كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ١

الشيخ جعفر كاشف الغطاء

كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر كاشف الغطاء


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-880-5
الصفحات: ٤٠٨

الفنّ الثاني

فيما يتعلّق ببيان بعض المطالب الأُصوليّة الفرعيّة وما يتبعها من القواعد المشتركة بين المطالب الفقهيّة

فهاهنا مقصدان

١٤١
١٤٢

المقصد الأوّل

فيما يتعلّق ببيان بعض المطالب الأُصوليّة الفرعيّة

وفيه أبحاث :

البحث الأوّل :

أنّ الآثار الصادرة عن الذوات أو الصفات من السمع واللمس والإبصار ، وبرودة الثلج وتبريده ، والحرارة والتسخين للنار ونحوها لها مقتضيات ، وليست من الأُمور الاتفاقيّات ، وكذا الأحكام العاديّة والعرفيّة ، وأحكام الأمرين من السادات ، وجميع مفترضي الطاعات.

فمن اهتدى إليها بطريق العقل أو الحسّ ، ضرورةً أو بالنظر ، حكم بثبوت مقتضياتها من غير دليل ، ومن خفيت عليه ، لا يحكم إلا عن قول من يهديه إلى سواء السبيل ، من عارف بالعرف أو العادة ، أو حكيم خبير من أهل الإرشاد والإفادة ، أو مطّلع على مقاصد السادة.

ثمّ (١) حكم الشارع بنحو من الأحكام الخمسة أو الستّة ، لم يكن عن عبث ؛ فيلزم نقص في الذات ، ولا لحاجة تعود إليه ، فتنقص صفة الغنى من الصفات ، فليس إلا لمصالح أو مفاسد تتعلّق بالمكلّفين في الدنيا أو يوم الدين ، فمن أدرك شيئاً منها بقلبه

__________________

(١) في «ح» زيادة : وكذا.

١٤٣

اهتدى بذلك إلى مراد ربّه.

فمن علم بمقتضى عقله صفة تقتضي الندب أو الإباحة أو الإيجاب أو الوضع أو الكراهة أو التحريم ، حكم بمقتضاها من غير حاجة إلى المرشد ؛ فإنّها مبنيّة على صفتي الحسن والقبح ؛ لكمالٍ أو نقص ، أو موافقةٍ للغرض أو مخالفة ، أو ملاءمة للطبع أو منافرة ، أو استحقاق مدحٍ أو ذمّ ، إمّا مقوّمتان للذات كما في العدل والظلم والخير والشرّ ، أو عارضتان لها من حيث هي هي ، أو من حيث التأثير (بالعقل) (١) ، أو لأُمور مفارقة قد تعارض ما تقّدم سوى المقدّم ، أو يعارض بعضها بعضاً (بسبب فاعل أو منفعل أو زمان أو مكان أو وضع أو غيرها) (٢) فينسخ الراجح المرجوح فلا تثليث.

ويجوز أن يكون الإظهار لمجرّد الاختبار ، ولكن هذا القسم وإن جاز عقلاً ، لكن ينفيه ظاهر الكتاب والأخبار.

فمن علم بالصفة ضرورة وحصول ذلك العلم معلوم بالضرورة أو بالنظر اهتدى إلى معرفة الحكم المترتّب عليها ، فيهتدي من ذلك إلى تحسين الشارع وتقبيحه ، ثمّ إلى مساواته أو إلى محبته أو كراهته ، ثمّ إلى محبّة وجوده ، ثمّ إيجاده من المكلّف أو تركه ، ثمّ الإرادة منه ، ثم استحقاق المدح أو الذمّ على فعله أو تركه ، ثمّ الأمر به والنهي عنه ؛ وبذلك تقوم الحجّة ، ثمّ إلى استحقاق ثوابه أو عقابه ، ثمّ إلى فعليّة الثواب أو العقاب مع عدم العفو.

ومدار تحقّق الطاعة والعبادة والمعصية والإثم على الموافقة والمخالفة للإرادة.

ومن نظر في أحوال الموالي والعبيد ، وكلّ مطيع ومطاع مع عود النفع إلى الطرفين أو إلى أحدهما اهتدى إلى ما ذكرناه (٣).

