كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ١

الشيخ جعفر كاشف الغطاء

كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر كاشف الغطاء


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-880-5
الصفحات: ٤٠٨

عن عهد الأئمّة عليهم‌السلام ، ولا سيّما بعد وضع الكتب المشتملة على جمع الأخبار المتعارضة المتدافعة.

فكلّ مأمورٍ عمل مع العلم بذلك من دون ذلك لم يكن مطيعاً للأمر ، ولا سيّما مع تنصيصه على أنّ كلامه فيه ذلك.

ولو جوّزنا العمل بالعامّ لم يبق للشريعة نظام ، ولاستغنينا بالكتاب ، بل ببعض عموماته أو بعض عمومات الأخبار ، بالنسبة إلى الأحكام في الحلال والحرام عن مراجعة السنّة ، ولكان وجود الأدلّة الخاصّة وجمعها والبحث عنها غير محتاج إليه.

ولأنّ المدار في جميع الأحكام على العلم ، ثمّ الظنّ الأقوى فالأقوى ، فيلزم تحصيل أقوى الظنون ، ومدار الحجيّة على ذلك ، والسيرة القاطعة والإجماع محصّلاً ومنقولاً (١) والأخبار المتواترة معنىً في ذلك (٢) أبين شاهد على ذلك.

ولأنّ حقيقة الاجتهاد لا تقوم إلا به.

والاستناد إلى عموم الحجّيّة في العمومات والمطلقات من الكتاب والسنّة بعد ارتفاع قوّة الظنّ باحتمال المخصّص والمقيّد ، كالاستناد إليه بعد العثور عليهما.

والفرق بين من كان في زمان المشافهة وأرباب الأُصول وغيرهم واضح. ولا يجب الاستقصاء في ذلك ، بل المدار على حصول المظنّة المعتبرة بعدمه ، واعتبار العلم معلوم العدم.

والظاهر اختلاف الحال باختلاف الأحوال ، فيطلب ممّن كان يتيسّر عليه النظر في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب ذلك ، ومن كان في مكانٍ خالٍ من العدّة ، أو كان لا يتيسّر عليه تحصيلها في محالّها اكتفى بمقدوره ، ويطلب مع ضيق الوقت أقلّ ممّا يطلب مع سعته.

ولو تعذّر عليه البحث عن المخصّص لفقد الآلات عمل بالعام ، ويتسرّى الحكم إلى

__________________

(١) انظر معالم الأُصول : ١٨٩.

(٢) انظر الكافي ١ : ٤٠ ح ١ ٥ ، والوسائل ١٨ : ٩ أبواب صفات القاضي ب ٤.

١٨١

قرائن المجازات المستفادة من ملاحظة الآيات والروايات.

البحث الخامس والعشرون

في المطلق وحصول الامتثال حيث يؤمر به يإيجاد فرد من الأفراد الشائعة ، منفرداً أو منضمّاً إلى مثله ، لتحقّق الطبيعة ، لا لذاتها فيما لا يظهر منه إرادة الوحدة ، كالمصادر في ضمن الأفعال أو بارزة عنها ، محلاة باللام أو خالية عنها ، وباقي المنكرات الخالية من تعلّق ما لا يناسب الماهيّات.

وأمّا ما يظهر منه ذلك وأنّ الامتثال فيه بالواحد كلّياً إمّا من جهة التعلّق أو من جهة التنوين ، كما إذا قال : اضرب رجلاً وأعط درهماً فلا تفهم منه الطبيعة.

وأمّا النادرة ، فإن ندرت ندرة وجود كبعض أقسام الماء والتراب والأرض ونحوها فالإتيان بها كالإتيان بالشائع.

وأمّا ندرة الإطلاق كالخنثى في الدخول تحت الرجل والمرأة ، ولحية المرأة في الدخول تحت إطلاق اللحية ، والبعوضة والقمّلة والبرغوث والديدان الصغار في الدخول تحت الحيوان الذي لا يؤكل لحمه ؛ فلا.

ثمّ المقيّد ، إن جمع مع المطلق شرائط التناقض مع إرجاعه إلى العموم ، حُكم عليه. ولا تشترط فيه قوّة كقوّة الخاصّ بالنسبة إلى العامّ ؛ لضعف دلالة المطلق بالنسبة إلى العام.

وأمّا الأحكام فهي متضادّة يقيّد بعضها بعضاً ، وأمّا المتماثلة فإنّما يكون التقييد (١) فيها في حكم الوجوب ؛ لقضاء العرف دون غيره (٢) إلا أن يستفاد من جهة تعليق على وصف ونحوه. (والاقتضاء لقضاء العرف دون العقل إن بني على إرادة الحقيقة دون الفرد) (٣) فالتقييد فيما عداه من الأحكام لا يعارض الإطلاق فيها إلا على نحو ما ذكرناه.

__________________

(١) في «ح» زيادة : منها في حكم الوجوب دون غيره.

(٢) في «ح» زيادة : دون العقل.

(٣) ما بين القوسين ليس في «س» ، «م».

١٨٢

البحث السادس والعشرون

الأصل الإطلاق وعدم التقييد ، ومع ثبوته الأصل الاقتصار على ما قلّ منه ، إلا لمرجّح آخر في عباداتٍ وعقودٍ وإيقاعاتٍ. فالنكاح والتحبيس يحملان على الدوام ، والمعاملة على النقد ، ويبنى في المدّة في المتعة والإجارة والأوقات المحدودة للفرائض والنوافل على القلّة.

وفي الحكم الرافع للحكم السابق كما في العدد ، والعدد في أيّام الإقامة ، وأيّام التردّد ، وأقلّ أيّام الحيض يبنى على الطول ؛ لأصالة البقاء على الحكم السابق وعدم تأثير الناقص (١).

وفي الحكم الناقض للحكم المستمرّ كأيّام الخيار وأكثر الحيض والنفاس يبنى على الأقلّ.

البحث السابع والعشرون

الأحكام المتماثلة من الأحكام إذا اختلفت أدلّتها عموماً وخصوصاً ، أو إطلاقاً وتقييداً ، واتّحد موضوعها (٢) لم يُحكّم الخاصّ والمقيّد على العام والمطلق ، إلا أن يفهم نفي ما عداهما بأحد المفاهيم ، إلا في إيجاب المقيّد ، فإنّه يقيّد إيجاب المطلق ويعارضه عرفاً ، بخلاف الندب فإن مقيّدة وخاصّه لا يُحكّم على مطلقه وعامّه.

