كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ١

الشيخ جعفر كاشف الغطاء

كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر كاشف الغطاء


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-880-5
الصفحات: ٤٠٨

الدار لأصالة عدم قتل زيد ؛ فلا عمل على الأصل فيه.

وأمّا ما كان من التوابع ، كعصمة الماء التابعة لبقاء الكرّيّة ، أو الاتّصال بالمادّة ، أو تقاطر المطر ، ونجاسته التابعة لعدمها ، ونجاسة الكافر التابعة لبقاء الكفر ، وبقاء حكم المتنجّس فينجس ، وعدم التذكية فينجس الماء ، إلى غير ذلك ؛ فإنّها تثبت لها توابعها الشرعيّة ؛ لأنّ الثابت شرعاً كالثابت عقلاً.

والأحكام من التوابع ، بخلاف توابع الموضوعات الاتّفاقيّة ؛ لأنّ مقتضى الظاهر من الأدلّة جري الاستصحاب في التوابع والمتبوعات مطلقاً ، فتحصل المعارضة حينئذٍ إلا فيما قام الدليل على إلغاء الأصل فيه (١).

ويتسرّى الاستصحاب إلى كلّ قطعيّ الثبوت (أو ظنّيّة بطريق شرعيّ) (٢) من موضوع أو حكم عقليين ، أو عاديّين ، أو شرعيّين ، مأخوذين من عقل أو كتاب أو سنّة أو إجماع.

ولو لم يبق علمه باليقين السابق مع علمه بأنّه كان عالماً ؛ فلا يخلو إمّا أن ينسى طريق علمه السابق ، أو يذكره (ويتردّد في قابليّته لإفادة العلم) (٣) أو يعلم عدم قابليته ، والأقوى جري الاستصحاب في القسمين الأوّلين خاصّة.

وأمّا (٤) ما وقع منه من العمل فيحكم بصحّته ، ما لم يعلم بعدم (٥) مقتضى علمه.

ولو كان الحكم الثابت أوّلاً بطريق ظنّي ، وجرى الحكم الظاهريّ ؛ فزال الظهور ، بنى على صحّة ما تقدّم من العمل ، سواء كان عن اجتهاد أو تقليد ، ولو حصل القطع بخلافه أعاد ما فات.

البحث السادس والثلاثون

في أنّ الأصل فيما خلق الله تعالى من الأعيان ؛ من عرض أو جوهر ، حيوان أو غير حيوان صحّته.

__________________

(١) في «س» : إلقاء الأصل.

(٢) ما بين القوسين ليس في «س» ، «م».

(٣) بدل ما بين القوسين في «س» ، «م» : ويتردّد فيه.

(٤) في «م» ، «س» : وإلا.

(٥) في «ح» زيادة : قابليّة ، ويحتمل كونه تصحيف قابليّته

٢٠١

وكذا ما أوجده الإنسان البالغ العاقل من أقوال أو أفعال ؛ فيبنى فيها على وقوعها على نحو ما وضعت له ، وعلى وفق الطبيعة التي اتّحدت به ؛ من مسلم مؤمن أو مخالف أو كافر كتابيّ أو غير كتابيّ.

فتبني أخباره ودعاويه على الصدق ، وأفعاله وعقوده وإيقاعاته على الصحّة حتّى يقوم شاهد على الخلاف إلا أن يكون في مقابلته خصم ولا سيّما ما يتعلّق بالمقاصد ونحوها ، ولا تتعلّق به مشاهدة المشاهد ؛ فإنّه يصدّق مدّعيه ، ويجري الحكم على نحو الدعوى فيه.

فمن ادّعى القصد بإشارته دون العبث ، أو قصداً خاصّاً لعبادة خاصّة أو معاملة كذلك ، أو ادّعى العجز عن النطق بألفاظ العبادات أو المعاملات ، أو عن الإتيان بها على وفق العربيّة فيما تشترط فيه كالطلاق ، أو العجز عن القيام. أو تحصيل الماء في صلاة النيابة بطريق المعاوضة ، أو عن وطء المرأة بعد أربعة أشهر ، أو قصد النيابة أو الأصالة ، أو الإحياء أو الحيازة ، إلى غير ذلك ؛ فليس عليه سوى اليمين.

وتفصيل الحال : أنّ الأصل في جميع الكائنات من جمادات أو نباتات أو حيوانات ، أو عبادات أو عقود أو إيقاعات ، أو غيرها من إنشاءات أو إخبارات أن تكون على نحو ما غلبت عليه حقيقتها من التمام في الذات ، وعدم النقص في الصفات ، وعلى طور ما وضعت له مبانيها ، وعلى وجه يترتّب عليه أثارها فيها على معانيها ، من صدق الأقوال ، وترتب الآثار على الأفعال.

ويفترق حال الكافر عن المسلم بوجوه أربعة :

أحدها : أنّ الصحّة في أفعال الكافر وأقواله إنّما تجري على مذهبه ، وفي المسلم تجري على الواقع ، فأخذ الجلد المدبوغ من مسلم مخالف قائل بجواز استعمال الجلد الخالي عن التذكية بالدباغ ، وطهارته به ، أو موافق قائل بها من دون بعض شرائطها ، أو قائل بتطهّر المتنجّس بالمضاف مع العلم بتطهيره ، ونحو ذلك لا بأس به.

بخلاف الكافر ، فإنّه لا تُبنى أقواله وأفعاله أصالة أو وكالة إلا على صحّته على

٢٠٢

مذهبه ، وثبوت أثارها التابعة لها.

الثاني : أنّه لا ينزّه عن فعل القبيح ، وترك الواجب ، ولا يحكم عليه بهما ، بخلاف المسلم ؛ فإنّه ينزّه عن ذلك.

الثالث : أنّ الصحّة بالنسبة إليه مقصورة عليه ، بشرط عدم التعدّي إلى غيره من المسلمين ، بخلاف المسلم فإنّه لو اغتاب أحداً أو هجاه أو قذفه أو أخذ ماله أو ضربه أو جرحه أو قتله أو تزوّج امرأته ؛ ولم يكن له مدافع ولا ممانع ولا معارض ، بُني على صحّة فعله ، لاحتمال عدم الحرمة وثبوت المال مع الامتناع ، والمقاصّة ، والتعزير والحد ، والقصاص ، والطلاق. أمّا لو كان منازع أو مدافع أو معارض وجبت إعانته والذبّ عنه.