ولا يفهم من قولهم : «لا نعذّبكم إلا إذا أرسلنا إليكم رسولاً ، ولا نؤاخذكم إلا بعد البيان» إلا إرادة أنّه مع الجهل بالإرادة لا تعذيب (٤).

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في «م» ، «س».

(٢) ما بين القوسين ليس في «م» ، «س».

(٣) في «ح» زيادة : ففي البداهة والظهور للإخفاء غنى عن الاستناد إلى لزوم إفهام الأنبياء.

(٤) في «ح» زيادة : وما ادّعي من وقوع الأمر بالقبيح في عدّة مردود بما لا يخفى.

١٤٤

وإن قصر المكلّف عن إدراك المقصود ، انحصر الأمر بالرجوع إلى أبواب الملك المعبود ، فيدور الخطاب أمراً ونهياً وتخييراً مدار المصالح والمفاسد المترتّبة على تلك الصفات والخلوّ عنها ، وهي إمّا دنيويّة فقط ، أو أُخرويّة كذلك ، أو جامعة بينهما مع أصالة الأُولى وضميمة الثانية ، أو بالعكس ، أو مع التساوي.

والغرض قد يعود إلى العامل أو إلى غيره ، أو إليهما معاً ، فإن تجرّدت للاخرة أو كانت هي الأصل ، فالعمل المشتمل عليها عبادة (١).

ثمّ منها ما هي صحيحة ويثاب عليها ، قرنت بالنيّة أو لم تقرن كالعقائد الأُصوليّة ، والنيّة ومكارم الأخلاق وما يلحق بها فإنّها تصحّ ويثاب عليها من دون نيّة.

وقد يُجعل مدار التسمية على مقارنة النيّة ولو اتّفاقيّة ، فتدخل المعاملات عقوداً وإيقاعات وكثير من الأحكام مع الرجحان ونيّة التقرّب.

وقد يُراد بها ما اشترط بالنيّة ، وإن كان الأصل فيها المصالح الدنيويّة ، فيدخل فيها الوقف والعتق ونحوهما ، أو يراد منها ما قرن بالنيّة ، وإن لم تكن شرطيّة مع الوضع للمصالح الأُخرويّة ، أو تعرف بما اشترطت بالنيّة ووضعت للمصالح الأُخرويّة ، فتكون جامعة للصفتين ، وهي العبادة الصرفة.

ويحتمل الاشتراك اللفظي بين المعاني أو بعضها ، والمعنوي كذلك ، والظاهر أنّ الحقيقي من المعاني هو العبادة الصرفة ، وما عداها معانٍ مجازيّة.

ويقابلها المعاملات والأحكام.

والفرق بينهما أنّ المعاملات تتوقّف على ألفاظ تفيد المراد منها أو ما يقوم مقامها وأنّ ثبوتها جعليّ لا أصليّ بإلزام سماويّ ، بخلاف الأحكام.

وتنقسم إلى قسمين : عقود وإيقاعات.

والفرق بينهما ، أنّ العقود مشتملة على العقد والربط ، ولا تقع إلا من متعدّد حقيقةً أو حكماً ، وتتوقّف على خطابين ، ورضى من الطرفين ، وإيجاب وقبول ، أو ما يقوم

__________________

(١) جاء في هامش «ح» : صحيحة شرطت بالنيّة أو لم تشترط ويثاب عليها ، كذا في الأصل.

١٤٥

مقامهما ؛ بخلاف الإيقاعات.

وقد تتداخل أبحاثها بعض في بعض لجهة جامعة بينها في مواضع كثيرة تعلم بالاستقراء. فجملة مباحث الفقه مقصورة على أقسام أربعة.

البحث الثاني

أنّه قد علم من تتبّع السير والآثار والنظر في الطريقة المستمرّة (١) على مرور الدهور والأعصار ، أنّ كلّ من عنى بتفهيم المعاني الكثيرة الدوران لعامّة آحاد نوع الإنسان ، أو لخصوص صنفٍ منه كائناً من كان التزم بوضع المباني لتلك المعاني ؛ لكثرة حصول الإجمال في المجازات ، وتحمّل المئونة بنصب القرائن ، وخفائها في أكثر الأوقات.

