كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ١

الشيخ جعفر كاشف الغطاء

كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر كاشف الغطاء


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-880-5
الصفحات: ٤٠٨

٤١
٤٢

مقدّمة المؤلّف

بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي

الحمد لله الذي اختصّ بالأزليّة والقِدم و (غمر الخلائق بالنعم ، وشمل الكائنات باللطف الجميل والكرم ، بعد أن) (١) أبرز نور الممكنات (٢) من ظلمة العدم ، وجعل شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الشرائع كنارٍ على عَلَم ، وفضّله على جميع من تأخّر من الأنبياء أو تقدّم ، وأكمل دينه بخلافة ابن عمّه سيّد العرب والعجم ، وأولاده القائمين في الإمامة على أرسخ قدم ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما غسق ليل وأظلم ، وما انفجر صبح من الظلام وضحك أو تبسّم.

أمّا بعدُ ، فإنّي بعد ما صنّفت رسالة مختصرة لبيان أحكام الشريعة الطاهرة المطهّرة ، يرجع إليها عامّة المكلّفين ؛ للتقليد في أُمور الدين ، (عزمت) (٣) أن أكتب كتاباً حاوياً لفروع المسائل ، معلّماً كيفيّة الاستنباط من الشواهد والدلائل ؛ لينتفع به المبتدئ والواسطة والواصل ، ويكون مرجعاً لفحول العلماء ، وميداناً لسباق المحصّلين والفضلاء (٤).

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في «س».

(٢) في «ح» المكنونات.

(٣) بدل ما بين القوسين في «ح» : سألني ولدي الطاهر المطهّر ، قرّة عيني ومهجة فؤادي موسى بن جعفر أطال الله تعالى بقاءه ، وجعلني ليكون خلفاً لي فداءه.

(٤) جاء في هامش «ح» : أن أكتب رسالة مبسوطة وافية في بيان فروع الأحكام كافية شافية ؛ لتكون مرجعاً لفحول العلماء ، وميداناً لسباق المحصّلين والفضلاء ، فأجبته إلى مأموله ومراده ، راجياً من الله تعالى أن ينتفع بها جميع خلقه وعباده ، وأجزت له أن يضيف إليها ما زاغ البصر ، وقَصُرَت عن الوصول إليه دقائق الفكر. كذا في بعض النسخ.

٤٣

(فلم أتمكّن من ذلك ؛ لشغل البال ، وتشويش الفكر واضطراب الخيال) (١) إلى أن دخلتُ في مملكةٍ صفا فيها (بالي ، واستقرّ بحمد الله فيها فكري وخيالي ، حيث) (٢) رأيت العلماء قد ارتفع مقدارهم ، وغلت بعد نهاية الرخص أسعارهم ، بأيّام دولة فاق ضوؤها ضوء القمر ، وانجلت في أيّامها الغبرة عن وجوه البشر (٣) الدولة المحميّة بحماية ملاك القضاء والقدر ، وبشفاعة خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد سيّد البشر (الدولة الفائقة ما تقدّمها من الدول أو تأخّر) (٤) التي شاع صيتها في جميع الممالك (دولة القاجار لا زالت محميّة بعين الله من كلّ بؤس وضرر. وقد تمّت لطائف النعم ، وعمّ السرور جميع الأُمم) (٥) بانقياد أزمّة الدولة السلطانيّة ، والمملكة العظيمة الخاقانيّة ، لصاحب الهمّة العليا ، الموفّق لخير الآخرة ونعيم الدنيا (٦) ذي السيف البتّار ، والرمح النافذ في قلوب الكفّار ، والمتضعضع لهيبته سكّان الفيافي والقِفار ، ومَن حلّ في السواحل أو في جزائر البحار (٧).

له في الحرب وثبة الأسد الغضنفر ، وفي محلّ الإمارة نور الروض إذا أزهر ، إذا تكلّم تبسّم ، وإن أجاب كان جوابه نعم ، إذا رأيت خُلقه وطبعه السليم ، قلت «ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلّا مَلَكٌ كَرِيمٌ».

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في «ح» : وحيث كنت في أرض كثرت همومها ، وتزايدت على مرور الزمان غمومها ، ولم يكن فيها من يشتري العلم من أهله ، ولا من يفرّق بين العالم في علمه والجاهل في جهله ، فتأخّرت في إجابته ، ولم أُبادر في جواب مسألته.

(٢) بدل ما بين القوسين في «م» ، «س» : ذهني ، وارتفع بحمد الله عند حلولي فيها همّي وحزني ، حيث لم أرَ فيها شاكياً ولا شاكيةً ، ولا باكياً ولا باكيةً ، بل رأيت جميع الرعايا بين داعٍ وداعية و.

(٣) في «ح» زيادة : دولة أدام الله أيّامها وقوامها ، على رغم أنف من طغى وفجر ، وتجبّر وتكبّر ، وما آمن بل كفر.

