أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

السيد محمّد الصدر

أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


المحقق: الشيخ كاظم العبادي الناصري
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

رواةُ واقعة الطف

أعتقدُ أنّ الرواة الأوائل أو المباشرين لحادثة الطف ، منحصرون في الأقسام التالية ، فينبغي أن ننظر إلى وَثاقتهم من ناحية ، وإلى مقدار شرحهم للحوادث ونحو ذلك من الخصائص :

القسمُ الأوّل : الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام المتأخّرون عن الحسين عليه‌السلام ، وخاصّةً الثلاثة الذين كانوا بعده بالمباشرة وهم : الإمام السجّاد ، والإمام الباقر ، والإمام الصادق عليهم‌السلام ؛ فإنّ لهؤلاء قسطاً من ذِكر واقعة الطف.

إلاّ أنّني أعتقد أنّنا ـ مع ذلك ـ لا نستطيع أن نأخذ عنهم التفاصيل كما نريدها ؛ لأنّهم عليهم‌السلام كانوا يتحدّثون بمقدار ما تقتضي المصلحة في زمانهم ، فكانوا يركّزون على الجانب المعنوي لواقعة الطف والدفاع عن قضيّة الحسين عليه‌السلام ، ولا يكون همّهم رواية أو نقل الحوادث ، إلاّ ما جاء عَرَضاً خلال الحديث ، إذاً فلا ينبغي أن نتوقّع سَماع حديثهم عن التفاصيل الكثيرة التي نريدها.

القسمُ الثاني : النساء من ذراري الحسين عليه‌السلام وأصحابه بعد عودتهنّ إلى المدينة المنوّرة ، فإنّهن لم يُصَبن بسوء وبقينَ أحياء بعد مقتل رجالهنّ ، ورجعنَ إلى محلّ سكنهنّ ، فمن الممكن لهنّ أن يتحدّثنَ عمّا رأينهُ عن تلك التفاصيل ، وتُعتبر كلّ واحدة منهنّ كشاهد حال حاضر للواقعة.

إلاّ أنّنا لا ينبغي أن نُبالغ في ذلك ؛ لأمرين على الأقل :

الأمرُ الأوّل : حاصل لدى وجود الواقعة نفسها في كربلاء ؛ وذلك لأنّ

١٤١

النساء كنّ موجودات في الخيام ، ولسنَ مُشرفات على الواقعة ولا مُتابعات للحوادث ، ولا يعرفنَ أشخاص الرجال الأجانب بأسمائهم ، فمن هذه الناحية ستكون فكرتهنّ عن التفاصيل غائمة ومُجملة لا محالة.

الأمرُ الثاني : حاصل لدى وجودهنّ في المدينة المنوّرة ، حيث كانت المصلحة الدينيّة والاجتماعيّة تقتضي إقامة المزيد من المآتم على واقعة الطف ، وإظهار المزيد من الحزن البكاء على مَن قُتل فيها ، إذاً فقد انشغَلت النساء بمهمتهنّ المقدّسة تلك ، ولم تجد إحداهنّ الفرصة الكافية لرواية التفاصيل.

القسمُ الثالث : الأطفال القلائل الذين نجوا من واقعة الطف ، واستطاعوا الهرب منها : كأحمد بن مسلم بن عقيل ، أو عادوا مع النساء : كالحسن المثنّى (١) وغيرهم (٢) ، فإنّهم أصبحوا كباراً بالتدريج ، فمن الممكن لهم عندئذٍ أن يَرووا ما رأوا وما سمعوا.

إلاّ أنّنا مع ذلك لا ينبغي أن نبالغ في إمكان أخذ التفاصيل من هؤلاء تاريخيّاً ؛ لعدّة أمور لعلّها تندرج في أمرين :

الأمرُ الأوّل : حالهم في واقعة الطف نفسها ، فإنّهم :

١ ـ كانوا محجوزين في الخيام مع النساء ولا يشاهِدون التفاصيل.

__________________

(١) الحَسَن المثنّى : ذكرهُ المفيد في الإرشاد وقال : وأمّا الحسن بن الحسن بن علي عليه‌السلام ، فكان جليلاً رئيسيّاً فاضلاً ورعاً ، وكان يلي صدقات أمير المؤمنين عليه‌السلام في وقته ، ولهُ مع الحجّاج خبر ذكرهُ الزبير بن بكّار ، وكان قد حضرَ مع عمّه الحسين عليه‌السلام الطف ، فلمّا قُتل الحسين عليه‌السلام وأُسِّر الباقون من أهله ، جاءهُ أسماء بن خارجة فانتزعهُ من بين الأسرى.

وقد تزوّج من بنت عمّه فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام ، فأولدها عبد الله المحض ، وإبراهيم العمر ، والحسن المثلّث ، ومن غيرها داوود ، وجعفر ، ومحمد ، ورقيّة ، وفاطمة ، وقد توفيَ بالسُم الذي دسّه له سليمان بن عبد الملك فماتَ وعمره (٥٣ سنة) رجال السيّد بحر العلوم : ج ١ ، ص ٢١ بتصرّف ، ط نجف.

(٢) عُمدة الطالب : ص ٧٨ ، مقاتل الطالبيين : ص ١١٩ ، ط دار المعرفة ببيروت.

١٤٢

٢ ـ لا يعرفون أسماء الرجال الموالين والمعادين لكي يرووا تفاصيل أعمالهم.

٣ ـ إنّ فهمهم الطفولي يومئذٍ لم يكن يساعد على الاستيعاب ، وكان عُمر أحدهم يومئذٍ قد لا يزيد عن خمس سنوات بالمعدّل ، ولم يكونوا بمعصومين لكي نقول : إنّ الفهم منهم لا يختلف باختلاف سِني العمر.

