أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

السيد محمّد الصدر

أضواء على ثورة الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


المحقق: الشيخ كاظم العبادي الناصري
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

يكن في استطاعتها الحرب في الأماكن البعيدة ، وقد ورد عن بعض ناصحيه ـ والمُشفقين عليه مِن الخروج ـ (١) هذا المعنى ، فلماذا لم يفعل؟! وجواب ذلك يتمُّ في وجوه نذكر أهمَّها :

أوَّلاً : إنَّ ما قاله المُستشكل مِن ضعف الدول القديمة وإنْ كان صحيحاً إجمالاً ، إلاَّ أنَّه ليس صحيحاً تماماً ؛ إذ يكفي أنْ نتصوَّر كيف سار الفتح الإسلامي في ذلك القَرن الأوَّل نفسه ، بلْ قبل مقتل الحسين عليه‌السلام إلى العراق وإيران ، وسوريا وفلسطين ومصر ، وأذلَّ الجبابرة والقياصرة والأكاسرة ، فكيف حصل ذلك إلاَّ باستعداد تامٍّ ومعنويَّات عالية؟!

كما يكفي أنْ نتذكَّر كيف خاض الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قبل مقتل الحسين بمُدَّة طويلة حروباً مُروِّعة كصِفِّين والنهروان. أمَّا عن الحديث عن حروب الجاهليَّة السابقة على الإسلام فحدِّث ولا حرج.

إذن ؛ فالناس في ذلك الحين ، كانوا مُقاتلين شجعاناً ، ومُتدرِّبين على تحمُّل أنواع المصاعب في سبيل ما يطمحون إليه مِن الأهداف ، أو ما يُؤمَرون به مِن الأغراض.

إذن ؛ فمِن المُحتمل جِدَّاً ، بلْ السائغ تماماً ، أنْ نتصوَّر أنَّ الحسين عليه‌السلام أينما ذهب فسوف يُرسل الحاكم الأُموي خلفه جيشاً عرمرماً (٢) للقضاء عليه وقتله ، أو أنْ يدسَّ إليه مَن يقتله غيلة أينما وجده ، وليس كلُّ ذلك على المُفسدين ببعيد.

إذن ؛ فهذا التخيير بين (السِّلَّة والذلَّة) أو البيعة والتضحية ، كان عليه‌السلام مُكرهاً عليه في كلِّ وجه الأرض المنظور يومئذ بكلِّ تأكيد ، ولم يُمكن النجاة منه على أيِّ حال.

__________________

(١) ومنهم (محمد بن الحنفيَّة وعبد الله بن عباس) تاريخ الطبري ص ٢١٩ ـ الكامل في التاريخ ج ٤ ص ٧ وص ١٦.

(٢) عرمرماً : الشديد والجيش الكبير (أقرب الموارد ج ٢ ص ٧٧٣).

٨١

ثانياً : إنَّ الأمام الحسين عليه‌السلام لو ذهب بعيداً ، لأرجف عنه أعداؤه أنَّه ذهب مُنهزماً عن المواجهة وفارَّاً مِن المُلاقاة ، ولوصفوه بكلِّ عظيمة ، والأعلام يومئذ وفي كلِّ يوم على استعداد لذلك على أيِّ حال ، وهذا ما لا يُريده لنفسه بعد أنْ كان يعيش مِن نقطة قوَّة وبروز في المُجتمع بصفته سِبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وابنه ، وسيِّد شباب أهل الجنَّة ، والإمام المُفترض الطاعة لطائفة مِن المسلمين.

كيف ، ونحن نجد أعداءه قد أرجفوا ضدَّه ، بالرغم مِن تضحيته وصبره وصموده ؛ فكيف كان عليه الحال لو اختار الاحتمال الآخر. وإنْ كان يُدرك أنَّ فيه بعض المصالح. على أيِّ حال ، يكفي أنَّ هذا الإرجاف عندئذ يستطيع أنْ يُسيطر في المُجتمع الجاهل ، وأنْ يسلب بعض نقاط القوَّة ، التي كان يعيشها الحسين عليه‌السلام فقد لا يكون عندئذ ناجحاً في عمله ، حتَّى لو ذهب إلى مكان بعيد.

ثالثاً : إنَّنا لا ينبغي أنْ نتوقَّع أنْ يذهب الحسين عليه‌السلام إلى أيِّ نقطة مِن العالم كيف كانت ؛ ولذا لم يذكر له الذين ناقشوه على الخروج إلاَّ منطقة واحدة هي اليمن ، وقالو له : إنَّ فيها شيعة لأبيك (١) ؛ لأنَّ أباه أمير المؤمنين عليه‌السلام ذهب إلى اليمن بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ردحاً مِن الزمن ورآه اليمنيُّون وأحبُّوه.

أمَّا ذهابه إلى مناطق أُخرى ، فغير معقول إطلاقاً ، إمَّا لكونهم ضدَّ الحسين عليه‌السلام كما حصل في الكوفة وكربلاء ، وإمَّا لأنَّهم غير مُسلمين أساساً ، وإمَّا لأنَّهم غير عرب أساساً ، يتعذَّر العيش معهم لاختلاف لُغتهم ، وإمَّا لأنَّهم مُتخلفون حضاريَّاً ، بحيث يضيع وجوده بينهم وينقطع خبره عن الآخرين ، وكلُّ

__________________

(١) الخوارزمي ج ١ ص ١٨٨ ـ مناقب بن شهر آشوب ج ٢ ص ٢٤٠ ط نجف

٨٢

ذلك غير معقول ولا يُريده الحسين لنفسه. وأُكرِّر الآن : أنَّ المكان الوحيد البعيد الذي كان مُناسباً نسبياً ، لم يكن إلاَّ اليمن ، وهو الوحيد الذي ذكروه له ، إلاَّ أنَّه رفضه ، وكان رفضه بحسب فهمنا مُعتمداً على الوجهين الأوَّلين ، اللذين قلناهما قبل قليل لهذه المُناقشة فراجع وفكِّر ، مُضافاً إلى أُمور أُخرى تعرفها مِن أجوبة المُناقشات السابقة. وحيث لم تتمَّ مُناقشة واحدة لهذا الهدف الحسيني الجليل ؛ إذاً يتعيَّن الأخذ به ، وهو ترك البيعة ليزيد بن مُعاوية ، واختيار التضحية عليه ، فإذا تمَّ هدف آخر فيما يلي ، كان نوراً على نور ، وإلاَّ ففي هذا الهدف الكفاية.

الهدف الثاني : المُمكن لحركة الحسين عليه‌السلام الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى إيَّاه بها ، ذلك الأمر المعروف لديه ـ إمَّا بالإلهام أو بالرواية عن جَدِّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ـ وكان يطلب ثواب الله وجزاءه الأُخروي على ذلك تماماً ، كما يفعل أيُّ مؤمن حين يؤدِّي أيَّ واجب دينيٍّ ، كالصلاة أو الصوم أو الحجِّ.

ويدلُّ على ذلك : ما ورد عن جَدِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّه قال له في المنام : «يا بني ، إنَّه لا بُدَّ لك مِن الشهادة ، وإنَّ لك درجات عند الله عزَّ وجلَّ لن تنالها إلاَّ بالشهادة» (٢) ، كما يدلُّ عليه ما ورد : أنَّه بعد مقتله عليه‌السلام وضعت أُخته الحوراء زينب (سلام الله عليها) يديها تحت جسده الطاهر وقالت : اللَّهمَّ ، تقبَّل منَّا هذا القُربان (٣) ؛ لوضوح أنَّ القَبول إنَّما يكون لعمل مِن أعمال الامتثال والطاعة.

