كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ١

الشيخ جعفر كاشف الغطاء

كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر كاشف الغطاء


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-880-5
الصفحات: ٤٠٨

وأمّا ما انفصلت أجزاؤه ، فالذي يظهر من خطاب الموالي لعبيدهم ، وجميع الأمرين لمأموريهم ، وخطاب الشارع للمكلّفين سواء خاطبوا بها مجملة مركّبة ، كالخطاب بإعطاء الأرض الفلانيّة وما في الكيس الفلاني لشخص أو أشخاص ، وإحياء الليل ، والقيام على ساق طول النهار ، والإتيان بقِربة من الماء أو كيلة من بعض الأشياء ونحو ذلك ، والخطاب (١) بالزيارات ، والدعوات الموظّفات ، وصيام رجب وشعبان ورمضان ونحوها ، ممّا كانت مجملة.

أو بما كانت مفصّلة بذكر الأبعاض والكسور ، أو بالعدد ، كصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، والأيّام البيض ، وصوم (٢) عمل أُمّ داود ، وتسبيح الزهراء عليها‌السلام ، واللعن في عاشوراء ، والتكبيرات في العيدين وأمام الزيارات (٣) ، والذكر عند طلوع الشمس وغروبها ، وقراءة خمسين أية في كلّ ليلة ، وقراءة القدر سبعاً على القبر ، والتوحيد إحدى عشرة للأموات ، والاستغفار ، وقول «العفو العفو» في الوتر وغيره ، وأربع ركعات الحبوة ، وجميع الأذكار والقراءات ، ونحوها من سور وآيات ، وما قرّر في كتابة الحروز والتعويذات ، ممّا ذكرت معدودة في الروايات ، وكأمر الموالي للعبيد إذا أمروا بالذهاب إلى السوق عشر مرّات ، أو إعطاء أحد عشرين درهماً أنّ هناك خطابين ، أحدهما : متوجّه إلى الطبيعة المشتركة بين الأجزاء والآحاد ، وثانيهما : إرادة ذلك العدد المخصوص من بين الأعداد.

فالإتيان بالبعض من حيث البعضيّة وخصوص الجزئيّة لا مانع من أن تتعلّق به النيّة ، ويثاب على الخصوصيّة ، ولا يحتاج إلى قصر الرخصة على العموميّة من حيث طبيعة الذكريّة والقرآنيّة. نعم قصد الخصوصيّة الاستقلاليّة لأمن (٤) جهة البعضيّة تشريع في الدين.

__________________

(١) في «س» : كالخطاب.

(٢) كلمة صوم ليست في «س» ، «م».

(٣) في «م» ، «س» : وأيّام الزيارات.

(٤) في «ح» : عن.

١٦١

هذا كلّه إذا لم يقم دليل على لزوم الانضمام ، ولم يكن جزءاً من مركّب يعتبر في صحّة أجزائه الانضمام ؛ لأنّ أصالة عدم الإتيان بالمركّب وظهور إرادة الهيئة التركيبية تعارض ما ذكرناه.

البحث الرابع عشر

في أنّ القاعدة المستفادة من حديث : «لا يسقط الميسور بالمعسور» (١) وقاعدة : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٢) تفيد الاجتزاء ببعض الجزئيات والأجزاء المنفصلة بنيّات مستقلّة مع تعذّر الباقي أو مطلقاً ، كبعض نافلة الزوال ، وباقي الرواتب ، وصلاة علي عليه‌السلام وجعفر وقراءتها وأذكارها ، والتسبيحات ، والتعقيبات ، ولعن عاشوراء ، والعفو ، والاستغفار ، وتسبيح الزهراء عليها‌السلام ، والجهر والذكر عند الطلوع والغروب ، وهكذا.

وفي دخول مسألة النيابة والأجزاء المتصلة إشكال ، وأمّا بحسب الزمان والمكان والشروط فلا شمول. وتجري في أبعاضها ، والظاهر منها المجانس ، فلا يدخل الانتقال من مسح إلى غسل ، وبالعكس ، ولا من قراءة إلى ذكر وبالعكس ، ولا من بشرة إلى حاجب.

وإنّما تجري فيما يتحقّق به بعض الأثر المطلوب من الشروط والشطور ؛ كالساتر وطهارة الخبث ، والأفعال الداخلة في العبادة كالقراءة والأذكار ؛ دون ما لم تتبعّض غايته ، كطهارة الحدث ، فإنّ أفعالها غير مطلوبة ، لا أصالةً ولا تبعاً ، وإنّما المطلوب رفع الحدث.

البحث الخامس عشر

الأصل في كلّ مطلوب من الواجب والمندوب أن يكون عبادة بالمعنى الأخصّ

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ ح ٢٠٥.

(٢) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ ح ٢٠٧.

١٦٢

المعتبر فيه اشتراط نيّة القربة ، لا معاملة ولا عبادة بالمعنى الأعمّ.

وتعيينيّاً ؛ لا تخييريّاً ، وعينيّاً ، لا كفائيّاً ، ونفسيّاً ، لا غيريّاً ، ومباشراً فيه ، لا منوباً.

ومطلقاً في غير المجمل ومنه أكثر ألفاظ العبادات الخاصّة لا مشروطاً.

ومحصّلاً بإيجاد فردٍ من الحقيقة الخاصّة ، لا مكرّراً ولا دائماً.

وموسّعاً لا توقيت فيه ، لا موقّتاً ، وفوريّاً ، لا متراخياً ، وموسّعاً فيما بين حدّي الوقت في الوقت المحدود ؛ ولا مضيّقاً ، ومجزئاً في الغرض (١) المسوق له ؛ لا معاداً ولا مقضيّاً ، ومخيّراً في المراتب المتعدّدة ؛ لا مرتّباً ولا مجتمعاً.

ومخصوصاً بالنوع الذي توجّه إليه الخطاب ، لا عامّاً ، وعامّا في الأفراد في باب العموم ، لا خاصّاً ، ومطلقاً في مقام الإطلاق ، لا مقيّداً ، وواجباً في مقام الطلب ، لا مندوباً.

