نافذة على الفلسفة

صادق الساعدي

نافذة على الفلسفة

المؤلف:

صادق الساعدي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: توحيد
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧١

العلم الحضوري والحصولي

قد يعلم الإنسان بشيء علماً مباشراً من دون توسط شيء بينه وبين المعلوم ، الذي يكون حاكياً له ، فلا يحتاج العالم من أجل علمه بالمعلوم إلى حاكي وكاشف يحكي ويكشف عنه لكي يتحقق العلم به. ويُسمى هذا العلم بالعلم الحضوري أو «المعرفة الحضورية» ؛ كما لو علم الإنسان بنفسه أو بالحالات التي تطرأ عليها من حزن وفرح أو جوع وعطش أو حب وبغض ... وسبب تسميتها هكذا هو أن الإنسان يَعلم بالشيء من دون توسط صورة ذهنية بينه وبين الشيء المعلوم ، فالمعلوم حاضر بذاته لدى العالم.

وقد لا يتحقق علم الإنسان بذات الشيء مباشرة بل بصورته الذهنية الحاكية له ويسمّى هذا العلم بالعلم الحصولي ، من قبيل علمنا بالأشياء الخارجية ، فإنها غير معلومة لنا بذاتها ، وإنما عِلمنا بها عبر صورتها الذهنية. وأما ذات الصورة فإنها معلومة لنا بالعلم الحضوري. وذلك لأنك حينما ترى ناراً مشتعلة في الخارج ، فقد حصل لك العلم بها «علماً حصولياً» ؛ لأن ذات النار لم تحضر عندك في ذهنك حتى يتحقق علمك بها علماً حضورياً ، وإلا لاحترق ذهنك بها وإنما حصل لك العلم بها بتوسط صورتها الموجودة في الذهن ، فصارت الصورة واسطة بينك أنت العالم بالنار وبين النار الموجودة في الخارج ، وأما صورة النار الموجودة في الذهن فمعلومة لك بالعلم الحضوري ، لأنها حاضرة عندك ولا تحتاج إلى توسط شيء

١٤١

بينك وبينها كي يتحقق علمك بها.

فيكون الشيء المعلوم بالعلم الحضوري معلوماً بالذات؛ لأنه معلوم لك بذاته ، بينما المعلوم لك بالعلم الحصولي يكون معلوماً بالعرض؛ لأن العلم لم يتعلق به مباشرة بل تعلق بصورته الموجودة في الذهن وهي بدورها كشفت عنه.

ومما تجدر الإشارة إليه ، أنّ ما تقدّم من بحث العلم الحضوري والحصولي يختلف عما يذكره علماءُ الكلام من قسمي العلم اللدنّي والكسبي؛ إذ إن مقصودهم من العلم اللدنّي هو ذلك العلم الذي يتوصّل إليه الإنسان أحياناً من دون توسط معلم يعلِّمه بل إنه يُلْهَمُ به إلهاماً ، على خلاف العلم الكسبي الذي لا يحصل عليه الإنسان إلا بتعليم معلّم.

التصور والتصديق

ومن جهة أخرى قد يحصل عند الإنسان علم بشيء أو بحكم من الأحكام من دون إذعان بتحققه ، ويسمّى هذا العلم علماً تصورياً ، كما لو شاهد شخص ما تفاحة على الشجرة ، أو طَرَقَ سمعه حكم بأن زيداً عالمٌ ، من دون أن يذعن بوجود التفاحة خارجاً ولا بتحقق نسبة العلم إلى زيد. وعلى خلافه يكون التصديق؛ والفرق بين التصور والتصديق يظهر في أن التصور ليس إلا صورة يستحضرها الإنسان في ذهنه من دون أن يحكم عليها بنفي أو إثبات ، بينما التصديق فعل من أفعال النفس يتمثّل بإذعان النفس بوجود شيء أو نسبة أو عدمهما.

