن حجر الحضرمي ، ومعه جماعة فلمَّا أشرف على مرج عذراء قال : إنِّي لأوَّل المسلمين كبر في نواحيها ، فأُنزل هو وأصحابه عذراء وهي قرية عند دمشق ، فأمر معاوية بقتله ، فشفع أصحابه في بعضهم فشفَّعهم ، ثم قَتَل حجر وستَّة معه وأطلق ستَّة ، ولمَّا أرادوا قتله صلَّى رَكعتين ، ثمَّ قال : لولا أنْ تظنُّون بي غير الذي بي لأطلتهما ، وقال : لا تنزعوا عنِّي حديداً ، ولا تغسلوا عنِّي دماً ؛ فإنِّي لاقٍ مُعاوية على الجادَّة. وقال عبد الرحمان بن الحارث بن هشام لمُعاوية بعد مقتل حجر : والله ، لا تعدُّ لك العرب حِلماً بعدها ولا رأياً قتلت قوماً بعث بهم أُسارى مِن المسلمين. وكان قتله سنة ٥١ هـ ، وقبره مشهور بعذراء ، وكان مُجاب الدعوة. أُسد الغابة ج ١ ص ٣٨٥.

(١) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ويُكنَّى بأبي الحسين ، وأُمُّه أُمُّ ولد ، أهداها المُختار بن أبي عبيدة لعلي بن الحسين ، فولدت له زياداً وعمراً وعليَّاً وخديجة. وقد خرج بثورة ضِدَّ الحُكم الأُموي ، المُتمثِّل بهشام بن عبد الملك آنذاك ، ولكن غدر به مَن بايعه مِن أهل الكوفة والمدائن ، والبصرة وواسط والموصل ، وخراسان والري ، وجرجان ، والذين وصل عددهم إلى مئة ألف تقريباً. ولكنْ عند خروجه وافاه ٢١٨ مِن رجاله ، فقال زيد : سبحان الله! فأين الناس؟! قيل : هم محصورون في المسجد. فقال : لا والله ، ما هذا لمَن بايع بعذر. ومع هذا العدد القليل خرج فقاتل وأُصيب بسهم في جانب جبهته اليُسرى ، فنزل السهم في الدماغ فمات على أثره ، ودفنوه أصحابه في العباسيَّة ، ولكنَّه أُخرِج وصُلِب (وقيل : إنَّه استمرَّ مصلوباً إلى أيَّام الوليد بن يزيد) وبعدها أُحرق بالنار ، ثمَّ جُعِل في قواصِر ثمَّ حُمِل في سقيفة ، ثمَّ ذُرِّي في الفرات. مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ١٢٧.

(٢) أصول الكافي ج ٢ ص ٢٢١ حديث ٢١ ط طهران.

٦٦

ولذا يُمكن القول : بأنَّه لم يثبت أنَّ ترك التقيَّة حرام ، إلاَّ قوله في أحدى الروايات : (التقيَّة ديني ودين آبائي ولا دين لمَن لا تقيَّة له) (١).

وهي لا شكَّ دالَّة على الإلزام. إلاَّ أنَّها ساقطة بالمُعارضة مع الروايات الدالَّة على الرخصة ، كالرواية السابقة (٢) ، فيبقى حُكم التقيَّة على التخيير.

والآيات الكريمة أيضاً غير دالَّة على الإلزام ، منها قوله تعالى : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) (٣). وقوله تعالى : (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (٤).

وفي كلتا الآيتين يُعتبَر حًكم التقيَّة استثناء مِن أمر حرام وهو : موالاة الكافرين في الآية الأُولى ، والكفر في الآية الثانية. والاستثناء مِن مورد الحضر أو الحُرمة لا يدلُّ على أكثر مِن الجواز ، وذلك كما قال الفقهاء حول قول تعالى : (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ) (٥) ، فإنَّ حكم الصيد في استثناء مِن جانب حُرمته في حال الإحرام مع احتمال استمراره بعده ؛ فيكون دالَّاً على مُجرَّد الجواز.

نعم ، قد تكون التقيَّة واجبة إلزاماً ، فيما إذا توقَّف عليها هدف اجتماعيٌّ عامٌّ مُهمٌّ ، كالمُحافظة على بَيضة الإسلام ، إلاَّ أنَّه لم يكن الأمر يومئد هكذا ، بلْ

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ ص ٢٢٤ حديث ٢ ط طهران.

(٢) رواية الرجلين اللذين أُخِذا مِن أهل الكوفة.

(٣) سورة آل عمران آية ٢٨.

(٤) سورة النحل. آية ١٠٦.

(٥) سورة المائدة آية ٢.

