نافذة على الفلسفة

صادق الساعدي

نافذة على الفلسفة

المؤلف:

صادق الساعدي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: توحيد
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧١

الدرس الرابع

تقسيمات الوجود

(١)

* الوجود الذهني والخارجي

* نظرية المعرفة

* فكّر وأجب

٤١
٤٢

الوجود الذهني والخارجي :

إنَّ للأشياء وجودين حقيقييّن : أحدهما ، الوجود الخارجي ، والآخر الوجود الذهني ، ويتمثّل الأوّل بوجود الأشياء خارج حدود الذهن ، كأفراد الإنسان والحجر والشجر ، بينما يتمثل الثاني بعلمنا المتعلق بصور تلك الأشياء.

ولا شك في أن انطباع صور الأشياء في الذهن ليس على شاكلة ارتسام صور الأشياء على لوحة أو ورقة ، إذ أن الورقة لا تدرك ما يرتسم عليها من الصور ، بخلاف ارتسامها في الذهن ، لأنه مدرك لها ، عالم بها ، محيط بها.

والمشكلة التي أثارت الفلاسفة والعلماء منذ أبعد الآماد ولحدّ الآن؛ هي مدى مطابقة الوجود الذهني للوجود الخارجي ، وقد عبّروا عن المطابقة بالصواب وعن عدمها بالخطأ.

نظرية المعرفة :

ومن هنا اهتمّ الفلاسفة بالمعرفة الإنسانية ومصدرها وقيمتها ، حيث جعلوها في طليعة المعارف الفلسفية وأهمها.

ولسنا الآن في صدد البحث عن نظرية المعرفة بتفاصيلها وخطوطها ومسائلها ، إلا إنه يمكن وبصورة مجملة القول :

٤٣

إن الفلاسفة وبعد أن اختلفوا في تحديد مصادر أفكارنا التصورية والتصديقية في أنّها حسِّية أو عقلية أو كلاهما معاً ، أو شيء آخر ، اختلفوا في قيمتها ومطابقتها للواقع الخارجي ، ومن أجله ذهب جماعة منهم إلى إنكار الواقع الخارجي بكل تفاصيله منكرين أنفسهم ، ومن هؤلاء «غورغياس» السوفسطي ومن المنكرين «جورج باركلي» (١) الذي لم يؤمن بوجود شيء ما سوى الأنا المدْرِكة والصورة المدْرَكة ، ويُسمى باركلي وأنصاره بالمثاليين «ايده اليست Idealists» ، بينما ذهب «أرسطو» ومدرسته وتلامذته ومن سار على خطاه ، إلى الإيمان بالواقع مطلقاً العيني الخارجي منه وغيره ويُسمى هؤلاء بالواقعيين «رئاليست Realists».

وجنح جَمع آخر إلى الإيمان بالواقع الخارجي إيماناً نسبياً ، فالصورة المدركة عندهم مزيجٌ من مادة الإدراك الخارجي والقوالب والمقولات الجاهزة في الذهن ، فلا تمثل الصورة المدركة الخارجَ بصورة مستقلة ولا الذهن بصورة مستقلة ، بل للخارج نسبة ونصيب من هذِهِ الصورة ، وللذهن نصيب ونسبة منها أيضاً وهو ما ذهب إليه «عمانوئيل كانت» (٢) في نظريته النسبية.

__________________

١. «جورج باركلي George Barckley» «١٦٨٥ ـ ١٧٥٣ م» فيلسوف إنجليزي مثالي مبكر النضوج ، شاعر في طفولته ، التحق بمدرسة «كلكني» فدرس فيها الرياضيات ثم التحقق بكلية «الثالوث Tinity» فأبدى فيها من الحماسة والخيال ما جعل الآخرين يعتبرونه أكبر عبقري أو أكبر مخبول ، اشتغل مدرّساً للغة اليونانية عام ١٧١٢ م وكان قسيساً ، وقد تأثّر باركلي في دراسته بـ «ديكارت» و «لوك».