وهذا الهدف صحيح بكلِّ`تأكيد ، كما أنَّه بكل تأكيد هدف شخصيٌّ

__________________

(١) البحار للمجلسي ج ٤٤ ص ٣٢٨ أسرار الشهادة للدربندي ص ٢٢٤

(٢) أمالي الصدوق ، مجلس ٣٠ ص ١٣٥ الخوارزمي ج ١ ص ١٨٧ البحار ج ٤٤ ص ٣٢٨

(٣) الكبريت الأحمر ج ٣ ص ١٣ عن الطراز المُذهَّب.

٨٣

له ، وليس مِن أهداف الحكمة الإلهيَّة في حركته ؛ فإنَّ الحكمة الإلهيَّة وإنْ كانت تُريد امتثاله وطاعته (سلام الله عليه) ، إلاَّ أنَّ هذا مِمَّا يعود إليه لا أنَّه يعود على غيره ، والأهداف التي نتحدَّث عنها إنَّما هي الأهداف التي تعود إلى غيره بالنفع. مِمَّا قلنا : إنَّه مِن أهداف الحكمة الإلهيَّة مِن حركته ـ في حدود ما نستطيع تعقُّله ـ إلاَّ أنَّنا قلنا ـ في نفس الوقت ـ : إنَّ الطموح غير خاصٍّ بالأهداف العامَّة ، بلْ تشمل الأهداف الخاصَّة أيضاً. مُضافاً إلى إمكان أنْ يُقال بكلِّ تأكيد ـ أيضاً ـ : إنَّ عدم انتفاع الآخرين مِن هذا الهدف غير صحيح إطلاقاً ، لا في الدنيا ولا في الآخرة. أمَّا في الدنيا ؛ فلما سنذكره مِن الأهداف الآتية : مِن أنَّ حركته أوجبت هداية الناس ، وتعريفهم أهميَّة الدين ، ولزوم التضحية له عند الحاجة بالنفس والأهل والمال والوُلِد ، وأنَّ طاعة الله سبحانه لازمة على كلِّ حال. وأمَّا في الآخرة ؛ فلأنَّه عليه‌السلام أصبح واسع الشفاعة يوم القيامة ، أكثر مِن أيِّ واحد مِن المعصومين الآخرين (سلام الله عليهم). كما ثبت في محلِّه ، ووردت عليه بعض النصوص (١) ، ولم يكن لينال هذه المنزلة لولا تلك المقامات والدرجات التي حصلت له بالشهادة نفسها.

إذاً ؛ فالأمر كما يعود إليه يعود إلى غيره ، والرحمة الإلهيَّة عامَّة للجميع.

الهدف الثالث : الذي قد يخطر في بعض الأذهان لحركة الحسين عليه‌السلام هو الانتصار العسكري المُباشر ، أو قلْ : إزالة الحُكم الأُموي فوريَّاً. وهذا مِمَّا سبق أنْ أشرنا إلى نفيه خلال حديثنا عن الشروط السابقة (٢) ، ولكنَّنا نذكره الآن لأنَّ عدداً مِن الناس بما فيهم بعض المُفكِّرين قد يتصوَّرونه. وقد يُستدلُّ عليه بما ورد مِن أنَّه قيل لمسلم بن عقيل (سلام الله عليه) حين تألَّب عليه الأعداء في الكوفة : إنَّ الذي يطلب ما تطلب لا يبكي إذا نزل به ما

__________________

(١) الخصائص الحسينيَّة للتُّستري ص ١٤ (ط) ـ والبحار للمجسي ج ٩٨ ص ١٦ (ط)

(٢) الشرط الثالث مِن باب حدود أهداف الحسين فراجع.

٨٤

نزل بك (١). إذاً ؛ فهو يطلب السيطرة على الحُكم ـ أعني : من الناحية الدينيَّة ـ ويُدافع عن هذا الهدف ضمن دفاع الحسين عليه‌السلام لأنَّه رسوله إلى الكوفة. غير أنَّ صحَّة هذا الهدف تتوقَّف على أُمور ، لو تمَّ أيُّ واحد منها أمكن قبوله ، وإلاَّ فلا.

الأمر الأوَّل : أنْ نتصوَّر الإمام الحسين قائداً دنيويَّاً ، قد تخفى عليه بعض النتائج ، وأنَّ عدم سيطرته الفعليَّة على الحُكم أمر لم يكن يتوقَّعها أوَّل الأمر ، ثمَّ أصبح مغلوباً على أمره مُتورِّطاً في فعله.

وقد سبق أنْ ناقشنا ذلك مُفصَّلاً ، وعلمنا أنَّه عليه‌السلام عالم بالنتائج قبل حدوثها ـ أمَّا بالإلهام أو بالرواية عن جَدِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ومِن هنا ؛ فمِن غير المعقول أنْ نُجرِّد منه قائداً دنيويَّاً مَهما كان عبقريَّاً.

الأمر الثاني : أنْ يكون هذا الهدف الذي يُقال أو أيُّ هدف يُقال ، جامعاً للشرائط ؛ لأنَّه ينقص منه شرط واحد وهو التحقُّق فعلاً ، فإنَّ هذا الهدف لم يتحقَّق أصلاً قطعاً ، فلا ينبغي أنْ نعتبره هدفاً كما سبق أنْ برهنَّا عليه هناك.

الأمر الثالث : أنْ نفهم مِن التاريخ أنَّ انتصار الحسين وفوزه المُباشر على أعدائه أمر مُحتمل ، وأنَّ احتماله وارد ومعقول ، بحيث يكون استهدافه أمراً معقولاً ، وأمَّا إذا كان في نفسه أمراً غير مُحتمل ، كما يعرفه جماعة مِن حُذَّاق المُجتمع ومُفكِّريه ـ بما فيهم الذين ناقشوه في الخروج إلى الجهاد (٢) ـ إذاً ، فلا يكون استهداف مثل هذا الهدف معقولاً عُرفاً وعقلائيَّاً وسياسيَّاً ، فضلاً عن الالتفات إلى العلم الإلهي والحكمة الإلهيَّة.

الهدف الرابع : المُحتمل لحركة الإمام الحسين عليه‌السلام

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ج ١ ص ٢١١ ـ الطبري ج ٦ ص ٢١١ ـ الإرشاد للمُفيد ص ٢١٤.

(٢) مَرَّ ذكرهم سابقاً فراجع.

٨٥

فضح بني أُميَّة ومَن كان على شاكلتهم مِن يومه إلى يوم القيامة ، بأنَّهم ليسوا فقط ظالمين لأنفسهم بينهم وبين الله سبحانه ، بلْ ولا ظالمين للناس في حُكمهم غير العادل فحسب ، وإنَّما الأمر أكثر مِن ذلك ، فإنَّهم على استعداد أنْ يقتلوا الرجال والأطفال وأنْ يسبوا النساء وأنْ يقتلوا خير الخلق الموجودين على وجه الأرض ؛ مِن أجل التمسُّك بالحُكم أو الكرسي ، وهذا معناه أنَّهم مُستعدُّون أنْ يقتلوا أيَّ إنسان أو أيَّ عدد مِن الناس ـ مهما كثر عدده أو كثرت أهميَّته في سبيل ، ذلك كما أنَّ معناه عدم وجود عاطفة الإنسانيَّة في قلوبهم على الإطلاق ، كما أنَّ معناه أنَّهم على استعداد أنْ يفعلوا أيَّ مُنكر آخر مِمَّا يرتبط بالمُلك أو لا يرتبط ، بعد أنْ انسلخوا تماماً عن الإنسانيَّة وعن الورع وعن المحارم.