ومتوقّفاً في الصحّة أو الاحتساب على الانفراد ، لا متداخلاً ، وباقياً على حكمه السابق بعد الدخول في الأحكام الأربعة ، لا منقلباً ، ومستمرّاً على حاله سابقاً ، لا معدولاً عنه ، ومأذوناً في قطعه مع عدم الضيق ، لا ملتزماً (٢) بإتمامه ، وخالصاً من أسباب الخلل ، لا مختلاً.

فكفاية السلام من الواحد على الجماعة في إسقاط استحبابه عن الباقين ، والردّ من غير المحيّا عنه ، والتخيير بين القصر والإتمام لقاصد الأربعة ذهاباً وإياباً ، وبين الجهر والإخفات في الأخيرتين ، ووجوب غسل الميّت لغيره ، وكون غسل أعضاء الوضوء مشروطاً بعدم الرمس ، ووجوب تكرار صلاة الآيات مع بقاء السبب ، وتوقيتها بوقت حصوله ، وجواز التراخي في سجود التلاوة ، وتخصيص اليوميّة ببعض المحدود ، وإعادة الصلاة للمتيمّم خوف ضيق الوقت مع وجود الماء ، والترتيب في كفّارة شهر رمضان ، ولزوم الجمع في كفّارة الإفطار على محرّم ، ونحو ذلك ؛ على خلاف الأصل.

__________________

(١) في «س» : الفرض.

(٢) في «ح» : لا بالتزامه.

١٦٣

البحث السادس عشر

الأمر كائناً ممّن كان ، من شارع أو غيره ، لا يخلو من أحوال :

أحدها : ما يتعلّق بالزمان والمكان واللباس والوضع والعدد ونحوها ، فمرّة يطلق ومرّة يقيّد فيها ، وعلى ذلك جرت عادة الأوامر والخطابات في جميع اللغات.

فقد يتعلّق خطاب الشارع بالمطلق ، كالخطاب بالأذكار والدعوات والمناجاة ونحوها ؛ فلا يقيّد بشي‌ء منها ، ولا يتفاوت من جهتها إلا لبعض العوارض.

ومرّة يقيّد بالمكان مع زيادته على محلّ الفعل كمواضع الصلاة والزيارة والاعتكاف ونحوها في مواضعها المتّسعة ، أو مساواته كما إذا ضاق عليه لفوات الوقت بحركته عنه ، أو لإحاطة المحلّ المغصوب أو المتنجّس به ، أو للالتزام به بنذر ونحوه.

وكذا الكلام في اللباس والوضع والعدد ، فلكلّ قيد توسعة وتضييق ؛ فمصلحة الفعل إن حصلت بالمطلق أطلق الأمر ، وإن اختصّت بالمقيّد اتّبعت المقيّد زائداً أو مساوياً ، لا ناقصاً مع عدم انقلاب التكليف ، فإذا أطلق الأمر لم يكن للزمان دخل وُجِدَ أو عدم ، كالمكان المطلق ، وإنّما هما من لوازم الوجود.

وإن خصّت مصلحة الفعل وقتاً فإن زاد على مقدار الفعل فهو موسّع ، وإن ساواه في الأصل فهو مضيّق أصلي ، أو بالعارض فهو عارضي ، ولا يمكن نقصانه عنه.

ثمّ التخصيص إن كان لكونه مقدّم الأفراد الموهومة وجميعها مشمولة للأمر الأوّل ، فهذا حكم الفور ، وإن لم تكن مشمولة حتّى لو تأخّرت كانت قضاءً لحكم التوقيت.

ومن زعم عدم جواز التوسعة حتّى خصّ ما ظاهره ذلك بأوّل الوقت أو أخره أو زعم ما زعم فقد أخطأ (١).

ومن أراد زيادة البصيرة في الخطابات الشرعيّة فليتأمّل في أحوال الأوامر العرفيّة والعاديّة.

__________________

(١) حكاه عن بعض الحنفيّة في معارج الأُصول : ٧٤.

١٦٤

ثانيها : ما يتعلّق بالفعل وهو على أقسام :

أحدها : المخيّر ، ولا يخفى على من تتبّع حال الأوامر والخطابات العاديّة والعرفيّة في كلّ لغة وعلى كلّ لسان أنّها إمّا أن يكون المطلوب فيها نوعاً خاصّاً ؛ لعدم حصول المصلحة الباعثة على الأمر إلا به ، وهذا هو المعيّن.

وقد يُراد فيه أحد الأنواع من غير خصوصيّة (١) لتأدّيها بأحدها ، فهي متساوية في تأدية المصلحة ، وخصوصيّاتها ملحوظة على وجه التخيير فلا خطاب تعيين ، ولا تعلّق له بكلّ دائرٍ بين آحاد الأنواع وذلك غير خفيّ ، وهذا هو المخيّر.

ولعدم إرادة الخصوصيّة فيه ، كان من تعمّد قسماً من كلّ أو جزءٍ ففعل وقصد غيره كقصر وتمام ، وظهر وجمعة ، وتشهّد أوّل وأخير ، وحمد وتسبيح وسورة ونحو ذلك ، ما فعله صحيح.

وليس منه آحاد أفراد النوع ؛ لعدم مطلوبيّتها ، وإجمالها في نفسها ، أو باعتبار سعة الزمان من غير ملاحظة لأجزائه ؛ إذ لا تعلّق للخطاب بها ، لإجمالها وعدم إمكان تصوّرها ؛ لعدم إمكان الإحاطة بها إلا على نحو التبعيّة كالمقدّمة ، فإنّها على ذلك النحو ، وهو الموسّع ، فيفارق المخيّر بذلك ، وبأنّ التخيير فيه زمانيّ لا فعليّ.

ثانيها : المرتّب ، وهو ظاهر لمن تأمّل في الخطابات العرفيّة والعاديّة ، فإنّه قد تتعلّق المصلحة بإيجاد أنواع متعدّدة على نحو لزوم الإتيان بأحدها أوّلاً إن أمكن ، ثمّ بغيره بعد تعذّره أو تعسّره ، فهي مشتركة في الوقت وحصول مصلحته بإيجادها على نحو المخيّر ، غير أنّه يفارقه باعتبار الترتيب ، حتّى لو أتى به لا على وجه الترتيب وقع فاسداً.