(٤) في «س» ، «م» :. دولة الطائفة الفائقة من تقدّم من السلاطين ومن تأخّر.

(٥) بدل ما بين القوسين في «ح» : وأطراف الأرض دولة القجر ، لا زالت محميّة بحماية الله من كلّ بؤس وضرر. ثمّ قد تمّت لطائف النعم ، وشمل السرور جميع طوائف العرب والعجم.

(٦) في «ح» زيادة : صاحب الآراء السديدة ، والمكارم العديدة ، والأخلاق الحميدة.

(٧) في «ح» زيادة : إن جالس العلماء كان مقدّمهم ، أو اختلى بالوزراء كان مدرّسهم ومعلّمهم ، إن عارض رأيه الآراء كان رأيه الصائب ، أو خالف فكره الأفكار كان فكره الثاقب ، حتّى أنسى أياساً وذكاءه ، وحاتماً وسخاءه ، والسموأل ووفاءه ، والأحنف وحلمه ، والمنصور وحزمه ، وكعباً ورياسته ، والنعمان وسياسته ، وعنتراً وشجاعته ، وفاق على الإسكندر في الرأي والبأس ، وعلى الريّان في العزم والحدس.

٤٤

شمس قد أشرق نورها على جميع الآفاق ، وعمّ ضوؤها أقاليم المسلمين على الإطلاق ، قد تولّدت منها أهلّة بقيت تحت الشعاع ؛ فترتّب عليها تمام الانتفاع ، وأهلّة خرجت من تحت شعاعها ، فصارت بدوراً عمّ ضوؤها جميع البقاع ؛ فتلألأت أنوارُها ، وأشرقت غاية الإشراق في أذربيجان وخراسان وفارس والعراق ، إذا رأيت تمكينهم ووقارهم ، قلت : سبحان العزيز الحق ، من غمرني بالفضل والشفقة والإحسان ، وقدّمني من غير قابليّة على جميع الأمثال والأقران ، وطار به اسمي في جميع (ممالك بني عثمان) (١) ؛ شاه هذا الزمان ، والفائق من يكون من الملوك ، أو كان (٢) ؛ السلطان ابن السلطان ، والخاقان ابن الخاقان ، من لم أُصرّح باسمه تعظيماً ، وعبّرت عنه بالإشارة تبجيلاً وتفخيماً ، من جرى فتح الممالك على يديه ، وعليّ سيّده ومولاه معينه عليه ، فكان اسمه الفتح مضافاً إلى عليّ ، وعليّ مضاف إليه.

لا زال في حماية الملك الديّان ، حتّى تتّصل دولته بدولة مولاه ومولاي ومولى الإنس والجانّ ، صاحب العصر والنصر والأمر والنهي ، صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه).

فلمّا دخلتُ في أطراف مملكته منّ الله عليّ وعلى سائر المسلمين بدوام بقائه ، واستقامة دولته (أخذت) (٣) في تصنيف كتاب يتضمّن أوجز كلام وأبلغ خطاب ، مشتمل على بيان (٤) الأحكام الشرعيّة الجعفريّة ، وعلى مقدّماتها ممّا يتعلّق بالاعتقادات الأُصوليّة ، ونبذة من مهمّات الأُصول الفقهيّة.

ثمّ أُوصله إلى حضرته «برسم پيشكش» المسمّى بلغة العرب هديّة ، لأنّي لم أجد مشترياً سواه ؛ (٥) ولم يكن لي محرّك على تصنيفه لولاه ، فجاء من يُمنه وسُعُوده وإقباله جامعاً لمهمّات الأحكام الصادرة عن محمّد وإله. فالرجاء من حضرة سلطان الزمان أن يتلقّاه بالرضا والقبول ، على ما فيه من الخلل والنقصان ، فإنّما هو بمنزلة جرادة أُهديت إلى سليمان.

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في «ح» : الممالك من بني عثمان وغير بني عثمان.

(٢) في «ح» زيادة : سلطان إيران وخراسان وآذربايجان ، من كان فتح الممالك على يديه بحكم الله ، فطابق اسمه الشريف مفهومه ومعناه.

(٣) بدل ما بين القوسين في «ح» : وعندها صار في بالي ، وجرى في فكري وخيالي أن أشرع.

(٤) في «ح» زيادة : أسرار الشريعة المصطفوية و.

(٥) في «ح» زيادة : ولا طالباً لمطالب العلوم إلا إياه.

٤٥

شعر :

ليس الهديّة قدر من تُهدى له

إنّ الهديّة قدر من يهديها

وبالله المستعان ، وهو حسبي وعليه التكلان. وسمّيته «كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء» ، ورتّبته على ثلاثة فنون :

الفنّ الأوّل : فيما يتعلّق ببيان الأُصول الإسلاميّة ، والعقائد الإيمانيّة الجعفريّة.

الفنّ الثاني : فيما يتعلّق ببيان بعض المطالب الأُصوليّة الفرعيّة ، وما يتبعها من القواعد المشتركة بين المطالب الفقهيّة.