الأمرُ الثاني : إنّني لا أعتقدُ أنّهم مذكورون في أسناد الروايات الناقلة للتفاصيل عن واقعة الطف إلاّ نادراً ، ولو كان الرواة المتأخّرون نسبيّاً قد سَمعوا منهم لذَكروهم في السند ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحذف من السند كان لداعي التقيّة يومئذٍ ؛ فإنّ نقلَ قصّة الحسين عليه‌السلام كان مورداً للتقيّة المكثّفة والصعبة في زمن الأمويين الذين قتلوه ورضوا بمقتله ، بل الأمر كذلك في زمن أكثر الخلفاء العبّاسيين أيضاً.

القسمُ الرابع : الأعداء الذين حاربوا الحسين عليه‌السلام فعلاً في واقعة كربلاء ، وكانوا حاضرين خلالها ، ولكنّهم نجوا من الموت ورجعوا إلى بلداهم فأمكنهم أن ينقلوا القصّة ويسمع منهم الناس عنها الشيء الكثير. ويُروى : إنّ المختار الثقفي حينَ أعلن الأخذ بثأر الحسين عليه‌السلام ، كان يقبض على أعدائه واحداً واحداً ، فيسأله عمّا فعلهُ في واقعة الطف ، فيقتلهُ بالشكل الذي قَتلَ به الشهداء هناك (١) ، فقد حصلَ من ناحية الأعداء روايات تفصيليّة عن حوادث كربلاء ، وهناك أخبار أخرى من غير هذا الأسلوب رويت عن : حميد بن مسلم ، وزيد بن أرقم ، وغيرهما.

فهل نستطيع أن نعتبر هذه الأخبار عنهم هي من أخبار الثقاة ، مع أنّنا نعلم أنّهم أشدّ الناس فسقاً وعناداً ضدّ الإمام المعصوم ، بل ضدّ الله ورسوله أيضاً ، فإذا

__________________

(١) مُروج الذهب : ج ٣ ، ص ٨٦.

١٤٣

لم يكن الخبر خبر ثقة فكيف يمكننا الأخذ به؟

وقد يخطر في البال هنا : إنّ هذا الشخص أو غيره من الأعداء حين يروي شيئاً من الحوادث إنّما يقرّ على نفسه بالجريمة ، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، فمن الممكن الأخذ بخبره من هذه الجهة.

إلاّ أنّ هذا غير صحيح لعدّة أسباب أو وجوه :

الوجهُ الأوّل : إنّ قاعدة إقرار العقلاء إنّما تَجعل الخبر معتبراً بالنسبة إلى العقوبة للمتكلّم به ، أو تحميله مسؤوليّته بشكلٍ وآخر ، ولا تَجعل الخبر مُعتبراً بمعنى كونه مشهوداً له بالصحّة بشكل مطلق.

الوجهُ الثاني : إنّ هذا الشخص أو ذاك ممّن كان في معسكر الأعداء ، قد لا يروي الحادثة عن نفسه ، وإن تكلّم عن نفسه أعني عمّا قاله وفعلهُ في كربلاء ، إلاّ أنّه يروي ذلك مدافعاً عن نفسه ، يعني يريد أن يثبت أنّه قد رَحم الآخرين وتعطّف عليهم في الوقت الذي شدّد عليهم غيره ، وهذا شامل لعدد من النقول الواردة ، ومعه لا تكون إقراراً حتّى نُثبت حجيّتها بقاعدة الإقرار.

إذاً ، ينتج أنه ينبغي الحذر كثيراً حين نسمع من أو عن أمثال هؤلاء الأعداء أخبارهم عن واقعة كربلاء ، ومن المؤكّد أن أخبارهم ليست أخبار ثقاة بل هو خبر ضعيف ، باصطلاح أهل الحديث ؛ لأنّها رواية فاسق ومُعاند للحقّ ومَن الذي يقول بحجيّة الخبر الضعيف؟

الرواةُ المتأخّرون

لكنّ الذي يُهوّن الخَطب أنّنا نأخذ التفاصيل من كُتب علمائنا الموثوقين الأجلاّء : كالشيخ المفيد في الإرشاد ، والشيخ الإربلّي في كشف الغمّة ، وأبي مَخنف ، والخوارزمي في مقاتلهم ، والشيخ التُستري في كتابه عن الحسين عليه‌السلام

١٤٤

وأضرابهم.

إلاّ أنّنا مع ذلك ينبغي أن نكون حَذرين في النقل لعدّة أمور :

الأمرُ الأوّل : إنّ كثيراً ممّا نَقلوا من الروايات هي ضعيفة السند ومرسلة ، وعلى كلّ تقدير لا يمكن الآخذ بها فقهيّاً.

وقد يخطر في البال : إنّ هؤلاء العلماء هم الذين تكفّلوا صحّتها على عاتقهم ، فهي معتبرة وصحيحة في نظرهم ، وهذا يكفي في النقل وإن كانت مرسلة أو ضعيفة بالنسبة إلينا.

وجوابهُ : بالنفي طبعاً ، يعني لا يكفي ذلك ؛ لأنّ صحّتها التي يعتقدون بها إنّما هي صحّة اجتهاديّة وحدسيّة ، وليست حسيّة لتكون حجّة على الآخرين ، أو قل على الأجيال المتأخّرة ، كما هو مبحوث عنه في علم الأصول.

الأمرُ الثاني : إنّه ينبغي التأكّد من نسبة الكتاب إلى مؤلّفه فقد يكون كلّه مُنتحلاً أو بعضه ، أو يكون مزيداً عليه أو محذوفاً منه وغير ذلك من الاحتمالات ، وإذا وردَ الاحتمال بطل الاستدلال ، ولعلّ أهمّ وأوضح ما هو مشكوك بالنسبة إلى مؤلّفه هو مقتل أبي مخنف ، وهو ممّا يَعتمد عليه الناس كثيراً ، وأبو مَخنف رجل صالح وموثّق ، إلاّ أنّ نسبة كتابه إليه مشكوكة.