وهذا الهدف صحيح وواقعي ، وقد حصل فعلاً على إثْرِ واقعة كربلاء مُباشرة ، ولا زال ساري المفعول وسيبقى إلى يوم القيامة ضِدَّ بني أُميَّة الحُكَّام السابقين ، وضِدَّ أضرابهم مِن الظالمين مِن البشر إلى قيام يوم الدين.

ومِن هنا ؛ فإنِّي أعتقد أنَّ هذا الحاكم الأُموي قد أخطأ خطأً كبيراً ، حين سوَّد صحيفة أعماله بأُمور كثيرة ومُنكرات فضيعة جِدَّاً ، وأوجب سوء ظنِّ الناس والتاريخ به وبعشيرته وأمثاله باستمرار ، مُضافاً إلى غضب الله سبحانه ؛ وذلك أنَّه فعل ثلاثة أُمور مُهمَّة مُضافاً إلى مُنكراته الشخصيَّة ، أهمُّها قتل الحسين عليه‌السلام وجيشه في كربلاء والتنكيل تنكيلاً فضيعاً (١) ، مُضافاً إلى رمي الكعبة بالمجانيق ، وكان بمنزلة القصف المدفعي في زماننا ؛ إذ يُشعلون النار في بعض المواد ويقذفونها بعيداً على العدوِّ بواسطة الآلة القاذفة ، التي تُسمَّى بالمِنجنيق ، وقد بقيت الكعبة المُشرفَّة تحت هذا القصف المركز أيَّاماً بلياليها (٢).

__________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج ٢ ص ٥.

(٢) نفس المصدر ج ٢ ص ١٠.

٨٦

هذا مُضافاً إلى واقعة الحَرَّة ، بقيادة مسلم بن عقبة ، الذي أباح المدينة المنوَّرة ثلاثة أيَّام كاملة ، قتلاً ونهباً وسلباً واعتداءً على الأموال والنساء والأطفال ، بشكل لم يسبق له مَثيلاً (١).

__________________

(١) نفس المصدر ج ١ ص ١٧٩

ويحسن أنْ نُشير إلى خلافة يزيد ، وما أرتكب فيها مِن جرائيم ، حيث بدأت خلافة يزيد بن مُعاوية في أواخر سنة ٦١ هـ وانتهت بوفاته في النصف الأوَّل مِن سنة ٦٤ هـ ، وبذلك تكون مُدَّة حكمه ثلاث سنوات تقريباً ، ارتكب فيها أبشع وأقبح جرائم في التاريخ البشري بشكل عامٍّ والإسلامي بشكل خاصٍّ ، ففي السنة الأُولى قَتل سبط الرسول وسيِّد شباب أهل الجنَّة ، وسبى نساءه وقتل عياله وشرَّدهم وروَّعهم ومثَّل بالأجساد الطاهرة ، فأبان الرؤوس عن الأجساد ، فحُملت فوق الرماح يُطاف بها مِن بلد إلى بلد ، وبذلك صنع مع آل الرسول مالا يُصنع مع الترك أو اليهود أن القوم الكافرين. وفي السنة الثانية أقدم على جريمة بشعة لم يُروَ لها مثيل في التاريخ ، وهي واقعة الحَرَّة ، وسُمِّيت بهذا الاسم نسبة إلى منطقة الحَرَّة ، والتي هي قُرب المدينة المنوَّرة ؛ وذلك أنَّه لما أنكر أهل المدينة أفعال يزيد وموبقاته ، وكيفيَّة قتل الحسين وأهل بيته وأسر نساءه ، وفعله للمُحرَّمات حتَّى وصل به الحال إلى الزنى بالمحارم ، فيقول ابن سعد في الطبقات الكُبرى وابن الأثير في الكامل : إنَّ عبد الله بن حنظلة ـ غسيل الملائكة ـ خطب في أهل المدينة خُطبة قال فيها : (فو الله ، ما خرجنا على يزيد حتَّى خفنا أنْ نُرمى بالحجارة مِن السماء. إنَّ رجلاً ينكح الأُمَّهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ويدع الصلاة. والله ، لو لم يكن معي أحد مِن الناس لأبليت لله فيه بلاء حسناً). فغضب يزيد مِن ذلك ؛ فأرسل جيشاً مؤلَّفاً مِن ثلاثين ألفاً مِن أهل الشام ، وعليهم مسلم بن عقبة ، وقد قال له : السيف السيف ، أجهز على جريحهم ، وأقبل على مُدبرهم ، وإيَّاك أنْ تُبقي عليهم. فيقع ثلاثون ألفاً مِن أهل الشام ـ مُدجَّجون بالأسحلة الكاملة ـ في أهل المدينة قتلاً وذبحاً ثلاثة أيَّام. وخطب مسلم بن عقبة قائلاً : هذه المدينة لكم مُباحة ثلاثة أيَّام دمائها ونسائها وأموالها. وذكر المُؤرِّخون أنَّه بلغ عدد قتلى الحَرَّة يومئذ ـ مِن قريش والأنصار والمُهاجرين وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ألفاً وسبعمئة ، ومِن سائر الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان ، وقد نقل المؤرِّخون صور مُروِّعة عن هذه الفاجعة ، فمثلاً ما نُقل عن أبي معشر حين قال : إنَّ رجلاً مِن أهل الشام دخل على امرأة نُفساء مِن نساء الأنصار ومعها صبي لها ، فقال لها : هل مِن مال؟ قالت : لا والله ، ما تركوا لي شيئاً فقال : والله ، لتُخرجين إليَّ شيئاً أو لأقتلنَّك وصبيَّك هذا! فقالت : ويحك! إنَّه ولد ابن أبي كبش الأنصاري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد بايعت يوم بيعة الشجرة على أنْ لا أزني ولا أسرق ولا أقتل ولدي ... فما أتيت شيئاً ، فاتَّق الله. ثمَّ قالت لابنها : يا بُني ـ والله ـ لو كان عندي شيء لافتديتك به. (قال :) فأخذ الشاميُّ برُجْل الصبيِّ والثديُ في فمه =

٨٧

الهدف الخامس : المُحتمل لثورة الحسين عليه‌السلام ، هو طلب الإصلاح أو مُحاولة الإصلاح في الأُمَّة المُسلمة ، أُمَّة جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا هو الذي روي عنه عليه‌السلام حين يقول : «لم أخرج أشِراً ولا بطِراً ولا ظالماً ، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكر» (١) ، وذلك حين رأى سلام الله عليه أنَّ الدين قد تغيَّر عن القلوب وأنَّ المعروف لا يُعمل به وأنْ المُنكر لا يُتناهى عنه ، وأنَّه لم يبقَ منه صُبابة إلاَّ كصُبابة الإناء ، أو خساسة عيش

__________________

= فجذبه مِن حِجرها ، وضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض أمام أُمِّه.

ويدخل القوم المدينة وتجول خيولهم فيها ، فيقتلون وينهبون فما تركوا في المنازل مِن أثاث ولا حُليٍّ ، ولم يتركوا فراشاً إلاَّ نفضوا صوفه ولم يتركوا حتَّى الحمامة والدجاج إلاَّ كانوا يذبحونها. فهذا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدخلون عليه ، فينتفون لحيته ويضربونه ضربات ثمَّ يأخذون كلَّ ما يجدون في بيته حتَّى الصوف ، وحتَّى زوج حمام كان له ، بالرغم مِن أنَّه عرَّف لهم نفسه.