الفنّ الثالث : فيما يتعلّق بالفروع الدينيّة ، وهو على أربعة أقسام : عبادات ، وعقود ، وإيقاعات ، وأحكام.

٤٦

الفنّ الأوّل

في الاعتقادات

وفيه مباحث :

٤٧
٤٨

المبحث الأوّل :

في التوحيد

بمعنى أن يعرف أنّ الله تعالى واحد في الربوبيّة ، ولا شريك له في المعبوديّة ، ويتبعه النظر في الصفات من الثبوتيّات والسلبيّات.

ويكفي في هذا المقام ما يغني عن الخوض في مباحث الكلام ، من إمعان النظر في الآثار ، واختلاف الليل والنهار ، ونزول الأمطار ، وجري الأنهار ، وركود البحار ، وحركة السماء ، واضطراب الهواء ، وتغيّر الأشياء ، وإجابة الدعاء ، وما نزل على سالف الأُمم من البلاء ، وإيجاد الموجودات ، وصنع المصنوعات ، وتكوين الأبدان ، وتقضّي الزمان ، واستقامة النظام ، واصطكاك الغمام.

وكفى بصنع الإنسان فضلاً عن سائر أنواع الحيوان دليلاً قاطعاً ، وبرهاناً ساطعاً ، خلقه من تراب ، ثمّ أودعه الأصلاب نطفةً ، ثمّ علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ عظاماً ، ثمّ كسا العظام لحماً ، ثمّ أخرجه خلقاً سويّاً ، وخلق له لبناً صافياً ، وجعله غذاءً وافياً ، ينجذب إذا جذبه ، ويحتبس إذا رفع فمه ، ولولاه لم يتغذّ بمأكول ولا مشروب ؛ للطافة بدنه ، وضعف هاضمته ، وأودع محبّته في قلب امّه ، فتحمّلت سهر الليل ، وثقل الحمل ، وكلفة التطهير والغسل.

ثمّ لمّا كملت قوّته ، وعظمت إلى ما غلظ من المأكل حاجته ، خلق له أسناناً يقتدر بها على طحن المأكول ، وجعلها على مبدأ الدخول ، وألهمه الفكر الصحيح ، وعلّمه

٤٩

المنطق الفصيح ، ليتعرّض لتحصيل مطالبه ، واكتساب مأربة ، وحبّبه إلى أبيه لاحتياجه حينئذٍ إليه ، حيث لا مُعوّل له بعد الله إلا عليه.

حتّى إذا بلغ الكمال وملّت أهاليه من تربيته في تلك الحال ، أودعه قوّة يقتدر بها على المعاش ، واقتناء اللباس والغطاء والفراش ، بعد أن شقّ له سمعاً قسّمه على الجانبين ، وحرسه من لطفه بحوّاطتين تحرسانه عن وصول ما يسدّه من القذارات ، وحصّنه بمُرّ الوسخ عن بلوغ مؤذيات الحيوانات ، وبصراً في محلّ مكشوف ، ليتمكّن من الإبصار ، وسوّره بجفنين يحفظانه من المضارّ.

وجعل له أمعاء وشهوة الغذاء ، ومجرى الشراب والطعام والهواء ، وأودعه قوّة جاذبة ترسل ذلك إلى ماسكة مصحوبة بهاضمة ، مناولة لدافعة ، وخلق له مدخلاً ومخرجاً ، ويداً للبطش ، ورجلاً للمشي ، وآلة وإمناءً ، ورحماً يحفظ تلك النطفة إلى حيث يشاء.

فتبارك الله الذي خلق الأشياء (١) بلا مثال ، وأقام الخلائق على أحسن اعتدال ، فلو تأمّلت في نفسك التي بين جنبيك ، وتفكّرت بجسمك الذي هو محطّ عينيك ، فضلاً عن أن توجّه حواسّ الإدراك إلى عجيب صنع الأفلاك ، وما أحاطت به الأرضون والسماوات من عجائب المخلوقات من الملائكة المقرّبين ، وضروب الجنّ والشياطين ، لأنبأك هذا النظام المستقيم الجاري على النهج القويم ؛ أنّ هناك مُوجِداً لا يُعارض ، وحاكماً لا يناقض ، عالماً بحقائق الأشياء ، قديراً على ما يشاء ، ولو دخله الجهل أو العجز فسد النظام ، ولم يحصل للصنع ذلك الإحكام.

وعلومه الذاتيّة نسبتها إلى المعلومات بالسويّة.

وقدرته عامّة لجميع المقدورات ؛ لأنّها ثابتة بمقتضى الذات.

والعلم والقدرة برهانان على حياة الجبّار. وجري الأفعال على وفق المصالح أبينُ شاهد على أنّه فاعل مختار ، قديم أزليّ ، لم يُسبق بعدم أصليّ ، وإلا لم يكن قادراً ،

__________________

(١) في «ح» : الإنسان.