الأمرُ الثالث : إنّه ينبغي التأكّد أنّ النقل في الكتاب إنّما هو بنحو الرواية لا بنحو الحدس ؛ فإنّه وجِد خلال التأريخ مَن كَتبَ عن واقعة الطف من زاوية الحَدس والكشف العرفاني لا بنحو الرواية ، وحاولَ فهمها من وجهة نظره تلك ، وهذا هو الذي يبدو من الشيخ التستري في كتابه (الخصائص الحسينيّة) حيث يقول مثلاً : إنّ الحسين عليه‌السلام حَصلت له حالة الاحتضار ثلاث مرّات. فإنّ هذا إن صحّ ، فقد أخذهُ بالكشف العرفاني بلا رواية ؛ فإنّه لا توجد أيّة رواية بذلك ، وهكذا كثير من التفاصيل.

١٤٥

ومن المعلوم في الأصول : إنّ هذه الحدوس والكشوف إن كانت حجّة ، فهي حجّة على صاحبها بصفته عالِماً بصحّتها ، ولا يمكن أن تكون حجّة على غيره مع احتماله لتوهّم الآخر وانفعاله ، ومن ثمّ فقد لا يكون ما قاله مطابقاً للواقع ، إلاّ أن يحصل لنا أو لأيّ شخصٍ العلم بالمطابقة ، أو حسن الظنّ بالقائل بحيث يُعلم أنّ كشوفه الوجدانيّة دائمة المطابقة للواقع ، ومن أين لنا ذلك؟

١٤٦

مجوّزات النَقل شرعاً

وما يمكن أن يكون مُجوّزاً للنقل شرعاً عن المعصومين (سلام الله عليهم) من الروايات ، في واقعة كربلاء أو غيرها عدّة أمور :

الأمرُ الأوّل : صحّة السَند ؛ فإنّ السند وهو مجموعة الرواة الناقلون له إن كانوا كلّهم ثقاة جازَ الإخبار به ، وتكفل مسؤوليّته أمامَ الله سبحانه.

الأمرُ الثاني : نسبة القول إلى صاحبه ، بعد العلم بانتساب الكتاب إليه ، فنقول : قال فلان أو روى فلان كذا ، أو نقول : رويَ أو قيل ، أو نقول : قال أرباب المقاتل أو المؤلّفون في واقعة كربلاء ونحو ذلك ......

وبذلك تخرج عن العهدة أمام المعصومين عليهم‌السلام ، وتكون صادقاً في قولك ؛ لأنّ هذا الذي نقلتَ عن كتابه قد قال ذلك فعلاً ، لكن هذا مشروط بشرطين :

١ ـ أن يكون الأمر مرويّاً عن كتابٍ ما ، وأمّا إذا لم يكن مرويّاً إطلاقاً وأنت تقول عنه : رويَ كذا ، فهذا غير جائز بل هو الكذب نفسه.

٢ ـ أن يكون الكتاب صحيح النسبة إلى مؤلّفه ، وإلاّ فسيكون نسبة القول إلى مؤلّفه نسبة كاذبة ، فأنتَ تَكذب على المؤلِّف وإن لم تَكذب على المعصومين عليه‌السلام.

الأمرُ الثالث : من مجوّزات النقل المشهورة بين الخطباء والشعراء الحسينيّين : النقل بلسان الحال ، فكأنّهم يرون أنّ الحديث يكون صادقاً مع التقيّد بهذا المعنى ، ومن هنا أباحَ الشعراء لأنفسهم إضافة أقوال وأفعال كثيرة

١٤٧

جدّاً إلى واقعة الطف ، بعنوان أنّها بلسان الحال لا بلسان المقال.

وهذا ليس خطأ كلّه ، بل يُحمل جانباً من الصواب من الناحية الفقهيّة ؛ فإنّ النقل بالمعنى عن الروايات جائز إن كانت الرواية بدورها مُحرَزة الصحّة ، كما أنّ النقل بلسان الحال جائز إذا أحرزنا أنّ حال المتكلّم في تلك الساعة على ذلك ، إلاّ أنّنا مع ذلك ينبغي أن نكون على حذرٍ شديد من هذه الناحية ، لعدّة وجوه :

الوجهُ الأوّل : إنّنا لا نستطيع أن نعلم حالهم رضوان الله عليهم ، لا الحسين عليه‌السلام ، ولا أصحابه ، ولا نساءه ، ولا أيّ واحدٍ هناك منهم ؛ لأنّهم أعلى وأجلّ من أن نعلم ما يدور في خواطرهم وما تُخفيه سرائرهم ، في حين أنّنا بعيدون عنهم زمناً ومكاناً وثقافة ومستوى ، وغير ذلك ، إذاً فنحن جاهلون بحالهم لا أنّنا عالمون به لنستطيع التعبير عنه بأيّ حالٍ من الأحوال ، وإنّما يجوز الحديث بلسان الحال مع إحراز المطابقة للواقع ، وأنّى لنا ذلك؟

الوجهُ الثاني : إنّ ما يكون بلسان الحال إنّما هو الأقوال لا الأفعال ، فلو تنزّلنا جَدلاً عن الوجه الأوّل أو تمّ لدينا ذلك الوجه ، فإنّما يجوز النقل بلسان الحال في الأقوال وحدها ، أمّا نقل الأفعال والتلفيق فيها بعنوان كونها بلسان الحال ، فهذا لا معنى له ولا بيان له.