٢. «عمانوئيل كانت Emanuel Kant» «١٧٢٤ ـ ١٨٠٤ م» فيلسوف ألماني ولد في كينجسبرج ، كان والده سرّاجاً مجتهداً في عمله صدوقاً ، وكانت أمه متدينة ، حريصة على سماع مواعظ (فرانس شولتس مدير معهد «فريدريك») ومن هنا ألحقت الأم ابنها بهذا المعهد ليدرس فيه ، وبعدها التحق بجامعة كينجسبرج فدرس الرياضيات والفلسفة وأصول الدين. عُرف «كانت» بدقته الفائقة في تنظيم مواعيد عمله اليومي كالساعة في تحديد الوقت ، من أشهر كتبه «نقد العقل العملي» ، «نقد العقل النظري» ، «نقد الحكم العقلي».

٤٤

ومال آخرون إلى الشك بوجود واقع خارج حدود الذهن البشري ، فلم يحكموا بثبوته ولا بنفيه ومن هؤلاء «دافيد هيوم» (١) و «جون لوك» (٢) وهكذا اختلفت آراء المفكرين في تقييم إدراكاتنا عن الواقع الخارجي باختلاف مذاهبهم ومشاربهم الفلسفية. (٣)

ولا يمنعنا سعة البحث من الإشارة السريعة إلى المذهب الصحيح والرأي الحق فى المسألة آنفة الذكر ، فنقول :

__________________

١. «دافيد هيوم David Hume» «١٧١١ ـ ١٧٧٩ م» فيلسوف ومؤرخ إنجليزي ولد في مدينة أدنبره الواقعة في اسكتلندا شمالي بريطانيا ، درس في ثانوية أدنبره والتي تحولت بعد ذلك إلى جامعة أدنبره ، فدرس فيها الفيزياء الطبيعية وكانت له رغبة ملحة في دراسة كتب الفلسفة والأدب. أخفق هيوم في التأليف بدو الأمر لِما كان يعتمده من أسلوب جاف في عرض أفكاره ، إلا إنه التفت إلى ذلك بَعدها فألف كتاباً تحت عنوان «مقالات أخلاقية وسياسية» لاقى فيه إعجاب الكثيرين مما أعاد له الثقة بنفسه ، وقد كتب هيوم في التاريخ كتاباً تحت عنوان «تاريخ إنجلترا». ومن أشهر كتبه كتاب «بحث في الطبيعة الإنسانية» عرض فيه أفكاره الحسية ، وأرجع مبدأ العلّية إلى عادة تداعي المعاني.

٢. «جون لوك John Locke» «١٦٣٢ ـ ١٧٠٤ م» فيلسوف إنجليزي ومن المؤمنين بأصالة التجربة ، درس في كلية «كنيسة السيد المسيح» في إكسفورد ، إلا إنه لم ينخرط في مسلك رجال ‏الدين ، مارس الطب التجريبي حتى عُرِف في تلك الفترة بالدكتور لوك ، إلا إنه حصل بعد ذلك على شهادة البكلوريوس في الطب. لوحظ في فلسفة لوك تناقض بين رأيه في المصدر الأساسي للمعرفة وبين رأيه في قيمة المعرفة ، ولذا فإن ما حازه لوك من شهرة كان أكبر من حجمه.

٣. من أراد التفصيل فعليه بمراجعة كتاب «فلسفتنا» للشهيد السعيد آية ‏الله‏ السيد محمد باقر الصدر. وكتاب «الإيدولوجية المقارنة» للأستاذ الشيخ مصباح اليزدي.

٤٥

إن الإيمان بوجود واقع خارجي قضية مسلّمة لا يختلف فيها اثنان ولو في حدود الأنا المُدْرِكة ، إذ لو لم تكن «الأنا» موجودة فكيف أنكر المنكر أو شكك المشكك بوجود الواقع الخارجي ، وحتى (باركلي) حينما أنكر الواقع الخارجي لم ينكر ذاته المدرِكة والصور المدْرَكه ، والسرُ هو أن ذلك معلوم عنده بالعلم الحضوري ، ومن أجله فقد ادّعى أنه ليس منكراً ولا شكاكاً بالواقع الموضوعي الخارجي ، إلا إنه يؤمن بواقع الأنا المدرِكة والصورة المُدْرَكَةِ وينكر الوجود المادي للأشياء ، فوضع لمذهبه قاعدة معروفة : «أن يُوجد هو أن يُدرِك أو أن يُدْرَك» ومن الواضح أن ما سوى الأنا المدرِكة والمَدرَكات المرتبطة بها غير معلوم لنا بالبداهة أو بالعلم الحُضوري ، بل هو بحاجة إلى برهان ودليل ، والعقل هو الحاكم بوجودها انطلاقاً من مبدأ العليّة العقلي الذي لا يشك فيه حتى المنكرون والشكاكون ، لأنهم حينما رفضوا الإيمان بوجود واقع موضوعي خارج حدود الذهن البشري ، فإنما استندوا إلى دليلٍ لإثبات مدّعاهم وهذا الدليل في واقعه علّة وسبب لإثبات منحاهم الفلسفي في إنكار الواقع أو الشك فيه.