وأمّا الأحكام المتخالفة فيُحكّم بعضها على بعض عقلاً في العامّ والخاصّ ، وعرفاً في المطلق والمقيّد ، وهذا في الخاصّ والمقيّد المتصلين واضح.

وأمّا في المنفصلين ، فإن تساويا في القوّة والضعف بالنسبة إلى الصدور والدلالة أو كان الخاصّ والمقيّد أقوى فيهما حكّما عليهما ، جهل تاريخهما أو تاريخ أحدهما أو علم ، مع سبق العامّ والمطلق ولحوقهما.

__________________

(١) قد تقرأ في «س» : الناقض.

(٢) في «ح» : اتّحد موجبها.

١٨٣

وإن اختلفا ، فقوي الصدور يَغلب قويّ الدلالة ، إلا أن يكون العامّ والمطلق متناهيين في ضعف الدلالة ، كما إذا وضعا وضع القاعدة ، أو قُوّي الخاصّ والمقيّد بمقوّ من داخل أو خارج.

فخاص خبر الواحد ومقيّده لا يُحكّم على عموم قطعيّ الصدور ظنّيّ الدلالة ، كالكتاب والمتواتر اللفظي والإجماع المحصّل اللفظي ، إلا لقوّة في دلالة القسم الأوّل أو ضعف في القسم الثاني.

فلا يدخل تخصيص ولا تقييد في قطعيّ الإرادة لعقلٍ أو سمعٍ من إجماع محصّل أو متواتر أو محفوف بالقرينة (مع المعنوي المتعلّق بالآحاد) (١).

ويجري في قطعيّ الصدور فقط دون الدلالة من كتابٍ أو خبرٍ متواترٍ أو محفوفٍ أو إجماعٍ لفظيّ ، وفي قطعيّ الدلالة دون الإرادة.

البحث الثامن والعشرون

في أنّ ما أُريد به الإفادة والاستفادة [على مطلق الفهم] من خطاب واقع على نحو المشافهة أو النقل ، أو واقع على نحو التحرير والكتابة ، صادر عن الحضرة القدسيّة أو السنّة النبويّة أو الإماميّة حاله كحال ما جرى في الطريقة اللغويّة والعرفيّة ؛ يُبنى على ما يفهم على وجه العلميّة أو الظنيّة ، كما جرت عليه السيرة مدى الزمان ، من مبدأ الخلق إلى هذا الان من بناء الخطابات شرعيّات وغير شرعيّات ، من الوصايا والسجلات وسائر الكلمات على مطلق الفهم.

ولا فرق في الظنون بين ما يحصل من قرينة داخليّة أو خارجيّة ، كالترجيحات بين المتجانسات من أقسام الحقائق والمجازات أو المختلفات ، كما بين الحقيقة والمجاز ، أو بينه وبين التخصيص ، أو بين أحدهما وبين الإضمار ، وهكذا ، وتفسير ألفاظ الكتاب والروايات ولو من بعض المفسّرين ، أو الإخبار ولو من غير المعتبرين ، وفهم الرواة (٢) لما رووا.

__________________

(١) في «ح» : معنوية مع المتعلّق بالآحاد.

(٢) في «ح» ، «م» : وفهم الروايات.

١٨٤

وربما بنيت على ذلك حجّيّة المضمرات والمرسلات والمقطوعات والموقوفات ، وإن كان علوّ المرتبة في الثلاث الأُول مقويّاً بعكس الأخير ، وتمييز المشتركات في الرجال.

وأمّا وضع الألفاظ فمن قبيل الأحكام ، فينبغي أن يجري فيه ما جرى فيها على التفصيل المذكور في محلّه ، لكن قضت السيرة والإجماع بالاكتفاء بنقل واحد من المعتمدين من المؤالفين أو من المخالفين.

ولا فرق في استناد الفهم إلى منطوقٍ مدلولٍ عليه أوّلاً وبالذات ، أو مفهومٍ مدلولٍ عليه ثانياً وبالعرض.

والمفاهيم كثيرة كما يظهر من أحوال المخاطبات في جميع اللغات ، والعمل فيها غالباً على الثمانية المتقدّمة.

الأوّل : مفهوم الشرط بأيّ صيغة أتى به ممّا يدخل في المفهوم. والمفهوم ارتفاع المشروط بارتفاعه ، فإن خلا عن التقييد دلّ على ارتفاعه من أصله ، وإن دخل فيه التقييد بزمان أو مكان أو وضع أو صفة أو إيجاب أو ندب دلّ على ارتفاع القيد ، ما لم يكن خفيّ الدلالة ، كالفور والاستمرار في المضارع ، والدوام والتأكيد في الجملة الاسميّة ، ونحو ذلك ما لم يصرّح فيه بالذكر ، وإذا دخل قيد المجموعيّة أغنى ارتفاع واحد دون الجمعيّة ، إلا إذا فهم منها إرادتها.

الثاني : مفهوم البداية ، فإذا أتى بصيغة تفيدها مفهوماً دلّت بالمفهوم على خروج ما قبلها ، والظاهر دخولها في نفسها ، من غير فرق بين المجانس وغيره ، والمتصل وغيره ، والمتميّز وغيره ، وإن وجب إدخال الحدّ من باب المقدّمة.

الثالث : مفهوم الغاية ، فإذا أتى بصيغة تفيدها على نحو المفهوم دلّت على خروج ما بعد الغاية ، والأقوى دلالتها على خروج الغاية ، مع التجانس وعدمه ، والانفصال وعدمه ، ومحسوسيّة المفصل وعدمها.

الرابع : مفهوم الحصر ، في مثل «إنّما جاء زيد» دون «ما جاء إلا زيد» فإنّه من المنطوق ، فمتى أتى بصيغة تفيده مفهوماً دلّت على الانحصار في المذكور ، وعدم تعلّق

١٨٥

الحكم بما عداه.

الخامس : مفهوم الأولويّة ، وجعله من المنطوق بعيد. فمتى علّق حكماً على شي‌ء وظهرت أولويّة غيره ظهوراً تامّاً فهم من اللّفظ وما لم يظهر فيه يحكم له بالحكم مع حصول القطع ، بل مطلق الظنّ القويّ على الأقوى ، وليس من المفهوم ، كالمستفاد من تنقيح المناط.