وبذلك يفترق عن المعيّن وعن الفوريّ والموسّع ؛ لأنّه (٢) ترتيب في الأفعال خالٍ عن التخيير فيها ، وعن التعيين (٣) والترتيب (٤) في أجزاء الزمان ، ويترتب عليه الفساد

__________________

(١) في «س» : خصوصيته.

(٢) في «ح» : بأنّه.

(٣) في «ح» زيادة في الأفعال.

(٤) في «س» ، «م» : للترتيب.

١٦٥

مع المخالفة ، دون الفوريّ والموسّع.

وإذا لاحظت أوامر الشارع ونسبتها إلى طريقة العرف والعادة اتّضح لك الحال تمام الوضوح.

ثالثها : المجتمع ، وهذا أيضاً ظاهر في خطابات العرف واللغة ، وكذا في خطابات الشرع ، فإنّ المصلحة قد تتعلّق بجمع أشياء : ككفّارة الجمع ، وأيّام شهر رمضان ، والركعات المفصولة وهكذا ، ولا يخلو من قسمين :

أحدهما أن يكون الجمع شرطاً في الصحّة ، حتّى لو فرق فسد.

ثانيهما أن لا يكون كذلك ، وإنّما يفوت بالتبعيض بعض المصلحة المقابل للمتروك ومصلحة الجمع الواجب أو المندوب. ولعلّ الثاني أقرب إلى الفهم من الإطلاق.

ثالثها : ما يتعلّق بالفاعل

لا يخفى أنّ الأوامر الشرعيّة والعرفيّة والعاديّة قد تعيّن الفاعل مشخّصاً (١) من دون بدل ، أو مع التخيير أو الترتيب في البدل.

وقد تطلقه مطلقاً ، فيكون الغرض إيجاده من أيّ مكلّف كان ؛ أو بين أفراد محصورة ، فيراد إيجاده من أحدهم مع الانفراد أو مع الاجتماع مع بعض.

ولو أُريد الاشتراك بين الكلّ كان معيّناً ، ويعاقبون على تركه عقاباً واحداً.

ومع الإطلاق ، إن صرّح بوحدة العقاب موزّعاً فلا بحث ، وإلا فالظاهر منه أنّ على كلّ واحد عقاباً مستقِلا ، فإذا جاء به أحدهم سقط العقاب عنهم ، وإلا عوقبوا جميعاً.

وعلى هذا يجري حكم الشرع والعرف والعادة ، فلا داعي إلى الخروج عن ظاهر الخطابات الشرعيّة إلى بعض التمحّلات والتكلّفات.

وهذه الأقسام ما عدا المعيّن زمانيّتها وفعليّتها وفاعليّتها ومكانيّتها وغيرها قد تجتمع بجملتها أو بعضها مع بعض في المقام الواحد ، في مرتبة أو مراتب ، فتختلف أسماؤها باختلاف جهاتها.

__________________

(١) في «ح» : شخصاً.

١٦٦

البحث السابع عشر

في أنّ وجوب المقدّمة للواجب المطلق صورةً صورةً ، وحقيقةً حقيقةً عقلاً وشرعاً وعرفاً وعادةً وندبها للمندوب كذلك ، بمعنى لزومها للتوقّف من الأُمور القطعيّة وإلا لم تكن مقدّمة. ثمّ هي :

إمّا علميّة ، يتوقّف عليها العلم بفراغ الذمّة ، أو وجوديّة يتوقّف عليها الوجود ، أو شرعيّة ، تتوقّف عليها الصحّة (١) وربّما رجعت إلى سابقتها (٢) ، كما أنّ الإباحة المطلقة والإعادة المطلقة والإذن المطلقة والوكالة المطلقة ونحوها ، تستلزم إلحاق المقدّمة.

ثمّ إنّ الملامة والعتاب والثواب والعقاب على ترك الغايات ، دون المقدّمات الصرفة ، فوجودها من دون وجود ما يترتّب عليها كعدمه.

والفرق بين العلميّة والوجوديّة : أنّ الأُولى من باب الاقتضاء العقلي ، والثانية من قبيل الاقتضاء اللفظي اللزومي المشابه للتّضمّني (٣) أيضاً.

فالتوكيل في المقدّمة (بعد تعلّق الحكم بذي المقدمة والإعادة لها) (٤) مثلاً ناشئ عن طريق اللفظ ، لا محض الفحوى ، فيجري فيها أحكامها (٥) ، غير أنّ الظهور منها يختلف باختلاف القُرب والبُعد ، والقوّة والضعف.

ثمّ إن كانت الغاية موسّعة أو مضيّقة ، أو فوريّة أو متراخية ، أو عينيّة أو كفائيّة ، أو معيّنة أو مخيّرة ، أو موحّدة أو مكرّرة ؛ تبعتها في الصفات إن لم يعرض لها حكم لجهة من الجهات.

ولو انحصرت بالحرام امتنع التكليف بالغاية على وجه الندب أو الإلزام ، ولا تمنع

__________________

(١) في «ح» زيادة : ونحوها.

(٢) في «ح» : سابقتيها.

(٣) في «س» ، «م» : للتضمّن.

(٤) بدل ما بين القوسين في «ح» : والإعادة لها بعد تعلّق الحكم بذي المقدمة.

(٥) في «س» : فيجري فيه أحكامها ، والأنسب : فيجري فيها أحكامه.

١٦٧

حرمتها مع عدم الانحصار ولا كراهتها عن التوصّل بها (١) لاختلاف جهتيها ، فإنّ المطلوب لغيره تترتّب ثمرته على وجوده على أيّ نحو كان.

فلا تتّصف بصحّة ولا فساد لموافقة أمر أو تعلّق نهي من جهة كونها مقدّمة إلا من جهة قابليّة الترتّب وإمكان التوصّل وعدمهما (٢).

ولا بدّ من اتّصافها بصفة غاياتها من حيث التوقّف ، ولا مانع من المخالفة من جهات أُخر ، فقد يخيّر بين أفرادها للواجب المعيّن ، وقد يعيّن بعض آحادها بنذر أو شبهه للواجب المخيّر.

ولو اجتمعت فيها الأصالة والتبعيّة تعلّق بها الحكمان ، وكان لها في استحقاق الثواب والعقاب وعدمه جهتان.