٦٧

بالعكس على ما سوف نعرف ، فإنَّ حفظ الإسلام يومئذ كان مُتوقِّفاً على التضحية لا على التقيَّة.

الأمر الرابع : مِن أسباب ترك الإمام الحسين عليه‌السلام للعمل بالتقيَّة : إنَّنا حتَّى لو تنزَّلنا عمَّا قلناه في الأمر الثالث ، وفرضنا التقيَّة إلزاميَّة. إلاَّ أنَّ هذا الحكم بالإلزام ساقط بالمُزاحمة مع الأهمِّ ، إذ مِن الواضح مِن سياق الآيات أنَّ الأمر بالتقيَّة إنَّما هو في موارد فرديَّة مُتفرِّقة ، والإمام الحسين عليه‌السلام واجه قضايا عامَّة تقتضي ترك التقيَّة والعمل بالتضحية :

أهمُّها : الطلب منه بمُبايعة الحاكم الأُموي ـ يومئذ ـ يزيد بن مُعاوية (١). وهو ما يترتَّب عليه نتائج وخيمة بالغة في الأهمِّيَّة ، قد تؤدِّي إلى اندراس الإسلام الحقيقي ، مُنذ عصره إلى يوم القيامة.

ومِن القضايا العامَّة المُهمَّة التي واجهها (سلام الله عليه) طلب أهل الكوفة لمُبايعتهم له وولايته الفعليَّة عليهم (٢). وهو حُكم عامٌّ ومُهمٌّ شرعاً ومُتقدِّم على حُكم التقيَّة.

وكلا الأمرين لم يواجهه أحد مِن أولاده المعصومين التسعة عليهم‌السلام ؛ ومِن هنا كان عملهم بالتقيَّة مُتعيِّناً ، ومِن المُمكن القول : إنَّهم لو واجهوا ما واجهه الحسين عليه‌السلام لكان ردَّ فعلهم كردِّ فعله تماماً.

الأمر الخامس : إنَّ الحسين عليه‌السلام عَلِم ـ علماً طبيعيَّاً أو إلهاميَّاً ـ أنَّه سوف يموت على كلِّ حال حتَّى في مكَّة ، فضلاً عن غيرها مِن بلاد الله ؛ ولذا ورد عنه : (أنَّهم سوف يقتلوني حتَّى لو وجدوني مُتعلِّقاً بأستار الكعبة) (٣).

__________________

(١) البداية والنهاية لابن كثير ج ٢ ص ١٤٦ ـ مروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٦٥.

(٢) اللهوف لابن طاووس ص ١٤ ـ تاريخ الفتوح لابن أعثم ج ٥ ص ٤٦ ـ أسرار الشهادة للدربندي ص ١٩٩.

(٣) مرآة العقول للمجلسي ج ٢ ص ١٩٤ ـ مُثير الأحزان لابن نما الحلِّي ص ٤١. بالمضمون ، مِن الشبكة.

٦٨

ومَن يكون حاله هو العلم اليقين بموته ، يرتفع عنه حُكم التقيَّة مِن قاتله ، وله أنْ يفعل ما يشاء. تصوَّر شخصاً محكوماً عليه بالإعدام ، وسوف يصعد عمَّا قليل على خشبة المشنقة ، فعندئذ تهون الدنيا في نظره ، ويُمكنه أنْ يفعل أو يقول ما يشاء تجاه جلاَّديه ؛ لأنَّهم سوف لن يزيدوا على قتله على أيَّ حال.

فعلى ذلك كان حال الإمام الحسين عليه‌السلام ، ومعه فضَّل أنْ يموت بهذا الشكل عن أنْ يموت خامل الذِّكر مُحوَّطاً بالذلة والنسيان.

إلاَّ أنَّ هذا الوجه بمُجرَّده لا يتمُّ ؛ لأنَّه عليه‌السلام لو كان قد قَبِل بالمُباعية لكفُّوا عن العزم على قتله ، وهذا واضح لديه ولدى غيره. إذن ؛ فالعلم بموته إنَّما بصفته رافضاً للمُبايعة صامداً ضدَّها. إذاً فيرجع هذا الوجه إلى وجه آخر مِمَّا ذكرناه كالوجه الرابع السابق.

الأمر السادس : إنَّ حُكم التقيَّة وإنْ كان نافذ المفعول عليه عليه‌السلام وغيره مِن البشر ، إلاَّ أنَّه مُخصَّص في حقِّه عليه‌السلام فهو خارج عن حكمها بالتخصيص والاستثناء. وقد ثبت لديه التخصص ، إمَّا بالإلهام ، وأمَّا بالرواية عن جَدِّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ؛ ولذا لم تكن التقيَّة في حقِّه واجبة ولا تركها عليه حراماً.