السادس : مفهوم العلّة ممّا يُدعى مفهوماً كالمستفاد من الأدوات أو ما يظهر من بعض الصفات.

السابع : مفهوم التلازم ممّا يدخل في المفهوم ، كقوله : إن أفطرت قصّرت وإن قصّرت أفطرت.

الثامن : مفهوم الاقتضاء ، كإيجاب المقدّمة ، والنهي عن الضدّ العامّ.

وجميع ما مرّ من الأقسام إذا صرّح فيه بالمضاف إليه عاد منطوقاً.

التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر : مفهوم الصفة ، والعدد زيادة ونقصاً ، والزيادة والنقصان في أيّ محلّ كان.

وكشف الحال أنّها (حكمها الاختلاف باختلاف المواضع ، فمتى وقعت جواباً عن المطلق أفادت المفهوم نفي الحكم عند انتفاء الصفة ، ونفي زيادة العدد ، ونفي النقصان ، ونفي الزيادة ، و) (١) إن وقعت جواباً عن المقيّد لم تفد ذلك ، وإن أُطلقت وظهرت حكمة للتعيين سوى التخصيص فلا دلالة ، وإن لم تظهر أفادت.

وعلى كلّ حال فالمدار على حصول الفهم بحيث يعدّ فهماً في العرف والإجماع والسيرة واحتجاجات السلف قاضية بحجيّتها مع القيد المذكور.

الثالث عشر : مفهوم اللقب ، وهو ضعيف وإلا دلّ الأخبار بالنبوّة أو الإمامة أو الإنزال من الله عند واحد من الأنبياء أو الأئمّة أو كتب الله مثلاً على فساد العقيدة.

والفرق بين تخصيصه وتخصيص ما تقدّم أنّ الظاهر من الحكمة فيما تقدّم هو

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في «س» ، «م».

١٨٦

التخصيص حتّى يعلم خلافه ، بخلافه.

الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرون : مفهوم ترتيب الذكر في القرآن أو مطلقاً على ترتيب الحكم ، ومفهوم ترك البيان في موضع البيان ، كالجمع بين الفاطميّتين ، ومفهوم التعريض ، كربّ راغب فيك ، أو إنّي راغب في امرأة جميلة تشابهك في الجمال ، ومفهوم الإعراض ، كما إذا عدّ قوماً فأعرض عن ذكر أعظمهم قدراً.

ومفهوم الجمع ، كفهم الندب أو الكراهة مثلاً عند تعارض الأدلّة (١) ، ومفهوم تغيّر الأُسلوب في الدلالة على تبدّل الحكم.

ومفهوم النكات البيانيّة والبديعيّة. ويتبعها التقييد ، والتلويح ، والإشارة ، والتلميح ، وتتبّع الموارد ، والسكوت ، والمكان ، والزمان ، والجهة ، والوضع ، والحال ، والتميز ، ونحوها. وربما رجعت إلى الأدلّة.

والمعيار في الجميع حصول الفهم المعتبر عند أرباب النظر ، وعليك بإجادة الفكر في هذا المقام ؛ فإنّه من مَزالّ الأقدام.

وتفصيل الحال : أنّ المعاني المستفادة قد تكون مفهومة مرادة مستعملاً فيها ، وقد تكون خالية من الفهم والاستعمال ، كالتأكيد من الزيادة وضمير الفصل ونحوهما.

وقد تكون مفهومة مرادة ولا استعمال (٢) ، ككثير من المفاهيم والإشارات والتلويحات ونحوها. وقد يفهم بلا استعمال ولا إرادة ، كالمعاني الحقيقيّة مع قرينة المجاز ، وقد يكون استعمال ولا إرادة كالكناية على الأقوى.

البحث التاسع والعشرون

قد عُلم بالبديهة أنّ المدار في طاعة العبيد لمواليهم وسائر المأمورين لآمريهم على العلم بمرادهم ، إمّا تصريحاً أو من تتبّع أقوالهم أو أفعالهم ، أو ما يقوم مقامه من مظنّةٍ

__________________

(١) في «م» ، «س» زيادة : ومفهوم تعارض الأدلّة.

(٢) في «س» : والاستعمال.

١٨٧

عهدوا إليهم في اتّباعها والعمل بها.

فلو تعلّق حكم بشي‌ء وعُلمت أولويّة آخر من داخل أو خارج أو ظُنّت من داخل ، فيكون من المفاهيم اللفظيّة ، أو عُلمت مساواته أو ظنّت من داخل كذلك كان مثبتاً لحكمه ، فالأولويّة بقسميها ، وتنقيح المناط ، ومنصوص العلّة لا ينبغي التأمّل في اعتبارها.

وكذا ما ينقدح في ذهن المجتهد من تتبّع الأدلّة بالانبعاث عن الذوق السليم والإدراك المستقيم ؛ بحيث يكون مفهوماً له من مجموع الأدلّة ؛ فإنّ ذلك من جملة المنصوص ؛ فإنّ للعقل على نحو الحس ذوقاً ، ولمساً ، وسمعاً ، وشمّاً ، ونُطقاً ، من حيث لا يصل إلى الحواس.

فاعتبار المناطيق ، والمفاهيم والتعريضات ، والتلويحات ، والرموز ، والإشارات ، والتنبيهات ، ونحوها مع عدم ضعف الظنّ من مقولة واحدة ، إذ ليس مدار الحجيّة إلا على التفاهم المعتبر عرفاً.

البحث الثلاثون

في أنّ ما صدر من الأقوال والأفعال الاختياريّة عن الطبيعة لا بدّ أن يكون عن داعٍ وغرضٍ معتدّ به ، فوقوع الكلام من المتكلّم من غير قصدٍ هذيان ونحوه ، بل لا بدّ أن يكون عن داعٍ لغرضٍ من الأغراض.

ثمّ قد لا يكون بقصد الخطاب وشبهه ، ممّا لا يتعلّق بالأحكام ، كالتلاوة والأذان والإقامة وسائر الأذكار والدعوات ، والتكرير للحفظ ، والتعليم للقران ، وإنشاد الشعر ، والتلذّذ بالغناء ، وذكر المعايب والهجو ، والمدح ونحو ذلك.