ومبدأ العلّية يقرّر أن لكل حادثة سبباً انبثقت منه ، فهناك كثير من الظواهر التي نتحسسها ونبحث عن سببها ، فلو كانت نابعة من صميم ذاتنا ، لكانت معلومة لنا بالعلم الحضوري ، وحيث إنّا لا نجد علّة تلك الحادثة في صميم وجودنا فلابد وأن يكون مصدرها شيئاً خارجَ حدود ذواتنا ، وليس ذلك إلا الشيء الخارجي ، كما لو أمسكت شوكاً بيدك وشعرت بألم الوخز الذي يصيبها حين إمساكك له ، فإنك ستبحث عن سببه وحينما تراجع نفسك لا تجد فيها سبباً وعلّة لذلك الألم ، إذ لو كان لبان لك بالعلم الحضوري وجودهُ في نفسك ، هذا من ناحية.

٤٦

ومن ناحية أخرى فإن بعض الظواهر يشعر بها الإنسان على خلاف رغبته كما في المثال المتقدم ، فكيف توُجِد النفسُ ما يبعث على انزعاجها وألمها؟! فلابد وأن يوجد سبب آخر خارج حدودها ، كان باعثاً على ذلك الألم.

وفي الختام نقول :

إن الإنسان لا يجد في نفسه مبرراً يدفعه للبحث في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية التجريبية وغيرها ما لم تكن معرفته ذات قيمة تكشف عن الواقع الذي انبثقت منه ، فلو كانت أفكارنا محض خيالٍ وصورٍ تتوالى في عالم الذهن ولم يكن لها علاقة من قريب أو بعيد بواقعها الخارجي ، كما ادعى المنكرون والشكاكون والسوفسطائيون! لما أصبح للبحث والتحقيق والجد والسعي والمثابرة والخوف والرجاء ... معنى ، إذ كل محاولة من هذا القبيل تغدو جزافاً وعبثاً.

٤٧

فكِّر وأجب :

١ ـ ما هو المقصود من الوجود الذهني والخارجي؟ وبماذا يمتاز الوجود الذهني عن وجود الصورة المنطبعة على اللوحة؟

٢ ـ اشرح ما يلي : «تُعَدُّ نظرية المعرفة حجر الزاوية ومنطلقا لكل بحث علمي مهما كان لونه».

٣ ـ وضّح بإجمال الآراء الفلسفية على صعيد قيمة المعرفة.

٤ ـ لماذا لم ينكر «باركلي» نفسه المُدْرِكة والصور المُدْرَكة؟

٥ ـ علّل ما يلي : «لا يمكن إنكار مبدأ العلية حتى للسوفسطي وغيره من المنكرين لواقع الأشياء ووجودها»؟

٤٨

الدرس الخامس

تقسيمات الوجود

(٢)

* الوجود المادّي والمجرّد

* المدارس المادية والوجود المجرّد

* الفرق بين المادي والمجرّد

* فكِّر وأجب

٤٩
٥٠

المادّي والمجرّد

إن إحدى تقسيمات الوجود هي :

الموجود المادي والموجود المجرد.

والمقصود من الموجود المجرد ما يقابل الموجود المادي ومن هنا يُسمّى الموجود المجرد بـ «غير المادي».

وتستعمل كلمة المادي في الفلسفة بمعنى الجسماني ، فيكون المجرد بمعنى غير الجسماني ، فلا يصدق عليه أنّه جسم ولا تُنسب إليه خصائص الأجسام ، كوجود الله‏ الأقدس؛ فإنه ليس بجسم ولا يخضع لخصائص الأجسام. وعلى هذا فالوجود شامل لنوعين من الموجودات : المادية والمجردة.