ولذلك أُمر آدم بوضع الأسماء ، والتزم الإباء بوضع الأعلام للبنات والأبناء ، وأرباب العلوم بجملتها عقليّتها ونقليّتها بوضع الأسماء للمعاني المتكرّرة في مصنّفاتهم المتكثرة الدوران في مناظراتهم ومخاطباتهم ، وأهل الصنائع في متعلّقات صنائعهم ، وذوو الأعمال في ما يتعلّق بعمالتهم ، والأُمراء في متعلّق إمارتهم ، والأنبياء والأوصياء في متعلّق نبوّتهم وإمامتهم.

ومن سلك جادّة الإنصاف علم أنّ الشارع أولى وأحرى بمراعاة الحكمة في رفع التعب ودفع الاشتباه عن رعيّته ، والمعتنين باتّباع أمره وسماع كلمته بوضع ألفاظ مبتدئة حين البناء على إظهار الشريعة ، لكلّ ما يكثر دورانه من حجّ أو صلاة أو صوم أو زكاة أو نبوّة أو إمامة أو قضاء أو خطبة أو حكومة أو إيمان أو إسلام أو كفر ونحوها.

وكيف يخطر في البال أو يجري في الخيال أنّ الشارع مع زيادة شفقته وكثرة لطفه بالرعيّة ، وشدّة عنايته ونهاية حكمته لا يلحظ ما يلحظه التاجر في تجارته ، والصانع في صناعته.

فثبوت الحقيقة الشرعيّة ، مع الدخول في الأوضاع الابتدائيّة ، غنيّ عن الاستدلال ،

__________________

(١) في «ح» المشهورة.

١٤٦

غير محتاج إلى القيل والقال.

وفي الرجوع إلى حال السالفين من الأنبياء ، وإلى ما تضمّنته الكتب المنزلة من السماء ، وكيفيّة استدلال الأئمّة بكلاماتها وكلماتهم (١) ، وفهم الأحكام من عباراتها (٢) وعباراتهم ، كفاية لمن نظر وتفكّر وتدبّر ، لوحدة الطريق ، وعدم الفرق بين المقامين على التحقيق.

ويكفي في إثبات هذا المطلب تكرّرها في الكتاب والسنّة ، بحيث لا يحيط بها عدّ ، ولا تنتهي إلى حدّ مع الخلوّ عن القرائن ، ومقبوليّة ذلك في الطباع ، ولو كانت لنُقلت في الأخبار ، لضرورة الاحتياج إليها.

وانصراف الذهن إليها من حيث ذاتها عند الإطلاق ، وكثرتها بهذا الحدّ يغني في إثبات كونها حقيقة.

واحتجاج الأئمّة عليهم‌السلام بالآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة المشتملة عليها ؛ واستدلال الصحابة وجميع الأصحاب كذلك ، من غير ضمّ قرينة مع عدم معارضة الخصم لهم ، أبين شاهدٍ على ما قلناه.

مع أنّ المسألة من الموضوعات ، ومطلق الظنّ كافٍ (٣) فيها وإن لم يثبت الأصل ، لكن يترتّب عليه العمل كما في أحوال الرجال ونحوها.

ويكفي في ثبوتها حكم بعض أهل اللسان كما في سائر اللغات وشهادة النافي (٤) غير مسموعة.

وفي الإجماع محصّلاً ومنقولاً من عدّة جماعة من الأعيان (٥) ما يغني عن البيان ، ومقتضى أكثر الأدلّة أنّها موضوعة بالوضع الابتدائي ، دون الهَجري (٦) ، على

__________________

(١) في «س» : بكلماتهم.

(٢) في «س» : عباراتهما.

(٣) كلمة كافٍ غير موجودة في «س» ، «م».

(٤) في «س» ، «م» : النفي.

(٥) كالمحقّق في معارج الأُصول : ٥٢ ، والمقداد السيوري الحلّي في نضد القواعد الفقهيّة : ٩٣.