٥٠

بل مقدوراً عليه ، مع أنّ مقتضى الذات لا يجوّز الاختلافات بالنسبة إليه.

أبدي سرمديّ ، إذ مقتضى القِدم عدم إمكان العدم ؛ وقد تقرّر في العقول أنّ معلول الذات لا يحول ولا يزول ، ولا يمكن استناده إلى العلل الخارجات ؛ لأنّ ذلك ملزوم لحدوث الذات.

مُريد للحَسَن ، كاره للقبيح ؛ لاستغنائه عنهما ، مع علمه بالجهتين اللتين نشأ الوصفان منهما.

مُدرك للمدركات ؛ لانكشافها لديه ، ولأنّ الإدراك علم خاصّ دلّ صريح الكتاب والسنّة عليه.

مُتكلّم ؛ لحُسن صدور الكلام منه ، وشهادة إعجاز القرآن بصدوره عنه.

صادق منزّه عن الكذب والافتراء ، متعالٍ عن الاتّصاف بنقائص الأشياء.

فقد اتّضح لك في هذا المقام ثبوت صفات الجمال والإكرام ، وهي الثمانية المعدودة في علم الكلام :

أوّلها : القدرة والاختيار.

ثانيها : العلم.

ثالثها : الحياة.

رابعها : الإرادة والكراهة.

خامسها : الإدراك.

سادسها : القِدم والأزليّة والبقاء والسرمديّة.

سابعها : الكلام.

ثامنها : الصدق ، ويلزم من إثبات القدم لذاته ، واستحالة إدخال الوصف القبيح في صفاته ، نفي التركيب من الأجزاء ، وإلا توقّف عليها ، وسلب الجسميّة والعرضيّة عنه ، وإلا لازَمَ الأمكنة واحتاج إليها.

وحيث تنزّه عن مداخلة الأجسام ، استحال عليه لوازمها من اللذّات والآلام. وامتنع الإبصار بالنسبة إليه. ولم يَجُز فعل القبيح والإخلال بالواجبات عليه.

٥١

ولا يقبل التأثير والانفعال ، فيستحيل عليه حلول الحوادث والأحوال ، ويستحيل عليه الاحتياج إلى مخلوقاته ، وإلا لزم عدمُ قدم ذاته.

وليست صفاته الأصليّة مغايرة له زائدة عليه ، وإلا لزم التعدّد بالنسبة إليه.

وثبوت الشريك يستلزم فساد النظام ، وعدم ثبوت علّيّة الوجود له على وجه التمام. وبتحقيق هذا المقال يتّضح لك طريق إثبات صفات الجلال ، وهي السبعة التي ذكرها المتكلّمون :

أحدها : نفي التركيب.

ثانيها : نفي الجسميّة والعرضيّة.

ثالثها : نفي كونه محلّا للحوادث.

رابعها : نفي الرؤية عنه.

خامسها : نفي الشريك.

سادسها : نفي المعاني والأحوال.

سابعها : نفي الاحتياج.

وجميع ذلك معروف ممّا ذكرناه ، ومبرهن عليه ممّا سطرناه ، ويكفي في إثبات كثير من تلك الصفات محكمُ الآيات ومتواتر الروايات.

٥٢

المبحث الثاني :

في النبوّة

والواجب على أهل كلّ ملّة معرفة نبيّها المبعوث إليها لإبلاغ الأحكام ، وتعريف الحلال والحرام ، وأنّه الواسطة بينهم وبين المعبود ، والموصل لهم بطاعته إلى غاية المقصود ؛ لأنّ تقريب الناس إلى الصلاح وإبعادهم من الفساد واجب على ربّ العباد.

ولا يمكن ذلك بتوجيه الخطاب من ربّ الأرباب بخلق الأصوات ؛ لكثرة الوجوه فيها والاحتمالات ، فلا يحصل لهم كمال الاطمئنان ؛ لتجوّز أنّها أصوات صدرت من بعض الجانّ.

ولا بإرسال من لا يدخل تحت قسم من الناس من الملائكة أو الجنّ أو النسناس ؛ لأنّ النفوس لا تركن إليه ، وفعل المعاجز ربما لا يُحال عليه.

فالنبي المبعوث إلينا ، والمفروض طاعته من الله علينا ، أعلى الأنبياء قدراً ، وأرفع الرسل في الملإ الأعلى ذكراً ، الذي بَشّرت الرسل بظهوره ، وخُلِقت الأنوار كلّها بعد نوره ، علّة الإيجاد ، وحبيب ربّ العباد ، محمّد المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحمد صفوة الجبّار ، ذو المعجزات الباهرة ، والآيات الظاهرة التي قصرت عن حصرها ألسن الحُسّاب ، وكلّت عن سطرها أقلام الكُتّاب :

كانشقاق القمر ، وتظليل الغمام ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وتكليم الموتى ، ومخاطبة البهائم ، وإثمار يابس الشجر ، وغرس الأشجار على الفور في

٥٣

القفار ، وقصّة الغزالة مع خشفيها (١).