وبهذا يتّضح زيف ما ذهب إليه بعض الفلاسفة الحسيين كـ «جون‏ستوارت ميل» (١) من إنه لا فرق بين التصور والتصديق إلا في أن التصور عبارة عن العلم

__________________

١ ـ «جون‏ستوارت ميل ١٨٠٦ ـ ١٨٧٣ م Mill John Stewart» فيلسوف واقتصادي إنجليزي ، من أتباع المدرسة الاختبارية له كتاب في المنطق الاستدلالي والاستنتاجي.

١٤٢

بصورة واحدة ، بينما التصديق يعني العلم بصور مُتلاحقة ومتعاقبة! محاولة منه لحصر مصدر المعرفة بالجانب الحسي من الإنسان وإقصاء دور العقل أو الفطرة من الميدان.

الكلّي والجزئي

إن مفاهيمنا التصورية منها ما هو جزئي ومنها ما هو كليّ؛ ففي جملة «عليٌ إمامٌ» يُلاحظ مفهومان : أحدهما جزئي وهو ما تدل عليه كلمة «عليٌ» والآخر كُلّي ، وهو ما تدل عليه كلمة «إمامٌ» والفارق بينهما يظهر في أن المفهوم الكلي يصح انطباقه على كثيرين ، فإن كلمة إمام تنطبق على كل من تتوفر فيه شرائط الإمامة ، بينما كلمة «علي» لا تنطبق إلا على مسمّاها الخاص بها.

المشكِّك والمتواطئ

والمفاهيم الكلية منها ما هو مشكِّك ومنها ما هو متواطئ. والأول وهو المتفاوت ، من قبيل مفهوم النور؛ فإنه يختلف في درجة انطباقه على أفراده شدّةً وضعفاً ، فنور المصباح يختلف عن نور الشمس ، لأنّ الأول ضعيف نسبة إلى الثاني. وأما المفهوم المتواطئ فهو المتساوي النسبة إلى أفراده كمفهوم الإنسان الذي ينطبق وبصورة متساوية على مصاديقه فلا يختلف زيد عن عمر وخالد ..... في انطباق مفهوم الإنسانية عليهم جميعاً بلا تفاوت.

١٤٣

المشترك اللفظي والمعنوي

وسواء كان الكلي مشكّكا أو متواطئاً فإنه مشترك بين أفراده ويطلق على هذا الاشتراك اسم الاشتراك المعنوي ، وإلى جانبه يوجد اشتراك آخر يطلقُ عليه اسم الاشتراك اللفظي وهو من قبيل لفظة «جون» ، الصادقة على الأبيض والأسود على حدٍ سواء.

والفرق بين الاشتراك المعنوي واللفظي يظهرُ في أن الأول يُعَرَّفُ بأنه المفهوم الكلي الذي يصلح للانطباق على أكثر من مصداق واحد ، بينما يُعَرَّفُ الثاني بأنه اللفظ الذي وضع لأكثر من معنى ، فيوضع اللفظ لكل معنى على حِدَة بأوضاع متعددة.

١٤٤

فكِّر وأجب :

١ ـ اشرح مع المثال ، العلم الحضوري والحصولي ، وما هو المقصود من المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض.

٢ ـ هل إن ما يقصده الفلاسفة من العلم الحضوري والحصولي هو نفس ما يقصده المتكلمون من العلم اللدنّي والكسبي؟ ولماذا؟

٣ ـ اشرح مع المثال الفرق بين التصور والتصديق؟ ثم بيّن رأي «جون‏ستوارت ميل» في التصديق.

٤ ـ ما هو الفرق بين المفاهيم الجزئية والكلية؟ والمفاهيم الكلية المشككة والمتواطئة؟ والمشترك اللفظي والمعنوي؟ بيِّن جوابك لكل مورد بمثال توضيحي؟

١٤٥
١٤٦

الدرس التاسع عشر

الإدراك

* الإدراك

* خلط ولبس

* تجرّد المُدْرِك والمُدْرَك

* فكِّر وأجب

١٤٧
١٤٨

الإدراك

ونريد في هذا الدرس أن نطلّ على بحث الإدراك ، ليتبيّن لنا ما إذا كان الإدراك ظاهرة مادية توجد في المادة حين بلوغها مرحلة خاصة من التطور والكمال أو أنها تعبّر عن لون من الوجود ، مجرد عن المادة وظواهرها وقوانينها.