والأفظع والأدهى مِن ذلك كلِّه إباحة مسلم بن عقبة ـ بأمر مِن يزيد ـ نساء المدينة المنوَّرة لجيش الشام ثلاثة أيَّام ، وكأنَّهنَّ لسن مُسلمات ، أو أنَّهنَّ أُسارى حرب غير المسلمين ، وهذه الجريمة النكراء ارتُكبت عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي حرم النبي وحِمى النبي ، فنادى مُنادٍ (مسلم) في أهل الشام : يا أهل الشام ، إنَّ أميركم مسلم بن عقبة ـ بأمر مِن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ـ أباح لكم هذه المدينة كلَّها ثلاثة أيَّام ، ومَن زنى بامرأة فذاك له. فوقع جيش الشام في الزنا بالمُسلمات ، وفيهن بنات المُهاجرين والأنصار ، وفيهن ذوات الأزواج ، وفيهن الأبكار ...

وأمَّا في السنة الثالثة ، فإنَّ خليفة المسلمين يبعث بجيش جرَّار إلى مكَّة المُكَّرمة ؛ لحصار عبد الله بن الزبير ، فرموا الكعبة المُقدَّسة بأحجار صخام ونار مِن المِنجنيق ، حتَّى حطَّموها وأحرقوها ، ولم يبقَ منها سوى المَدر ، فهذه ثلاث سنوات حكمها الطاغية ، فعمل بها تلك الجرائم الكُبرى ، وليت شِعري ، لو كان عاش أكثر مِن ذلك ماذا كان يفعل؟!

راجع دائرة معارف القرن العشرين ج ٤ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة السفينة ج ١ ـ ناسخ التواريخ (مُجلَّد زين العابدين) ـ شواهد التنزيل ج ١ ص ٣٤٥ ـ تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير (وقائع سنة ٦١ ـ ٦٤ هـ) ـ تاريخ الفتوح لابن أعثم ج ٥.

(١) مقتل الخوارزمي ج ١ ص ١٨٨ مناقب بن شهرآشوب ج ٣ ص ٢٤١ ط نجف ـ أسرار الشهادة للدربندي ص ١٩١.

٨٨

كالمرعى الوبيل ، كما يُستفاد مِن الكلام المروي (١) عنه (سلام الله عليه).

وهذا هدف مُحترم جِدَّاً ، وكان الحسين عليه‌السلام أهلاً له ، إلاَّ أنَّني أعتقد أنَّ الإصلاح المقصود على قسمين : إصلاح يحصل منه مُباشرة قبل مقتله ، وإصلاح يحصل مِن المُجتمع بعد مقتله وبسبب شهادته. وهو أيضاً إصلاح منسوب إليه ، ويُمكن أنْ يكون قد تعمَّده واستهدفه.

أمَّا الإصلاح المُباشر في حياته ، فهو لا يُحتمل أنْ يكون هدفاً ؛ لأنَّه فاقد لأحد الشرائط السابقة ـ وهو عدم التحقُّق في المُجتمع ـ وقد كرَّرنا أنَّ الأمر الذي لم يتحقَّق لا يُمكن أنْ يكون هدفاً.

وقد يخطر في البال : أنَّ الإصلاح المُباشر قد حصل خلال الخُطب والأقوال ، التي قيلت مِن قِبَل الحسين نفسه وأصحابه وأهل بيته قبل مقتله ، وهذه تكفي للمُشاركة بالإصلاح مُشاركة فعليَّة وفعَّالة.

وجواب ذلك : أنَّ الخُطب والأقوال قد حصلت فعلاً ، إلاَّ أنَّها كانت مُكرَّسة كلَّها لأجل الحديث عن حركة الحسين وشرح أبعادها والدفاع عنها ؛ ومعه فلا تكون هي الإصلاح المعهود والموعود ، وإنَّما المُتوقَّع هو الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر في جوانب الدين عامَّة وفي فروعه كافَّة. وهو مِمَّا لم يحصل على الإطلاق ؛ لأنَّ الأجل لم يُمهله عليه‌السلام وأصحابه للقيام بهذه المُهمَّة الشريفة الموعودة.

وإنَّما الذي حصل هو الهداية والرعاية للبشر ـ دينيَّاً ومعنويَّاً وإنسانيَّاً وأُخرويَّاً ـ بمقتله وشهادته (سلام الله عليه) ؛ إذ أعطى المثال الأعظم للتضحية الضخمة بهذا الصدد ، فكان النبراس الأفضل الذي يُضيء للأجيال طريقهم باستمرار ، وإلى يوم القيامة.

__________________

(١) اللهوف لابن طاووس ص ٣٤ ، الطبري ج ٦ ص ٢٢٩ ، البحار للمجلسي ج ٤٤ ص ٣٨١.

٨٩

ونستطيع أنْ نؤكِّد أنَّ هذا الإصلاح هو الذي كان مقصوداً للحسين عليه‌السلام ومُستهدفاً له ، وإنْ لم يُصرِّح به تماماً آخذاً بقانون : «كَلِّموا الناس على قدر عقولهم» (١) ، وهو هدف جليل وصحيح ولا غُبار عليه.

الهدف السادس : المُحتمل للحسين عليه‌السلام في حركته :

هو الاستجابة لأهل الكوفة ، حين طلبوا منه القدوم عليهم ، وأخذْ البيعة منهم ومُمارسة الحُكم بينهم ، وقالوا : وإنَّما تُقدِم على جُند لك مُجنَّدة (٢). فأجابهم بالمُوافقة وعزم على المسير إليهم ، إلاَّ أنَّه لم يوفَّق للوصول إلى الكوفة ، حيث اجتمع عليه الجيش المُعادي في كربلاء وتمَّ الإجهاز على حركته هناك.

وهذه الاستجابة وإنْ كانت صحيحة بحسب الحُكم الظاهري في الشريعة.

إذ يجب (سلام الله عليه) أنْ يستجيب لمثل هذا الطلب الجليل ، ولكنَّنا مع ذلك لا نعتبره هدفاً حقيقاً للحركة ، وإنَّما هي استجابة لا بُدَّ منها لسدِّ الألسنة وقطع المعاذير مِن ناحية ، والتكلُّم مع الناس على قدر عقولهم ، وأمَّا لو لاحظنا الأمر أعمق مِن ذلك بقليل لوجدنا عِدَّة إشكالات ترد على هذا الهدف.

أوَّلاً : لأنَّنا نعلم أنَّه عليه‌السلام يعلم أنَّ أهل الكوفة يومئذ كاذبون عن الإعراب عن موالاتهم ومُبايعتهم ، وإنَّما هُمْ فسقة ومُنافقون.

ولا يتوقَّف الاطِّلاع على هذا الأمر على الإلهام أو التسديد الإلهي ، وإنْ كان هذا صحيحاً في نفسه ، إلاَّ أنَّه أيضاً كان واضحاً لكثير مِن الناس ـ يومئذ ـ بما فيهم الذين ناقشوه في خروجه ، وقالوا له في ما قالوا : إنَّ أهل الكوفة قد غدروا بأبيك وأخيك ؛ فمِن الحريِّ أنْ يغدروا بك ، وإنَّما الأفضل أنْ تذهب إلى

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٦٧ حديث ١٥.

(٢) الخوارزمي ج ١ ص ١٩٥ ـ الطبري ج ٦ ص ١٩٧.