وقد يكون ممّا يتعلّق بالأحكام إمّا بطريق الجعل كالنذر والأيمان وأكثر الإيقاعات.

وقد يكون بطريق الخطاب مجازاً ، إمّا بطريق الوضع كالوصايا ونحوها من الوقفيّات والسجلات وغيرها ، أو بطريق التعليق ؛ بمعنى تعلّقه على وجود المخاطب مجازاً أو التنزيل ؛ بتنزيل المعدوم أو الموجود الغائب منزلة الموجود أو الحاضر تجوّزاً.

وقد يكون بطريق الخطاب التحقيقي ، كلّ ذلك مع ذكر ما هو حقيقة في المخاطب

١٨٨

من كاف الخطاب أو تائه أو يائه ، أو لا مع ذكره كالخطاب بالحديث ، والنقل عن الحوادث ، ونحو ذلك.

والشرط في جواز القسم الأخير بقسميه بحيث يخرج عن السفَهِ واللغو وجود المخاطب وحضوره في مجلس الخطاب ؛ ليعلم التوجّه إليه وسماعه وفهمه ولو بمترجم حين الخطاب ، ومع التأخّر يدخل في الوضع ، فإن خلا عن شي‌ء من ذلك كان سَفَهاً ، وظلمة من العقل ، ولا يدخل في المجاز.

ولا فرق في الحال بين خطاب المخلوق وخطاب ذي العزّة والجلال ، ولا بين الخالي عن الشروط منفرداً أو منضمّاً.

وتحقّق خطاب المشافهة للموجودين والحاضرين بالنسبة إلى خطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام لا شكّ فيه ، ولا شبهة تعتريه.

وأمّا فرضه بالنسبة إلى الخطابات القرآنيّة التي هي مورد البحث بين العلماء ففي غاية الإشكال ؛ لأنّا لا نشكّ في أنّه قد خلقت كلماته ، وكتب في اللوح المحفوظ قبل خلق الإنسان.

ولو فرضنا تأخّر خلقه إلى زمان بعثة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن للناس علم بصدور الخطاب وفقدت شرائطه بالنسبة إليهم ، وجبرئيل والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راويان.

ومن البعيد أن يقال : هما اللتان يخلق الله تعالى في لسانيهما الكلمات كما يخلقها في الشجر والمدر وغيرهما من الجمادات. فجعله من خطاب الله تعالى على ظاهره حقيقة غير ممكن.

نعم يمكن أن ينزّل على إرادة أنّه من باب الخطاب من (١) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصالة فيملي عليهم مخاطباً لا راوياً ، وفي ثبوته بحث.

والأقوى : أنّ خطاب المشافهة على وجه الرواية من الرسول يقتضي الاختصاص

__________________

(١) بدل «من» في «ح» : إلى.

١٨٩

بأهل الحضور ؛ لأنّه يستدعي (١) وجود المرسول إليه والمتلوّ عليه وحضورهما ، وهو المقصود بالمخاطب مشافهة. فظهر اختصاص الخطاب بمن جمع الشرائط.

وتسرية الحكم إلى المعدوم فيما لم يقم دليل على الخلاف بالإجماع تحصيلاً أو نقلاً ، أو بجعل الخطاب من قبيل الوضع ، أو بإلحاق ما في اللوح المحفوظ بالسجلات والحجج المدخرات ، أو من جهة السيرة المعروفة والطريقة المألوفة خَلَفاً بعد سَلَف ؛ من تسرية حكم السالفين إلى اللاحقين ، من غير احتياجٍ إلى برهان مبين. وفي احتجاج الأئمّة الطاهرين والعلماء الماضين بتلك الآيات بالنسبة إلى من غَبَرَ ومن هو آتٍ كفاية في إثبات المطلب.

وفيما تواتر معنىً من الروايات ، كقوله : «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» (٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» (٣).

فلا فرق حينئذٍ بين المشتمل على صيغة الخطاب كلفظ افعل ، أو صيغة النداء كـ (يا أَيُّهَا النّاسُ) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أو ضمير المخاطبين كـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) ، (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) والخالي عن الجميع كالإخبار وبيان الأحكام مع الخلوّ عن الجميع ، ثمّ إمّا أن يكون بلفظ الجمع أو المثنّى أو المفرد.

وينجرّ حكم خطاب الواحد إلى غيره من صنفه وحكم المختلف بالصنف إلى غيره ، ما لم تظهر الخصوصيّة على الأقوى ، وحكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الأُمّة ، وحكمهم إليه ، وحكم الأئمّة إلى غيرهم ، وحكم غيرهم إليهم ، وحكم الحاكم إلى الرعيّة ، وحكم الرعيّة إلى الحاكم ، وحكم الموجودين إلى المعدومين ، والغائبين إلى الحاضرين ، ما لم يتعلّق بالصفات ، فيعلم بالمفهوم أنّ لها خصوصيّات.

__________________

(١) في «ح» زيادة : اتّحاد.

(٢) الكافي ١ : ٥٨ ح ١٩ ، كنز الفوائد ١ : ٣٥٢ ، الوسائل ١٨ : ١٢٤ أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٤٧.

(٣) عوالي اللآلي ١ : ٤٥٦ ح ١٩٧ ، وج ٢ : ٩٨ ح ٢٧٠ ، سنن الترمذي ٤ : ١٥١ ب ٣٧ وفيه : إنّما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة.

١٩٠

البحث الحادي والثلاثون

في أنّ لزوم العمل بالقران في الجملة وفهم معانيه كذلك يكاد أن يلحق بالضروريات وبالمتواترات معنىً ؛ فإنّ من تتبّع الروايات وأمعن النظر في كلام الأئمّة الهُداة واطّلع على احتجاجهم على أهل الكتاب وغيرهم بآيات الكتاب واحتجاج الأصحاب بها خَلَفاً بعد سَلَف ؛ ألحق المسألة بالضروريّات.

مضافاً إلى سيرتهم المألوفة وطريقتهم المعروفة في العمل به ، مع أنّه المرجع في ترجيح الأخبار ، والميزان الذي عليه المدار باتّفاق جميع علماء الأعصار ، مع (١) خلوّ أكثره عن تفسير الأخبار.