الوجهُ الثالث : إنّنا لو تنزّلنا جَدلاً عن الوجه الأوّل أو تمّ لنا ذلك الوجه ، فإنّه يتمّ بمعنى أنّ الحالة العامّة التي كانوا فيها معلومة لنا إجمالاً. وأمّا التفاصيل فمن غير المحتمل أن ننال منها شيئاً ، فمثلاً ما الذي خطرَ في ذهن الحسين عليه‌السلام حين أخذَ رضيعه معه ليسقيه الماء ، أو في أيّة حادثة معيّنة أخرى؟ هذا متعذّر فهمه تماماً في حدود البُعد الزمني والثقافي والإيماني عنه عليه‌السلام.

١٤٨

وفي صدد النقل بلسان الحال يمكن أن نذكر مَنشأين لجواز النقل بهذا الشكل ، فإن تمّ أخذنا به ، وإن لم يتم أعرَضنا عنه :

المنشأ الأوّل : ما وردنا من الروايات عن واقعة كربلاء ، فإنّها تدلّنا على الحال الذي كانوا فيه ، فنستطيع أن نتحدّث زيادة على ذلك في حدود الحال الذي فهمناه من تلك الروايات.

وجوابهُ : أوّلاً : إنّ الرواية ينبغي أن تكون صحيحة ومعتبرة سنداً ، لكي يمكننا استكشاف الحال من خلالها.

ثانياً : إنّ المفروض أنّنا نتحدّث عن أقوال وأفعال زائدة عمّا هو المروي ؛ لأنّه بلسان الحال ، فلا نستطيع أن نقول : (رويَ ذلك) لنكون صادقين ؛ لأنه لم يُروَ إطلاقاً.

ثالثاً : إنّ المفروض أحياناً أنّنا نروي حوادث وأقوالاً غير متشابهة على الإطلاق عمّا هو مروي ووارد ، لا في الروايات الصحيحة ولا الضعيفة ، فكيف يتمّ لنا ذلك شرعاً وهل هو إلاّ من الكذب الصريح؟

المنشأ الثاني : لجواز النقل بلسان الحال ، العُرف ، فما كان يناسب من الناحية العرفيّة أن يكون حالهم عليه ، جازَ التعبير عنه ، وما لا يناسب ذلك لم يجز التعبير عنه ، واتباع العرف أمر جائز عرفاً وحجّة كما ثبتَ في علم الأصول. إلاّ أنّ هذا غير صحيح لعدّة مناقشات تَرد عليه :

أوّلاً : إنّ العرف إنّما تَثبت حجيّته في علم الأصول في موارد معيّنة لا يمكن تعدّيها ، ولا قياس غيرها عليها ، وهي حجيّة الظواهر المأخوذ بها عرفاً وحجيّة المعاملات المتعارفة في العرف.

وأمّا الكذب والكلام الزائد ، فهو وإن كان عرفاً سائراً ، إلاّ أنّه منهي عنه قطعاً في الشريعة ومُحرّم أكيداً.

١٤٩

ثانياً : إنّ العرف إنّما يكون حجّة في ما يناسب حال العرف ومستواه. وأمّا ما كان خارجاً عن حال العرف كالأمور الرياضيّة والفلسفيّة ، فلا سبيل للعرف إليها ، ونحن نعلم أنّ حال أولئك الأبطال الأفذاذ أعلى من أن يفهمه العرف ، فالتنزّل بمستواهم إلى درجة العرف الشائع ظلمٌ لهم لا محالة.

ثالثاً : إنّ لسان الحال أصبح مبرّراً لدى البعض إلى نقل كثير من التفاصيل الكاذبة ، وهذا أمرٌ خارج عن هذا الدليل لو تمّ ، بعد التنزّل عن الوجهين السابقين جَدلاً ، فإنّه إنّما يُثبت إمكان البكاء والتضجّر واللطم ونحو ذلك ، لا أنّه يُثبت جواز الكذب والدسّ بطبيعة الحال.

الأمرُ الرابع : من مُجوّزات النقل المحتملة عن حوادث كربلاء :

ما وردَ بنحو القاعدة العامّة حيث تقول : «قولوا فينا ما شئتم ونزهّونا عن الربوبيّة» (١).

وتقريبُ الاستدلال بها للنقل : وهو التمسّك بإطلاق قوله (ما شئتم) ؛ فإنّ الفرد قد يشاء أن ينقل الأمور غير المرويّة أو غير المناسبة مع الحال وغير ذلك ، ومقتضى إطلاق القاعدة جواز ذلك كلّه ، إلاّ أنّ هذا غير صحيح بكلّ تأكيد لعدّة وجوه :

الوجهُ الأوّل : إنّ مثل هذه الرواية غير تامّة سنداً ، ومعهُ لا تكون ثابتة أصلاً ، فالاستدلال بها ـ كما هو المشهور بينهم ـ غير جائز.

الوجهُ الثاني : إنّها مخدوشة في الدلالة أو التعبير وهو قوله فيها : (ونزّهونا عن الربوبيّة) ، في حين أنّ الربوبيّة كمال وعَظمة ، والتنزيه إنّما يكون عن النقص والخسّة والرذيلة ، فهذا إنّما يدلّ على ضعف سندها وعدم ورودها إطلاقاً.

__________________

(١) البحار : ج ٢٥ ، ص ٢٦١ بتصرّف.

١٥٠

ويمكن أن يكون المتكلّم بها قد قال : (ونزّلونا عن الربوبيّة) ، فَنقلها الراوي بالهاء وهو قوله : (نزّهونا) ، إلاّ أنّ هذا الاعتذار لا يجعلها تامّة سَنداً.