المدارس المادّية والوجود المجرّد

إلا إن بعض المدارس المادية كالمدرسة الوضعية وفي طليعتها «اوغست كونت» (١) والمدرسة الماركسية وفي مقدّمتها كارل ماركس (٢) ، ذهبوا إلى إنكار

__________________

١. «اوغست كونت Ougust Conte» «١٧٩٨ ـ ١٨٥٧ م» عالم فرنسي مؤسس للمذهب الوضعي الفلسفي ، كما وإنه مؤسس لعلم الاجتماع الحديث ، كان يعاني من الفقر والضنك الاقتصادي ، ألّف كتاب «محاضرات في الفلسفة الوضعية».

٢. «كارل ماركس Cal Max» «١٨١٨ ـ ١٨٨٣ م» مفكر اقتصادي وسياسي ألماني ، ولد في مدينة ترير من أسرة يهودية ، اعتنق وأسرته المسيحية على المذهب البروتستانتي ، اهتم بفلسفة (هيجل) ودرس التاريخ والفلسفة ، فنال شهادة الدكتوراة في الفلسفة واختص بدراسته الاقتصاد. عمل محرراً لجريدة «الراين» وكتب كتاب «رأس المال». عانى في حياته من الفقر المدقع فشكل عقدة في حياته ، انعكست وبصورة مفرطة على آراءه وأفكاره وكتاباته.

٥١

كل ما لا يمتّ إلى العالم المادي المحسوس بصلة ورفعوا شعار «أثبت لي شيئاً بالحس أقبله منك وإلا فلا» وتغافل هؤلاء عن أنَّ الموجودات منها ما هي مجردة غير مادية ، لا يمكن التعرف عليها إلا من خلال العقل واستنتاجاته وتأملاته كوجود الله‏ تعالى ، لأن الحواس الخمس قاصرة عن إدراكها والتحسس بها ، ومنها ما هي مادية غير مجردة ، وهي بدورها قد تعجز حواس الإنسان الخمس عن إدراك بعض مفرداتها ومواردها ، لوجود مانع حال دون ذلك ، أو لقصور في وسائل التجربة ، فالإلكترون والأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية والجاذبية الأرضية وغيرها من المفردات أكّد عليها العلم وآمنا نحن ببعضها إيماناً قاطعاً على الرغم من أنها لم تخضع بصورة مباشرة لإحدى حواسنا الخمس ، بل توصّلنا إلى وجودها من خلال آثارها الدالّة عليها بحكم العقل القاطع بأن لكل أثر مؤثراً ولكل معلول علّة.

فإذا أمكن إثبات الجاذبية من خلال سقوط الأجسام باتجاه الأرض بعد رميها إلى أعلى ، وإذا أمكن إثبات وجود التيار الكهربائي من خلال توهج المصباح أو حركة المروحة ، أمكن أيضاً إثبات وجود الله‏ من خلال آثار صنعه وبديع خلقه. فكما أثبتنا وجود الجاذبية والتيار الكهربائي وغيرها من الظواهر المادية بطريقة عقلية استدلالية مع أنها لم تخضع بصورة مباشرة لحواسنا ، كذلك الحال بالنسبة إلى

٥٢

الله‏ جَل جَلاله ، إذ يجوز لنا إثبات وجوده الأقدس بطريقة عقلية استدلالية على الرغم من إنه تعالى لم يخضع بصورة مباشرة لحواسنا.

فإن رضوا لأنفسهم ذلك ولم يرضوه لنا ، كان كيلهم بمكيالين! وعلى طريقة «باؤهم تجر وباؤنا لا تجر»!

الفرق بين المادي والمجرّد

إن بإمكاننا التفريق بين الموجود المادي وبين الموجود المجرد في أن الأول يمكن الإشارة إلى جهة وجوده دون الثاني ، فلا جهة له حتى تصح الإشارة إليه.

كما أن الموجود المادي فيه استعداد وقوة على التغيُّر والتبدل بالامتداد والحركة من حالة إلى حالة أخرى ، ولذا فإن الحركة ملازمة له ، فالحبة تتحول بفعل استعدادها للتغيُّر إلى نبتة ، والنبتة إلى شجرة ، والشجرة تحمل ثمراً وهكذا ، فإن الموجود المادي في حالة تغيُّر وحركة دائبين ، بينما لا تجد هذه الحالة في الموجود المجرد على ما ذهب إليه جمهور الحكماء.