وخروج الماء من بين أصابعه ، وانتقال النخلة إليه بأمره ، وإخبار الذراع له بالسمّ ، والنصر بالرعب بحيث يخاف من مسير شهرين. ونوم عينيه من دون قلبه ، وأنّه لا يمرّ بشجر ولا مدر إلا سجد له ، وبلع الأرض الأخبثين من تحته ، وعدم طول قامة أحد على قامته.

وأنّ رؤيته من خلفه كرؤيته من أمامه ، وإكثار اللبن في شاة أُمّ معبد ، وإطعامه من القليل الجمّ الغفير ، وطيّ البعيد إذا توجّه إليه ، وشفاء الأرمد إذا تفل في عينيه ، وقصّة الأسد مع أبي لهب ، ونزول المطر عند استسقائه ، ودعائه على سراقة فساخت قوائم فرسه ، ثمّ عفا عنه فدعا فأُطلقت ، وإخباره بالمغيّبات ، كإنبائه عن العترة الطاهرة ، واحداً بعد واحد ، وما يجري عليهم من الأعداء في وقعة كربلاء وغيرها.

وإخباره عن قتل عمّار ، وأنّه تقتله الفئة الباغية ، ووقعة الجمل ، وخروج عائشة ، ونباح كلاب الحوأب ، ووقعة صفّين ، وإخباره عن أهل العقبة وأهل السقيفة ، وتخلّف من تخلّف عن جيش أُسامة ، وأهل النهروان ، وبني العبّاس ، إلى غير ذلك (٢) ، وإخبار الأحبار عنه عليه‌السلام قبل ولادته بسنين وأعوام (٣).

ومن ذلك ما ظهر له من الكرامات عند ميلاده : كارتجاج إيوان كسرى حتّى سقط منه أربع عشرة شرافة ، وغور بحيرة ساوة ، وخمود نار فارس ؛ ولم تخمد قبل بألف سنة (٤).

__________________

(١) الخشف : ولد الغزال ، المصباح المنير ١ : ٢٠٧ ، كتاب العين ٤ : ١٧١.

(٢) لاحظ صحيح مسلم ٤ : ٤٦١ ٤٨٤ كتاب الفضائل وج ٥ : ٤٣٠ ح ٢٩١٦ ، كتاب الفتن ، وسنن ابن ماجة ٢ : ١٣٦٦ ح ٤٠٨٢ ، وسنن الترمذي ٥ : ٥ ٨٣ ٥٩٧ ، ومستدرك الحاكم ٢ : ٦١٨ ٦٢٠ ، ومنتخب كنز العمّال في هامش المسند ٤ : ٢٧٠ ٣١٥ ، ودلائل النبوّة : ٣٤٠ ٤٠٢ ، وصفة الصفوة ١ : ١٠٠ ، وروضة الواعظين للنيسابوري : ٦٠ ، وإعلام الورى : ١٨ ٤٦ ، وكشف الغمّة ١ : ٢٠ ٢٧ ، والمناقب لابن شهرآشوب ١ : ٧٨ ١٣٧ ، وص ١٤٠ ، ومسند أحمد ٦ : ٩٧ ، والإمامة والسياسة : ٦٣ ، والتاج الجامع للأُصول ٣ : ٢٤٦ ٢٥٠ ، وص ٢٧٦ ٢٩٠ ، وجامع الأُصول ١١ : ٣١٦ ح ٨٨٧٩.

(٣) السيرة النبويّة لابن كثير ١ : ٢٨٦ ، الخصائص الكبرى ١ : ٤٥ ٧٥ ، جامع الأُصول ١١ : ٢٥٩ ح ٨٨٣٦.

(٤) الخصائص الكبرى ١ : ١١٣ ١٣٢ ، المنتظم ٢ : ٢٥٠ ، السيرة الحلبيّة ١ : ١٨٣ ، بحار الأنوار ١٥ : ٢٥٧.

٥٤

واضطراب الأحبار والرهبان عند ولادته ، حتّى رآه بعضهم وعرف خاتم النبوّة على جسمه الشريف ، فقال : إنّه نبي السيف ، وحذّر اليهود منه (١) ، وتهنئة امّه من جهة السماء وما ظهر لها من الكرامات حين الحمل (٢) ، وكفى بكتاب الله معجزاً مستمراً مدى الدهر ، حيث أقرّت له العرب العرباء ، وأذعن له جميع الفصحاء والبلغاء ، مع أنّ معارضته كانت عندهم من أهمّ الأشياء.

على أنّ في النظر في أخلاقه الكريمة وأحواله المستقيمة كفاية لمن نظر ، وحجّة واضحة لمن استبصر ، ككثرة الحلم ، وسعة الخلق ، وتواضع النفس ، والعفو عن المسي‌ء ، ورحمة الفقراء ، وإعانة الضعفاء ، وتحمّل المشاقّ ، وجمع مكارم الأخلاق ، وزهد الدنيا مع إقبالها عليه ، وصدوده عنها مع توجّهها إليه ، وله من السماحة النصيب الأكبر ، ومن الشجاعة الحظّ الأوفر.