وربَّما عُدَّ مِن الأدلَّة في هذا الصدد ، ما ورد مِن بكاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على مقتل الحسين عليه‌السلام يوم ميلاده (٢) ، لعلمه المُسبق بذلك ، وهو ما يُستفاد

__________________

(١) البحار للمجلسي ج ٤٤ ص ٣٢٨ ـ أسرار الشهادة للدربندي ص ٢٢٤

(٢) الخصائص الكبرى ج ٢ ص ١٢٥ ـ أمالي الصدوق ص ١١٨ الحديث ٥ ـ البحار للمجلسي ج ٤٤ ص ٢٥٠ ـ تاريخ أبن عساكر ترجمة الإمام الحسين ص ١٨٣.

ولهذا بكاه عدد مِن الصحابة (رضوان الله عليهم) ، منهم سلمان الفارسي حيث مرَّ على كربلاء حين مجيئه إلى المدائن ، فقال هذه مصارع إخواني ، وهذا موضع مَناحتهم ومِهراق دمائهم ، يُقتل بها ابن خير الأوَّلين والآخرين. (رجال الكشِّي ص ١٣ ط هند) ، وكذا بكاه أمير المؤمنين في مسيره إلى صِفِّين نزل =

٦٩

منه جواز حركته واحترام ثورته ؛ فيكون مُخصِّصاً لما دلَّ على حُرمة التقيَّة لو وجد.

وهذا الوجه أكيد الصحَّة ، لو تمَّ بالدليل كون التقيَّة عزيمة لا رُخصة ، وهو الوجه الذي يشمل أهله وأصحابه وأهل بيته ، الذين رافقوه في حركته وآزروه في ثورته ؛ فإنَّ التقيَّة إنْ كانت واجبة في حقِّهم أساساً ، فهي لم تكن واجبة عندئذ ، بلْ مُستثناة عنهم بأمر إمامهم الحسين نفسه ؛ حيث أوجب عليهم المسير معه والقتل بين يديه (١) ، بلْ التقيَّة لم تكن واجبة مِن هذه الناحية على أيِّ واحد مِن البشر على الإطلاق ؛ تمسُّكاً بما ورد عنه (سلام الله عليه) : «مَن سمع واعيتنا ولم ينصرنا اكبَّه الله في النار» (٢).

وهو دالٌّ بوضوح على لزوم نصره ووجوب ترك التقيَّة مِن هذه الناحية ، وكذلك ما ورد عنه أنَّه قال عليه‌السلام حيث بقي وحيداً بعد مقتل أصحابه وأهل بيته : «هل مِن ناصر ينصرنا وهل مِن ذابٍّ عن حرم رسول الله» (٣) ، وسنذكر بعونه تعالى أنَّ هذا إنَّما قال الحسين عليه‌السلام لأجل إقامة الحُجَّة

__________________

= فيها ، وأومأ بيده إلى موضع منها ، فقال : (ههنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم ـ ثمَّ أشار إلى موضع آخر وقال : ـ ههنا مِهراق دمائهم ثقل لآل محمد ينزل ، ههنا ـ ثمَّ قال : ـ واهٍ لك يا تربة ، ليحشرنَّ منك أقواماً يدخلون الجنَّة بغير حساب) وأرسل عبرته وبكى مَن معه لبكائه وأعلم الخواصَّ مِن صَحبه بأنَّ ولده الحسين يُقتل ههنا في عُصبة مِن أهل بيته وصحبه هُمْ سادة الشهداء لا يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق (مقتل المُقرَّم نقلاً عن كامل الزيارات ص ٢٧).

بلْ يتعدَّى الأمر إلى الأنبياء السابقين على نبيِّنا الأعظم وآله وعليه السلام ، فلقد بكاه آدم عليه‌السلام والخليل إبراهيم معه ، فإنَّه كالشهيد مع الأنبياء مُقبلاً غير مُدبِر ، وكأنِّي أنظر إلى بُقعته وما مِن نبيٍّ إلاَّ وزارها وقال : (إنَّك لبُقعة كثيرة الخير ، فيك يُدفن القمر الزاهر) كامل الزيارات لابن قولويه ٦٧.

(١) مُثير الأحزان لابن نما ص ٣٩ البحار للمجلسي ج ٤٥ ص ٨٦ أمالي الصدوق ص ١٣١.

(٢) أمالي الصدوق ص ١٣٢ ـ مقتل الخوارزمي ج ١ ص ٢٢٧ البحار ج ٤٤ ص ٣١٥.

(٣) اللهوف لابن طاووس ص ٤٩ كشف الغمَّة للأربلي ج ٢ ص ٢٦٢.

٧٠

على الآخرين.