٥٣

فكِّر وأجب :

١ ـ بيّن كلاًّ من الموجود المادي والمجرد؟

٢ ـ وضّح موقف المدارس المادية من الموجودات المجردة؟ وما هو الرد المناسب لها؟

٣ ـ اذكر الشواخص التي يميّز على أساسها الموجود المادي عن المجرد؟

٥٤

الدرس السادس

الواجب والممكن والممتنع

* الواجب والممكن والممتنع

* الواجب والممتنع؛ بالذات وبالغير

* الإمكان وأقسامه

* فكِّر وأجب

٥٥
٥٦

الواجب والممكن والممتنع :

إن نسبة أيّ محمول إلى أيّ موضوع إما أن تكون ضرورية لا يصح فيها الانفكاك كنسبة الزوجية إلى الأربعة في قولنا : «الأربعة زوج» ؛ وإما أن لا تكون ضرورية كنسبة الاحتراق إلى الورقة ، في قولنا : «الورقة محترقة» ، أو أن تكون ضرورية السلب كما في قولنا : «الثلاثة زوجٌ». ففي المثال الأول يعبّر عن النسبة بالوجوب ، أي وجوب نسبة المحمول إلى الموضوع ، كما ويعبّر عن النسبة في المثال الثاني بالإمكان ، أي إمكان نسبة المحمول إلى الموضوع وإمكان عدمه ، وأما النسبة في المثال الثالث فيُعبّر عنها بالامتناع ، أي امتناع نسبة المحمول إلى الموضوع. والنسب الثلاث هذِهِ يُعبّر عنها في علم المنطق بمادة القضية. (١)

وعلى غرار ما تقدّم من أنماط نسبة المحمول إلى الموضوع ، ذكر الفلاسفة أن الوجود حينما يحمل على موضوع من الموضوعات فإنّ نسبته إليه قد تكون واجبة كنسبة الوجود إلى الله‏ في قولنا : «الله‏ موجود». حيث ثبت في برهان الإمكان ، كما سيأتي الحديث عنه ، (٢) أن الوجود بالنسبة لذات الحق تعالى واجب

__________________

١ ـ راجع بحث الموجهات ـ مادة القضية ـ في كتاب المنطق للعلامة محمد رضا المظفر ، ص ١٤٦ ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ، لبنان ، ١٩٨٠ م.

٢ ـ في الدرس العشرين.

٥٧

ويُسمى هذا الموضوع بواجب الوجود.

وقد تكون نسبة الوجود إلى الموضوع ممتنعة فيسمى الموضوع بممتنع الوجود ، كما لو قيل بأن شريك الباري موجود ، فإن النسبة هنا ممتنعة إذ لا يمكن أن يُنسب الوجود إلى الشريك المفترض لله‏ جَلّ ‏وَعلا كما هو ثابت في أدلة التوحيد.

وقد لا تكون نسبة الوجود إلى موضوع واجبة ولا ممتنعة ، فيسمّى بالممكن ، كالإنسان مثلاً ، حينما يُقال إنه موجود ، فإن الوجود بالنسبة إليه غير ضروري الإيجاب ولا ضروري السلب ، بل ممكن.

الواجب والممتنع؛ بالذات وبالغير

والواجب قد يكون واجباً بالذات كوجود الله‏ جَلّ‏ وَعلا فإنه واجب الوجود بالذات ، بخلاف المعلول الذي يجب وجوده لوجود علته ، فهو واجب بغيره ، إذ إن المعلول يجب وجوده حين وجود علته ، فالإنسان مثلاً إنما يجب وجوده بوجود علته ، ومن هنا قيل : «الشيء ما لم يجب لم يوجد». والممتنع أيضاً قد يكون ممتنعاً بذاته كشريك الباري ، وقد يكون ممتنعاً بغيره ، كالمعلول الذي يمتنع تحققه بسبب عدم وجود علته ، فالزجاج يمتنع انكساره بسبب عدم وجود علة لانكساره.