٩٠

اليمن ، فإنَّ فيها شيعة لأبيك (١) ، ويُمكن أنْ يكون هناك حصيناً ضِدَّ الأعداء آمناً مِن شرور الزمان ، فمِن هذه الناحية لا يُحتمل في حقِّه أنَّه كان موافقاً حقيقة على الأمر ، أو أنْ يكون مُصدِّقاً لهذا الخبر ، بالرغم مِن أهمِّيَّته.

ثانياً : إنَّه بشَّر بمقتله قبل خروجه أكثر مِن مرَّة ، وقد سبق أنْ ذكرنا ما يدلُّ على ذلك مِمَّا روي عنه (سلام الله عليه). إذاً ؛ فقد كان يعلم بالنتيجة قبل حصولها ، بمعنى أنَّه يعلم بعدم وصوله إلى الكوفة ، ولا مُبايعتهم له ولا نصرتهم إيَّاه ، بلْ يعلم مُحاربتهم له ومقتله على أيديهم ، فإنَّهم قالوا له : قلوبنا معك وسيوفنا عليك (٢).

ثالثاً : إنَّه هدف لم يحصل ، وقد سبق ـ أنْ تحدَّثنا في الشرائط ـ أنَّ كلَّ هدف لم يحصل فهو ليس هدفاً حقيقيَّاً.

رابعاً : إنَّه عليه‌السلام علم وهو في الطريق إلى العراق بغدر أهل الكوفة ، وقتلهم لمسلم بن عقيل وارتدادهم عن بيعته ، وهذا يستلزم بوضوح سقوط تكليفه الشرعي عن الاستمرار بالذهاب إليهم ، والهِمَّة في الوصول لهم.

فإنْ قيل : إنَّ الأمر كذلك ، غير أنَّ الحُرَّ الرياحي جَعْجَع به ، ومنعه عن المسير إلى حيث يُريد ، وعن الرجوع إلى المدينة المنوَّرة ؛ وذلك سبَّب إلى وقوع الكارثة المروِّعة في كربلاء ، ولولا ذلك لأمكنه عليه‌السلام الرجوع إلى المدينة أو الذهاب إلى أيِّ مكان آخر ، بعد أنْ سقط تكليفه الشرعي بالذهاب إلى الكوفة ، كما عرفنا.

إلاَّ أنَّ جواب ذلك : إنَّ في مثل هذا التفكير جَهلاً بالتاريخ الإسلامي كما وصل إلينا ؛ فإنَّ الحسين عليه‌السلام علم بمقتل مسلم بن عقيل وغدر أهل

__________________

(١) الخوارزمي ج ١ ص ١٨٨ ـ مناقب بن شهرآشوب ج ٣ ص ٢٤٠ ـ إسرار الشهادة ص ٢٢٤.

(٢) الإرشاد للمُفيد ص ٢١٨ ـ العِقد الفريد ج ٤ ص ٣٨٤.

٩١

الكوفة ، حين كان ركبهُ في منطقة تُسمَّى (زَرود) (١) ولم يُفكِّر بالرجوع يومئذٍ ، بلْ استمرَّ في المسير ، وهذا معناه أنَّه استمرَّ بالمسير رغم سقوط تكليفه الشرعي المُشار إليه في هذا الهدف ؛ وذلك مِن أجل هدفٍ آخر أعمق وأهمّ منه ، ولم يكن قد التقى بالحُرِّ الرياحي (٢) يومئذٍ ، وإنَّما التقى به بعد ذلك في منطقة تُسمَّى (شَراف) (٣) ، وعندئذٍ عَرض عليه العودة إلى المدينة المنوّرة ، آنذاك كان أهل الكوفة قد بدّلوا رأيهم به وأعرَضوا عنه ، فَمنعهُ الحرّ الرياحي عن الرجوع ، وذَكرَ لهُ أنّه مأمور بمصاحبتهِ حتّى يُدخله على عُبيد الله بن زياد في الكوفة (٤).

إذاً ، فهناك فترة زمنيّة كافية لم يُحدِّد التاريخ مقدارها ، لعلّها أسبوع أو أكثر أو أقل ، كان يمكن للإمام الحسين عليه‌السلام أن يعود بركبهِ إلى المدينة ، وعندئذٍ لم يكن يلتقي بالحرّ ولا يُجعجع به ؛ وإنّما كان سلام الله عليه طالباً للشهادة على كلّ حال.

__________________

(١) زرود في المعجم : ممّا استُعجِم ج ٢ ، ص ٦٩٦ بفتح أوّلهِ وبالدال المُهملة في أخره ، ومُعجم البلدان : ج ٤ ، ص ٣٢٧ وهي : رمالٌ بين الثعلبيّة والخزيميّة بطريق الحاجّ من الكوفة وهي دون الخزيميّة بمِيل ، وفيها بُركة وحوض وفيها وقعة يُقال لها : (يوم زرود).

(٢) الحرّ بن يزيد بن ناجية بن تعلب بن عتاب بن هرمي بن رياح بن بربوع بن حنظلة التميمي ....... من الشخصيّات الاجتماعيّة البارزة في الكوفة ، وأحد قوّاد الجيش الأموي الخارج لحرب الحسين عليه‌السلام ، وكان يقومُ فيه ربع تميم وهندان كما يقول الطبري وغيره.

وقد ذَكرَ الخوارزمي في مقتله أنّه لحقَ بالحسين عليه‌السلام مع غلامه التُركي ، ولعلّ اسمهُ (عروة) على ما نصّ عليه بعض المقاتل ، كمقتل الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء ، ففيه إضافة إلى ذلك استشهاد وَلَد الحرّ (علي) وأخيه (مصعب) كل هؤلاء لثلاثة بني يدي الحر.

وفي اللهوف والخوارزمي : أنّ قصة توبة الحرّ كانت بعد الحَملة الأولى من أصحاب الحسين عليه‌السلام التي قُتل فيها زهاء خمسين رجلاً (واقعةُ الطف لآل بحر العلوم : ص ٥٠٨).

(٣) شَراف : في معجم البلدان بفتح أوّله وآخره فاء ثانية محققة ، سُمّي باسم رجلٍ يقال له شَرَاف ، استخرجَ عيناً حَدثت آباراً كبار كثيرة ماؤها عذب من شَرَاف إلى واقعة ميلان.

(٤) مقتلُ الخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٣٣ ، الفتوح لابن أعثم : ج ٥ ، ص ١٣٨ ، أسرار الشهادة : ص ٢٣٢.

٩٢

اللهمّ إلاّ أن يُقال : إنّه عليه‌السلام أدركَ بوضوح بعد أن أُخبرَ بغدر الكوفة ببيعته أنّهُ لا يستطيع أن ينجو وهو في هذه المنطقة بالذات من بلاد الله ، وبهذا يختلف حاله عن حاله وهو في مكّة أو المدينة ، فإنّه كان يستطيع أن يذهب من هناك إلى اليمن مثلاً ، في حين لا يستطيع الآن أن يفعل شيئاً بحسب القانون الطبيعي ؛ لأنّه أصبحَ بمنزلة المُحاصَر بجيوش بني أُميّة ، وإن لم يكن كذلك فعلاً ، إلاّ أنّ الرجوع يحتاج إلى زمنٍ طويل نسبيّاً ، الأمرُ الذي يستلزم أنّهم يُدركونه أينما وجدوه.

وهنا ينتج : أنّه سلام الله عليه كان يائساً من الحياة ، وتحدّثنا فيما سبقَ أنّ اليائس من الحياة يختلف تكليفه الشرعي عن غيره ، ويستطيع أن يختار المَوتة التي يتمنّاها لنفسه إن كان في مقدوره ذلك ، وكان في مقدوره سلام الله عليه ذلك ، فاختار لنفسه.