ولو كانت مقدّمةً لواجب ومندوب غلب عليها حكم الوجوب ، وأُخذ في النيّة إن كانت عبادة ، قصد فعل الغاية بعدها أولا.

وإنّما تتّصف بالوجوب بعد دخول وقت الواجب ، وإن كان مضيّقاً لا يسع سوى الواجب وجبت قبل وقته موسّعاً على الأقوى ، أو عند بقاء ما لا يزيد على وقت فعل المقدّمة.

والظاهر من الطلب بالصيغة أو بغيرها ، والخبر والوعد والوعيد ، والترجّي والتمنّي ، والعقود والإيقاعات ، ونحوها ؛ الإطلاق دون الشرطيّة. وعموم الشرطيّة بالنسبة إلى القدرة لا يخرجه عن اسم الإطلاق عرفاً.

وكون الغاية في جميع الواجبات والمحرّمات دفع الضرر الأُخرويّ مثلاً لتوقّفه عليها لا يقتضي إلحاقها بالمقدّمات عرفاً.

ومقدّمة المباح مباحة (٣) ، وأمّا مقدّمة الحرام والمكروه فالجزء الأخير من العلّة لهما ، تركهما يتوقّف على تركه ، فحرمته وندبه (٤) على نحو وجوب المقدّمة وندبها وأمّا غيره

__________________

(١) في «ح» : إليها.

(٢) في «م» : عدمها.

(٣) في «ح» زيادة : من جهته.

(٤) كذا في «ح» والأنسب : وكراهته

١٦٨

فلا يتبع في الحكم ، غير أنّ ظاهر الأخبار تحريم بعض الموصلات إلى المحرّم (١).

ثمّ المقدّمة من شرط أو رفع مانع يتعلّق بهما الوجوب قبل دخول وقت الغاية موسّعاً حتّى يضيق وقتها ؛ لأنّ خطاب التعليق كخطاب التنجيز ما لم يقم دليل على الخلاف ، كما في الطهارة.

والسعي إلى الحجّ ، وغسل الصوم الواجب يتعلّق الوجوب بهما (٢) على وفق القاعدة قبل دخول الوقت. وخصّ بسنة الاستطاعة أو تأهّب القافلة وبخصوص الليل في شهر رمضان للدليل.

ولا يلزم تكليف بالممتنع بعد إهمال المقدّمة حتّى يحضر (٣) الوقت ؛ لاستناده إلى الاختيار ، وإلا لكان التكليف بحفظ النفس المحترمة مثلاً بعد انفصال السهم والرمح والحجر مثلاً من تكليف المحال.

والفرق بين صريح الخطاب وحكمه واضح ، فاجتماع الحرمة والوجوب في خروج الغاصب المختار وفي عمل المرتدّ الفطري لا مانع منه.

بخلاف الداخل إلى مكان الغير جهلاً بالموضوع أو نسياناً أو جبراً ، فإنّه لا إثم عليه ، وتصحّ صلاته دون القسم الأوّل ، فإنّ الظاهر عدم قبول توبته عند الخروج ، كما لا تقبل توبة الزاني حال النزع ، فيعاقب على الإدخال والاستقرار والنزع في وجه قويّ.

البحث الثامن عشر

في أنّ وجود الشي‌ء ضدّ عدمه ، وعدمه ضدّ وجوده ، ونفي أحدهما مفهوم من إطلاق الأخر ، وإيجاده ضدّ الاستمرار على عدمه ، والاستمرار على عدمه ضدّ إيجاده ، ونفي كلّ واحد منهما مفهوم من إطلاق الأخر.

__________________

(١) انظر الوسائل ١٤ : ٢٤٦ أبواب النكاح المحرّم ب ١٤ ح ١ ، ٢ ، وص ٢٤٥ ب ١٣ ح ٣ ، وص ٢٥٨ ب ٢١ ح ١ ، ٢ ، ٤ ، وب ٢٢ ح ١ ٣.

(٢) في «س» : لها ، وفي «م» : لهما.

(٣) في «ح» : يقصر.

١٦٩

وإيجاب الإيجاد ضدّ لتجويز الترك ، وتجويز الترك ضدّ لإيجاب الإيجاد ، ونفي أحدهما مفهوم من إطلاق الأخر ، فالأمر بالفعل منع للترك الراجع إلى الأمر بالفعل ، والنهي عنه أمر بالترك الراجع إلى النهي عن الفعل ، فيكون كلّ منها بأقسامها مدلولاً تضمّنيّاً للاخر ، أو شبهه ، وعلى كلّ حال هو من الدلالة اللفظيّة الصريحة.

ولا تضادّ بين معدومين ، ولا بين موجود ومعدوم خاليين من ربط سببيّة أو شرطيّة ، ولا بين فعلين متغايرين ، ما لم تكن بينهما مضادّة من جهة الخصوصيّة.

فقد ظهر ممّا مرّ أنّ محبّة فعل الشي‌ء وطلبه بأيّ عبارة كانت من أيّ لغة كانت على وجه الوجوب أو الندب ، وبغضه وطلب تركه بأيّ عبارة كانت على وجه التحريم أو الكراهة بعد تسمية خلاف السنّة كراهة تقتضي خلافه من الضدّ العام ، فيمشي في الأحكام الأربعة.

وأمّا الإباحة فالحكم بها على الشي‌ء حكم على ضدّه.

وتلحق به الأضداد الخاصّة الشبيهة بالعامّة من جهة المقابلة التامّة ، كالحركة والسكون ، والقيام والقعود والتكبّر والخضوع ، والكلام والصمت ونحوها.

وأمّا الأضداد الخاصّة الوجوديّة الصرفة فالأمر بأحدها قاضٍ بالنهي عن ضدّه (١) ، قضاءً لفظيّاً على نحو المقدّمة.

وقد يفهم بعض الأضداد الخاصّة بخصوصها لشدّة المعاندة والمضادّة ، إذ النهي عن الضدّ أمر بتركه المتوقّف فعل الواجب عليه ، فيكون النهي إذن راجعاً إلى بيان التوقّف ، وحرمة الموقوف عليه لا تسري إلى الموقوف.