الوجهُ الثالث : إنّ التمسّك بإطلاقها على سَعته غير مُحتمل فمثلاً : هل يمكن أن يشمل قوله : (قولوا فينا ما شئتم) القول السيئ من القدح والشتم ونحوه ، إنّ هذا غير محتمل طبعاً ، إذاً فالمراد : ما شئتم ممّا هو مناسب مع شأننا ، ومن الواضح أنّ كثيراً ممّا نقول عنهم بلسان الحال ليس مناسباً مع شأنهم.

الوجهُ الرابع : إنّ قوله فيها (ما شئتم) يراد به الأوصاف الإجماليّة : ككونهم علماء ، أو عظماء ، وغير ذلك ، ولا يراد بها التفاصيل من نقل الأقوال والأفعال الكاذبة عنه ، وإن كانت مناسبة لشأنهم ، فضلاً عمّا إذا لم تكن ، والمفروض إلى الحديث عن لسان الحال أنّه يكون بالتفاصيل لا بالإجمال.

الوجهُ الخامس : في المعنى الأصلي الذي أفهمهُ من هذه الرواية : وهو أنّ فهمَنا لا يكون له أيّ ارتباط للنقل بالمعنى من قريب أو بعيد ، والمعنى الذي أفهمهُ كما يلي : قولوا فينا ما شئتم من المدائح ، أو من صفات الكمال والجلال ؛ فإنّكم لا تصلون إلى الواقع الذي اختارهُ الله لنا ، وستكون كلّ من مدائحكم وأوصافكم دون مستوانا الواقعي.

وإذا تصاعدنا نحن في الأوصاف لا نصل إلى صفتهم الحقيقيّة ، فضلاً عن أنّنا يمكن أن نتعدّاهم إلاّ إذا ذَكرنا لهم الربوبيّة ؛ فإنّها غير ثابتة في حقّهم ، فمثلاً نقول : إنّهم مؤمنون ، ثمّ نقول : إنّهم ورعون ، ثمّ نقول : إنّهم متّقون ، ثمّ نقول : إنّهم علماء ، ثمّ نقول : إنّهم راسخون في العلم ، ثمّ نقول : إنّهم أولياء ، ثمّ نقول : إنّهم كأنبياء بني إسرائيل أو أفضل منهم ، كلّ ذلك ونحن لم نصل إلى حقائقهم ومستوياتهم الواقعيّة.

الأمرُ الخامس : من مجوّزات النقل المحتملة عن واقعة كربلاء :

١٥١

ما ورد بنحو القاعدة العامّة : «مَن بكى على الحسين أو أبكى أو تباكى ، وجَبت له الجنّة» (١).

وتقريبُ الاستدلال بها : هو التمسّك بإطلاقها لكلّ قولٍ أو فعل صار سبباً للبكاء على الحسين عليه‌السلام وأصحابه ، فإنّه يكون سَبباً لدخول الجنّة أو وجوبها للفرد سواء كان مطابقاً للواقع أو لم يكن.

وهذا المضمون وإن كان مطابقاً للقاعدة ؛ لأنّ مَن بكى أو أبكى أو تباكى بإخلاصٍ لله سبحانه وتعالى (٢) وللحسين عليه‌السلام ، فإنّه يستحقّ الثواب الجزيل بلا إشكال ، إلاّ أنّ التمسّك بإطلاقها المفروض إنّما يتمّ بغضّ النظر عن المناقشات التالية ، وتلك المناقشات تَردّ عليها كرواية منقولة كما هو المشهور ، لا كمضمون مشهود على صحّته.

أوّلاً : ضُعف سَند هذه الرواية ، فلا تكون معتبرة.

ثانياً : إنّ متعلّق البكاء لم يُذكر في هذه العبارة ، ومعه يكون من الواضح

__________________

(١) أمالي الصدوق : ص ١٢٥ ، مجلس ٢٩ ، البحار : ج ٤٤ ، ص ٢٨٨ ، الدمعة الساكبة : م ١ ، ص ٣٠٠.

(٢) وهنا يشير سماحة المؤلِّف إلى أنّ الإخلاص في البكاء ، أو التباكي لله بغضّ النظر عمّا إذا كان على الحسين عليه‌السلام أو غيره ، فهو سبب في الدخول إلى الجنّة ، ويؤيّد ذلك : ما ذكرهُ السيّد المقرّم في مقتله نقلاً عن كنز العمّال : ج ١ ، ص ١٤٧ في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قرأ آخر الزُمر (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً) على جماعة من الأنصار ، فبكوا إلاّ شابّاً منهم قال : لم تقطر من عيني قطرة وإنّي تباكيت ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن تباكى فلهُ الجنّة).

وفي نفس المصدر عن جرير عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّي قارئ عليكم (ألهاكم التكاثر) مَن بكى فلهُ الجنّة ، ومَن تباكى فلهُ الجنّة» كنز العمّال : ج ١ ، ص ١٤٨.

وحدث أبو ذر الغفاري رحمه‌الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَن استطاعَ أن يبكي فليبكِ ، ومَن لم يستطع فليُشعر قلبه الحزن وليتباكِ ؛ فإنّ القلب القاسي بعيد عن الله» مقتل المقرّم نقلاً عن اللؤلؤ والمرجان للنوري ٤٧ ، ومجموعة شيخ ورام : ص ٢٧٢.

ويجب أن نشير هنا إلى أنّ المقصود ليس كلّ بكاء أو تباكي ، وإنّما يجب أن يكون البكاء خالصاً لله عزّ وجل منبعثاً من تأثير النفس والرهبة منه سبحانه وتعالى ، ويشير إلى ذلك محمّد عبدة في تفسير المنار : ج ٨ ، ص ٣٠١ حيث يقول : التباكي تَكلّف البكاء لا عن رياء.