الهدفُ السابع : المُحتمل لحركة الحسين عليه‌السلام :

إعطاء الأمثولة للدين الحنيف القويم ، وأنّه يستحقّ هذا المقدار العظيم من التضحية والفداء في سبيل الله وفي سبيل إقامة الأحكام الإسلاميّة والشعائر الدينيّة.

وينبغي هنا أن نُلاحظ أنّ الأمر إنّما هو مربوط بالله سبحانه قبل أن يكون مربوطاً بشيء آخر ؛ لأنّ الدين على عَظمته إنّما اكتسبَ الأهميّة ؛ لأنّه أمر الله ونهيه ، والرسول إنّما اكتسبَ الأهميّة لأنّه رسول الله ، والمعصومون إنّما حَصَلوا عليها ؛ لأنّهم أولياء الله ، إذاً فالأمر مربوط بالله مباشرة وليس بغيره من قريبٍ ولا بعيد ، وهو الذي يستحقّ الفداء في الحقيقة ، وإن كان هو في غِنى عن العالَمين ، ولذا وردَ في تفسير قوله تعالى : (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (١) ، يعني الحسين عليه‌السلام ، وهو لم يفدِ إسماعيل الذبيح سلام الله عليه ، كما هو ظاهر السياق ، بل وقعَ السياق في سبيل الله وفي طريق توحيد الله

__________________

(١) سورة الصافات : آية ١٠٧.

٩٣

وطاعته. وهو نفس الطريق الذي ضحّى من أجله إسماعيل عليه‌السلام ، وبُعث فيه الأنبياء وأُرسلت الكتب السماويّة وحَصَل ما حصل.

وفي هذا السبيل ، قال الحسين عليه‌السلام : «هوّنَ ما نزلَ بي أنّه بعين الله» (١). كما قيل إنّه حين سقط جريحاً لا يستطيع أن يواصل القتال ، كان يُردِّد قول رابعة العدويّة :

تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا

وأيتمتُ العيال لكي أراكا

ولو قطّعتَني في الحُبّ إرباً

لمَا مَالَ الفؤاد إلى سواكا (٢)

__________________

(١) اللهوف لابن طاووس : ص ٤٩ ، البحار للمجلسي : ج ٤٥ ، ص ٤٦.

(٢) شاعَ على لسان الخطباء الحسينيّين هذه الأبيات ، وأنّها لرابعة العدويّة وقد قالها الحسين عليه‌السلام عند مصرعه ، ولا أعلمُ على أيّ مصدرٍ قد اعتمدَ هؤلاء الخُطباء ، أو من أين أتى هذا الشياع؟ فقد تتبّعتُ أغلب المصادر المُعتَمدة التي تَذكر مقتل الحسين عليه‌السلام ، فلم أجد أحداً يَذكر أنّ الحسين عليه‌السلام قال هذه الأبيات ، أو حتّى أنّها نُسبت إليه ، ونفس الشيء بالنسبة إلى رابعة العدويّة ، فأغلب المصادر التاريخيّة التي ذَكرَتها لم تَذكر أو تَنسبها لها.

ولقد ذَكرَ الأبيات : أبي فرج عبد الرحمان بن رجب الحَنبلي في كتابه (كشفُ الكُربة في وصف حال أهل الغربة ، ص ٢٧) إلاّ أنّه نَسبها إلى إبراهيم بن أدهم ، وهو أحد الزُهّاد المشهورين.

وأغلبُ الظنّ أنّ الخُطباء استعملوها مجازاً كلسانِ حالٍ عن الحسين عليه‌السلام ، وإلاّ بحسب القول الأوّل يَبعد أن تكون للإمام الحسين عليه‌السلام وذلك لسببين :

الأوّل : إنّ الحسين عليه‌السلام أسبق زمناً من رابعة ، فواقعة الطف حَدَثت في ٦١ هـ ، ورابعة العدويّة وِلدَت في القرن الثاني الهجري ، حيث ذَكرَ المؤرِّخون أنّ وفاتها كانت في سنة ١٨٠ هـ ، وبهذا لا يمكن أن يكون الحُسين رآها أو سمعها فضلاً عن أن يتمثّل بأبياتها ، وكذا هو الحال بالنسبة إلى إبراهيم بن أدهم الذي هو متأخِّر زمناً قد يصل لعدّة قرون عن الحسين عليه‌السلام.

الثاني : عدمُ وجود مصدر مُعتَمد يَذكر أنّ الحسين عليه‌السلام قال هذه الأبيات.

وفي نفس الوقت نستبعد أن تكون هذه الأبيات لرابعة العدويّة ؛ وذلك لوجهين :

الأوّل : عدمُ وجود مصدر يَنسب هذه الأبيات لرابعة ، بل إنّ بعض المصادر نَسَبتها إلى غيرها ، كإبراهيم بن أدهم كما في (كشف الكُربة).

الثاني : مضمونُ هذه الأبيات يجعلنا نستبعد أن تكون لرابعة ، فالبيتُ يقول : (وأيتمتُ العيال لكي أراكا) بينما يَذكر لنا التاريخ أنّ رابعة لم تتزوّج قط ، وأنّها تُوفيت بدون زوج ولا أطفال ، فكيف أيتَمَت

٩٤

__________________

العيال؟فإن قيل : إنّه لربّما أُريدَ بالعيال المعنى الآخر ، وهو الإعالة أي : كلّ ما تعيلهُ رابعة وتُنفق عليه؟قلنا : إنّ رابعة لم تكن ميسورة الحال أو غنيّة لكي تُعيل غيرها ، بل بالعكس فإنّ المؤرِّخين يذكرون أنّها كانت فقيرة ، وكان الذين يعرفونها هم الذين يُعيلونها ويساعدونها على المعيشة ، وبهذا يُنفى هذا المعنى أيضاً عن رابعة العدويّة. فإن قيل : إنّ هذه الأبيات يمكن أن تكون لرابعة الشاميّة * ، وقد توهِّم أنّها لرابعة العدويّة ، والأُولى كانت متزوّجة وميسورة الحال ، فيمكن أن ينطبق معنى البيت الشِعري عليها. قلنا : إنّ هذا لا يتمّ ؛ لأنّ البيت الذي يقول :

تركتُ الخلقَ طُراً في هواكا

وأيتمتُ العيال لكي أراكا

يوحي لمعنيين : الأوّل : هو تركُ الدنيا والخَلق عن طريق الموت ، فهي ذاهبة إلى جوار الله في العالَم الأُخروي ، والموت بصورة شرعيّة أكيداً كالجهاد في سبيل الله ، ولم يُنقل ذلك عن رابعة الشاميّة ، ولا حتّى عن رابعة العدويّة.

والثاني : تركُ الخَلق عن طريق الغيبة عنهم والانعزال لمناجاة الله وعبادته بدون أن ترى أحداً أو أنّ أحداً يراها ، وهذا أيضاً لم يُنقل عن رابعة الشاميّة ، بل بالعكس فلقد عاشت حياتها مع زوجها مطيعة لهُ حريصة على خدمته ، حتّى أنّها زوّجتهُ ثلاث نساء غيرها ، خوفاً أن تكون قد ألهَتها العبادة عن بعض واجبات زوجها فيجد ذلك عند الباقيات.