فلو توصّل بالسلّم الحرام مثلاً أو الراحلة الحرام ونحوها بعد شغل الذمّة إلى الغايات لم ينافِ صحّتها.

وتعلّق الأمر بمتضادّين ابتداء غير ممكن ، للزوم التكليف بالمحال.

ولو أتى بفرد من الموسّع في وقت المضيّق الذي لم يقم فيه دليل التخصيص صحّ ، أمّا ما قام فيه دليله كرمضان لصومه ووقت صلاة الفرائض اليومية مع الضيق لغيرها من

__________________

(١) في «ح» زيادة : على وجه العموم.

١٧٠

الصلاة على الأقوى بطل.

ولو تضيّقا معاً بالعارض تخيّر مع المساواة ، وقدّم الراجح مع الترجيح بحقيّة المخلوق أو شدّة الطلب ، ويرجع الأوّل إلى الثاني ؛ لأنّ انحصار المقدّمة بالحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية.

وأيّ مانع من أن يقول الأمر المطاع لمأموره : إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل كذا؟ كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات ، والقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب ، لا من دخوله تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء وعدم الفساد أقرب إلى الصواب والسداد.

ومن تتبّع الآثار وأمعن النظر في السيرة المستمرّة من زمن النبيّ المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، بل من زمن آدم عليه‌السلام إلى هذه الأيّام ، علم أنّ القول بالفساد ظاهر الفساد.

كيف لا ، ولو بني على ذلك لفسدت عبادات أكثر العباد ؛ لعدم خلوّهم عن حقّ غريم مطالب ، من نفقةٍ أو دينٍ أو حقّ جناية أو عبادة تحمّل أو واجبة لبعض الأسباب الأُخر ، إلى غير ذلك ، ولزم الإتمام على أكثر المسافرين ؛ لعدم خلوّهم عن بعض

ما تقدّم أو وجوب التعلّم ونحو ذلك ، مع الخلو عن التعرّض لمثل ذلك في الكتاب وكلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام وأكثر الأصحاب ، مع أنّه ممّا تتوفّر الدواعي على نقله ؛ فيلزم حصول التواتر في مثله ، وخلوّ المواعظ والخطب أبين شاهد على ثبوت هذا المطلب.

ولو قيل بالفرق بين ما يكون فيه باعثيّة على الترك وغيره ويختصّ (١) الفساد بالقسم الأوّل لم يكن بعيداً ، والأقوى ما تقدّم.

البحث التاسع عشر

في أنّ حرمة العمل أصليّة واقعيّة ، لنفسه أو لغيره ، من داخل أو خارج ، لازم أو

__________________

(١) في «ح» زيادة : التحريم على الحقيقة و.

١٧١

مفارق ، مستفادة من عقل أو نقل مقتضية لفساد العبادة على وجه اللزوم واقعاً. وما دلّ على التحريم ظاهراً ظاهراً (١) في كتاب أو سنّة أو كلام فقيه ، بصيغة نهي أو نفي أو غيرهما.

وكذا ما تعلّق بالأجزاء ، وما (٢) كان من العبادات من شروط أو لوازم لها إن جعلنا الفساد مخالفة الأمر. وإن جعل عدم إسقاط القضاء فالاقتضاء ظاهريّ فقط ؛ لظهور (عدم) (٣) الإجزاء منه ، ولا ملازمة عقليّة فيه.

وتخصيص مسألة النهي في كلامهم لبيان اقتضاء نفس الصيغة أو لقصد المثال (٤).

وإذا تعلّق بالمقارن ، فإن قيّد بالعبادة قضى ظاهر الخطاب بفسادها دون العقل ، كما إذا قيل لا تتكلّم ولا تضحك في الصلاة ، ولا ترتمس في الصيام.

وإن لم يقيّد بها ، بل تعلّق به التحريم العام ولم يتّحد بها ولا بجزئها كالنظر إلى الأجنبيّة ، واستماع الغناء والملاهي ، والحسد والحقد ونحوها ، فلا يقضي بالفساد.

والمعاملة على نحو العبادة لا فرق بينهما ، غير أنّ الاقتضاء فيها لا يستند إلى عقل ولا إلى لفظ على وجه اللزوم ؛ لأنّه لا منافاة بين تحريم المعاملة وصحّتها وترتّب أثرها كالظهار ونحوه ، والفساد بالنسبة إلى الآخرة قد يكون عين صلاح الدنيا.

والدلالة على التحريم لا تستلزم الدلالة على الفساد ولا تقتضيه إلا لأمر خارجيّ ، وهو ظهور إرادة عدم ترتّب الأثر ، وهو الأُخرويّ في العبادة والدنيويّ في المعاملة ، وذلك مستتبع للفساد ، فتكون الدلالة في العبادة على الفساد من وجوه ، وفي المعاملة من وجهين ، وينكشف الحال بالنظر إلى النواهي الصادرة من كلّ مطاعٍ إلى مطيع.

وفي استدلال الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم بما في الكتاب أو الكتب السابقة ، أو كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو باقي الأنبياء عليهم‌السلام بما دلّ على النهي

__________________

(١) في «ح» : ظاهراً أو.

(٢) في «ح» : وربما.

(٣) كلمة عدم ليست في «س» ، «ح».

(٤) في «س» الأمثال وفي «ح» الامتثال.

١٧٢

على الفساد كفاية في إثبات المطلوب.

فلا حاجة إلى الرجوع فيه إلى الإجماع على الحمل عليه ما لم يكن منافٍ له ، ولا إلى الشكّ في دخوله تحت العمومات ، ولا إلى الخروج عمّا اشتمل على لفظ التحليل ونحوه في بعض الأقسام.

ولا إلى لزوم منافاة الغرض ؛ لأنّ الصحّة ترغّب إلى فعل المعصية ، ولا إلى أنّ المقام من المطالب اللغويّة ، فيكفي قول الفقيه الواحد ، كما يكتفى بقول اللغويّ الواحد ، لأنّ القائلين منهم من أئمّة اللغة.

والحاصل أنّ الأحكام الثلاثة ، من التحريم ، والكراهة بمعناها الحقيقي والإباحة ، تنافي بذاتها صحّة العبادة ، والدالّ عليها بأيّ عبارة كان مفيد لفسادها.