١٥٢

أنّه ليس كلّ أهداف البكاء مشروعة ، أو لا ثواب عليها على الأقل.

أو قل : لا تجب لهُ الجنّة بكلّ تأكيد ، كمَن بكى للدنيا أو لمصيبة عاطفيّة ونحوها ، إذاً فالأمر مقيّد بالبكاء المرضيّ لله عزّ وجل.

ثالثاً : إنّ متعلّق البكاء لم يُذكر في هذه العبارة ، حتّى الصالح منه يعني لم يقل : إنّ البكاء من أجل الحسين عليه‌السلام ـ كما يفهم المشهور ـ أو من خوف الله عزّ وجل ، أو شوقاً إلى الثواب ، أو أيّ شيء آخر ، ومن هنا لا دليل على اختصاصه بالحسين عليه‌السلام.

رابعاً : إنّ وجوب الجنّة بل مطلق الثواب ، لا يكون إلاّ بحفظ الشرائط الأخرى الضروريّة في الدين ؛ لوضوح عدم شمولها للكفّار والفَسَقة وأضرابهم ، إذاً فيكون المعنى : مَن أضافَ إلى حسناته البكاء ، وجَبت له الجنّة. ومن الواضح أنّها لم تقل ذلك بوضوح ، إذاً فيبقى إطلاقها غير ثابت.

خامساً : إنّ وجوب دخول الجنّة غير مُحرز لأيّ إنسان غير معصوم ، ما لم يَمت مرضيّاً لله عزّ وجل ، وأمّا لو زالت حسناته بظلمٍ أو سوء ونحوه ، لم يستحقّ الجنّة بكلّ تأكيد ، والشاهد على ذلك قوله تعالى : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) (١) ، والسيّئات قد تذهب بالحَسنات ، كما أنّ الحَسنات قد تذهب بالسيّئات.

ومعهُ فيكون المعنى : مَن داومَ على الطاعة طول حياته مع البكاء ، وجَبت لهُ الجنّة ، ومن الواضح أنّه لم يقل ذلك ، كلّ ما في الأمر أنّ التمسك بإطلاقها مُشكل.

سادساً : الإخلاص في العمل لم تنصّ عليه الرواية ، وهو البكاء في سبيل الله من دون عجب ولا رياء ، فلو بكى الفرد على أمواته أو على مصاعب الدنيا ،

__________________

(١) سورة الفرقان : آية ٢٣.

١٥٣

لم يستحقّ الجنّة فضلاً عن أنّها تجب له ، لكنّنا ينبغي أن نُفصّل الحديث في البكاء على الأموات بعنوانٍ مستقل.

١٥٤

البكاءُ على الأموات

وليس المراد البكاء على الأموات حقيقة ، بل البكاء الذي يكون في الظاهر على الحسين عليه‌السلام ، وفي القصد الواقعي على الأموات ، فهل يكون الفرد عليه مستحقّاً للثواب أم لا؟ وقد عرفنا قبل قليل عدم استحقاقه للثواب لا محالة ؛ لعدم وجود الإخلاص والقصد القربي لديه ، ولكن وردت في ذلك رواية من حيث إنّ الراوي يسأل الإمام عليه‌السلام بما مضمونه : إنّني أبكي على الحسين عليه‌السلام فأتذكّر أمواتي فأبكي عليهم ، فأجابهُ بما مضمونه : «نعم ، ابكِ ولو على أمواتك» (١).

وهذه الرواية أيضاً غير معتبرة السند ، ومعهُ يبقى الأمر على القاعدة الأوّليّة وهي عدم وجود الثواب ، إلاّ في بعض الموارد التي نشير إليها فيما بعد.

وإن كانت الرواية معتبرة السند ، فقد تمّ المطلب ، يعني أنّنا نأخذ بمحتواها : وهو وجود الاستحباب حتّى في هذه الصورة ، وهي البكاء على الأموات ، ما دام الظاهر هو البكاء على الحسين عليه‌السلام ، والأمر غير خاصّ بواحدٍ معيّن بطبيعة الحال ، فقد يبكي ألف من الموجودين على أمواتهم بهذه الصورة ، وهذا ما يدلّ على أنّ الشارع المقدّس ـ لو صحّت الرواية ـ يريد حفظ الظاهر أو الصورة الظاهريّة لبكاء الناس ، وإن كان قصدهم مختلفاً ، وهذا ليس جزافاً ، بل فيه فوائد وحِكم ومصالح حقيقيّة ، يمكن أن نُدرك منها ما يلي :

أوّلاً : حفظُ تسلسل الشعائر الدينيّة واستمرارها.

__________________

(١) الكافي للكليني : ج ٢ ، ص ٤٨٣ ، بنفس المعنى.

١٥٥

ثانياً : إثبات وجود هذه الشعائر أمام مَن لا يؤمن بها أو لا يُنجزّها.

ثالثاً : الإسعاد في البكاء للآخرين ؛ لأنّهم لا يعلمون أنّي أبكي على أمواتي ، بل يتخيّلون أنّي أبكي على الحسين عليه‌السلام بحرارة ؛ لأنّ البكاء فيه إسعاد وهو انتقال أو عدوى العاطفة من فردٍ إلى آخر ، والإسعاد في البكاء معنى لغوي مأخوذ من السعادة ؛ لأنّ الباكي يشعر براحة وسعادة حين يجد نفسه بين الباكين من أجله.

رابعاً : التربية النفسيّة من الناحية الدينيّة للفرد نفسه وللآخرين أيضاً ، فإنّه إذا قصدَ اليوم البكاء على أمواته ، فسوف يقصد غداً البكاء على الحسين عليه‌السلام ، بمعنى أنّ الدافع المتدنّي سوف يتقلّص في نفسه حتّى يزول.