وكان يطوي نهاره من الجوع ، ويشدّ حَجَر المجاعة على بطنه ، ويجيب الدعوة ، ويأكل أكل العبد ، وكان بين الناس كأحدهم ، ولازَم العبادة حتّى ورمت (٣) قدماه ، إلى غير ذلك من المكارم التي لا تحصر ، والمحاسن التي لا تسطر.

ولبدنه الشريف أحوال مخصوصة به ، ومقصورة على جنابه ؛ كظهور نوره في الليل المظلم ، وغلبة طيبه على المسك الأذفر ، واحتوائه على محاسن لم يُعزَ إليها بشر (٤). ثمّ لا تجب على الأُمم اللاحقة معرفة الأنبياء السابقين ، نعم ربما وجبت معرفة أنّ لله أنبياء قد سبقت دعوتهم ، وانقرضت ملّتهم على الإجمال.

وتجب معرفة عصمته بالدليل ، ويكفي فيه أنّه لو جاز عليه الخطأ والخطيئة لم يبق

__________________

(١) بحار الأنوار ١٥ : ٢١٥ ، ٢١٧ ، ٢٦٠.

(٢) بحار الأنوار ١٥ : ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، ٢٦٩.

(٣) في «م» : حتّى مضى.

(٤) انظر الكافي ١ : ٤٣٩ ح ١ ٤٠ ، والأمالي للطوسي : ٣٤٠ ح ٦٩٥ ، ، وبحار الأنوار ١٦ : ١٤٤ ١٩٤ ، وحلية الأبرار ١ : ١٦٣ و ١٧١ ١٨٢ ، وصحيح مسلم ٤ : ٤٦١ ٤٩٢ من كتاب الفضائل ، وسنن الترمذي ٥ : ٥٨٣ ، والطبقات الكبرى ١ : ٢٧٣ ٣٥٦ ، والسيرة النبويّة لابن كثير ١ : ٢٠٦ ٢٣٢ ، ومستدرك الحاكم ٢ : ٦٢١ ٣١٨ ، وصفة الصفوة ١ : ١٥١ ١٨٠ ، وجامع الأُصول ١١ : ٢٤٨ ٢٥٨ ح ٨٨١٩ ٨٨٣٥.

٥٥

وثوق بإخباره ، ولا اعتماد على وعده ووعيده ؛ فتنتفي فائدة البعثة.

ولا يتوقّف الإيمان على العلم بوجوب (١) نزاهة إبائه إلى مبدإ وجودهم عن الكفر وأضرابه ؛ وإنّما هو من المكمّلات (٢) ، وكذا معرفة الأنساب والأزواج والأولاد والعمر ومكان الميلاد ، ومن أراد الازدياد ، فليعلم أنّه محمّد ، بن عبد الله ، بن عبد المطّلب واسمه شيبة الحمد ، بن هاشم واسمه عمرو ، بن عبد مناف واسمه المغيرة ، بن قُصي ، واسمه زيد ، ابن كلاب ، بن مرّة ، بن كعب ، بن لؤي ، بن غالب ، بن فهر ، بن مالك ، بن النضر ، ابن كنانة ، واسمه قريش ، بن خزيمة ، بن مدركة ، بن إلياس ، بن مضر ، بن نزار ، بن معد ، ابن عدنان.

وأُمّه أمنه بنت وهب بن عبد مناف. وكنيته أبو القاسم ، ولقبه المصطفى.

ومولده بمكّة ، في شعب أبي طالب ، يوم الجمعة السابع عشر في ربيع الأوّل ، ونقل عليه إجماع الشيعة (٣) ، وذكر بعضهم أنّ ميلاده يوم الثاني عشر منه (٤) ، وعليه المخالفون (٥).

وعلى القولين فإمّا مع الزوال أو عند الفجر ، وكان ذلك في عام الفيل ، وله من الأزواج خمسة عشر ، على ما نقل بعضهم (٦).

وفي المبسوط : عن أبي عبيدة (٧) أنّ له من الأزواج ثمانية عشر ، سبع من قريش ، وواحدة من حلفائهم ، وتسع من سائر القبائل ، وواحدة من بني إسرائيل بن هارون بن عمران ، واتّخذ من الإماء ثلاثاً : عجميّتين وعربيّة ، وأعتق العربيّة ، واستولد إحدى العجميتين.

__________________

(١) في «س» ، «م» : بوجود.

(٢) في «س» ، «م» : الكمالات.

(٣) إعلام الورى بأعلام الهدى : ١ ، بحار الأنوار ١٥ : ٢٤٨ ، الدرر النجفيّة : ٦٧.