ومن أنكر ما قلناه ، ولم يذهب إلى ما حرّرناه ، فقد خالف قوله عمله وعمل الأئمّة عليهم‌السلام ، والعلماء الماضين في مخاطبة الناس حال الوعظ والنصيحة بالآيات المتعلّقة بهما ، مع خلوّها عن تفسير الأحاديث.

ثمّ لو كانت مفسّرة لم (٢) يذكروا التفسير في موعظتهم ، فإن أرادوا منهم فهم المعاني المفسّرة وجب عليهم ذكر الروايات المفسّرة لهم ، وبيان حجيّتها ومعانيها ، ثمّ وعظهم بها. وإن أرادوا منهم فهم الظاهر فقد أوقعوهم في الجهالة.

وفي الاستخارات ، وانتخاب آيات الحفظ والشفاء ، ودفع الأعداء ، ونحوها قراءة وكتابةً (٣) في الحروز والهياكل والطلسمات ، وأنّهم إذا مرّوا بآيةِ رحمة سألوها ، أو غضب استعاذوا منه ، أو نداء عامّ قالوا : لبّيك ربّنا ، أو اسم شريف أو خبيث وفّوهما حقّهما ، ثمّ تنزيل مطلق ذلك على المفسّر (ظاهر البطلان) (٤).

ولقد أضاعوا فصاحة القرآن وبلاغته ، وإعجازه ؛ فلا يكون حجّة إلا على من

__________________

(١) في «س» : ومع.

(٢) في «م» : ولم.

(٣) كذا.

(٤) بدل ما بين القوسين في «س» ، «م» : رأي غير معتبر.

١٩١

أذعن بالحجيّة وأقرّ بالأئمّة عليهم‌السلام وعرف أخبارهم في التفسير.

ثمّ إنّه عبّر عنه في الآيات المعلوم تفسيرها بالفرقان ، والبيان والتبيان. وما ورد من بعض الأخبار ، التي بعثت هؤلاء على الجحود والإنكار ، منزّلة على الردّ على من أنكر المجملات والمتشابهات ، ونزّل على مذاقه معاني الآيات ؛ لأنّ الأمر من البديهيّات.

البحث الثاني والثلاثون

في أنّ الحجّة في رأي المعصوم.

فمتى اهتدينا إليه بطريق العقل أو بطريق قطعيّ آخر من ضرورة دين أو مذهب ، أو اتّفاق جماعة من العلماء بلغوا حدّ الشهرة أو لا ، أو سيرة ، أو عدم نقل ، أو عدم تواتر ، مع توفّر الدواعي عليهما ، وإمكان العلم به ووقوعه ، أو سكوت في مواعظ وخطب ، وأمر بمعروف ونهي عن منكر ، أو في كلام الفقهاء مع توفّر الدواعي على عدمه ، أو تواتر معنوي ، أو خبرٍ واحد محفوف بقرائن الصدق ، أو غير ذلك ممّا يفيد القطع بقول المعصوم لزم العمل به والمنكر لحجّيّة شي‌ء من ذلك خارج عن الدين ، أو المذهب.

فإنّ القطع بالشي‌ء يستدعي عدم تجويز الخلاف من القاطع حين القطع ، من غير فرقٍ بين ما حصل بالضرورة ، وهو مرتبة ثانية بعد (١) القطع بالنظر ، ومئونة القطع بالنظر أقلّ من مئونته.

فجميع الطرق القطعيّة ممّا مأخذه الفتوى ، وهو المسمّى بالإجماع المحصّل وغيره ، حصول العلم منها بالنظر أيسر من حصوله بالضرورة ، فلا ينبغي أن يُنكر.

فقد تحقّق إمكان وقوعه ، ووقوعه وإمكان العلم به ووقوعه. والمنكر المتمسّك بشبهات واهية لا اعتبار بقوله.

أو بطريق ظنّي شرعي في الدلالة أو المتن أو فيهما ، مثبت للقول ، أو للمثبت له ، كالضرورة المرويّة بخبر الواحد المعتبر لمن حصل في بلاد المسلمين جديداً ، أو كان

__________________

(١) في «س» ، «م» : بعدم.

١٩٢

مسجوناً ممنوعاً عن الاطلاع على الحقائق ، والسيرة والشياع ونحوهما ممّا يفيد العلم ، كما أنّ الشهادة تجري على النحوين.

وينقسم الخبر هنا انقسام الخبر المتضمّن للقول أو الفعل إلى متواترٍ لفظاً ومعنًى ، أو لفظاً فقط ، أو معنىً كذلك ، أو محفوف بقرائن القطع على نحو ذلك ، وإلى صحيح ، وضعيف ، وموثّق ، وحسن ، وقويّ ، ومرسل ، ومقطوع ، وغير ذلك. وإن كان إدراج بعضها مخالفاً للاصطلاح.

ويجري في حكم السنن والانجبار في الضعيف هنا كما يجري هناك ، ودليل الحجّيّة في الظنون المعتبرة جارٍ فيما نحن فيه. والاكتفاء بالضعيف منها في السنن كالاكتفاء بالرواية الصحيحة في غيرها.

وما أُورد من الشبهة في عدم الاعتماد على الإجماع المنقول كشبهة الاستحالة ، وعدم حصول المظنّة في ثبوت هذا الأمر ، والشكّ في دخول مثله فيما دلّ على حجيّة الخبر ، وأنّ هذا من قبيل الإخبار بالعقليّات ، كإخبار الحكماء والأطبّاء ، وأنّ القدماء ما استندوا إليه. وأنّ طرائقهم في الإجماع مختلفة ؛ فلا يعرف مقصد الناقل ، وأنّ الإجماع المنقول في كتب الفقهاء متعارض في كثير المحالّ ؛ حتّى من الشخص الواحد ، ونحو ذلك ، بيّن الدفع ؛ لأنّ الاستحالة وعدم حصول المظنّة منتفيتان بالبديهة والوجدان.

والشهادة والإخبار يجريان فيما استند إلى الآثار ، وإلا لما صحّ الإخبار عن وجود الفاعل المختار ، وبمجرّد العلم بالدخان لم يصحّ الإخبار عن النار ، ولم تصحّ شهادة تتعلّق بمكارم الأخلاق ومساويها ، ونحو ذلك.