كما يشمل أهله وأصحابه (رضوان الله عليهم) وجوه أُخرى لترك التقيَّة مِمَّا سبق ، كالأمر الثالث الذي ذكرناه وهو كونها تخيريَّة وليس إلزاميَّة ، والأمر الثاني والأمر الرابع ، فراجع.

والسرُّ في سقوط التقيَّة ، كما أشرنا عن جميع البشر في ذلك العصر ، مِن هذه الجهة ، لا ينبغي أنْ يكون خافياً وحاصله : إنَّ الناس لو كانوا قد استجابوا بكثرة وزخم حقيقيَّين ، وإذا كانت أعداد مُهمَّة منهم قد أدركت مصالحها الواقعيَّة في نصر الحسين عليه‌السلام لتحقُّق النصر العسكري له فعلاً ، ولفشل عدوِّه الأُموي الظالم. بلْ في المُستطاع القول : بأنَّه مع حُسن التأييد يكون زعيماً فعليَّاً على كلِّ بلاد الإسلام ، فيحكمها بالعدل وبشريعة جَدِّه رسول الله ، غير أنَّ المُجتمع في ذلك الحين كان مُتخاذلاً جاهلاً ، ولله في خلقه شؤون.

٧١

حدود أهداف الحسين عليه‌السلام

حينما نُريد أنْ نتحدَّث عن أهداف الحسين عليه‌السلام في ثورته ، فإنَّما نتحدَّث ـ كما أسلفنا ـ في حدود فَهمنا ومدى إدراكنا ، وهو البعيد عن فَهم الواقعيَّات والمحجوب أساساً عن الوصول إلى تلك المُستويات ، فنحن نتحدَّث عن أقصى ما نُدركه مِن أمر منطقيٍّ ومعقول ، كأُطروحة مقبولة ومُحتملة في هذا الصدد ، وليس كشيء قطعيٍّ وناجز ، ونحن نعلم أنَّ ما خفي علينا مِن الحقِّ أكثر مِمَّا اتَّضح لنا بكثير. وخاصَّة ونحن نعرف ـ كما سبق أيضاً ـ بأنَّ أقوال المعصومين وأفعالهم مُطابقة للحكمة الإلهيَّة ومُساوقة للعلم الإلهي ؛ لما لهم مِن التأييد والتسديد منه جلَّ جلاله ؛ ومِن المعلوم أنَّ الحكمة والعلم الإلهيَّين غير محدودين ، ونحن محدودون ، ولا يُمكن للمحدود أنْ يُدرك اللاَّ محدود.

ولو تنزَّلنا عن ذلك جدلاً ، أمكننا القول : بأنَّ الواحد مِن المعصومين عليه‌السلام هو أفضل مِن أفضل واحد مِن البشر رأيناه أو سمعنا عنه ، في جميع المُستويات وعلى أيِّ صعيد ، والفرد مهما أوتي مِن قوَّة تفكير وحِدَّة ذكاء فهو أدنى منهم بمراتب عظيمة ، ومِن المعلوم أنَّ الأدنى لا يُمكن أنْ يُدرك جميع ما لدى الأعلى ، ولا يُمكن أنْ يفهم مُستواه إلاَّ إذا كان مُساوياً له.

خُذْ إليك مثلاً : إنَّ الطفل الدارس في المدارس الابتدائيَّة ـ أو مَن هو على شاكلته هل ـ يصحُّ أنْ نتصوَّر أنْ يفهم الرياضيَّات المُعمّقة والفلسفة المُحقَّقة ، أو علوم الفيزياء أو الكيمياء المُفصَّلة. وهكذا مُستوى أيِّ واحد منَّا تِجاه أيِّ واحد مِن المعصومين عليهم‌السلام ؛ اذاً ، فالتعرُّف على كلِّ حقيقتهم وأهدافهم إنْ لم يكن مُحالاً ، فهو بمنزلة المُحال.

٧٢

ولكنْ في حدود ما نفهم ، فإنَّنا حين نُريد أنْ نطرح بعض الأفكار عن أهداف الإمام الحسين عليه‌السلام في ثورته ، فتلك الأفكار لابُدَّ أنْ تكون حاوية على عدد مِن الشروط لابُدَّ منها ، ولا يُمكن أنْ تكون أفكارنا جُزافيَّة أو مُطلقة.

الشرط الأوَّل : أنْ يكون الشيء الذي نتصوَّره هدفاً للإمام الحسين عليه‌السلام أمراً مرضيَّاً لله عزَّ وجلَّ ، لا تشوبه شائبة عصيان أو أنْ يكون مرجوحاً في الشريعة المُقدَّسة ، بما في ذلك حُبُّ الدنيا وطلب المال والجاه والسيطرة المُنفصلة عن الأمر الإلهي والتكليف الشرعي.