(٤) الكافي ١ : ٤٣٩ باب مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٥) السيرة الحلبيّة ١ : ٩٣ ، السيرة النبويّة لابن هشام ١ : ١٥٨ ، مستدرك الحاكم ٢ : ٦٠٣ ، التلخيص للذهبي في ذيل المستدرك ٢ : ٦٠٣ ، الوفاء بأحوال المصطفى ١ : ١٥٤.

(٦) مستدرك الحاكم ٤ : ٣ ، المختصر في أخبار البشر : ١٥٣ ، بحار الأنوار ٢٢ : ١٩١.

(٧) مستدرك الحاكم ٤ : ٣ ، وحكاه عنه في بحار الأنوار ٢٢ : ١٩١ وابن شهرآشوب في المناقب ١ : ١٥٩ عن المبسوط.

٥٦

فأوّل من تزوّج بها خديجة بنت خويلد ، وهو ابن خمس وعشرين سنة. ثمّ بعد موتها سودة بنت زمعة ، ثمّ عائشة ، ولم يتزوّج بكراً سواها ، ثمّ أُمّ سلمة وحفصة ، ثمّ زينب بنت جحش من الحلفاء ، ثمّ جويرية بنت الحارث ، ثمّ أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، ثمّ من بني إسرائيل صفيّة بنت حُيي ، ثمّ ميمونة الهلاليّة ، ثمّ فاطمة بنت شريح الواهبة ، ثمّ أُمّ المساكين زينب بنت خزيمة ، ثمّ أسماء بنت النعمان ، ثمّ قتيلة أُخت الأشعث (١) ، ثمّ أُمّ شريك ، ثمّ سبا (٢) بنت الصلت.

وكانت له وليدتان (٣) : مارية القبطيّة ، وريحانة بنت زيد بن شمعون.

وكان له من الأولاد ثمانية ، وُلِدَ له من خديجة قبل المبعث القاسم ، ورقيّة ، وزينب ، وأُم كلثوم. وذكر بعض أصحابنا في رقيّة وزينب أنّهما بنتا تبنّ ، لا بنتان على الحقيقة ، وأنّهما بنتا هالة أخت خديجة (٤). وقد نقل عن أئمة الهدى عليهم‌السلام (٥).

وبعد المبعث : الطيّب ، والطاهر ، وفاطمة. وروي أنّه لم يُولد له بعد المبعث سوى فاطمة عليها‌السلام (٦) ، وأنّ الطيّب والطاهر قبله ، وله أيضاً ولد يُسمّى إبراهيم.

ونزل عليه الوحي وتحمّل أعباء الرسالة يوم السابع والعشرين في رجب ، وهو ابن أربعين سنة.

واصطفاه ربّه إليه بالمدينة مسموماً يوم الاثنين ، لليلتين بقيتا من صفر ، سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وله ثلاثة وستّون سنة. ودفن في حجرته التي توفّي فيها.

ومات أبوه عبد الله وهو ابن شهرين ، وفي كشف الغمّة : أنّه بقي مع أبيه سنتين وأربعة أشهر (٧).

__________________

(١) في «س» : بنت الأشعث.

(٢) كذا في «م» ، «س». ويحتمل كونه تصحيف سني أو سنا ، راجع البحار ٢٢ : ١٩٢ ، ١٩٤ و ١٩٥. وفي «ح» صبا.

(٣) الوليدة : الأمة ، انظر المصباح المنير : ٦٧١ ، ومجمع البحرين ٤ : ١٦٥.

(٤) الاستغاثة لعليّ بن أحمد الكوفي : ١٠٨.

(٥) هذا منقول عن كتاب الاستغاثة للشريف أبي القاسم عليّ بن أحمد الكوفي المتوفى عام ٣٥٢ ه‍. فانظر أعيان الشيعة ٧ : ٣٥.

(٦) الكافي ١ : ٤٣٩ باب مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٧) كشف الغمّة ١ : ١٦ ، وأُنظر المنتظم ٢ : ٢٤٥.

٥٧

ونقل أنّ أباه مات وهو حمل (١) ، وقيل : مات وعمره سبعة أشهر (٢).

وماتت امّه وهو ابن أربع سنين ، وفي كشف الغمّة : ستّ سنين (٣).

وكان كما وصفه ولده الباقر عليه‌السلام أبيض اللون ، مشرباً بالحمرة ، أدعج العينين أي أسودهما مع سعة مقرون الحاجبين ، خشن الأصابع ، كأنّ الذهب صُبّ على كفّه ، عظيم المنكبين ، إذا التفت يلتفت جميعاً من شدّة استرساله ، سائل الأطراف ، كأنّ عنقه إلى كاهله إبريق فضّة ، وإذا مشى تكفّأ كأنّه نازل إلى منحدر ، ولم يُرَ مثل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبله ولا بعده (٤).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ١ : ٧٩ ، المنتظم ٢ : ٢٤٤ ، السيرة الحلبيّة ١ : ٤٩ ، مستدرك الحاكم ٢ : ٦٠٥ ، السيرة النبويّة لابن كثير ١ : ٢٠٤ ، مروج الذهب ٢ : ٢٨٠ ، سبل الهدى والرشاد ١ : ٣٩٨.