الإمكان وأقسامه

ذكر الفلاسفة أقساما للإمكان ، نجمل ذكر بعضها بما يلي :

١ ـ الإمكان الخاص (الذاتي) :

وهو سلب الضرورتين؛ ضرورة الوجود وضرورة العدم من موضوعٍ ما ،

٥٨

فحينما نقول : «الإنسان ممكن» ؛ نعني به سلب ضرورة الوجود وضرورة العدم منه ، وبعبارة أخرى أنه بحد ذاته مجرداً عن أي شيء ، فلا يقتضي الوجود ولا العدم ولا التقدم ولا التأخر ولا البياض ولا السواد ....

وإنما سمِّيَ هذا الإمكان بالخاص؛ لأنه أخص من الإمكان العام الذي هو المعنى اللغوي للإمكان والدارج بين الناس.

٢ ـ الإمكان العام :

وهو سلب الضرورة عن الطرف المقابل مع السكوت عن الطرف الموافق ، فقد يكون مسلوب الضرورة أيضا وقد لا يكون كذلك.

بيان ذلك : إن الإمكان العام على نحوين : فقد يكون سلباً لضرورة السلب كما في قولنا : «الإنسان ممكن الوجود» ، و «الله‏ ممكن الوجود» ، ففي المثال الأول والثاني سلبت ضرورة العدم ، أي أن العدم غير ضروري بالنسبة للإنسان وبالنسبة لله‏ جلّ ‏وعلا. وأما الطرف الموافق وهو الوجود فقد يكون مسلوب الضرورة أيضا ، كما في المثال الأول ، إذ إن الوجود بالنسبة للإنسان غير ضروري كما أن العدم بالنسبة إليه ليس ضروريا. وأما بالنسبة للطرف الموافق في المثال الثاني ، فإن ضرورة الوجود غير مسلوبة عنه ، إذ إن الوجود بالنسبة لله‏ تعالى ذاتى لا ينفك عنه.

وقد يكون سلبا لضرورة الوجوب كما في قولنا : «الإنسان ممكن العدم» ، و «شريك الباري ممكن العدم» ، فإن ضرورة الإيجاب مسلوبة في المثالين ، بمعنى أن الوجود غير ضروري بالنسبة إلى الإنسان وشريك الباري ، وأما الطرف الموافق فمسكوت عنه ، فقد يكون مسلوب الضرورة أيضا كما في المثال الأول ،

٥٩

فإنه مسلوب لضرورة الوجود والعدم معاً؛ فلا الوجود ولا العدم ضروريان بالنسبة إليه. وقد لا يكون مسلوبا للطرف الموافق كما في المثال الثاني ، فإن ضرورة العدم غير مسلوبة عن شريك الباري ، بمعنى أن العدم ضروري بالنسبة إليه ، وهو مقتضى أدلّة التوحيد النافية لوجود آلهة غير الله‏ : «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» (١)

تجدر الإشارة إلى أن وجه تسمية هذا الإمكان بالإمكان العام يعود إلى أن هذا المعنى للإمكان هو المعنى الأعم له ، كما يُسمى عاميا لأن الإمكان بهذا المعنى هو الدارج حين الاستعمال عند عوام الناس.

٣ ـ الإمكان الوقوعي :

ويعني إمكان وقوع وتحقق شيءٍ من الأشياء ، فلا يلزم من فرض وجوده محال ، كإمكان وجود إنسان له رأسان ، وكإمكان اصطدام القمر بالأرض. وإنما يمتنع وقوع الشيء إما لكونه محالاً في ذاته كاجتماع النقيضين وارتفاعهما في شيءٍ واحد ، أو لكونه محالاً لغيره ، كاستحالة وجود المعلول لعدم علته. فالمعلول في حد ذاته ممكن إلا أنه استحال تحققه لعدم تحقق علته المفيضة له ، إذ من الواضح أن المعلول عدم عند عدم علته.

٤ ـ الإمكان الاستعدادي :

وهو قابلية مكنونة في شيءٍ تؤهّله لأن يكون شيئاً آخر كقابلية النطفة أن تكون إنسانا ، وهذا الاستعداد ينحصر وجوده في الموجودات المادية ، إذ إنها في حركة ونمو دائبين ، فالنطفة تتحول إلى علقة والعلقة تتحول إلى مضغة ، إلى أن تكون

__________________

١ ـ الأنبياء / ٢٢.

٦٠