الشرط الثاني : أنْ يكون الهدف الذي نتصوَّره مُناسباً مع حال الحسين عليه‌السلام وشأنه ، لا أنْ يكون هدفاً مُوقَّتاً أو مُتدنِّياً أو ضئيلاً ؛ فإنَّ ذلك مِمَّا لا يصحُّ له وجود هذه التضحية الكبيرة ، التي أقامها الحسين عليه‌السلام وعاناها ، فإنَّها عندئذ لا تكون معقولة ولا عقلانيَّة ، وإنَّما لابُدَّ أنْ يكون الهدف مُعمَّقاً وواسعاً وأكيداً وشديداً ، بحيث يسع كلَّ هذه التضحيات.

الشرط الثالث : أنْ يكون أمراً مُتحقِّقاً ، أما في الحال أو في الاستقبال ، ولا يجوز أنْ نطرح له هدفاً فاشلاً وغير مُتحقِّق أو غير قابل للتحقُّق ؛ فإنَّه خلاف الحكمة الإلهيَّة ، ولا يُمكن أنْ ننسب ما هو فاشل وعاطل إلى الحكمة اللاَّ مُتناهية.

مثال ذلك : إنَّ الإمام الحسين عليه‌السلام لو كان قد استهدف النصر العسكري العاجل ، أو إزالة حكم بني أُميَّة ، أو مُمارسة الحُكم في المُجتمع فعلاً ، فهذا ونحوه مِن الأهداف القطعيَّة الفشل ، لأنَّها لم تحدث ولم يكن مِن المُمكن أنْ تحدث ؛ إذاً فهو ليس بأمر مُستهدَف ، وإنْ تخيَّله بعض مِن المُفكِّرين أو عدد منهم ، إلاَّ أنَّه لا شكَّ في بطلانه ؛ لأنَّ هدفه عليه‌السلام راجع إلى أهداف

٧٣

الحكمة الإلهيَّة ، ومثل هذه الأهداف لا يُمكن أنْ تكون فاشلة ؛ لأنَّ الله تعالى كما هو حكيم هو قادر ، فهو يستطيع أنْ يُنفِّذ ما في حكمته بكلِّ تقدير ، فلو استهدف الله سبحانه هدفاً لحصل ، وحيث إنَّه لم يحصل فهو ـ إذاً ـ غير مُستهدف.

الشرط الرابع : إنَّه يُمكن أنْ يُقال : إنَّ مِن شروط فهم أهدافه عليه‌السلام أنْ يكون مذكوراً في كلامه ؛ لأنَّنا إنَّما نعلم بالأُمور مِن أصحابها ، وأهل الحلِّ والعقد فيها. وقديماً قال الشاعر : وأهل البيت أدرى بالذي فيه وليس لنا أنْ نُضيف مِن عندنا شيئاً ، وإنَّما نسمع منه (سلام الله عليه) مثل قوله : «إنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أُريد ان آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكر» (١) ، بعد أنْ وصف المُجتمع بضُعف الدين وقلَّة الالتزام بالتعاليم : «... ولم يَبقَ منها إلاَّ صُبابة كصُبابة الإناء وخِسَّة عَيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون أنَّ الحقَّ لا يُعمل به وأنَّ الباطل لا يُتناهى عنه» (٢).

فالغرض مِن هذا العرض ، هو أنَّ الهدف إنْ كان مذكوراً في كلامه (سلام الله عليه) أخذنا به ، وإنْ لم يكن قد ذكره أعرضنا عنه ، ولم نعتبره هدفاً حقيقيَّاً له.

إلاَّ أنَّ هذا الشرط غير صحيح ؛ لعِدَّة أجوبة يُمكن أنْ تورد ضِدَّه :

الجواب الأوَّل : ضعف الروايات الناقلة لكلامه (سلام الله عليه) ، إذاً فلم يردنا عن طريق صحيح بيان أهدافه (سلام الله عليه) ، فلو اشترطنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى معرفة الأهداف إطلاقاً.

الجواب الثاني : أنَّ هناك قانوناً عرفيَّاً وشرعيَّاً ، مُتَّبعاً في التفاهُم بين جميع الناس ـ وإنْ لم يكن يلتفت إليه الكثيرون بصراحة ـ وهو قانون : «كلِّم الناس

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ج ١ ص ١٨٨ ـ مناقب بن شهر آشوب ج ٣ ص ٢٤١ نجف

(٢) اللهوف لابن طاووس ص ٣٤ ـ تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٢٥.