واحتمال البناء فيهم إذا كان الصنيع مع أهل دينهم على مثل ما ذكرناه قويّ كلّ القوّة.

ولو قيل بعدم إجراء أصل الصحّة إلا مع حصول ما يبعث على الشكّ كان قويّاً ، وإلا لم يجز منع الظالم والسارق ، ومن أراد قتل الغافل ، والنائم ، ونحوهم ؛ ويلزم من ذلك فساد عظيم.

الرابع : أنّه لا يسقط الواجب الكفائي من دفن أو تكفين أو تخليص من يجب حفظه ولو علم من الكافر فعله أو اشتغاله به (مع جهل حاله في كيفيّة الإتيان به) (١).

وحكم التصرّف ، واليد ، وادّعاء الوكالة ، وسماع الدعوى ، ونحوها يساوي الكافر المسلم في الحكم بالصحّة.

والحال في فعل نفسه مثله في فعل غيره ، فيحكم بصحّة ما مضى منه من الأفعال والأقوال ؛ من عبادات ، وعقود ، وإيقاعات ، وغيرها.

غير أنّه إن علم حاله وقت الوقوع من أنّه كان عالماً بالصحّة حين الصدور ، أو ظانّاً بها ظنّاً شرعيّاً وخفي عليه الطريق أو علم ذلك مع الطريق وشكّ في قابليّته بعد مضيّ العمل ، أو لم يعلم أنّه كان أخذاً عن طريق شرعيّ أو لا ، أو لم يكن عالماً بما كان بالمرّة

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في «م» ، «س».

٢٠٣

بنى على الصحّة.

ولو علم بأنّه كان أخذاً عن طريق غير شرعي علماً قاطعاً ، أو كان غافلاً عن ملاحظة الطريق قطعاً قوي الفساد.

ولو كان عن اجتهاد بنى على صحّة ما فعله ؛ لأنّ الاجتهاد عارضه مثله. هذا بالنسبة إلى الصحّة والفساد.

وأمّا بالنسبة إلى الوقوع وعدمه (١) فلا يبعد جري الحكم بالبقاء ، استصحاباً لحكم العلم ، (والأقوى خلافه) (٢).

البحث السابع والثلاثون

أصل الصحّة يمشي في الأقوال وإخباراتها وإنشاءاتها ، عقودها وإيقاعاتها ، وأحكامها وعباداتها ، وواجباتها ومندوباتها ، في حقّ العامل وما يتبعه ومن يتبعه وبالنسبة إلى غيره كذلك ، في غير الدعاوي (٣).

وأمّا فيها فلا يتمشّى على الغير ؛ فلا يجب على المدّعى عليه سماع قول المدّعى ، وإن احتمل أو ظنّ صدقه ، وليس لأحد تصديقه مع وجود المعارض.

وأمّا مع عدمه وعدم السلطان لأحدٍ عليه كمجهول المالك وما لا يد عليه ، والشي‌ء المطروح من غير متولّ ، والإرث الذي لم تقع يد من هو أولى منه عليه وصاحب الأمر «جعلت فداءه» وارث فمن أراد نفيه فعليه البيّنة (٤).

وأمّا ما كان تحت يد أمانة مالكيّة أو شرعيّة أو تحت يد متسلّط ، كما إذا حصل في يد الحاكم أو الملتقط ، أو من بيده الزكاة أو الخمس ، أو مجهول المالك ، أو شي‌ء من المظالم ، أو من استقلّت يده على شي‌ء من أرضٍ أو غيرها ، ولو بطريق الغصب

__________________

(١) في «ح» : العلم بالوقوع وارتفاعه.

(٢) في «ح» : بل هو الأقوى ، وقد مرّ الكلام فيه.

(٣) ما بين القوسين في «ح» زيادة : بصورة الدعوى أو الخبر.

(٤) ما بين القوسين في «ح» زيادة : مع الوصول الى المجتهد وبدونه إشكال.

٢٠٤

؛ فلا يجوز رفعه أو منعه عن الإيصال إلى أهله إلا بحجّة شرعيّة ، إلا ما قام الدليل عليه ، كتصديق مدّعي الفقر في الزكاة أو غيرها على الأقوى ، وقبول الأوصاف في اللقطة.

ويقوى عدم تسليط المدّعى بمجرّد الدعوى في القصاص ، وجميع ما يتعلّق بالدماء وإن سكت المدّعى عليه. وتسليطه في أمر النكاح إذا ادّعى زوجيّة مجنونة أو ملكيّة جارية صغيرة فيباح له التصرّف بها بما يسوغ له منها.

وأمّا تمشية أصل الصحّة في الموجبات والمحرّمات ، كالنذر والعهد واليمين على فعل شي‌ء أو تركه ، ثمّ حصول الشكّ في صحّته (١) فلا يخلو من إشكال. ولعلّ القول بالصحّة ولا سيّما فيما يتعلّق بالأُمور العامّة كالوقف العامّ أقوى.

البحث الثامن والثلاثون

إنّه لا مانع من التصرّف فيما يتعلّق بالمنافع الدنيويّة أو الأُخرويّة ؛ من طهارةٍ ، أو لباسٍ ، أو مكانٍ ، في صلاة أو غيرها ، ممّا أُخذ من ذي اليد بعقد لازم أو جائز ، من هبة أو عارية.

أو فيما أذن بالتصرّف فيه ، مع عدم المعرفة بأنّ له سلطان الملك أو الولاية أو الوكالة أو كونه غاصباً. ولا يجب على المتصرّف السؤال والفحص عن الحال ، وهذا من الضروريّات.

ومع العلم بعدم ملكيّته ، والدوران بين وكالته وولايته وغصبيّته يجوز الأخذ بقوله ، والبناء على صحّة عمله ، من دون حاجة إلى السؤال عن حقيقة أمره ، والاطلاع على أنّه تصرّف عن ولايته أو وكالته أو غصبه مع عدم حصول المنازع والمعارض والمدافع ؛ مع ادّعاء التسلّط بأحد وجوهه ، أو السكوت عنه.

ومع خلوّ التصرّف عن اليد وحصول الادّعاء للتسلّط (٢) الشرعيّ ، مجملاً أو مفصّلاً ،

__________________

(١) في «ح» زيادة : في الواجبات والمحرّمات

(٢) في «ح» للمتسلّط.

٢٠٥

يُبنى على جواز تصرّفه ، وتصرّف المتصرّف بالوكالة عنه ، لأنّ دعوى المسلم مع عدم المعارض تُبنى على الصحّة.