ومن هنا نعرف ما أشرنا إليه : من أنّ الفرد يمكن أن يحصل على الثواب ، حتّى لو بكى على أمواته ، إن كان القصد الظاهري هو البكاء على الحسين عليه‌السلام ، لكن بشرط أن يقصد هذه الأمور الصحيحة التي ذكرناها الآن ونحوها ، لا أن يكون البكاء متمحّضاً للأموات حقيقة.

نعود الآن إلى ما كنّا فيه من تعداد الوجوه المحتملة المجوّزة للنقل عن حوادث كربلاء المقدّسة ، وقد سبقَ أن ذكرنا منها خمسة أمور :

الأمرُ السادس : من مجوّزات النقل المحتملة :

جواز قول الشِعر في حادثة الطف بلا إشكال ، وهذا ممّا عليه السيرة المتشرّعة في مذهبنا من زمن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وإلى الآن.

فالسيرة قطعيّة الصحّة ، والشِعر عن الحسين عليه‌السلام قطعي الجواز ، بل قطعي الاستحباب ، بل لعلّ فيه الوجوب الكفائي إذا شحّ مُعيّنه في مكانٍ أو زمانٍ معيّن.

ومن المعلوم أنّ الشرع يحتوي على : المجاز ، والمبالغة ، والتورية ،

١٥٦

والمعاني العاطفيّة والخياليّة وغير ذلك كثير ، وهذا ما يدلّ على جواز أن ننسب إلى موضوع القصيدة ـ بما فيها حوادث كربلاء ـ ما نشاء من خلال القصيدة نفسها ، سواء كان وارداً في رواية معتبرة أو غير معتبرة ، أو غير وارد على الإطلاق.

إلاّ أنّ هذا الوجه قابل للمناقشة في عدّة أمور :

أوّلاً : إنّه لو تمّ لاختصّ بالشِعر ولا يمكن أن يشمل النثر ؛ لأن النثر خالٍ عرفاً وعادة عن الخيالات المستعملة في الشِعر ، وهذا الوجه لو تمّ فإنّما يجيز تلك الخيالات دون غيرها.

ثانياً : إنّ الخيالات والمبالغات ليست من نوع الكذب عرفاً وعقلائيّاً ، إذاً فالتعميم من جواز ذلك إلى جواز الكذب والدسّ في الشعر غير صحيح تماماً.

ثالثاً : إنّ السيرة كما ثبتَ في علم الأصول دليلٌ لا إطلاق له ولا لسان له ، يؤخذ منه بالقدر المتيقّن ، والقدر المتيقّن هنا : هو الشِعر الخالي من الكذب والدسّ فيكون جائزاً ، ولا يمكن التعميم بدليل السيرة إلى غيره.

وقد يخطر في البال : أنّ السيرة الموروثة عندنا هي على وجود الكذب في الشِعر بهذا الصدد ، وهي سيرة مُمضاة من قِبل الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

فمن ذلك قول دعبل الخزاعي (عليه الرحمة) أمام الإمام الرضا عليه‌السلام :

أفاطمُ لو خِلتِ الحسين مُجدّلاً

وقد ماتَ عطشاناً بشطّ فُراتِ

إذن للَطمتِ الخدّ فاطم عندهُ

وأجرَيتِ دمعَ العين في الوَجناتِ (١)

فقد أثبتَ اللطمَ والبكاء لفاطمة الزهراء عليها‌السلام ، مع أنّهُ غير متحقّق جَزماً ؛ لأنّ الزهراء عليها‌السلام لم تكن موجودة في الدنيا لدى مقتل

__________________

(١) للشاعر دعبل الخزاعي ، أدب الطف : ج ١ ، ص ٢٩٧.

١٥٧

وَلدها الحسين عليه‌السلام ، مع ذلك فقد سَمعها الإمام الرضا عليه‌السلام ولم يعترض عليها.

وجواب ذلك يكون على مستويين :

المستوى الأوّل : ما قالهُ علماء المنطق من أنّ القضيّة الشرطيّة تصدق حتّى مع كِذب طرفيها ، وأوضح مثال له : إنّ قولنا : إذا طَلعت الشمس فالنهار موجود ، يصدُق في الليل كما يصدق في النهار ، ولا يتوقّف على طلوع الشمس فعلاً ، أو وجود النهار فعلاً ، بل يكفي في صِدق الشرطيّة صدق الملازمة والتوقّف ما بين فعل الشرط وفعل الجزاء ، وهو في المثال توقّف وجود النهار على طلوع الشمس.

ومن الواضح أنّ هذين البيتين لدعبل الخزاعي إنّما هو قضيّة شرطيّة ، وليست فعليّة أو واقعيّة ، فلا يدلّ على أنّ الزهراء قد بَكت فعلاً أو لطمت ؛ وإنّما قال : (لو خِلتِ الحسين) ، و (لو) حرفٌ من حروف الشرط فتكون قضيّة شرطيّة ، فيمكن أن تصدق مع كِذب طرفيها كما سبق في المثال.

المستوى الثاني : إنّه قد يخطر في البال أنّنا قلنا في المستوى الأوّل الذي انتهينا منهُ ، أنّ القضيّة الشرطيّة تصدق بصدق الملازمة وإن كانت موجودة في مثل قولنا : إذا طَلعت الشمس فالنهار موجود ، إلاّ أنّها غير موجودة في قول دعبل : (أفاطمُ لو خِلتِ الحسين مُجدّلاً) ، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك ؛ لأنّنا لا نعلم أنّ الزهراء عليها‌السلام ماذا سيكون ردّ فعلها إذا عَلمت بمقتل ولدها ، وخاصّة بعد أن أشرنا فيما سبقَ من أنّ قضيّة الإمام الحسين عليه‌السلام فيها جانبان : الاستبشار ، والحُزن. ولا شكّ أنّ الحُزن أقرب إلى المضمون الدنيوي ، وإن كانت لهُ نتائج دينيّة كما سبق ، كما لا شكّ أنّ الاستبشار أقرب إلى المضمون الأخروي أو الواقعي.