بخلاف المعاملة ، فإنّه لا ينافيها شي‌ء منها ، لكن ما دلّ على النهي عنها بأيّ عبارة كان يفيد فسادها ظاهراً.

وإذا تعلّق ما دلّ على الإباحة والكراهة بالعبادة أفاد صحّتها ؛ لأنّها لا يجوز الإتيان بها إلا مع الصحّة ، للزوم التشريع مع عدمها.

ثمّ الظاهر من شرطيّة الشرط ومانعيّة المانع وجوديّتهما لا علميّتهما ، من غير فرق بين الوضع والخطاب ، ومن (١) الأمر بشي‌ء ، والنهي عن شي‌ء ، في عبادة أو معاملة ، الشرطيّة والمانعيّة ، دون مجرّد الوجوب والتحريم.

البحث العشرون

في أنّ للعموم صيغاً تدلّ عليه حقيقةً ، من غير حاجةٍ إلى قرينة ، كما في جميع اللغات ، وإلا لزم الإتيان بالآحاد مفصّلة ، وهو بين متعذّر في كثير من المحالّ ومتعسّر.

ولكان قول : لا إله ، ولا خالق ، ولا واجب ، ولا نبيّ ، ولا كتاب ، ولا ثواب

__________________

(١) في «ح» : بين ، وفي «م» ، «س» : وبين والظاهر أنّه : من.

١٧٣

ولا عقاب في النشأتين ؛ لا يفيد فساد العقيدة. كما أنّ قول (لا إله إلا الله) (١) وأنّ الله إله ورب ومعبود للكائنات أو للناس أو للخلائق أو لمن في الدنيا أو لما يكون منهم ، ومحمّد نبيّ لهم ، و (٢) كذلك ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقّ ؛ لا يدلّ على صحّة العقيدة.

ومن قذف الخلائق أو من في الدار مع كون بعضهم ممّن يجوز قذفه أو مقروناً بصيغة أُخرى من صيغ العموم بالزنا واللواط والكفر لم يكن عاصياً ولا مؤاخذاً.

ولم تكن الأقيسة المعتبر فيها العموم المشتملة على شي‌ء من الصيغ بنفسها منتجة.

ولم يمكن تحصيل قاعدة في تطهير أو تحليل أو صحّة أو فساد من عموم في كتاب أو سنّة مستنداً إلى مجرّد الصيغ.

ولم يُعدّ من قال : جاء جميع الحاجّ أو أهل البيت ، وقد جاء بعضهم ، كاذباً.

ويجري مثله في العام المخصوص إن خصّ بمبيّن. ولو خلا عن الدلالة مع الإطلاق لم يكن قول «لا إله الله الله» توحيداً.

وإن خصّ بمجمل وكان محصوراً كان مجملاً ؛ وإلا جاز التمسّك به كما سيجي‌ء بيانه ، فالعام المجرّد عن المخصّص والمقرون به حجّة في أفراده ، وعليه بناء التخاطب من قديم الدهر وسالف العصر ، وعليه المدار غالباً في الإنشاء والإخبار.

ومن تتبّع محالّ الخطابات ، وأمعن النظر في الروايات واستقرأ ما في الاحتجاجات الواردة عن الأئمّة الهداة ، عدّ ذلك من الضروريات والبديهيّات.

ثمّ إنّ صيغة العموم إن تعلّق بها مخصّص واتّصل اتّصال الجزء كالصفة ونحوها لم تخرج عن الحقيقة.

ومع الانفصال بالمرّة لكونه عقليّاً أو سمعيّاً مستقلا فالأقوى المجازيّة.

وأمّا متّصل اللّفظ منفصل المعنى كالاستثناء وبدل البعض مثلاً فيقوى إلحاقه بالقسم الثاني ، وإن كان إلحاقه بالأوّل لا يخلو عن قوّة.

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في «م» ، «س».

(٢) الواو ليست في «م» ، «س».

١٧٤

ولعلّ القول بالتفصيل في أنّ المستعمِل إن أراد الاستعمال في الجميع متجوّزاً في الإسناد والإخراج من الصورة كان حقيقة في الاستعمال ، مجازاً في الإسناد ، وإن قصد الاستعمال في البعض والاستثناء قرينة فتعيّن عليه معرفة المخرج قبل الإخراج بخلاف السابق كان مجازاً.

ويجري هذا الكلام في المخصّصات راجعة بتمامها إلى الأوّل ، أو راجعاً بعضها إلى البعض.

وتختلف صيغ العموم في الدلالة قوّة وضعفاً ، فإن تعارضت فقليل الأفراد أقوى من كثيرها. والدالّ بالمنطوق من حيث هو كذلك أقوى ممّا دلّ بالمفهوم ، مع عدم المرجّح العارضيّ والمفاهيم مختلفة قوّة وضعفاً.

والعامّ من وجه ، خاصّ من وجه آخر ، إذا عارض مثله قدّم ما قلّت أفراده على ما كثرت فيه. كلّ ذلك بعد ملاحظة القوّة والضعف من جميع الوجوه الداخلة والخارجة من حيث السند أو المتن.

وأمّا الأخصّ ، فإن حصل بينه وبين الأعمّ شرائط التناقض فالأخصّ أقوى متناً ، ومتى جمع شرائط الحجيّة وإن كان ظنيّ الجهتين حكم على الأعمّ وإن كان قطعي الصدور ، إن (١) كان كثير الأفراد كـ (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (٢) (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) (٣) ، ونحو ذلك.

وإن كان عمومه محكّماً احتاج الخاص في تخصيص قطعيّ الصدور من كتاب أو سنّة أو إجماع منقولين لفظيّين متواترين إلى الجابر من شهرة أو قاعدة ؛ لأنّ المدار على الظنون الاجتهاديّة.

وكذا لو كان الصدور ظنّيّاً وكان لانجباره من داخل أو خارج أقوى ظنّاً من الخاصّ.

وكذا إن لم تجتمع شرائط التناقض لكن بين الحكمين تباين ، كما إذا كان في أحدهما

__________________

(١) في «ح» : وإن.

(٢) النساء : ٢٤.