ومع الخلوّ عن اليد والادّعاء يقوى الحكم بجواز تصرّفه ، دون تصرّف المتصرّف عنه. هذا إذا لم يكن في البين منازع ، ولا معارض ، ولا مدافع ، فإذا حصلت المعارضة والمدافعة ، فلا محيص إذن عن الرجوع إلى المرافعة ، فيقدّم قول ذي اليد ، ومن تناول منه بيمينه ؛ مع عدم ما ينفي الملكيّة ، من إقرارٍ أو بيّنة شرعيّة.

ومع انتفاء الملكيّة الأصليّة ، وادّعاء ملكيّة (١) مستندة إلى سبب جديد ، أو منفعة أو إباحة لعينٍ أو منفعة أو ادّعاء ولاية أو وكالة منفيّتين من (٢) الأصل ؛ فلا يقبل قوله ولا قول المتصرّف عن قوله إلا بالبيّنة الشرعيّة ، وليس له على خصمه سوى اليمين.

ولو كانت الولاية ثابتة ، وحصل الاختلاف في الشرط كمراعاة الغبطة مثلاً قدّم قول الوليّ والوكيل والمتصرّف عنهما.

ولو اختلفا في توقيت الوكالة وعدمه ، أو قصر الوقت وطوله ، وادّعى المالك ، الأوّلين ، فالظاهر تقديم قول المالك.

ولو علم انقطاع الولاية ، لعقل المجنون ، وبلوغ اليتيم ، وحضور الغائب ، وانعزال الوكيل ، ووقع البحث في أنّ وقوع الواقع قبل حصول المانع ، أو بعده ؛ فالأقوى تقديم قول غير المالك ، لاعتضاد التصرّف المبنيّ على الصحّة من المسلم بالاستصحاب.

وفي المنتقل إليه (بالملك) (٣) يتقوّى الحكم ، ولا سيّما مع وضع اليد ، وفوقه إصابة التصرّف. ومع حصول الشكّ من الجانبين يزداد ذلك قوّة.

ولا فرق بين جهل التاريخ فيهما ، وجهله في وقت حصول المانع عن تسلّط الأولياء والوكلاء ، وفي خصوص وقت التصرّف ، (على إشكال في الأخير) (٤).

__________________

(١) في «م» : ملكيّته ، وفي «ح» : ملكيّة غيره. والأنسب من كلّ ذلك ملكيّة عين.

(٢) في «ح» : منفيّين عن.

(٣) ما بين القوسين ليس في «س» ، «م».

(٤) في «س» : على الإشكال في الأخير ، وفي «م» : على الإشكال وفي الأخير.

٢٠٦

البحث التاسع والثلاثون

في أنّ الأصل أن لا يكون لأحدٍ بعد الله تعالى سلطان على أحد ؛ لتساويهم في العبوديّة. وليس لأحدٍ من العبيد تسلّط على أمثاله ، بل ليس لغير المالك مطلقاً سلطان على مملوك من دون إذن مالكه.

فمن أعاره السلطنة في نبوّةٍ أو إمامةٍ أو علم ، أو علقة نسب أو مصاهرة ، أو توسّط عقد أو إيقاع أو حيازة أو إرث أو نحوها ، كان له ذلك ، وإلا فلا.

وكذا في الأفعال ووضع التكاليف ، فلو فوّض الأمر في شي‌ء من التكاليف إلى أحدٍ ففعل دخل (١) ، كما فوّض في مقام التخيير إلى المكلّف زيادة ما زاد على الثنتين في مواضع التخيير في الفرائض اليوميّة ، وكيفيّة ما يقال فيها ، وكذا أذكار الركوع والسجود ونحوها ، والصلاة على النبيّ وإله. فلو نوى القربة بالخصوصيّة كانت في محلّها.

وكذلك في تفويض الأفعال ، كالإطالة والقصر بالنسبة إلى أفعال الصلاة ، فإنّه لا بأس بقصد الخصوصيّة ؛ لأنّها تثبت بالوضع والقصد ، ومثل أجزاء القنوت ، حيث فوّض أمرها إلى المكلّف.

ونحوهما ما دخل في التشهّد الأوّل والأخير من الدعاء والذكر ، فإنّ كلّما ذُكر فيه يكون مستحبّاً فيه بمقتضى التفويض ، وينوي به الخصوصيّة ؛ لدخوله فيه بالجعل ، فإن نواه ذكراً أو دعاءً مطلقاً أُعطي أجرهما مطلقاً ، وإن نواه مقيّداً بالصلاة فقد أَعطي أجر الكون فيها ، أو بها مع التشهّد أُعطي أجر ذلك.

وإن نوى الخصوصيّة الأصليّة لو فرض على بعده دون التفويضيّة أخطأ في قصده ، والأقوى صحّة فعله إن لم يدخل في التشريع.

ويجري ذلك في مثل الحمد لله ، والتسميع ، والتكبير ، ومسألة السجود ونحوهما ، مع عدم الإتيان بالموظّف وجميع ما يناجى به الله ؛ فإنّه من زينة الصلاة.

__________________

(١) كذا في النسخ.

٢٠٧

فقول المصلّي حين قيامه : «بحول الله وقوّته» ، وقوله في تشهّده الأخير : «وتقبّل شفاعته في أُمّته وارفع درجته» والإتيان ببعض التكبيرات والدعوات في غير محلّه ، قاصداً به خصوصيّة المحلّ ، غير متعمّد بحيث يلزمه التشريع لنسيان أو جهل بموضوع أو حكم ليس به بأس ؛ لتحقّق القربة.

فإن قيل : إنّ «تعالى» ليس من الذكر ، أو من قول الجنّ ، أو تنافي العربيّة ، أُجيب بالمنع.

البحث الأربعون

في أنّ الأصل حرمة مال المسلم وعصمته ، بل كلّ مال معصوم ، كمال الكافر المعتصم بشي‌ء من العواصم.

وكلّ من في يده شي‌ء من مال غيره يحكم بضمانه ، حتّى يعلم أنّه من الأمانات الغير المضمونة.

فلا تقبل دعوى الأمانة مثلاً في مقابلة دعوى صاحب المال شيئاً يستتبع الضمان ، بل تقدّم دعوى ربّ المال ، إلا أنّ خصوصيّة الجهة لو ادّعيت لا تثبت.

وكذا المنافع المستوفاة ؛ فلا تسمع دعوى التبرّع على الأقوى. نعم لو تنازعا في العقد قبل القبض قدّم نافي الضمان على الأقوى.