٧٤

على قدر عقولهم» (١) ، والحسين عليه‌السلام لا شكَّ أنَّ المُجتمع في ذلك الحين لم يكن يُطيق فهم واستيعاب أهدافه الحقيقيَّة مِن حركته ؛ لأنَّه كان حديث عهد بالدين وبشريعة سيِّد المُرسلين ، ولم يكن المُجتمع يومئذ تربَّى بالمقدار المطلوب ، وإنَّما كان فهمه للدين بسيطاً وتطبيقه للتعاليم قليلاً ، ما عدا نفر يسير مِن الناس ؛ وبالتالي لم تكن هذه الألف وحوالي النصف مِن السنين ، قد مرَّت وأثَّرت في تربية المُجتمع وتكامل فهمه العقلي والنفسي تكاملاً مُعتدَّاً به ، وكلَّما مرَّت السنين أكثر كان هذا التكامل أكثر لا محالة.

فإذا لم يكن بيان أهدافه مُمكناً عندئذ ، فخير له أنْ يطويها في نفسه وأنْ يكتمها عن غيره ، وإنَّما يقول للآخرين بمُقدار ما هو مُمكن فقط ، مِمَّا لا يكون هو الهدف الحقيقي لحركته عليه‌السلام ، ولا أقلَّ مِن احتمال ذلك ، الأمر الذي يسقط به هذا الشرط الرابع.

الجواب الثالث على هذا الشرط : إنَّ هناك بعض الأعمال يُعتبر التصريح بأهدافها إفساداً لها ، وتكون عندئذ عقيمة وغير مُنتجة ، وهذا أحد التأويلات المُهمَّة لما ورد «استعينوا على أُموركم بالكِتمان» (٢). وما ورد مِن أنَّ التصريح بالشيء قبل إنجازه موجب لإفساده (٣).

وهذا المعنى ظاهر للعيان بالتجربة ، في كثير مِن الأُمور الشخصيَّة والعامَّة ؛ إذاً فمِن المُحتمل أنْ يكون تصريح الحسين عليه‌السلام بأهدافه قبل حركته ، مُفسد لها مُخرِّب لنتائجها ؛ ومِن هنا سيكون المُتعيِّن عليه كِتمان ما يُريده والصمت عمَّا

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٦٧ حديث ١٥. بتصرُّف.

(٢) إسعاف الراغبين على هامش نور الأبصار للشبلنجي ص ٧٧. بتصرُّف ـ تحف العقول للبحراني ص ٤٠.

(٣) مرآة العقول لللمجلسي ج ٩ ص ١٨٦. بتصرُّف.

٧٥

يستهدفه حِفظاً للنتائج مِن الضياع ؛ إذ مِن المؤسف حقَّاً وجِدَّاً ، وجود حركة مُهمَّة مِن هذا القبيل ، التي قام بها (سلام الله عليه) وتضحية ضخمة على هذا الغِرار ، ومع ذلك لا تكون مُنتجة ولا نافعة ؛ إذاً فمِن الضروري أنْ تُكتم أهدافه الحقيقيَّة في سبيل صحَّتها وإنتاجها. إذن ؛ فهذا الشرط الرابع ، وهو أنْ نتوقَّع سماع الأهداف منه عليه‌السلام ليس بصحيح ، وهذا بخلاف ما سوف نذكره بعون الله تعالى مِن الأهداف ، فإنَّها إنَّما تأتي بعد إنجاز حركته ووجودها وإلقائها ، بلْ بعد حصول عدد مُعتدٍّ به مِن نتائجها ، وإنَّما يختصُّ ما قلنا بالتصريح بالهدف قبل الحركة لا بعدها.

٧٦

الأهداف المُحتملة للحسين عليه‌السلام

ما يُحتمل أنْ يكون هدفاً للإمام الحسين عليه‌السلام في حدود تفكيرنا وإدراكنا ، كما يلي. نذكرها جميعاً لنرى ما هو صحيح منها ، وما هو قابل للمُناقشة ، بعد الالتفات إلى أنَّنا نفينا ـ خلال الحديث السابق عن الشروط ـ عدداً مِن الأهداف التي قد تخطر في الذهن ، كالانتصار العسكري المُباشر أو مُباشرة الحُكم فعلاً ونحو ذلك ؛ لأنَّها لم تكن جامعة للشرائط ؛ إذاً فهي ليست هدفاً للحسين عليه‌السلام في حركته. إذاً ؛ فينبغي أنْ نُعرض عنها الآن ، ونذكر غيرها مِمَّا يدور في الحُسبان.

الهدف الأوَّل : أنْ لا يُبايع الحاكم الأُموي يومئذ كما طُلِب منه ؛ فإنه عليه‌السلام رفض ذلك بكلِّ قوَّة وصمود ، كما ورد عنه أنَّه قال : «ومثلي لا يُبايع مثله» (١) ، فقد تحمَّل القتل وهذه التضحيات الجِسام في سبيل ترك هذه البيعة الدنيئة.