ويمكن أن يسأل أحدهم : إذا كان كذلك فمن أين شاعَ إسناد هذه الأبيات لرابعة؟ قلتُ : إنّ أغلب الظنّ أنّ الذين ذكروا هذه الأبيات ـ من خطباء وغيرهم ـ لم يركِّزوا على ذِكر الناظم لها ، فعندَ التناقل جُهلَ اسمهُ وخصوصاً مع قلّة المصادر (والتي تكاد أن تكون نادرة) ، والتي تَنسب هذه الأبيات لناظمها. وقد نُسبت عُرفاً لرابعة ؛ لوجود أبيات شعريّة شبيهة بالأبيات المذكورة معناً ووزناً وقافيةً ، قد قالتها رابعة العدويّة وقد نَقَلتها أغلب المصادر التي ذَكرت رابعة وهو قولها :

أحُبّك حُبّين حُبّ الهوى

وحُبّ لأنّك أهلٌ لِذاكا

فأمّا الذي هو حُبّ الهوى

فانشغالي بكَ عمّن سِواكا

وأمّا الذي أنتَ أهلٌ له

فكشفكَ لي الحُجبَ لكي أراكا

فلا الحمد في ذي وذاك لي

وإنّما لك الحمد في ذي وذاكا

ويمكن أن نقول أيضاً : إنّها قيلت على لسان الحسين عليه‌السلام كلسان حالٍ لا أكثر ، كما هو المشهور في كثيرٍ من الأبيات كقولهم :

إن كان دينُ محمّد لم يستقم

إلاّ بقتلي فيا سيوف خُذيني

وكقولهم :

شيعتي ما إن شَربتم

عذبّ ماء فاذكروني

وغيرها كثير.

٩٥

وفي هذا السبيل ، أيضاً رويَ عن زينب العقيلة بنت عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّها بعد المقتل وضَعت يديها تحت الجثمان وقالت : اللهمّ تَقبّل مِنّا هذا القربان (١) ، وفي بعض الروايات : هذا القربان القليل (٢) ، يعني : القليل مهما كان شريفاً وعظيماً أمام عَظمة الله اللامتناهية وأمام استحقاقه اللامتناهي للتضحية والفداء ، يبقى قليلاً.

إذاً فالمسألةُ الأهمّ من كلّ شيء هي : أهميّة التوجّه إلى الله والتضحية في سبيله ، وتطبيق طاعته والحصول على رضوانه بكلّ صورة مهما كانت الوسائط ومهما كانت النتائج ، وهذا هدفٌ صحيح قد تحقّق فعلاً ، وقد عَرَفت الأجيال ذلك بكلّ وضوح.

وقد يخطر في البال عن قول زينب (سلام الله عليها) : اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان ، أنّ قولها (منّا) ليس بصحيح ؛ لأنّه وإن كان قرباناً عظيماً إلاّ أنّه إنّما قدّمهُ الحسين نفسه ، وليس لأحدٍ آخر أن يُقدّمه ، بل لا معنى لذلك ؛ لأنّ

__________________

وقد راجعتُ سماحة المؤلِّف في هذه الأبيات فقال لي : إنّه قد سَمعها شخصيّاً من أحد الخطباء الكبار ولم يقرأها في كتاب ، ولذلك لم يَسندها وإنّما عبّر عنها بـ (قيل) ، ولمَن أراد التوسّع في رابعة فليراجع : كتاب شهيدة العشق الإلهي لعبد الرحمان بدوي ، وكتاب رابعة العدويّة لطه عبد الباقي سرور ، فإنّهما قد ذَكرا جميع المصادر التي ذَكرت رابعة ، والتي لا مجال لذكرها هنا.

* وهي رابعة بنت إسماعيل الشاميّة ، توفيت سنة ٢٣٥ هـ ودُفنت برأس زينا ببيت المقدس ، وزوجها أحمد بن أبي الحواري ، وأبوهُ أبو الحواري ميمون من أهل دمشق ، وقد كان من العارفين الورعين وقد كان أحمد له نصيب منه ، توفي سنة ٢٣٠ هـ ، وكان قد تزوّج ثلاث غيرها.

وهذه رابعة كانت أيضاً من العابدات الورعات ، فيُنقل عن زوجها عندما سُئل عنها؟ قال : إذا أتيتها في النهار قالت : بالله عليك ، لا تُفسد عليّ صومي ، وإذا أتيتُها في الليل قالت : لا تُفسد عليّ عبادتي (كتاب سَيرُ السالكات المؤمنات الخيّرات لأبي بكر الحصني) ، وكثيرٌ ما كان يشتبه المؤرِّخون بينها وبين رابعة العدويّة التي كانت أسبق زماناً منها.

(١) الكبريت الأحمر : ج ٣ ، ص ١٣ عن الطراز المذهّب.

(٢) نفس المصدر.

٩٦

التضحية الحقيقيّة والألم الحقيقي لم يتحمّله غيره ولم يشعر به غيره ، فما تفسير كلامها (سلام الله عليها)؟

جوابُ ذلك : إنّ التضحية العظيمة من هذا القبيل ، أو أيّة تضحية أخرى مهمّة ، لا تكون ذات مستوى واحد ، بل على مستويات متعدّدة ؛ لأنّ انطباعها في نفس صاحبها وفي نفوس الآخرين يكون متعدّداً لا محالة ، وفي حدود ما نستطيع أن نستفيد منه هنا من المستويات نذكر ثلاثة منها :

المستوى الأوّل : التضحية بمعنى تحمّل الألم والجروح والقتل والصبر عليه طواعية ، وهذا المستوى خاصّ بصاحب التضحية ، ولا يمكن أن يكون شاملاً لغيره كما قال السائل.

المستوى الثاني : التضحية بمعنى الإعانة لصاحب التضحية بكلّ ما يمكن من جهدٍ وجهاد ، وتحمّل كلّ بلاء في سبيله ، مضافاً إلى تحمّل فراقه كشخص محبوب أُسريّاً ودينيّاً واجتماعيّاً ، وتحمّل الحرمان عن فوائده وتوجيهاته ولطفه.

وهذا المستوى خاصّ بمَن كان مع الحسين عليه‌السلام ، من الركب المُعاوِن له في الحياة والموافِق له في الأهداف ، فإنّهم رجالاً ونساءً وشيباً وشُبّاناً ، أتعَبوا أنفسهم في سبيله تماماً ، وتحمّلوا شظفَ (١) العيش وبلاء الدنيا لأجل رضاه الذي يكون سبباً لرضاء الله عزّ وجل ، كما قال : «رضا الله رضانا أهل البيت» (٢) ، ومن هذه الناحية وعلى هذا المستوى كانت التضحية تشملهم ، فكأنّهم هم اللذين رفعوا الحسين عليه‌السلام قرباناً لله عزّ وجل.

ولا شكّ أنّ العقيلة زينب سلام الله عليها بنت علي عليه‌السلام ، من ذلك الرَكب المُضّحي في سبيل الحسين عليه‌السلام ، ولعلّها أهمّ النساء

__________________

(١) شَظفَ : شظفَ الرجل شَظفاً ، كان عيشهُ ضيّقاً وشديداً ويابساً فيقال : شظفَ العيش (أقربُ الموارد : ج ١ ، ص ٥٢٩).

(٢) الخوارزمي : ج ٢ ، ص ٥ ، اللهوف : ص ٢٦ ، كشفُ الغُمّة للإربلي : ج ٢ ، ص ٢٤١.

٩٧

الموجودات فيه على الإطلاق. ومن هنا صحّ لها أن تدعو وتقول : اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان.