خلط ولبس :

لقد أكدت بعض المدارس المادية ومنها الماركسية على المفهوم المادي للفكر ، وهو ما يظهر من آرائهم وتصريحاتهم المأثورة عنهم :

قال ماركس :

«لا يمكن فصل الفكر عن المادة المفكرة ، فإنّ هذِهِ المادة هي جوهر كل التغيرات». (١)

وقال انجلز : (٢)

«إن شعورنا وفكرنا ـ مهما ظهرا لنا متعاليين ـ ليسا سوى نتاج عضوي مادي

__________________

١ ـ المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ، ص ١٩.

٢ ـ «فريدريك ‏انجلز ١٨٢٠ ـ ١٨٩٥ م Engels» اشتراكي وفيلسوف ألماني ، اشترك مع ماركس في وضع «البيان الشيوعي» عام ١٨٤٨ م.

١٤٩

جسدي ، هو الدماغ». (١)

ومما يوهم صواب الماركسية في فهمها للإدراك ما توصل إليه العلم من مكتشفات على مستوى الفيزيولوجيا حيث «استكشفت عدة أحداث وعمليات تقع في أعضاء الحس ، وفي الجهاز العصبي بما فيه الدماغ ، وهي وإن كانت ذات طبيعة فيزيائية كميائية ولكنها تمتاز بكونها أحداثاً تجري في جسم حي فهي ذات صلة بطبيعة الأجسام الحية. وقد استطاعت الفيزيولوجيا بكشوفها تلك أن تحدّد الوظائف الحيوية للجهاز العصبي وما لأجزائه المختلفة من خطوط في عمليات الإدراك. فالمخ مثلاً ينقسم بموجبها إلى أربعة فصوص هي : الفص الجبهي والفص الجداري والفص الصدغي والفص المؤخري؛ ولكل فص وظائفه الفيزيولوجية ، فالمراكز الحركية تقع في الفص الجبهي ، والمراكز الحسية التي تتلقى الرسائل من الجسم تقع في الفص الجداري ، وكذلك حواس اللمس والضغط. أما مراكز الذوق والشم والسمع الخاصة ، فتقوم في الفص الصدغي في حين تقوم المراكز البصرية في الفص المؤخري إلى غير ذلك من التفاصيل». (٢)

وواضح من كلمات أصحاب الاتجاه المادي وأمثالهم الخلط بين الإدراك وبين ما يعتمد عليه من مقدمات ومعدات تمهِّد له ، فالتبس عليهم الأمر فظنّوا أن المقدمة هي بنفسها ذو المقدمة. في حين يرى الفلاسفة الإلهيون أن الروح مركز لكل ألوان الإدراك ، إلا أن كل ما يصدر عنها من نشاط ومنه الإدراك والإحساس لا يتحقق إلا عبر البدن وأجهزته الإدراكية كالباصرة واللامسة والذائقة والشامّة و

__________________

١ ـ «لودفيج فيور باخ» ، ص ٥٧.

٢ ـ السيد محمد باقر الصدر ، فلسفتنا ، ص ٣٧٥ ، دار الكتاب الإسلامي ، إيران ـ قم.

١٥٠

السامعة ، فالروح تدرك عبرها المبصرات والملموسات والمذوقات والمشمومات والمسموعات كما وإن الروح تدرك عبر المخِ بعض المفاهيم والاستنتاجات الكلية التي لا تمت إلى الحس الخارجي بصلة ، ويكون المخ قناة لوصول الروح إليها. فالإدراك مركزه الروح ، وليس البدن بما فيه من أجهزة حسيّة وعصبية مخيّة ، إلا وسيلة للوصول إليه ، وهذا لا يعني بحال إلغاء دور ما سوى الروح في عملية الإدراك ، بل إنّ له دوراً مهماً وأساسياً في عملية الإدراك ، إذ بدونه لا يتحقق إدراك عند موجود مدرك ، إلا أن دوره لا يتعدى دور المقدمة لتحقق ذلك ، وهو أشبه ما يكون بجهاز الهاتف الناقل للصوت بين متخابرين اثنين ، فلولاه لم يسمع أحدهما صوت الآخر ، إلا أن الذي يسمع الصوت ليس جهاز الهاتف بل الطرفان اللذان يقفان خلف الهاتف.