وحيث كان بناء الشهادة والخبر على العلم من أيّ جهة كان دخل في العمومات من غير تأمّل. فجوازه كجواز الإخبار والشهادة عن أكل زيد وشربه وجنايته وجميع أفعاله إذا حصل العلم بصدور الفعل من قوم تقتضي العادة القاطعة بدخوله معهم تضمّناً مع جهل النسب ، أو التزاماً.

ولو كان انكشاف الاشتباه مقتضياً لعدم حجيّة الخبر بطل التعويل على الأخبار والشهادات ؛ فإنّ الشاهد كثيراً ما يعارضه في تلك الشهادة غيره ، وقد يتبيّن له خطأ

١٩٣

نفسه فيعدل عن شهادته إلى الشهادة بالخلاف ، وكذا المخبر بذلك النحو.

ونقل الناقل يُبنى على المتفق عليه ، كما في التزكية والجرح وسائر الإخبارات ، أو على الصحيح ، وإلا فغالب الشهادات والإخبار عن تمليكٍ ووقفٍ ونجاسةٍ وطهارةٍ وإباحةٍ وحرمةٍ وعقدٍ وإيقاعٍ ونحوها مبنيّة على مذاهب مختلفة.

(والقدماء رضوان الله عليهم إنّما توجّهوا لجمع الأخبار وحفظها ؛ لئلا يذهب أثرها ، ولم يتعرّضوا لما كان من القرائن وشبهها ، كسيرة وتقرير وتكرّر عمل وشياع وإجماع وضرورة ونحوها ؛ لا على وجه التحصيل ولا النقل ، لظهور الحجيّة فيها وعدم انضباطها ، كما لا يخفى) (١).

وحيث إنّ المدار في حجيّة الإجماع محصّلاً أو منقولاً على دخول المعصوم في ضمن الأقوال تضمّناً أو التزاماً لم يكن فرق بين ما قضت بثبوت الحكم الموافق لها ونفي المخالف ، وهو الإجماع البسيط ، وما قضت بنفي المخالف لها دون ثبوتها ؛ لاختلافها ، وهو المركّب.

ولا بين ما كان في حكم عقلي أو شرعي ، أصلي أو فرعي ، أو لغوي أو عرفي ، أو نحوي أو صرفي ، أو من باقي العلوم.

ويظهر من «نهج البلاغة» وتضاعيف الأخبار حجيّته (٢) ، ويجري مثلها في الشهرة.

والمدار على انحصار الأقوال الواقعيّة ، دون المرويّة ؛ لأنّها تتجدّد يوماً فيوماً ، إلا إذا علم من تتبّع الروايات الانتفاء الواقعي ، فليس عدم العثور على القول دليل العدم إلا من قرينة خارجيّة ، فليس حجّة في نفسه كالسكوت. ويجري في تحصيله ونقله ما يجري في البسيط.

وكلّ كاشف عن قول المعصوم حجّة في الأحكام الشرعيّة الأُصوليّة والفروعيّة والعاديّة واللغوية والنحويّة وغيرها.

وتفصيل الحال : أنّ حكم أرباب العقل والعرف والعادة قد يعلم من اجتماع الكلمة

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في «س» ، «م».

(٢) نهج البلاغة : ٢١١ الخطبة ١٥١ ، الكافي ١ : ٦٨ ح ١٠.

١٩٤

على وجهٍ يعلم ضرورة ، فلا يخفى على عاقل. وقد يكون معلوماً بالنظر فتختصّ به أرباب المعارف والكمالات ، وقد يعلم بطريق النقل متواتراً أو آحاداً بقسميها ، وحصول العلم النظري وهو أقلّ مئونة من الضروري ، وبه يتوصّل إليه أيسر من حصوله بالضروري.

وحكم الشرع بالنسبة إلى شرائع الأنبياء السابقين وبالنسبة إلى شرع المخالفين على نحو ما مرّ. وكذا حكم أرباب العلوم بأقسامها والصناعات.

وكلّ من إمكان الحصول والعلم وفعليّتهما من القطعيّات وإنكار الحجيّة له إنكار لصاحب الشريعة ، فهو باعث إمّا على الكفر الإسلامي أو الإيماني. وفي الآيات من وجوب اتّباع المؤمنين ، والمراد أنّه كاشف عن قول المعصوم.

وهذا طريق سلكه كلّ سالك في علم أو عمل ، فلأهل اللغة والعربيّة وغيرهم من أهل الفنون ، ولأهل الحِرَف والصنائع وغيرهم من المكتسبين ، واليهود والنصارى وغيرهم من المليّين ، ولأهل الخِلاف وغيرهم من فِرَق المسلمين ؛ اتّفاق في أمر ضروريّ أو نظريّ يتعرّفون به مذاهب رؤسائهم وكبارهم السالفين ، لاتّفاق أقوال علمائهم على رأي واحد.

والجعفريّة لا يقصرون عنهم ، فلهم أحكام توارثها صاغرهم عن كابرهم ، ووصلت بوسائط بلغت في الحكم حدّ الضرورة ، أو القطع بالنظر ، أو بالطريق الظنيّ المعتبر كظنّ الخبر.

ودعوى أنّ ذلك من قبيل الأخذ بطريق الحدس لا بالحسّ فلا يقبل ؛ مردودة بأنّ القطع طريق للشهادة والخبر كما مرّ ، من أيّ طريق صدر.

مضافاً إلى أنّه ليس من الحدس الصرف ، بل مأخذه من الآثار المسموعة أو المرسومة ، كما إذا نقل ناقل آراء قوم قد مارسهم ، وعلم طريقتهم ، واستخرج (١) أحوالهم ، ونقل بداهة حكمٍ بينهم ، أو قطعيّته أو اشتهاره ؛ فالمخبر بالعدالة والشجاعة والسخاوة وجميع

__________________

(١) في «س» ، «م» : استمزج.

١٩٥

مكارم الأخلاق إنّما يعلم بالآثار.

وفي «نهج البلاغة» وبعض الأخبار ممّا يدلّ على أنّ النادر لا عبرة به (١) ما يؤذن بذلك.

ولو لا الشهرة على عدم اعتبار الشهرة فيضعف (٢) لأجلها الاعتماد عليها (٣) ، فينقدح الظنّ الحاصل منها ، لقلنا بحجيّتها.