البحث الحادي والأربعون

إنّ السلطان على البدن والمال مشروط بعدم المانع ، من صغرٍ أو جنونٍ أو رهانةٍ أو سَفَهٍ أو فَلَسٍ ، فإذا لم يكن شي‌ء منها تصرف بماله كيف شاء.

وإذا أذن المتسلّط بملك أو ارتهان مثلاً في انتفاعٍ بعينٍ أو منفعة ، فإذا أراد العدول بعد الدخول من المتصرّف كان له ذلك ، ما لم يترتّب عليه ضرر عادي ، كأن يأذن بوضع الخشبة في جداره ، أو خياطة الثوب بخيوطه ، أو غرس الأشجار في أرضه ، ونحو ذلك ، فإذا ترتّب ذلك لم يبقَ له سلطان على النقض والقلع على أصحّ القولين ، وله

٢٠٨

أخذ الأُجرة والعوض في وجه قويّ.

وكذا إذا ترتّب ضرر شرعي بارتكاب محرّم ، كأن يأذن في دفن الميّت ثمّ يريد إخراجه ، فإنّه لا سلطان له هنا على نبش ، ولا أخذ أُجرة ، ويتحقّق ذلك بعد طمّ التراب ، وفي البعض منه إشكال ، أو قطع ما يجب وصله ، كالعبد المأذون في الإحرام والاعتكاف بعد الدخول في الثالث ، والمأذون بصلاة الفريضة مثلاً في المكان أو بالثياب ، وكذا النافلة على الأقوى.

ومثلهما الإذن في المقدّمات ، كالإذن باستعمال الماء في الوضوء ، أو الغسل ، والتراب في التيمم مع الانحصار ، والإذن بإيقاعها في المكان ، فإنّ العدول عن الإذن بعد الدخول يستلزم الضرر المنفيّ شرعاً ، والاذن قد استوفى العوض من الله بالنسبة إلى ما عمل ، فيكون كالصدقة المستوفى أجرها.

ومع قطع العمل حيث يفسد الجزء الذي فعل ، فيكون العوض بلا معوّض ، ومع عدم الانحصار وعدم الفساد بالفصل ، يكون السلطان باقياً على حاله ، فله العدول.

البحث الثاني والأربعون

في أنّ الأصل أن لا يلي أحد على مال أحد ، ولا على منافع بدنه ؛ لأنّ حالهم واحد في صفة العبوديّة ، وليس لأحدهم على غيره مزيّة ؛ فوجوب النفقات ، وجواز المارّة ، وأكل التسعة (١) ، وتسلّط الأولياء على المولّى عليهم ، ونحوها ، على خلاف القاعدة.

ومن تثبت له ولاية فلا بدّ فيها من الاقتصار على المورد المتيقّن ، والشروط المقرّرة.

والمتيقّن من ولاية الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام والأوصياء والمحتسبين ، ما (٢) كانت منوطة بالمصلحة ، كالوكلاء.

ولو جعلنا الوصاية والاحتساب وكالة تساويا في الحكم. والظاهر من إطلاقهما التقييد بالمصلحة ، مع أنّه يعلم ذلك أيضاً من تتبّع الروايات وكلمات الأصحاب. وفي

__________________

(١) المشار إليها في الآية الكريمة ٦١ من سورة النور.

(٢) في «ح» : وما كانت

٢٠٩

قوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١). أبين شاهد على ذلك.

ولولاية الإجبار كولاية الأب والجدّ ما ليس لغيرها ، فلا يعتبر فيها سوى عدم الفساد ، وإن كان مقتضى الأصل مساواتها ؛ لأنّ من نظر في أخبار النكاح وجدها شاهدة على ذلك.

وكذا أخبار الأموال ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت ومالك لأبيك» (٢). وقضيّة الحجّ ، وتقويم الجارية ، ونحوها.

ولو لا اقتضاء الأدلّة في المقامين لأرجعناهما إلى حكم القسم الثالث ، وهو ما كانت ولايته مشروطة بخوف الفساد ، كالمتولّي على مال الغائب والمحجور عليه.

البحث الثالث والأربعون

في أنّ العمل العائد نفعه إلى الغير ، أو المال من نقد أو جنس يقع على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يأتي العامل بالعمل ، أو يعطي صاحب المال ماله من غير طلب ، وحينئذٍ لا أُجرة بعد استيفاء العمل ، ولا عوض بعد إتلاف المال ، ويبنى على التبرّع والهبة بلا عوض ، ومع بقاء العين يجري فيه حال الهبات في التفصيل في حكمها بين المقصود بها القربة وغيرها ، وهبة ذي الرحم وغيرها.

ثانيها : أن يأمر بالعمل لنفسه (٣) أو بإعطاء مقدار من المال غير مصرّح بالهبة والتبرّع ، بل يطلق. والحكم هنا البناء على عدم الهبة والتبرّع ، والبناء على مشغوليّة ذمّته بالأُجرة والعوض ، والظاهر أنّ مجرّد الإذن كالأمر ، إلا أن يقضي العرف بالهبة والتبرّع.

ثالثها : أن يأمره بالعمل لغيره ، أو بإعطاء شي‌ء من المال كذلك ، والحكم هنا بالبناء على شغل ذمّة الأمر بالأُجرة والعوض ، ولا رجوع للعامل والأمر على المنتفع بشي‌ء

__________________

(١) الأنعام : ١٥٢.

(٢) الكافي ٥ : ١٣٦ ح ٣ ، الفقيه ٣ : ١٠٩ ح ٤٥٦ ، علل الشرائع ٢ : ٥٢٤ ، الوسائل ١٢ : ١٩٤ أبواب ما يكتسب به ب ٧٨ ح ١ ، ٢ ، ٨ ، ٩ ، كنز العمّال ١٦ : ٥٧٩ ، و ٤٤٩٣٢.

(٣) في «ح» : بنفسه.

٢١٠

؛ لأنّ الأمر متبرّع بالنسبة إليه كالعامل. ولا فرق في ذلك بين أمر الخالق وأمر غيره.

ومقتضى ذلك أن لا يرجع الوصيّ ، ولا المحتسب مع الوجوب عليه ، ولا الأمين الشرعيّ ، ولا الباذل لحفظ النفس المحترمة ونحوهم على من عملوا له بشي‌ء إلا مع ما يدلّ على أنّه في مقابلة عوض.