وكذلك الحال فيما نحن فيه ، إذ يمكن القول ، أن مركز الإدراك جهة أخرى غير البدن وهي ما يُعَبِّرُ عنها الفلاسفة الإلهيون بالروح ، وهي موجود مجرد عن المادة ولا يخضع لقوانينها وضوابطها.

تجرد المُدْرِك والمُدْرَك :

وقد أقام الفلاسفة أدلة كثيرة على أن الإدراك يجري في جهة غير بدننا المادي ، يطلق عليها اسم الروح ، وهي مجردة عن المادة نكتفي بذكر السهل اليسير منها :

١ ـ يذهل أحدنا بعض الأحيان عن بدنه وآلامه التي يعاني منها ، حينما يشغل نفسه بقضية مهمّة بالنسبة إليه كزيارة صديق عزيز عليه ، وهكذا حينما يسرح الإنسان في تأمّله برؤية منظر طبيعي ، فإن سمعه لا يدرك أحياناً الأصوات المرتفعة إلى جنب أذنيه ....

١٥١

والسبب واضح وهو : أن الإنسان لا يتمثّل وجوده ببدنه المادي الترابي فقط ، بل يوجد إلى جانبه موجود آخر لا مادي وهو الروح التي تعتبر مركز إحساسنا والمحل الذي يتحقق فيه إدراكنا.

٢ ـ الأحلام المتمثلة بالأحداث التي يَراها النائم في منامه والتي تجد مصداقيتها في عالم اليقظة بتفاصيلها وأرقامها وجزئياتها ، لا يمكن أن تجد لها تفسيراً مادياً ما لم نفترض وجود شيءٍ لا مادي إلى جانب البدن المادي ، له قدرة على العلم بالمستقبل ، وليس هو سوى الروح ، لأنّ البدن لا يتسنى له الاطلاع إلا على الموارد التي تخضع لحواسه الخمس ، والموجودة في الخارج بالفعل لا تلك التي توجد في المستقبل.

٣ ـ إن ذهننا وخلايانا المخية المحدودة لا يمكنها استيعاب ما هو أكبر منها حجماً وأوسع منها مساحة ، كإدراكنا في رؤيتنا لمنظر تتجاوز مساحته عشرات الكيلومترات ، بلا نقيصة في مساحتهِ ، فلابد وأن يكون مركز إدراكنا هذا في محل آخر كي يصلح أن يكون ظرفاً لمظروفها المُدرَك ، وليس هو إلا روحنا التي بين جنبينا.

وهكذا اتضح أن المدْرِك لحقائق الأشياء ، إنما هو الروح وهي غير البدن المادي ، فهي مجردة عنه وعن قوانين المادة.

ومما تقدم يتضح كذلك أنّ الصور المدْرَكة مجرّدة عن المادة أيضاً ، بحكم كونها نتاجا للروح وإدراكها.

١٥٢

فكِّر وأجب :

١ ـ ما هو مورد الخلاف بين الماديين والإلهيين فيما يرتبط بالإدراك؟

٢ ـ ما هو دور المخ والأجهزة الحسية في عملية الإدراك؟ مَثّل لجوابك بمثال توضيحي.

٣ ـ ما هو الخلط واللبس الذي وقع فيه الماديون فيما يتعلّق بالإدراك؟

٤ ـ اذكر ما اعتمدناه من براهين على تجرّد المُدْرِك والمُدْرَك.

١٥٣
١٥٤

الدرس العشرون

خالق الكون

على ضوء ما سبق

* خالق الكون على ضوء ما سبق

* دليل الإمكان والوجوب

* خُرافة أزلية المادة وغناها

* وهمٌ وردٌّ

* فكِّر وأجب

١٥٥
١٥٦

خالق الكون

على ضوء ما سبق

بعد تطواف سريع حول أُمهات مسائل الإلهيات بالمعنى الأعم المتناولة لأحكام الموجود بما هو موجود ، آن الأوان أن نقطف ثمارها في البحث عن الإلهيات بالمعنى الأخص ، المتناولة لوجود الله‏ وصفاته جل وعلا ، وهي في مسائلها مفصلة نقتصر على النزر اليسير منها تَوَخّيا للاختصار بما يناسب نافذتنا الفلسفية الصغيرة التي بين يديك ، ونوكل تفاصيل البحث فيها إلى دراسات مقبلة إن شاء الله‏ تعالى.