ومن المعلوم أنّ الزهراء (سلام الله عليها) تكون في الآخرة مُطّلعة

١٥٨

على الواقعيّات ، ومع الاطّلاع على الواقعيّات ، فمن الممكن أن يكون ردّ فعلها هو الاستبشار لا الحزن ، فكيف يقول دعبل الخزاعي هذين البيتين؟ نُعيدهما لكي يطّلع القارئ الكريم مجدّداً :

أفاطمُ لو خِلتِ الحسين مُجدّلاً

وقد ماتَ عطشاناً بشطّ فُراتِ

إذن للَطمتِ الخدّ فاطم عندهُ

وأجرَيتِ دمعَ العين في الوَجناتِ

فإذا التفتنا والحال هذه إلى أنّ الإمام الرضا عليه‌السلام قد أقرّ عمل دعبل وباركهُ ، إذاً فمن الممكن القول : إنّ أمثال ذلك من جِنس الكذب ، وهو عَرض ما هو مُحتمل باعتبار أنّه يقين فيكون جائزاً بإقرار الإمام عليه‌السلام.

وجوابُ ذلك من عدّة وجوه نَذكر المهمّ منها : وهو أنّ دِعبل الخزاعي ـ حيث قال هذين البيتين وأضرَابهما ـ إنّما يُعبّر عن مستواه في الإيمان واليقين ، ومقتضى مستواه : هو أن يُفهِم الزهراء (سلام الله عليها) بهذا المقدار لا أكثر ، ومن الصعب عليه أن يلتفت إلى ما ذكرناه من احتمال الاستبشار برحمة الله عزّ وجل ، والإمامُ الرضا عليه‌السلام لم يجد مصلحة في تنبيهه على ذلك ، إذ لعلّها من الحقائق التي يصعب عليه تحمّلها ، فمن الأفضل استمرار غفلتهُ عنها ، طبقاً لقانون : «دَعوا الناس على غَفلاتها» (١) ، أو قانون : «كلِّموا الناس على قَدر عقولهم» (٢).

ومن هنا يتّضح : أنّه ليس كلّ إقرار من قِبل الأئمّة سلام الله عليهم حُجّة في إثبات الصحّة ، بل يُشترط في الإقرار إمكان المناقشة فيه والنهي عنه ، فإذا لم يَنهِ وهو يُمكنه النهي ، إذاً يدلّ ذلك على الإقرار ، وأمّا إذا لم يُمكنه النهي على الإطلاق ، إذاً فسوف لن يكون سكوتهُ دالاً على الإقرار.

وموردنا من هذا القبيل ؛ لأنّ دعبل لم يكن يتحمّل إيضاح الفكرة له ،

__________________

(١) أشار إليها سماحة المؤلِّف في المقدّمة الثانية ، فراجع.

(٢) أصول الكافي : ج ١ ، ص ٦٧ ، حديث ١٥ ، البحار للمجلسي : ج ٢ ، ص ٦٩ ـ ٧٠ ، حديث ٢٣ ـ ٢٤.

١٥٩

وخاصّةً أنّ الإمام عليه‌السلام لا يجد في ذلك مَفسدة دينيّة ؛ لأنّ الأعمّ الأغلب من الناس إنّما هُم بمنزلة دعبل أو دون مستواه ، فلا يكون من المنافي مع مستواهم أن يسمعوا أبياته.

إذاً ، فليس في هذه الرواية ـ لو تمّت سَنداً ـ أيّ إقرار على قول ما خالفَ الواقع من الحوادث أو الأقوال أو الأفعال ، لا في الشِعر ولا في النَثر.

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى أنّ الحُزن الحقيقي ، إنّما هو على أهل الدنيا وأهل الشر وأهل العِناد ، على اعتبار أنّهم اختاروا لأنفسهم الغفلة والشرّ والعناد ، وقد رويَ أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام بكى على أعدائه في كربلاء (١) ، باعتبار أنّهم اجتمعوا ضدّ إمامهم ومولاهم الحقيقي وعَرّضوا أنفسهم لهذه الجرائم النكراء. وأمّا تصوّره عليه‌السلام عن شهادته والبلاء الذي مرّ عليه : فهو الاستبشار والفرح بحُرمة الله ونعمته جلّ جلاله ، كما أنّ الحُزن يكون على أولئك المشمولين لقوله عليه‌السلام : «مَن سمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا أكبّه الله على مَنخريه في النار» (٢) ، وهذا هو بكاء الأبوّة الواقعيّة حين يحسّ الأب بتمرّد أولاده عليه ، والواقع أنّ تمرّدهم ليس ضدّه بل ضدّ ربّهم من ناحية ، وضدّ أنفسهم من ناحية أخرى ، فتكون المصيبة عليهم منهم أكبر ؛ لأنّه لن يُعاقَب إلاّ فاعل الجريمة.

وقد يخطر في البال : إنّ هذا البلاء في كربلاء أصبحَ ـ بحسب ما شرحناه ـ سبباً للاستبشار وللبكاء في نفس الوقت في نفس الحسين عليه‌السلام ، وهذا تناقض غير معقول ، فلابدّ أن يكون للمسألة تفسير آخر.

وجوابُ ذلك : إنّ هذا البلاء بنفسه له جانبان أو نظرتان أو لحاظان :

__________________

(١) الخصائص الحسينيّة للتستري : ص ٧٨.

(٢) البحار للمجلسي : ج ٤٤ ، ص ٣١٥.

١٦٠