وقد يُناقش هذا الهدف بعِدَّة مُناقشات ، يحسن بنا أنْ نذكر المُهمَّ منها ، لكي يتكامل فهمنا لهذا الهدف في نفس الوقت مِن خلال الحديث :

المُناقشة الأُولى : إنَّه كان يُمكنه (سلام الله عليه) تجنُّب كلا الأمرين : المُبايعة والتضحية معاً ، فلماذا اختار التضحية مع إمكانه تجنُّبها؟!

غير أنَّ هذه المُناقشة بمُجرَّدها غير تامَّة ؛ للوضوح التاريخي مِن أنَّه عليه‌السلام كان مُكرهاً على أحد أمرين : المُبايعة أو الشهادة (٢) ، ولم يكن في

__________________

(١) اللهوف لابن طاووس ص ١١ ابن نما ص ١٤ الخوارزمي ج ١ ص ١٨٤.

(٢) البحار للمجلسي ج ٤٥ ص ٩ ـ اللهوف ص ٤١ ـ الخوارزمي ج ٢ ص ٦.

٧٧

مُستطاعه طبيعيَّاً أنْ يتجنَّبهما معاً ؛ لمدى الضغط العظيم الذي وجَّهته الدولة يومئذ عليه ـ طبعاً ـ للمُبايعة ، وتهديداً بالموت إنْ تركها.

ويدلُّ على هذا الأمر مُضافاً إلى وضوحه التاريخي ، الارتكاز العامِّ لفهم الدولة الأُمويَّة يومئذ ، وكذلك ما فعل يزيد بن مُعاوية بسائر مُعارضيه مِن المُحاربة والتنكيل ، ولم يكن الحسين عليه‌السلام ببِدع مِن ذلك ، كما يُعبِّرون.

ويدلُّ عليه ـ أيضاً ـ ما ورد عنه عليه‌السلام مٍن قوله : (ألا وإنَّ الدَّعيَّ (١) بن الدَّعي قد رَكَزَ اثنتين : بين السلِّة (٢) والذِّلَّة ، وهيهات مِنَّا الذِّلَّة يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون» (٣). والدَّعي بن الدعي هو الحاكم الأُموي. والسِّلَّة هو سلُّ السيف للقتل ، والمُراد به التهديد بالقتل. والذِّلَّة هو المُبايعة والدخول تحت السيطرة الأُمويَّة. وقوله : وهيهات منَّا الذِّلَّة ، يعني هيهات منَّا المُبايعة كما يُريد الحاكم الأُموي. كما قال في الخُطبة نفسها : «أنْ نؤثر بيعة اللئام على مصارع الكرام» (٤) كما يدلُّ على ذلك ما ورد مِن أنَّ الحُكم القائم يومئذ دسَّ في مَكَّة أربعين مِن العُتاة وبثَّهم ما بين الناس ، وأوصاهم أنْ يقتلوا الحسين عليه‌السلام حيث وجدوه ، ولو كان مُتعلِّقاً بأستار الكعبة ، وقد علم الحسين عليه‌السلام ذلك ؛ ومِن هنا خرج مِن مَكَّة قاصداً كربلاء ؛ لكي لا يكون مقتولاً داخل الحرم المكِّي ، الذي جعله الله آمنا وحرَّم فيه كلَّ أشكال إهراق

__________________

(١) الدَّعيُّ : المُتَّهم في نسبه ، والذي يُدعى لغير أبيه ـ أقرب الموارد ج ١ ص ٣٧٣ ـ مجمع البحرين ج ١ ص ١٤٤ ـ بتصرُّف

(٢) السِّلَّة : سلَّ الشيء مِن الشيء سلَّاً : انتزعه وأخرجه في رفق ، كسلَّ السيف مِن الغِمد ـ أقرب الموارد ج ١ ص ٥٣٥ ـ مجمع البحرين ج ٥ ص ٣٩٨ ـ بتصرَّف.

(٣) اللهوف لابن طاووس ص ٤١ ـ مقتل الخوارزمي ج ٢ ص ٦.

(٤) نفس المصدر.

(٥) أسرار الشهادة للدربندي.

٧٨

الدم حتَّى الصيد (١) ؛ فكَرِه عليه‌السلام أنْ يكون سبباً لهتك هذا الحَرَم المُقدَّس.

إذاً ؛ فلم يكن مُستطيعاً أنْ يتجنَّب كلا الأمرين : البيعة والتضحية معاً ، بلْ كان مُكرهاً على أنْ يقبل بأحدهما. وقد اختار لنفسه أعلاهما وأشرفهما وهو التضحية.