وأمر الوليّ بأمره يعود إلى المولّى عليه ، فيقوم مقام أمره لنفسه لو كان قابلاً لذلك.

البحث الرابع والأربعون

الأدلّة إمّا أن تكون مثبتة لذاتها من غير جعل ، كالطرق المفيدة للعلم بالحكم من عقلٍ ، أو نقل متواترٍ أو إجماع معنويّين ، أو خبرٍ محفوف بالقرينة ، أو سيرة ، أو قرائن أُخر قاطعة على الحكم والإرادة.

وإمّا أن تكون جعليّة بحكم الشارع ، لا بمقتضى الذات ، كما علم بالأدلّة ، مع دخول الظنّ فيها في صدور أو دلالة أو فيهما ، كالكتاب ، والإجماع ، والمتواتر ، والمحفوف بالقرينة اللفظيّة ، وخبر الواحد الصحيح في نفسه ، أو بالانجبار ، والأُصول والقواعد الشرعيّة المدلول عليها بالأدلّة مطلقة.

وهذا القسم وما قبله ممّا يرجع إليه في الاختيار والاضطرار. وهذا بخصوصه مختصّ بالمجتهد.

وإمّا أن يكون ممّا انسدّت فيه الطرق في معرفة الواجب ، مع العلم باشتغال الذمّة ، وانسداد طريق الاحتياط.

وهذا يجري في المجتهد إذا فقدت الأدلّة لحصوله في غير بلاد المسلمين ، مع فقد المرجع ، وفي غيره عند اضطراره ، لضرورة بقاء التكليف ، وانسداد طريق العلم والظنّ القائم مقامه ، فيرجع كلّ منهما إلى الروايات الضعيفة ، والشهرة وأقوال الموتى والظنون المكتسبة ، سوى ما دخل تحت القياس المردود ، على أنّ القول به في مثل هذه الصورة غير بعيد.

وما كان من الاضطراري لا يدعى حجّة كما لا يسمّى الحرام كأكل الميتة مع

٢١١

الضرورة مباحاً ، ولا أكل الحلال بالنسبة إلى من يضرّه حراماً.

وبعد الوصول إلى هذه الدرجة ينظر فيها نظر الأدلّة في العمل بالراجح ، وتكون الشهرة أحدها ، فتقدّم البسيطة على المركّبة ، والمعلومة بتحصيل أو طريق قاطع على المظنونة ، وشهرة القدماء على شهرة المتأخّرين والأواسط ، والأخيرة على المتوسّطة (١) ، وليست حجّة في نفسها على المشهور ، والشهرة في عدم حجّيّة الشهرة لا تصلح مستنداً ، لكنّها مؤيّدة للمنع.

وإذا تأمّلت بحال العبد مع مولاه ، مع العلم بإرادته وظنّه المعهود إليه في العمل به ، وباقي الظنون إذا انسدّ الطريق اتّضح لك الحال.

وجبر الأخبار الضعيفة بها لا يقتضي حجيّتها ، فإنّ سائر الظنون تجبرها ، وإنّما انجبرت لتقوّي الظنّ بها ؛ لأنّ المدار على الظنون الاجتهاديّة في صدق الأخبار المرويّة ، فتكون الظنون في شأنها متساوية ، لا تختلف إلا بالقوّة والضعف.

البحث الخامس والأربعون

في أنّ الأدلّة المثبتة للأحكام مقتضى القاعدة فيها اشتراط أن تكون علميّة أوّلاً وبالذات ، أو راجعة إلى العلم بالأخرة.

أمّا ما لا رجوع فيها إلى العلم فلا اعتبار لها ؛ لأنّ العقل لا يجوّز العمل على ما يحتمل خلاف المراد ولو وهماً ، إلا أن يوجبه أو يجبره العقل من جهة الاحتياط في تحصيل المراد ، حيث يؤمن في الطرف الأخر من الفساد ، فينتهي إلى العلم.

أو يجعله الشرع مداراً في الحكم ، كما جعل الظنّ والشكّ والوهم مداراً في ثبوت النجاسة والحدث بخروج المشتبه من البول أو المنيّ قبل الاستبراء.

وكذا احتمال التذكية في يد المسلمين أو سوقهم ، والتملّك في أيديهم والصحّة في معاملاتهم ودعاويهم ، ونحو ذلك.

__________________

(١) المراد بالأخيرة هي شهرة الأواسط ، والمتوسطة هي شهرة المتأخّرين ، يعني الأخيرة والمتوسطة بحسب الترتيب الذكري المار.

٢١٢

فالعمل إمّا بما يكون فيه القطع من كلّ وجه. أو بما يكون فيه القطع من بعض الوجوه ، كالقطعي صدوراً الظنّي دلالةً ، كالكتاب والمتواتر والإجماع اللفظيين فقط ، أو الظنّي صدوراً القطعي دلالة.

وما لا يدخل فيه القطع ، كالظنّي صدوراً ودلالة ، وهذا القسم وما قبله من القسمين إذا انتهى إلى الدليل القاطع كان العمل على العلم دون الظنّ.

ثمّ ما قام عليه القاطع غير مقيّد بالاضطرار ، فهو حجّة على الإطلاق ، كالأقسام الثلاثة الأُول.

والصحيح من أخبار الآحاد المعتمد على صدوره من الحجّة الاعتماد (١) على راويه ، والكتاب الذي هو فيه ، أو ترجيحات خارجة تقوّيه : من شهرة رواية ، أو فتوى ، أو موافقة كتاب ، أو قاعدة إلى غير ذلك ؛ بتلك المنزلة.

وقد قضى الإجماع القاطع والأخبار المتواترة اللفظ والمعنى بحجيّة الأقسام الثلاثة الأُول ؛ على أنّ القسم الأوّل منها غنيّ عن الدليل.

وأمّا الخبر الصحيح فقد استفيدت حجيّته من الكتاب والإجماع محصّلاً ومنقولاً ، مع الحفّ بقرينة القطع ، والسيرة القاطعة ، والأخبار المتواترة معنىً ؛ فلا دور.

وما عدا القسم الأوّل إذ هو الحاكم على ما عداه يجري فيه التعارض ، ويحكّم القطعي صدوراً على القطعي متناً ، وبالعكس مع الترجيح.

وظنّي الجهتين ، مع استكمال شرائط الحجيّة قد يحكّم على قطعي الدلالة ظني الصدور ، مع رجحان ظنّ صدوره ، وعلى قطعيّ الصدور ظنيّ الدلالة ، حيث يكون عمومه كثير الأفراد يقوم مقام القاعدة. وفي غيره إن حصلت لظنّي الطرفين قوّة من داخل أو خارج زائدة على نفس الحجيّة غلب عليه ، وإلا فلا.