(٣) البقرة : ١٧٣.

١٧٥

أحد الأحكام الخمسة وفي الأخر غيره ، أو في أحدهما إثبات السبب أو الملزوم وفي الأخر نفي المسبّب أو اللازم.

وتوهّم أنّ العام إذا خصّ كان مجازاً فيجي‌ء فيه احتمال جميع التخصيصات ويكون مجملاً ؛ مردود بحكم اللغة والعرف ، وقوّة المجاز ، وقرينة تخصيص المخرج بالإخراج ، وأنّ وضع العام على ذلك النحو بأن يكون كالقاعدة يخرج منه ما خرج ويبقى الباقي وأنّه بالنسبة إلى الباقي كالعام قبل الإخراج.

ولا يحكم على العام بما كانت حجّيّته مشروطة بفقد الدليل ، من أصالة براءة واستصحاب حكم ، وظنون قضى بحجيّتها الاضطرار ؛ لانسداد طريق الاحتياط مع العلم بشغل الذمّة ، ولو لا ذلك لم تكن حجّة ، كالشهرة ، وقول الأموات والخبر الضعيف غير المجبور في غير حكم الندب ونحوه.

وأمّا خبر الواحد المعتبر فإنّه وإن كان ممّا يفيد الظنّ فهو حجّة في نفسه ، لا بسبب الاضطرار ، فيليق للتخصيص.

والخبر الضعيف في باب السنن يقوى أنّه من قبيل الأوّل ؛ لأنّ المتيقّن من دليله اشتراط فقد الدليل.

والعموم اللغوي يتبع اللغة ، والعرفي العرف. ويدخل النادر منهما في الحكم ما لم يبلغ في الندرة إلى حيث يشكّ في إرادته ، واعتبار الشكّ في الدخول تحت العامّ مشروط بشدّة الندرة ، ولا يكفي فيه مجرّد القلّة وعدم الكثرة ، بخلاف المطلق.

ولو ضعف العامّ فجبر بعض مدلوله بشهرة أو غيرها اختصّ جواز العمل بذلك ، كما أنّه لو جبر بعض المتن دون بعض ولم يكن بينهما ارتباط يمانع اختصاص أحدهما بالصدق قصر العمل عليه.

وصلة الموصول ، وشرط أداة الشرط ، وصفة الموصوف ، والحدث بعد أداة الاستفهام الدالّة على العموم ؛ في حكم المطلق.

وصيغة العموم المدخولة بمثلها تنسلخ هي عن العموم أو تسلخ أُختها ، وقد تبقيان على حالهما.

١٧٦

وعام الأجزاء مع جعل آحادها متعلّقة للحكم بالاستقلال من العام وإن تعلّق بها ضمناً فليس منه.

البحث الحادي والعشرون

قد تبيّن أنّ وجود ألفاظ في لغةِ العرب وغيرها من اللغات في الجملة تفيد العموم حقيقة كوجود ما يفيد الخصوص في الجملة من البديهيّات ؛ فمن أنكر ذلك في لفظ : «كلّ ، وجميع ، وسائر ، وكلّما ، وشامل ، ومستغرق ، وعام ، ونحوها» فقد كابر البديهة.

وأمّا غيرها من أسماء الشرط والاستفهام ؛ كمن ، وما ، ومهما ، وحيثما ، والجمع المحلّى ، والمضاف والنكرة بعد النفي ، فإفادتها للعموم من الأُمور الواضحة أيضاً ؛ وفي الرجوع إلى العرف وحسن الاستثناء ما يُغني عن الطول.

ومن تتبّع الأخبار وجد احتجاج الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم قديماً وحديثاً بها على عموم الحكم.

وأمّا المفرد معرّفاً ومنكّراً ، واسم الجنس جمعيّا وأفراديّاً ، والجمع المنكّر ؛ فلا عموم فيها إلا من خارج ، كتوقّف الإفادة وقضاء الحكمة ونحو ذلك.

والظاهر من عموم الجمع استغراق الآحاد ، دون الجماعات ، ودون مجموعها (١) ، والظاهر أنّ أقلّه ثلاثة فما زاد ، كاسم الجمع ، ولا فرق بين جمع الكثرة والقلّة إلا بطريق الاستحسان ، واسم الجنس أفراديّاً بحكم المفرد ، والجمعي (٢) بمنزلته في كثير من الإطلاقات ، وفي بعضها كالجمع. كلّ ذلك يظهر من ملاحظة العرف.

والضمير والإشارة يتبعان المرجع في العموم والخصوص ، ويرتبطان بالأخير كالاستثناء وسائر القيود مع الانفصال ، وبالجميع مع الاتّصال ، ما لم تكن قرينة خارجيّة تفيد خلافه.

__________________

(١) في «ح» زيادة : ودون مجموع الآحاد.

(٢) في «س» ، «م» : والجمع.

١٧٧

ونفي الاستواء ولفظ التحليل والتحريم وباقي الأحكام الخمسة المتعلّقة بالأعيان والمنزلة ، والتشبيه مصرّحاً أو مضمراً أو بطريق الاستعارة كما في مثل : الطواف بالبيت صلاة ، والفقاع والعصير خمر ، وكلّما يطلق بوجه الحمل دون ما كان بنحو الوضع مجازاً كالماء للمضاف ، والصلاة لصلاة الجنازة ، ونحوهما ؛ ينصرف إلى الظاهر من الصفات والأفعال (١). فإن لم يكن ظهور عمّت ، كما أنّ الحكم المرتبط بالصفات يعمّ محالّها مع عدم ظهور البعض ، وإلا خصّت.

البحث الثاني والعشرون

إخراج المجمل المتمشّى إجماله إلى ما أُخرج منه لا المختصّ به ؛ لأنّه لا يقضي بالإجمال من عمومٍ أو إطلاقٍ في جميع اللغات يقتضي إبطال حجيّة الإطلاق والعموم ، لأعلى وجه العموم ؛ لأنّهما لا يخلوان من أحوال :

أحدها : أن يكونا موضوعين وضع القاعدة ، كقولهم : «كلّ شي‌ء طاهر» (٢) ، و «كلّ شي‌ء حلال» (٣) والمخرج منفصل ؛ وهذان لا كلام في حجيّتهما كيف كان المخصّص لهما ، من عقل أو غيره ، مستفاد من ضرورة أو إجماع أو كتاب أو سنّة.