المُناقشة الثانية : إنَّ هذا الهدف إنَّما هو هدفه الشخصي مِن حركته ، ونحن نُريد التعرُّف على ما يكون مُحتملاً مِن أهداف الحكمة الإلهيَّة في ذلك.

وقد أشرنا في مُقدِّمات هذا البحث ، إلى ثبوت كلا هذين النحوين مِن الأهداف ، غير أنَّ هذه المُناقشة أيضاً لا تتمُّ لعِدَّة وجوه ، نذكر المُهمَّ منها :

أوَّلاً : إنَّ انقسام الأهداف ـ كما ذكرنا ـ وإنْ كان صحيحاً ، غير أنَّ الباحث أو المُفكِّر ، كما يطمح أنْ يتعرَّف على الهدف الثابت في الحكمة الإلهيَّة ، يطمح أيضاً أنْ يتعرَّف على الهدف الشخصي سواء بسواء.

فالقول باختصاص الطموح بأحد النوعين مِن الأهداف ، دون الثاني قول بلا موجب.

إذن ؛ فحتَّى لو كان عدم المُبايعة هدفاً شخصيَّاً ، فنحن يحسن بنا أنْ نلتفت إليه ونأخذه بنظر الاعتبار.

ثانياً : إنَّ عدم المُبايعة هنا ـ كما هو هدف شخصيٌّ للحسين عليه‌السلام ـ هو هدف للحكمة الإلهيَّة أيضاً. وأوضح سبيل إلى إيضاحه ، أنْ نقيس الأمر بحصول المُبايعة ، فكم سوف يحصل مِن المفاسد بوجودها؟ وكيف يتغيَّر الدين الخالص؟ ويبقى مُتغيِّراً فاسداً ـ وحاشاه ـ إلى يوم القيامة ، وهذا بكلِّ تأكيد خلاف الحكمة الإلهيَّة ؛ إذاً فوجود البيعة مُخالفاً للحكمة الإلهيَّة ؛ فيكون

__________________

(١) سورة الأعراف آية (٩٤ ـ ٩٦)

٧٩

عدمها موافقاً لها لا مُحالة

المُناقشة الثالثة : لهذا الهدف ـ إنَّه هدف وقتي منوط لا محالة بحياة الإمام الحسين عليه‌السلام. كما هو منوط بحياة الحاكم الأُموي ؛ لوضوح أنَّه لا معنى للمُبايعة لدى موت أحدهما ، ونحن إنَّما نُريد الاطِّلاع على الأهداف الدائميَّة لا الأهداف الوقتيَّة. غير أنَّ هذه المُناقشة غير صحيحة ، ونورد عليها ما يُشبه الوجهين اللذين أوردناهما على المُناقشة السابقة.

أوَّلاً : إنَّ هذا الهدف وإنْ سلَّمنا أنَّه هدف وقتيٌّ ، إلاَّ أنَّ اختصاص تعرُّف الباحث أو المُفكِّر بالأهداف الدائمة وغير الوقتيَّة بلا موجب ، بلْ نحن نُريد التعرُّف على كلا الشكلين مِن الأهداف.

ثانياً : إنَّ هذا الهدف وإنْ كان منوطاً بحياة هذين الشخصين ، إلاَّ أنَّه ـ مع ذلك ـ ليس وقتيَّاً بلْ مُستمرَّ ، ولنا أنْ نقيس ذلك إلى صورة حصول المُبايعة ، فكما أنَّ المفاسد مع حصول المُبايعة سوف لن تكون وقتيَّة بكلِّ تأكيد ، كذلك المصالح والأهداف الناتجة عن ترك المُبايعة سوف لن تكون وقتيَّة ، ويكفي بها أنْ تكون تخلُّصاً ودفعاً لتلك المفاسد المُستمرَّة ؛ إذاً فهي أهداف مُستمرَّة.

المُناقشة الرابعة : لهذا الهدف : إنَّ الإمام الحسين عليه‌السلام لم يكن مُضطرَّاً أو مُكرهاً على هذين الأمرين : البيعة أو التضحية. بلْ كان يُمكنه أنْ يتجنَّبهما معاً ـ كما قلنا في المُناقشة الأُولى ـ ولكنَّنا قلنا هناك : إنَّه يُمكنه أنْ يتجنَّبهما وهو مُرتاح في بلده ، ولم يكن هذا صحيح كما عرفناه.

أما هنا فنقول : إنَّه كان يُمكنه أنْ يخرج إلى بلاد بعيدة لا تنالها يد الأُمويِّين ، كاليمن أو الهند أو الأفغان أو غيرها ؛ لينجو مِن القتل والبيعة معاً. وخاصَّة ، وإنَّ الدول في ذلك الحين لم تكن تملك إمكانيَّات الدول الحاضرة ، ولم

٨٠