وأمّا الحجّة الاضطراريّة ، كالأخبار الضعيفة مع العلم بالتكليف وعدم التمكّن من الوصول إلى الدليل ممّا عداها فليست أهلاً للمعارضة ، لأنّ حجيّتها مشروطة (بعدم

__________________

(١) وفي «ح» : لا اعتماد.

٢١٣

الدليل ، كما أنّ التمسّك بأصل البراءة والاستصحاب والرواية الضعيفة في باب السنن والاداب مشروطة) (١) بعدم ما يعارضها من الدليل.

والشرط في العمل بالخبر في باب الفرائض والسنن أن يؤخذ من كتبنا ، لا من كتب من خالفنا ؛ فإنّ كتب أهل الخلاف أُمرنا بهجرها ، وعدم الرجوع إليها إلا لغرض صحيح ، بل يقوى القول بوجوب إتلافها حينئذٍ.

وأن يكون من كتبنا المتداولة ، كالكتب الأربعة ، وعيون الأخبار ، والأمالي ، والعلل ، ونحوها ؛ غير أنّ الرجوع إلى غير هذه الكتب فيما كان من الاداب والسنن لا بأس به.

وحجيّة خبر العدل الجامع للشرائط وهو الصحيح ، في اصطلاح المتأخّرين في الروايات وغيرها ، وفي الشرعيّات والعاديّات ، إلا ما تعلّق بالماليّات ، أو حقوق الخلق ، أو الأُمور العامّة كالهلال وموجب الآيات ، وما أُخذ فيه العلم لسهولة مأخذه كالقبلة والأوقات.

وحجيّة ما عداه من الصحيح في اصطلاح القدماء وهو الموثوق به ما عدا القسم الأوّل حجّة في خصوص الأخبار المتعلّقة بالأحكام.

وحجيّة الرواية الضعيفة في السنن والاداب مقصورة على ما خلا عن المعارض ، من عمومٍ يفيد التحريم ، ونحوه ، سواء كان مبتدأ كصلاة الأعرابي أو راجح الأصل مجهول رجحان الخصوصيّة.

وأمّا الاستناد إلى مطلق الظنّ ، بل الاحتمال القوي وإلى قول فقيه واحد فضلاً عن المتعددين من باب الاحتياط في تحصيل الراجح ، فمقصور على القسم الثاني ، ولا حاجة فيه إلى الرجوع إلى المجتهد.

البحث السادس والأربعون

ينبغي للفقيه إذا حاول الاستدلال على مطلب من المطالب الفقهيّة أن يتّخذ الأدلّة الظنّيّة من الأخبار وغيرها

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في «س» ، «م».

٢١٤

من الطرق الشرعيّة الظنيّة ذخيرة لوقت الاضطرار وفقد المندوحة ؛ لأنّه غالباً غنيّ عنها بالآيات القرآنيّة ، والأخبار المتواترة المعنويّة ، والسيرة القطعيّة المتلقّاة خلفاً بعد سلف من زمان الحضرة النبويّة والإماميّة إلى يومنا هذا.

وليس مذهبنا أقلّ وضوحاً من مذهب الحنفيّة ، والشافعيّة ، والحنبليّة ، والمالكيّة ، والزيديّة ، والناووسيّة ، والواقفيّة ، والفطحيّة وغيرهم ؛ فإنّ لكلّ طائفة طريقة مستمرّة يتوارثونها صاغراً بعد كابر ، بل أهل الملل ممّن عدا المسلمين على بُعد عهدهم عن أنبيائهم الماضين لهم طرائق وسِيَر يمشون فيها على الأثر ، ولا يصغون إلى إنكار من أنكر.

فما أدري وليتني علمت أنّه ما السبب وما الباعث في أنّ بعض أصحابنا رضوان الله عليهم لم يزالوا ساعين في إخماد ضوء الشريعة الغرّاء ، وإثبات الخفاء في مذهب أئمّة الهدى! حتّى فتحوا للأعداء أكبر (١) الأبواب ، ونسبوا أكابر فقهائنا إلى الخطأ ، وأبعدوهم عن الصواب ، وبعثوا على تجرّي الأطفال على فحول العلماء الذين لولاهم لم يعرف الحرام من الحلال ، وتلك مصيبة عامّة نسأل الله تعالى الوقاية منها.

البحث السابع والأربعون

في أنّه لا ريب أنّ في الواقع أحكاماً مختلفة منقسمة إلى الأحكام الخمسة أو الستّة ، عقليّة أو عاديّة أو عرفيّة أو شرعيّة.

وهذه هي التي أخبر عنها مُبدع الأشياء في الكتب المنزلة من السماء ، وكذا الأنبياء والأوصياء ، وبَذَلَ الجهد في معرفتها العلماء والفضلاء ، فصرفوا الأعمار في تتبّع السير والآثار ، وأجالوا الفكر في الأخبار المرويّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المختار ، وأهل بيته الأئمّة الأطهار. فمن وقف عليها أصاب ، ومن زاغ عنها زاغ عن الصواب (٢).

وهي قد تتعلّق بعنوان لا يتغيّر ، كالمكلّفين من مطلق البشر ، وكالأُنثى والذكر ،

__________________

(١) في «ح» : أكثر.

(٢) في «س» : الثواب.

٢١٥

وقد تتعلّق بما يتبدّل ويتغيّر ، كعنوان الحضر والسفر ، وناوي الإقامة وكثير السفر والعاصي به ، إلى غير ذلك ممّا يعلم منه دوران الحكم مدار ذلك العنوان. فلا بحث في أنّ الحكم في أمثال ذلك واقعيّ ، لا ظاهريّ ، كما يظهر من تتبّع الأدلّة.

وأمّا عنوان الإدراك ، علماً أو ظنّاً أو شكّاً أو وهماً ؛ فإنّما هو مرأة ينكشف بها الحكم ولا يختلف باختلافها ، وتعلّقه بالحكم الشرعيّ كتعلّقه بالعرفيّ والعاديّ ، وتعلّقه بموضوعات الأحكام.