دليل الإمكان والوجوب

إنّ الأدلة على وجود الخالق الحق أكثر من أن تُحصى ، فهي بعدد أنفاس الخلائق وذرات الرمل وأوراق الشجر ...

وفي كلّ شيءٍ له آية

تدل على أنه واحد

ونحن نذكر واحداً منها من باب لا يُترك الميسور بالمعسور ، وهو دليل الإمكان والوجوب وإليك بيانه :

لا شك في أن لكل ممكن علّة ولكل مخلوق خالق ولكل مصنوع صانع و

١٥٧

لا يختلف في ذلك اثنان ، ويعود السبب إلى أن ما فرض أنه معلول أو مخلوق أو مصنوع يُضمِر في ذاته حاجته وافتقاره إلى علةٍ أو سببٍ أو صانعٍ يمنحه الغنى؛ فلو فرضنا أن عالم الكون في ذاته محتاج وفقير إلى الوجود ، فهو بلا شك معلول ومصنوع ومخلوق يحتاج إلى جهة تغنيه وتمنحه التحقق والوجود ، ولا مناص من إرجاعه إلى علته التي تمنحه ذلك؛ لأن العلاقة القائمة بين المعلول وبين علته تمثّل عين الربط والتعلّق بعلته ، أي إن المعلول في وجوده مفاض من علته ، وبانقطاعه عنها ينقطع الفيض والغنى. وهذِهِ العلة إما أن تكون غنية بذاتها وهي التي يُعبّر عنها في علم الكلام بواجبة الوجود ، وهي التي لا تحتاج في ذاتها إلى أي سبب وعلة ، لفرض أنها غنية مطلقاً؛ في ذاتها وصفاتها. وهذه العلة من شأنها التكفّل بعالم الكون فتمنحه التحقق والوجود. أو أن تكون علة الكون الموجدة له غير غنية بذاتها ممكنة ومحتاجة إلى غيرها ، فلابد حينها من فرض انتهاء هذِهِ العلّة وكل علة مثلها إلى علّة هي في ذاتها غنية وواجبة وإلا سوف نضطر إلى فرضِ علة لهذه العلة هي مثلها في الاحتياج والافتقار ، وهذه العلة إما أن تكون نفس المعلول ـ وهو عالم الكون في المثال ـ الذي كنّا في صدد البحث عن علته ، وهذا هو الدور الواضح في بطلانه ، لأنه مستلزم لتوقف الشيء على نفسِه ، أو تقدم ما هو متأخر وتأخر ما هو متقدم ، فالكون الذي فرض أنه معلول «متأخر» سوف يكون في نهاية المطاف متقدماً ، والعلة للكون التي كانت متقدمة بحكم كونها علة للكون سوف تكون متأخرة ، لأنها سوف تكون في المآل معلولة للكون. فكيف يوجد الشيء نفسه بنفسهِ بعد أن كان عدماً؟! وكيف يكون المتأخر متقدماً والمتقدم متأخراً؟!

١٥٨

وإما أن نفرض لعلةِ الكون علةً أخرى غير المعلول الأول والعلة الأخرى يفرض لها علة بعدها وهكذا يجري فرض سلسلة علل ومعلولات متصاعدة وبلا توقف ، وهو المعبّر عنه بالتسلسل ، وهو كالدور باطل ويرجع السر في بطلانه إلى أن كل حلقة من هذِهِ السلسلة فقيرة ومحتاجة ، فكيف يمنح بعضها البعض الآخر وجوداً وتحققاً مع فرض أن الجميع مفتقر إلى الوجود والتحقق ، وهل يعقل أن يمنح الفقير في الوجود نفسه أو غيره غنى الوجود؟! فإذا أمكن للصفر أن يمنح نفسه أو غيره عدداً من الأعداد أمكن ذلك أيضاً ، وهو محال كما ترى ، لحكم العقل القطعي بأن فاقد الشيء لا يعطيه.