المستوى الثالث : الموافقة مع الحسين عليه‌السلام نفسيّاً وقلبيّاً وعاطفيّاً ، وبالتالي الموافقة الحقيقيّة على عَمل الحسين عليه‌السلام وتضحيته ، وعلى هدف الحسين عليه‌السلام ورسالته ، حتّى أنّ الفرد المُحبّ له يحسّ كأنّه أعطى قطعة من قلبه أو كبده ، وأنّها قُتلت فعلاً بمقتل الحسين عليه‌السلام.

وأنّهُ ـ أعني المُحبّ ـ وإن كان حيّاً يُرزق في هذه الدنيا وفي كلّ جيل ، إلاّ أنّ التضحية تضحيّته والعمل عمله. ويكفينا من ذلك ما وردَ : «إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئ ما نوى» (١) ، «إنّ نيّة المؤمن خيرٌ من عَمله» (٢) ، وما ورد : «إنّ الراضي بفعل قوم كفاعله» (٣) ، وما وردَ :

«إنّ الفرد يُحشر مع مَن يُحبّ» (٤) ، إلى غير ذلك من المضامين التي تجعل التضحية التي قام بها الحسين عليه‌السلام ، منتشرة فعلاً لدى كلّ محبّيه والمتعاطفين معه على مدى الأجيال ، وإنّ كلّ واحدٍ منهم يستطيع أن يقول :

اللهمّ تَقبّل منّا هذا القربان ، وليس العقيلة زينب فقط.

وقد يخطر في البال في حدود هذه التضحيات المشار إليها : أنّ الأجيال كلّها يجب أن تكون مثل الحسين عليه‌السلام في تضحيّته الجسيمة وفعلته

__________________

(١) إسعاف الراغبين للشيخ محمد صبّان على هامش نور الأبصار للشبلنجي : ص ٧٦ ، مُنية المريد للشهيد الثاني : ص ٤٢ ، جامع السعادات : ج ٣ ، ص ١١٢.

(٢) مصباحُ الشريعة : ص ٥ ، مُنية المريد للشهيد الثاني : ص ٤٣ ، جامع السعادات : ج ٣ ، ص ١١٨.

(٣) عيون أخبار الرضا للصدوق : ج ١ ، ص ٢٧٣ ، نهج البلاغة : خطبة ١٠٤ ، وفيها يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم وعلى كلّ داخلٍ في باطل إثمان : إثمُ العمل به ، وإثم الرضا به».

(٤) الكافي : ج ٨ ، ص ٨٠ ، حديث ٣٥ بتصرّف ، أمالي الطوسي : المجلّد الثاني ، ص ٢٤٥ مجلس يوم الجمعة ٢ رجب.

٩٨

الكريمة. فتضحّي بالنفس والنفيس في سبيل الأهداف التي قُتل لأجلها الحسين عليه‌السلام.

وجوابُ ذلك : إنّ الأمر ليس كذلك باستمرار ، وإنّما قد يحصل ذلك أحياناً قليلة ، ولا يحصل ذلك أحياناً كثيرة ، وكلّ فردٍ يجب أن يَحسب حساب تكليفه الشرعي أمام الله عزّ وجل ، ونشير فيما يلي أنّ التكليف الشرعي كثيراً ما لا يقتضي ذلك ، على عدّة مستويات :

المستوى الأوّل : إنّ التضحية التي أرادها الحسين عليه‌السلام واستهدفَ حصولها ـ وقد حَصلت فعلاً ـ هي من الأهميّة والعظمة بحيث لا تكون مقدورة لأحد إطلاقاً ، وإنْ زَعم الزاعم لنفسه أنّه يتحمّلها ، إلاّ أنّه يَخدع نفسه لا محالة ، يكفي في ذلك أنّه (سلام الله عليه) معصوم ، وأعمال المعصومين بلا شكّ فوق طاقة الأفراد الاعتياديين مهما تصاعدوا في درجات الإيمان والإخلاص.

ومن هذا القبيل : ما قالهُ أمير المؤمنين عليه‌السلام عن زهده : «ألا وإنّكم لا تقدرونَ على ذلك ولكن أعينوني ـ يعني على أنفسكم الأمّارة بالسوء ـ بورعٍ واجتهاد» إلى آخر ما قالهُ (١).

المستوى الثاني : إنّه لو كانت تضحيات الحسين عليه‌السلام واجبة على الأجيال بعده ، لكانَ أولى مَن يقوم بها أولاده المعصومون عليهم‌السلام ، مع العلم أنّه لم يفعل ذلك ولا واحد منهم. إذاً ، فلماذا يجب أن يكون تكليفنا في الأجيال المتأخّرة مثل تكليفه ولا يكون مثل تكليف وعمل أولاده ، مع أنّهم جميعاً معصومون ، يكفي أنّنا يمكن أن نأخذ بعمل العدد الأكثر من المعصومين وهو الهدوء وليس الثورة ، فإنّ أولادهُ المعصومين تسعة وهو واحد.

المستوى الثالث : إنّ الأصوب والأحجى لكلّ جيل : هو أن يَنظر إلى

__________________

(١) نهج البلاغة : شرح ابن أبي الحديد ، كتاب ٤٥ ، ج ١٦ ، ص ٢٠٥.

٩٩

تكليفه الشرعي أمام الله سبحانه ، هل هو التضحية أو التقيّة؟ ولا شكّ أنّ التكليف الغالب في عصورنا هذه ، عصور الغيبة الكبرى هو : التقيّة وليس التضحية ؛ لمدى تألّب الأعداء وترصّدهم في العالَم ضدّنا من كلّ صوبٍ وحَدب ، بدون وجود طاقة فعليّة عند ذوي الإخلاص لمقابلتهم ومضادّتهم ، ومَن تخيّل هذه القابليّة ، فهو متوهِّم سوف يُثبت لهُ الدهر أعني بالتجربة وهمّته ، والأفضل لهُ هو العمل بالتكليف الفعلي ، وهو التقيّة المُنتجة لحفظ أهل الحقّ من الهلاك المحقّق في أيّ نقطة من نقاط هذا العالَم المعروف.

الهدف الثامن : المُحتَمل لحركة الحسين عليه‌السلام :

ما يذكرهُ بعض الناس ، أو طبقة من الناس : من أنّ الحسين عليه‌السلام قُتل من أجل إقامة المأتم عليه والبكاء عليه ، فإنّها من الشعائر الدينيّة المهمّة ، التي توجِب هداية الكثير من الباطل إلى الحقّ.

ويمكن أن يُستدلّ على ذلك بما وردَ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ لولَدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تخمُد إلى يوم القيامة» (١) ، وهذه الحرارة أمرٌ وجداني قائم فعلاً يحسّ بها الفرد المُحبّ للحسين في قلبه ، وهي التي تدفعهُ إلى التعب في هذا الطريق.

ونتكلّم عن هذا الهدف ضمن المستويات التالية :

المستوى الأوّل : إنّه ينبغي أن يكون واضحاً أنّ هذا الهدف بمجرّده لا يصلح أن يكون هدفاً لكلّ تلك التضحيات التي قام بها الحسين عليه‌السلام ، إلاّ إذا اندرجت تحت عنوان أهمّ وأعمّ ، وهو طاعة الله سبحانه ، أو هداية الناس ، أو الأجيال لهذه الطاعة ، أو التضحية في سبيل عقيدة التوحيد ، كما أسلفنا ونحو ذلك ، ممّا تكون الشعائر والمآتم مصداقاً لها وتطبيقاً لها ، وليس النظر إليها نظراً

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ٢ ، ص ٢١٧ ، الكافي للكليني : ج ٨ ، ص ٢٠٦.

١٠٠