ثانيها : أن يكونا مخرجين من مطلق أو عامّ أفرادهما غير محصورة ، والمخرج محصور ، نسبته إليه كنسبة المعدوم إلى الموجود ، مسمّى أو منسوباً بنسبة الكسر ، والمخرج منفصل أيضاً من إجماع أو عقل أو خبر ونحوها. والظاهر عدم التأمّل في الحجيّة.

ثالثها : أن يكونا كذلك ، والمخرج متّصل ، ويقوى لحوقه بما سبق.

رابعها : أن يكونا كذلك ، والمخرج غير محصور ، ويقوى القول بعدم الحجيّة هنا.

خامسها : أن يكونا محصوراً من محصور ، ويقوى الحكم ههنا بالإجمال.

__________________

(١) في «م» : الأقوال.

(٢) ورد مضمونه في التهذيب ١ : ٢٨٤ ح ٨٣٢ ، والوسائل ٢ : ١٠٥٤ أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

(٣) ورد مضمونه في التهذيب ٩ : ٧٩ ح ٣٣٧ ، والوسائل ١٦ : ٤٩٥ أبواب الأطعمة والأشربة ب ٦٤ ح ٢. وج ١٢ : ٥٩ أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١ ٤.

١٧٨

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّ الإخراج قد يكون للأنواع ، وقد يكون للأفراد ، فقد ينحصر النوع ولا تنحصر الأفراد ، فإذا خرج النوع نظر إلى ما بقي من الأنواع ، كما أنّه إذا خرج الفرد نظر إلى ما بقي من الأفراد.

وإخراج الخاصّ المعيّن من المجمل إن كان بوجه النسبة فالإجمال فيهما ، وإن كان بوجه التسمية فالإجمال مخصوص بالمخرج.

ولو كان المخرج مبيّناً للعامّ كما إذا أخرج من عموم العيون عيناً خاصّة من الذهب مثلاً ارتفع الإجمال وصحّ الاستدلال.

البحث الثالث والعشرون

في أنّ منتهى التخصيص إلى محلّ يتحقّق فيه القبح وينكر بحسب العرف والعادة ، وهذا جارٍ في جميع اللغات.

وتحقيق الحال أنّه إن تعلّق بالصفات صحّ الاستثناء لما قلّ منها ، وإن زادت أفراده على أفراد المستثنى منه. وإن تعلّق بالأفراد جاز استثناء الأقلّ منها ، وإن كثرت العنوانات والصفات.

ثمّ إن كانت العلاقة هي الشموليّة والمشموليّة فلا بدّ من بقاء مقدار يقرب إلى الشامل ولا يبعد عنه ، كما أنّ الكلّ لا يحسن استعماله من حيث الكليّة والجزئيّة في الجزء إلا مع قربه منه ؛ فتقبح تسمية الجزء الصغير من حيوان أو جماد باسم الكلّ.

وإذا كانت العلاقة الكبر المعنوي أو الكثرة المعنويّة من باب :

ليس على الله بمستنكَر

أن يجمع العالم في واحد (١)

أو العلّية والمعلوليّة ونحو ذلك أو بني على المجاز في الإسناد فلا مانع.

ومسألة الأعداد ، وأدوات الاستفهام ، والموصولات ، والصفات ، والأبدال ، والتمييزات ، والأحوال ، وسائر القيود لا تتبع في الحكم ؛ لأنّها بمنزلة كلام واحد.

__________________

(١) إرشاد القلوب للديلمي ٢ : ١١.

١٧٩

وكيف كان فالقبح في ألفاظ خاصّة كالكلّ ، والجميع ، والسائر ، ونحوها مع انفصال المخرج أو اتّصاله بوجه يشبه الانفصال كالاستثناء لا يمكن إنكاره. وفي غيرها محلّ نظر.

ثمّ لو قيل : بأنّ ذلك من المستنفرات طبعاً ، لأمن الممنوع وضعاً ، فتختصّ الثمرة بمسألة جواز الوقوع شرعاً في الكتاب والروايات وفي مخاطبات أرباب العقول والكمالات ، ولا يترتّب عليها اللحن كما في الإسراع في الخطاب أو الجواب ، وإعلاء الصوت فيه زائداً على المتعارف ، والإخبار بما لا فائدة فيه ، والجمع بين الأُمور المتباعدة ، كقولك : ألف باذنجانة في البستان ، وعين السلطان عوراء ، إلى غير ذلك ، لأنّ ترك تسمية القليل والإتيان بالعام وإخراج الكثير كالأكل من القفاء ، ولو كان ذلك عن حكمة لم يكن قبح ولا منع ، ولم يكن بعيداً.

البحث الرابع والعشرون

كلّ مخاطب في كلّ لسان مشافهة أو بواسطة راوٍ أو كتاب ، من شارعٍ وغيره ، بعامّ أو مطلق ، أُخرج بعض أفرادهما أو لا يريد العمل به من دون توقّف على مخصّص أو مقيّدٍ ؛ ما لم ينصّ على خلافه ، أو يُعلم ذلك من عقلٍ أو ضرورةٍ أو عادةٍ أو حال مخاطب ، أو يعلم أنّه وضِعَ وَضعَ القاعدة حتّى يجي‌ء المخرج.

فالأصل في كلّ خطاب (١) صادر من كلّ مطاع ، من المخلوقين أو كتاب ، أو سنّة أو إجماعِ أو غيرها أن يعمل عليه من دون توقّف على بحث عن مخصّص أو مقيّد ، فضلاً عن استقصائه ، إلا إذا علم وجود المعارض في خطاب أو كتاب أو سنّة ، فإنّه يجب على العبد وكلّ مطيع ، وعلى العاملين التفحّص عن ذلك حتّى يحصل العلم إن أمكن ، أو الاطمئنان بالمظنّة.

ولا سيّما إذا كثر حتّى لم يخلُ أكثر الأحكام من وجوده ، كما في الأزمنة البعيدة

__________________

(١) في «ح» زيادة : من أيّ لغة كانت.

١٨٠