خرافة أزلية المادة وغناها

وقد تقول : لماذا لا نفترض المادة أزلية حتى لا نقع في دوّامة البحث عن خالقها وبارئها ، ومن ثم لا نقع في مشكلة الدور والتسلسل.

وقد رَدَّ المتكلمون والعلماء على الوهم المزبور بردود شتّى؛ نكتفي منها بما اختاره «فرانك آلن» (١) أستاذ الطبيعة البيولوجية حيث أكّد :

أن أجزاء العالم تتجه إلى حالة تساوي درجات الحرارة بعد أن تفقد الأجزاء الأكثر حرارة حرارتها لتكون متساوية مع غيرها في درجة واحدة ، وقد استند في ذلك إلى الأصل الثاني من أصول الثرموديناميك ، والذي يعُبّر عنه باصطلاح «انتروبي» أو «الاستنزاف والبلى» فالمادة لو كانت أزلية لتساوت درجة الحرارة

__________________

١ ـ فرانك آلن : ماجستير ودكتوراه من جامعة كررلل ، أستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا من سنة ١٩٠٤ ـ ١٩٤٤ ، أخصائي في إبصار الألوان والبصريات الفيسولوجية وإنتاج الهواء السائل وحائز على وسام ترري الذهبي للجمعية الملكية بكندا.

١٥٩

الموجودة فيها منذ زمن سحيق ، وحيث أنها لم تكن كذلك بل تنتظر يوماً موعوداً ، فالمادة إذاً حادثة وليست قديمة. (١)

إلاّ أنّ الأولى أن يُقال ، وكما ألمحنا فيما تقدم : (٢)

إن أزلية وقدم موجود ما لا تمنع من حاجته إلى علة توجده وتمنحه الغنى ، لأن السرَ في رجوع المعلول إلى علته إمكانه واحتياجه ، فإذا ثبت لموجود من الموجودات أنه ممكن ـ محتاج ـ ، فلا شك حينئذٍ في لزوم رجوعه إلى علة تمنحه الغنى والتحقق.

وقد أثبت الفلاسفة من خلال بحوثهم أن المادة العلمية (٣) لا يصح أن تكون منشأً لنفسها ولا حتى للظواهر المرتبطة بها لائتلافها من مادة وصورة ، ولا يمكن لكلٍ من المادة والصورة أن توجد مستقلة عن الأخرى ، فيجب أن يوجد فاعل أسبق لعملية التركيب ، تلك التي تحقق للموجودات المادية وجودها ، وذلك لأن المركب الجامع للمادة والصورة محتاج إليهما وكل جزء محتاج إلى الآخر ، (٤) فلا يوجد من بينهم ما هو غني بذاته ووجوده ، فيبقى الافتقار حاكماً وقاضياً بوجود علة غنية تُعدُّ محطة تنتهي إليها قافلة الموجودات الإمكانية لتضخها بالوجود والتحقق. «ومثال ذلك : أن العلوم الطبيعية تبرهن على إمكان تحويل

__________________

١ ـ المؤلف ، أصول الدين بين السائل والمجيب. ص ٢٨ ـ ٢٩ ، ط أولى.

٢ ـ الدرس السادس عشر.

٣ ـ المقصود من المادة العلمية كل ما يخضع للحس والتجربة ، كما يوجد اصطلاح آخر للمادة ، وهو اصطلاح فلسفي ، والذي يعبّر عنه بالهيولا أو المادة الأولى. وقد تقدم الكلام عن الاصطلاح الفلسفي في الدرس السابع. فراجع.

٤ ـ وبهذا البيان يتضح أن الله‏ تعالى يستحيل أن يكون مركبا؛ للزوم احتياجه إلى أجزائه واحتياج كل جزءٍ إلى الجزء الآخر ، ومن هنا فإنه تعالى مجردٌ لا مادي.

١٦٠