(٢) السيرة الحلبية ١ : ٤٩ ، وحكاه ابن الجوزي في المنتظم ٢ : ٢٤٥.

(٣) كشف الغمّة ١ : ١٦.

(٤) الكافي ١ : ٤٤٣ باب مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ح ١٤ ، بحار الأنوار ١٦ : ١٨٨ ، حلية الأبرار ١ : ١٦٥ ، مستدرك الحاكم ٢ : ٦٠٦.

٥٨

المبحث الثالث :

في المعاد الجسماني

ويجب العلم بأنّه تعالى يعيد الأبدان بعد الخراب ، ويرجع هيئتها الأُولى بعد أن صارت إلى التراب ، ويحلّ بها الأرواح على نحو ما كانت ، ويضمّها إليها بعد ما انفصلت وبانت.

فكأنّ الناس نيام انتبهوا (١) ، فإذا هم قيام ينظرون إلى عالم جديد ، لا يحيط به التوصيف والتحديد ، قد أحسّوا بالمصيبة الكبرى ، وتأهّبوا لشدائد الرجعة الأُخرى ، وقد أخذتهم الدهشة ، فصاروا حيارى ، وغلبت عليهم الخشية فكانوا سكارى ، وما هم بسكارى ، قد اتّضح لديهم ما قدّموا وبدا ، ووجدوا ما عملوا حاضراً ، ولا يظلم ربّك أحداً ، قد فقدوا الناصر والمعين ، وسلّموا الأمر لربّ العالمين.

والحجّة في إثبات المعاد : أنّه لولاه لذهبت مظالم العباد ، وتساوى أهل الصلاح والفساد ، وضاعت الدماء.

ثمّ لم تبقَ ثمرة لإرسال الأنبياء ، وأنّ لطف الله تعالى يستحيل عليه الانقضاء ؛ لأنّ الموجب للابتداء هو المانع عن الانتهاء ، وممّا يحيله العقل اختصاص لطفه تعالى بهذه الأيّام القلائل التي هي كظلّ زائل.

__________________

(١) في «م» ، و «س» : نبّهوا.

٥٩

ثمّ لولا ذلك لم يحسن الوعد والوعيد ، والترغيب والتهديد ، ولساوى أفضل الأنبياء في الفضيلة أشقى الأشقياء.

وفيما تواتر من بعض الكرامات كإحياء كثير من الأموات ، وإخبارهم عمّا شاهدوا من الكربات ، وما شاهده بعض الأولياء عند الممات كفاية لمن نظر ، وعبرة لمن اعتبر.

وكفى في ذلك شهادة الآيات ، ومتواتر الروايات ؛ مع ما دلّ على عصمة الأنبياء ، وعدم جواز صدور الكذب منهم والافتراء.

والمقدار الواجب بعد معرفة أصل المعاد معرفة الحساب وترتّب الثواب والعقاب.

ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلا صاحب النظر الدقيق ، كالعلم بأنّ الأبدان هل تعود بذواتها ، أو إنّما يعود ما يماثلها بهيئاتها؟

وأنّ الأرواح هل تعدم كالأجساد ، أو تبقى مستمرّة حتّى تتصل بالأبدان عند المعاد؟

وأنّ المعاد هل يختصّ بالإنسان ، أو يجري على كافّة ضروب الحيوان؟

وأنّ عودها بحكم الله دفعيّ أو تدريجيّ؟

وحيث لزمته معرفة الجنان وتصوّر النيران لا تلزمه معرفة وجودهما الان ، ولا العلم بأنّهما في السماء أو في الأرض أو تختلفان.

وكذا حيث تجب عليه معرفة الميزان ، لا تجب عليه معرفة أنّه ميزان معنوي ، أو له كفّتان ، ولا تلزم معرفة أنّ الصراط جسم دقيق ، أو هو عبارة عن الاستقامة المعنويّة ؛ على خلاف التحقيق ، والغرض أنّه لا تشترط في تحقّق الإسلام معرفة أنّهما من الأجسام وإن كانت الجسميّة هي الأوفق بالاعتبار وربما وجب القول بها عملاً بظاهر الأخبار (١).

ولا تجب معرفة أنّ الأعمال هل تعود إلى الأجرام ، وهل ترجع بعد المعنويّة إلى صور الأجسام؟

ولا تلزم معرفة عدد الجنان والنيران ، وإدراك كنه حقيقة الحور والولدان.

__________________

(١) أُنظر الكافي ٨ : ٩٥ ح ٦٩ وص ٣١٢ ح ٤٨٦ ، ونهج البلاغة : ١١١ الخطبة ٨٣ ، ومعاني الأخبار : ٣٢ ، وتفسير الصافي ١ : ٨٥ ، وبحار الأنوار ٧ : ٣٧ ح ٥ والترغيب والترهيب : ٤٢٨ و ٤٢٩.

٦٠