فصفة العلم ، والجهل ، والنسيان ، والذكر ، والظنّ ، والشكّ ، والوهم لا تؤثّر في حكم المعلوم ، والمجهول ، والمنسيّ ، والمذكور ، والمظنون ، والمشكوك ، والموهوم شيئاً ، كما في الموضوعات وغير الشرعيّ من الأحكام ؛ إلا إذا قضى الدليل بتبدّل الحكم بعروضها ، فتكون كسائر العناوين ، كما في الجاهل بالقصر والإتمام ، والجهر والإخفات ، والجاهل بكيفيّات العقود والإيقاعات والأحكام من الكفّار وشبههم من طوائف الإسلام ، والناسي لغير الأركان في الصلاة ، والشاكّ بعد تجاوز المحلّ ، وكثير الشكّ ، وهكذا.

وأمّا ما لم يرد فيه نصّ بالخصوص فيبقى على القاعدة من أصل عدم الصحّة ، وعلى ظاهر العمومات المقتضية للأحكام الواقعيّة في العبادات ، وشطورها ، وشروطها ، ومنافياتها ، والمعاملات كذلك ، فتكون بحكم الأعذار المانعة عن استحقاق العقاب ، ودخول النار.

والأمر المتوجّه إليها ، والنهي المتوجّه إلى تركها إنّما هو للقيام بالعبوديّة ، والدخول تحت اسم الطاعة ، ورفع التجرّي.

والإجزاء المستفاد من الأمر الظاهري يتحقّق بحصولها ، ولا شكّ في ذلك بالنسبة إلى الناسي والجاهل بالموضوع غالباً ، والمقلّد مشافهة لمن زعم اجتهاده اشتباهاً فبان جاهلاً أو كافراً أو مخالفاً أو فاسقاً ، أو بالواسطة فبان كذلك ، أو بواسطة كتاب المجتهد فظهر كتاب غيره ، أو بان للمجتهد بطريق القطع بطلان رأيه وعدم قابليّة مأخذه من دون تقصير في الفحص عنها ؛ فإنّه لا شكّ في عدم مدخليّة هذه الصفات في انقلاب الحكم ، وإنّما هي صفات عذرٍ بها يُدفع العذاب ، وينال بها الأجر والثواب.

٢١٦

وأمّا المجتهد بالأحكام الشرعيّة فحاله كحال المجتهد في الأحكام العاديّة والعرفيّة ، وكحال العبيد إذا اجتهدوا في معرفة حكم ساداتهم ، وكلّ من تحت أمر مفترضي الطاعة إذا اجتهد في موافقة أمرهم وطاعتهم ، وهو من قسم الإدراك الذي هو طريق إلى الواقع ، لا من قبيل الصفات والموضوعات التي هي متعلّق حكم الشارع.

ومن نظر في الأخبار ، وجال حول تلك الديار ، واطّلع على تخطئة الأئمّة لفحول الأصحاب ، وتخطئة بعضهم لبعض من غير شكّ وارتياب ، وفيما اشتهر على لسان الفريقين من رواية «أنّ الفقيه إذا أخطأ كان له حسنة ، وإن أصاب فعشر» (١) ما يغني.

لكنّا نختار فيه حيث لا نعلم بطلان ما سبق بل نظنّ قسماً ثالثاً لا يدخل في قسم الواقعيّات وتبدّل الموضوعات لما ذكرنا من الأُصول والقواعد وظاهر العمومات في كتاب الله وفي الروايات ، مضافاً إلى أدلّة أُخر ، قد اتّضح حالها فيما مرّ. ولا من الأعذار المحضة التي يرتفع حكمها بارتفاع الاجتهاد.

وعليه يلزم على المجتهد ومقلّديه بعدوله عن الاجتهاد ، الحكم على ما مرّ بالفساد ولزوم الإعادة والقضاء فيما فيه قضاء وإن كان هو الموافق للأصل وغيره من الأدلّة كما مرّ ؛ لترتّب الحرج على ذلك ، وخلوّ الأخبار والمواعظ والخطب عن بيانه ، مع أنّ وقوع مثله من الأصحاب كثير لا يعدّ بحساب ، على أنّه لا رجحان للظّنّ على الظنّ السابق حين ثبوته.

وإن جعلنا الصحّة عبارة عن ترتّب الآثار ، كسقوط القضاء أو موافقة الأمر مطلقاً ولو ظاهريّاً ، كان عمل المجتهد ومقلّديه صحيحاً.

وإن اعتبرنا فيها موافقة الأمر الواقعيّ سمّيناه فاسداً.

وعلى كلّ حال فالقول بتصويب المجتهد على معنى أنّه ليس لله حكم واقعيّ ، بل حكمه ما أودع في قلوب المجتهدين منافٍ لضرورة المذهب بل والدين (٢) بل دين

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ٥٥٢ ح ١٧١٦ ، سنن الترمذي ٣ : ٦١٥ ح ١٣٢٦ بتفاوت ، سنن النسائي ٨ : ٢٢٤ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٧٦ ح ٢٣١٤ ، مسند أحمد ٤ : ٦٢ ، وج ٥ : ٣٧٥ ، كنز العمال ٥ : ٨٠٢ ح ١٤٤٢٨.

(٢) في «ح» : بل و.

٢١٧

الأنبياء السابقين.

ويلزم عليه أنّ كثيراً من أقوال المجتهدين مع البناء عليها يلزم معها مخالفة العقل وحصول الفساد على المسلمين ، ويلزم الجمع بين المتناقضات من الأحكام ؛ لاختلاف الاجتهاد ، كالحريّة ، والملكيّة والزوجيّة ، والأُبوّة ، والنبوّة ، والقرابة ، والوقف ، والعتق ، وخلافها ، ونحو ذلك ، لابتنائها على موضوعات متفرّعة (١) على اختلاف آراء المجتهدين ، حتّى ينتظم قياس من الشكل الأوّل بديهي الإنتاج. والتعلّل بوجوه ذكروها أوهن من بيت العنكبوت.

وأمّا القول بالتصويب على معنى أنّ الاجتهاد من الصفات وحكمه حكم الموضوعات فخطأ أيضاً ؛ لما ذكرناه سابقاً ، ولأنّه يلزمه مثل ما لزم المصوّب.

ولو عرض على أدنى العوام القول باجتماع الصفات المتضادّة باعتبار اختلاف الاجتهادات ، لعدّه من الخرافات. ففي القول بالإصابة بمعنييها خروج عن الإصابة.