والقدح بالعدول من الناقل نفسه عن العمل بمقتضاه ، ونقل الإجماع على الخلاف منه ، والاختلاف بين النَّقَلَة ؛ وبأنّه لا تحصل المظنّة بصدق النقل لأنّ ذلك ممّا يستبعده العقل ؛ أو أنّ مستند الإجماع مختلف فيه ، ومذهب الناقل قد يغاير مذهب المنقول له ، مردود.

في الأوّل بأنّ ظهور الخلاف في بعض الأخبار للاشتباه ، واختلافها باختلاف زعم المخبرين لا يقتضي نفي حجيّة جميع الأخبار.

وفي الثاني يمنع الاستبعاد ، ونحن نرى أنّ أكثر الأحكام مستندها الإجماع ، بل لو لم نرجع إلى الإجماع لم تُغنِ الأخبار الواردة في مقامات خاصّة في إثبات الأحكام العامّة ، فيتعطّل أكثر الأحكام الشرعيّة.

وفي الثالث بأنّ البناء في الأفعال ، والأخبار ، والشهادات على الصحّة بالنسبة إلى الواقع دون المذهب.

وبأنّ الإجماع له معنى واحد ، وهو الاتّفاق الكاشف عن قول المعصوم ، وما عداه من جملة القرائن المفيدة للقطع كالعمل المتكرّر ، والتقرير ونحوها ، ليست منه.

وبأنّ الظاهر ممّن ينقل ذلك إرادة المعنى المشترك ، دون المختصّ به. ثمّ ذلك لا يقتضي السلب الكلّي ، وإنّما يقتضي عدم الحجيّة بالنسبة إلى صاحب هذا المذهب (٤) ، وقد مرّ بيانه.

__________________

(١) نهج البلاغة : ٢١١ الخطبة ١٥١ ، وانظر الكافي ١ : ٦٨ ح ١٠ ، والوسائل ١٨ : ٧٦ أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١ ، ٣ ، ٤.

(٢) في «ح» زيادة : وإن لم يمتنع.

(٣) بدل عليها في «س» ، «م» : على هذه الظواهر.

(٤) في «س» : هذا المطلب.

١٩٦

البحث الثالث والثلاثون

السكوت من حيث هو هو لا يُعرف به مذهب ، ولا تثبت به شهرة ولا إجماع بسيطان ، ولا مركّبان ؛ لأنّ العامّ لا يدلّ على الخاصّ.

إلا إذا ذكروا مسألة ، وميّزوا (١) بين حرامها وحلالها ، وذكروا ما حرّم منها ، وسكتوا عن شي‌ء من ذلك ؛ فإنّ السكوت هناك دليل على إباحته عندهم ، كالجمع بين الفاطميّتين ، ومتعة العلويّة ، وطهارة الحديد ، ونحوها.

فليس إحداث أقوال لم تنقل عن السابقين من قبيل خرق الإجماع المركّب حتّى يعلم عدم القول سابقاً من أحد على وجه يعمّ المعصوم ، ولا معنى لتركيب الإجماع والشهرة من سكوت وقول ، والشهرة المركّبة يضعف ظنّها ، ويضعف الترجيح بها.

وكلّما وردت رواية سكتوا عن العمل بمقتضاها ، أو عملوا بخلافها دخلت في حكم الضعيفة ، وإن كانت صحيحة. وكثرتها مع الإعراض (عنها كما في أخبار صلاة الجمعة ، وغسلها ، ونجاسة الحديد ، وأوامر الوضوء ، وغسل الأواني ، والبدن ، والثياب ، والجهاد ، ونحوها) (٢) يزيدها ضعفاً ؛ لبُعد غفلتهم عنها.

والإجماع والشهرة المعنويّان أو اللفظيّان المنقولان ينقسم خبرهما إلى أقسام الخبر ؛ من متواترٍ لفظاً أو معنىً ، وآحاد ، محفوفةٍ بقرائن العلم لفظاً ومعنىً ، وغير محفوفة ؛ صحيحة أو ضعيفة ، إلى غير ذلك.

البحث الرابع والثلاثون

في أنّ أصالة الإباحة ، والخلوّ عن الأحكام الأربعة ، فضلاً عن مطلق الجواز فيما لم يترتّب عليه ضرر ، ولم يشتمل عليه تصرّف في حقّ بشر ، ممّا دلّت عليه الأخبار (٣) ،

__________________

(١) في «ح» : وميّزوا به.

(٢) ما بين القوسين ليس في «س» ، «م».

(٣) لاحظ الوسائل ١٢ : ٥٩ ب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ١ ، ٤ ، وج ١٨ : ١٢٧ ب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٦٠ ، وج ١٧ : ٩٠ ب ٦١ من الأطعمة المباحة ح ١ ، ٢ ، ٧ ، والكافي ١ : ٢ كتاب الإيمان والكفر باب ما رفع عن الأمّة ح ٢ ؛ وغيرها.

١٩٧

وظهر ظهور الشمس في رائعة النهار ، وعدّه الصدوق من دين الإماميّة (١).

وفي إجادة النظر والفكر في حال الموالي وأصحاب الدور إذا وضعوا لعبيدهم أو أضيافهم (٢) موائد (وفُرُشاً ، وملابس ، وآداباً وطرائق ، وهكذا ، ثمّ أمروهم ببعض) (٣) ومنعوهم عن بعض ، وسكتوا عن غيره ، فضلاً عن أن ينصّوا على إباحته ، وفي جري سيرة المسلمين ، بل جميع الملّيين ، على عدم التوقّف في هيئات قيامهم ، وقعودهم ، وجلوسهم ، وركوبهم ، وملابسهم ، وفُرشهم ، وبنائهم ، وغذائهم ، وأكل النباتات ، والتكلّم في المخاطبات على الرجوع إلى أنبيائهم ثمّ إلى علمائهم ، وفي لزوم الحرج التامّ على أهل الإسلام ، بل على جميع الأنام بناءً على الخلاف كفاية لمن نظر ، وبصيرة لمن استبصر.

وحديث تجنّب الشبهات مبنيّ عليها ، وإلا دخلت في المحرّمات ، وحديث الوقف معمول عليه عند الجميع ؛ إذ لو لم نؤمر بالتوقّف حتّى نلقى الإمام عليه‌السلام ونرجع إليه في الأحكام لم يبقَ في البين ما يُعدّ من الحرام.

غير أنّ الأصل ليس بحجّة لمن عرض له شكّ في حرمة إلا بعد النظر في الأدلّة ، واستفراغ الوسع في استنباط الحكم منها لمن كان له قابليّة لذلك.

وفاقد القابليّة يجب عليه الرجوع إلى القابل في كلّ ما اعتراه الشكّ فيه ، وإلا لاستحلّت المحرّمات ، ودخلت في قسم المباحات.

غير أنّه لا يتمشّى في العبادات شطوراً وشروطاً ورفع موانع في طهارة أو لباس أو وضع ونحوها أو قنوت بالفارسيّة (٤) (ونحوها ، كما لا يتمشّى فيها أصل البراءة) (٥)

__________________

(١) الاعتقادات للصدوق : ٨٩.

(٢) في «ح» : زيادة : مساكن و.

(٣) ما بين القوسين ليس في «س» ، «م».

(٤) في «س» ، «م» : وثبوت الفارسية.

(٥) بدل ما بين القوسين في «س» ، «م» : ولا أصل البراءة.

١٩٨

ولا أصل العدم ، ولا في المعاملات في القسم الأول (١).

لما بينّا سابقاً أو سنبيّن من أنّ ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح منها ، فهي مجملة لا تتميّز مع احتمال الشرط والشطر والمانع ، وألفاظ المعاملات للأعمّ (فإجمالهما (٢) مخصوص بالقسم الأوّل ، وما كان من العبادات بالمعنى الأعمّ لا يدخل في معناه وصف الصحّة) (٣) ويدخل في حكم المعاملات. ولو حصل من المعاملات ما يعتبر فيه ذلك دخل في حكم العبادات.

وأصل الطهارة بالنسبة إلى احتمال عروض النجاسات في غير المشتبه بالمحصور ، وما نزّل شكّه منزلة العلم كالخارج قبل الاستبراء فهو من البديهيّات ، وممّا اتفقت عليه الروايات وكلمات الأصحاب ، بل الظاهر اتّفاق جميع أهل الملل ، ولزوم الحرج شاهد عليه.

وأمّا بالنسبة إلى الأعيان فممّا اتّفق عليه الأعيان ، ويجري فيه من البحث ما جرى في المقام الأوّل بالنسبة إلى العلماء والعوام.

البحث الخامس والثلاثون

في أصل البراءة ، وحجّيته مقطوع بها ؛ فإنّ تكليف كلّ مطاع من سيّد أو وليّ أو شارع على وجه الإيجاب أو الندب أو الحرمة أو الكراهة الأصل براءة الذمّة منه حتّى يقوم شاهد على شغلها ، أو يستلزم تصرّفاً يحتمل في نظره منعه.

وأصل الإباحة والطهارة وإن كانا أصلين (٤) في أنفسهما ؛ لكنّهما يرجعان إلى أصل البراءة ، وبعد ثبوت الشغل ينعكس الحال ، ويلزم الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل توقّف البراءة عليه.

__________________

(١) في «ح» : القسمين الأوّلين.

(٢) في «م» : وإجمالها.

(٣) ما بين القوسين ليس في «س».

(٤) في «س» ، «م» : أصليين.

١٩٩

وهذا الأصل لا يعارض قاعدة ، وإلا لانهدمت أكثر القواعد ، ولا دليلاً عامّاً ، ولا خاصّاً ، لأنّه مشروط بعدم الدليل.

وكذا الاستصحاب ، وهو الحكم باستمرار ما كان إلى أن يعلم زواله ؛ فإنّ مجاري العادات في الشرعيّات وغير الشرعيّات على العمل به ، وطلب الدليل على رفع ما ثبت وثبوت ما انتفى.

مضافاً إلى دلالة الأخبار عليه في مقامات عديدة (١) ، كما لا يخفى على المتتبّع ، من غير فرق بين ما أصل وجوده مقتضٍ للبقاء وغيره ، ولا يختلف الحال باختلاف الأقوال في أنّ الأكوان باقية أو لا ، محتاجة إلى المؤثّر أولا.

وحجيّته مشروطة بعدم الدليل ، فلا يعارض دليلاً من كتاب أو سنّة أو إجماع ، عامّاً أو خاصّاً ، فلا يستصحب حكم التمام الثابت للمسافر لبعض العوارض بعد زواله ، ولا حكم القصر الثابت لعوارض تقتضيه في الحضر كالأخاويف بعد زوالها ، ولا حكم الخيار إذا ثبت لسبب في عقدٍ لازمٍ فزال السبب ، ولا حكم اللزوم إذا عرض في أوقات الخيار لسبب فارتفع السبب وهكذا ؛ لأنّ عموم الحضر ، والسفر ، واللزوم ، والخيار ، ونحوها حاكمة على الاستصحاب ، ولا يعارض قاعدة.

والاستصحابان يتعارضان ويبنى على الراجح إن كان ، وإلا كانا متساقطين إن كانا في الرتبة متساويين ، ولا يعارض بقاء المستصحب أصالة عدم ما يتبعه من الحوادث اللاحقة له ، فإنّ ثبوت العلّة والمؤثّر ولو بطريق الاستصحاب قاضٍ بثبوت الأثر والمعلول. ولو جعل ذلك معارضاً لم يبقَ في البين استصحاب يعمل عليه.

وأمّا ما كان مستقِلا في نفسه ، كأصالة عدم إصابة الرطوبة للنجاسة المعارضة لأصل بقائها فثبتت الإصابة ، وأصالة عدم وصول الماء إلى المحلّ المغسول أو رطوبته إلى المحلّ الممسوح المعارضة لأصالة عدم الحجب أو عدم الحاجب ، وأصالة عدم المانع عن إصابة النجاسة الملقاة في المسجد لأصالة عدم الحاجب ، وعدم وجود شخص غير زيد في

__________________

(١) منها ما في الكافي ٣ : ٣٣ ح ١ ، ٢ ، والفقيه ١ : ٢٣١ ح ١٠٢ ، والتهذيب ١ : ١٠٠ ح ٢٦١ ، وص ١٠٢ ح ٢٦٨ ، والاستبصار ١ : ١٨٣ ح ١٣ ، ومنتقى الجمان ٢ : ٣٢٤ ، والوسائل ١ : ١٧٤ أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

٢٠٠