كما أنّ القول بعدم الفرق بين الأُصول الدينيّة والفروع الشرعيّة في ترتّب المؤاخذة للمجتهدين على الخطأ في الأحكام الواقعيّة مردود بالسيرة القطعيّة ، وبعض ما مرّ من الأدلّة الشرعيّة ، وبمنافاة مذهب العدليّة ، والله أعلم. وهو قول غريب أشدّ غرابة من القول بالتصويب.

ويلزم على ذلك مساواة العلماء الأبرار للأشقياء الفجّار في استحقاق الدخول في النار ، وهذا ممّا لا يرضى به الجاهل ، فضلاً عن العالم العاقل.

البحث الثامن والأربعون

إنّ ما اشتملت عليه الكتب الأربعة للمحمّدِين الثلاثة أو غيرها من كتابين أو ثلاثة لا يعقل فيها التواتر لفظاً ، ولا معنى بالنسبة إلى الصدور عن المعصومين ؛ لقلّة الراوين ، وندرة المخبرين.

__________________

(١) في «ح» : متفرقة.

٢١٨

وما رووا تواتره في عصرهم عن أئمّتهم أو عن أصحابهم أو أصحاب أئمّتهم لا يقتضي تواتره عندنا.

إنّما التواتر فيما تكثّرت نقلته ، بحيث أمن كذبهم تعمّداً واشتباهاً في كتب متعدّدة ، أو على ألسن متعدّدة يحصل معها الأمن من ذلك ، مع حصول ذلك في تمام الطبقات كالكتب الأربعة ، ونظيرها من كتب القدماء.

فإنّ تواترها عنهم بالنسبة إلينا في الجملة لا في خصوص الكلمات وأبعاض الروايات ممّا لا شبهة فيه ولا شكّ يعتريه ، فلا قطع من جهة التواتر قطعاً بصدور آحاد تلك الأخبار عن الأئمّة الأطهار.

وأمّا من جهة القرائن فهي غير مفيدة للعلم ؛ لكثرة الكذّابة على نبيّنا وأئمّتنا ، كما روي عنهم (١) ، واختلاط أخبارهم المرويّة عنهم صدقها بكذبها.

فوجب على العلماء في عملهم (٢) تبيينها ، ليعرف غثّها من سمينها ، فتوجّه لتصحيحها خلفهم بعد سلفهم ، على وجه تركن النفس إلى العمل بها ؛ وإلا فالعلم عزيز لا يحصل إلا في أقلّ القليل منها.

وعلى تقدير حصول العلم لهم لا يلزم حصوله لنا ، لنفي العصمة عنهم ، وجواز وقوع الخطأ منهم في المسموع من الرواة السابقين ، أو من الأئمّة الهداة المهديين.

وبعد جواز التصرّف في المباني ، والاكتفاء بنقل المعاني يجوز عليهم الخطأ في مفهوماتهم ، فضلاً عن مسموعاتهم ، بالنسبة إلى جميع الطبقات المتقدّمة عليهم ، أو إلى أئمّتنا صلوات الله عليهم. ولو منعنا من النقل بالمعنى أغنى احتمال تجويزهم له.

ثمّ كيف يحصل لنا العلم بتقليدهم في معرفة أحوال الرجال ، ومعرفة المضمرات والموقوفات ، وتمييز المشتركات ، وسلامة السند من ترك بعض الطبقات ، ومن غلط الكتّاب ، وفي الاعتماد في ذلك على الكتاب ؛ فإنّ علمهم لا يؤثّر في علمنا ، وقطعهم

__________________

(١) انظر الكافي ١ : ٦٢ ح ١ ، ونهج البلاغة : ٣٢٥ الخطبة ٢١٠ ، والوسائل ١٨ : ٧٩ أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١٥ والبحار ٢ : ٢١٧ ح ١١ ، ١٢ ، ١٤ وكنز العمال ١٠ : ٢٢٢ ح ٢٩١٧١.

(٢) في «ح» : علمهم.

٢١٩

لا يؤثّر في قطعنا.

والمحمّدون الثلاثة رضوان الله عليهم كيف يُعوّل في تحصيل العلم عليهم وبعضهم يكذّب رواية بعض بتكذيب بعض الرواة في بعض الطبقات ، فلا نعلم أنّ القطع يحصل بقول القائل أو بقول من نسب الرواية إلى الباطل. ورواياتهم بعضها يضاد بعضاً ، كرواية أنّ دم الحيض من الأيمن والقرح من الأيسر ، ورواية العكس من الشيخ والكليني (١).

وما استندوا إليه ممّا ذكروا في أوائل الكتب الأربعة من أنّهم لا يروون إلا ما هو الحجّة بينهم وبين الله تعالى ، أو ما يكون من قسم المعلوم دون المظنون ، فبناؤه على ظاهره لا يقتضي حصوله بالنسبة إلينا ؛ إذ علمهم لا يؤثّر في علمنا.

مع أنّه يظهر من تضاعيف كلامهم في كتبهم خلاف ما ذكروه في أوائلها ، فهو مبنيّ إمّا على العدول ، أو التنزيل على إرادة الجنس ، أو إرادة العلم بالحكم الظاهري ، أو تسمية المظنون علماً.

ثمّ إنّ كتبهم قد اشتملت على أخبار يقطع بكذبها ، كأخبار التجسيم ، والتشبيه ، وقِدَم العالم ، وثبوت المكان والزمان ، فلا بدّ من تخصيص ما ذكر في المقدّمات ، أو تأويله على ضرب من المجازات ، أو الحمل على العدول عمّا فات ، أو المقصود العلم بالحكم الظاهري كما ذكرنا ، مضافاً إلى أنّ الاستمرار على النقد (٢) من الصلحاء الأبرار أبين شاهد على بقاء الغش على الاستمرار.

وأنّه لا يجب على الأئمّة عليهم‌السلام المبادرة إليهم بالإنكار ، ولا تمييز الخطأ من الصواب ؛ لمنع التقيّة المتفرّعة على يوم السقيفة ودحرجة الدباب.

ثمّ إنّ نقد النقدة وصرف الصيارفة رضوان الله عليهم لم يعلم أنّه كان لتحصيل العلم أو الظنّ ، أو مجرّد الاحتمال ؛ حتّى لا يخرجوا من كتبهم إلا ما علم كذبه.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٨٥ ح ١١٨٥ ذكر رواية الأيسر ، الكافي ٣ : ٩٤ ح ٣ ذكر رواية الأيمن ، وانظر الوسائل ٢ : ٥٦٠ أبواب الحيض ب ١٦ ح ١ ، ٢.

(٢) في «م» ، «س» : المتقدّم.

٢٢٠