(٦) في «ح» زيادة : كما مرّ بيانه سابقاً.

١٤٧

أنّ الهَجر يوجب على المستدلّ بيان التاريخ ، ولم يذكر ذلك أصلاً.

مع أنّه مع التعويل على احتمال الهجر يتمشّى مثله في كثير من ألفاظ اللغة ، فالقول به كالقول بالبقاء على المعاني اللغويّة ، أو بأنّها في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معانٍ مجازيّة ، وإنّما صارت حقائق في أواسط أزمنة الأئمّة عليهم‌السلام أو أواخرها بالهجر حريّ بالهجر.

ثمّ على القول بمجازيّة هذه المعاني لا بدّ من تقديمها على غيرها من المجازات ؛ للإجماع على ذلك من غير نكير.

ثمّ لو لم يثبت الوضع ثبت وجوب العمل (١) كما في كثير من الألفاظ التي جعل الشارع حكمها حكم الأسباب ، من غير اقتضاء دلالة الخطاب.

البحث الثالث

في أنّ مقتضى القاعدة في التخاطب حمل كلام المتكلّم في مكالمته ، أو المرسِل في رسالته ، أو الكاتب في كتابته على مصطلحه ، وعلى ما وضع له في لغته ، أو عُرفه العامّ أو الخاصّ في جميع أخباره وأحكامه ؛ دون المخاطَب في باب المخاطبة ، أو المرسَل إليه في باب الرسالة ، أو المكتوب إليه في باب الكتابة.

ويجري نحوه في الترجيح في سوق (٢) الكلام في الخطاب ورسم الكتاب ، فيجري الإنسان في جميع أقواله كأفعاله على عادته وطريقته ، وذلك ظاهر فيما يتعلّق بنفسه.

وأمّا ما يتعلّق بغيره فلا يفعل ولا يتكلّم إلا بما يترتّب عليه غرض الغير أو فهمه ؛ فإن جامَعَ حصول الغرض البقاء على العادة لم يعدل عن عادته ، وإلا عدل عنها لمقتضى الحكمة والسلامة عن السفه.

فمن ألقى إلى شخص خطاباً ، وكان مخالفاً له في اللسان ، فإن علم أو شكّ في

__________________

(١) في «ح» : الحمل.

(٢) في «م» : صوغ ، وفي «ح» : موضوع.

١٤٨

عدم فهمه كلّمه بلسانه ، ولم يتجشّم أن يترجم (١) له بعد المخاطبة بما (٢) لا يفهمه ، ولو مع الاحتمال ، ويجري ذلك في السامعين له المطلوب أفهامهم ومن يصل إليهم الخطاب.

وإن علم فهمه ، إمّا لجامعيّته بين الموافق والمخالف ، أو لأنّه يفهم الخطاب ولا يستطيع ردّ الجواب ، بقي إنشاء الخطاب على عادته ، ولم يلحظ مصطلح المخاطب ، ولا مكان التخاطب ، ولا من يسمع الخطاب.

ولذلك لا ترى في الأخبار النبويّة والإماميّة ما يشتمل على غير العربيّة ؛ لأنّ من يتردّد من العجم إلى الأئمّة عليهم‌السلام ليس إلا من العلماء والعارفين ؛ وهم يفهمون لسان العرب.

فإذا وردت علينا رواية خُوطب بها من لم يكن موافقاً باللسان وجهلنا المقام ، بنيناها على مصطلح الإمام عليه‌السلام ، إلا أن تقوم قرينة على إرادة المخاطِب قرائن تدلّ على مراعاة المخاطَب والبلد ، أو السامعين.

ولا تنتقض هذه القاعدة إلا بحكم الشارع بطرح مدلولها ، وإخراجها عن مفادها ، وتنزيلها على غيره ، فتكون من قبيل الأسباب ، لا من مقتضيات الخطاب ، كحكمه بتنزيل الوصيّة بالجزء على العشر أو السبع ، والسهم على الثمن أو السدس ، على اختلاف القولين في المقامين ، ويقوى رجحان الأوّلين ، والشي‌ء على السدس.

ولو لا حكم الشارع بالتنزيل لأغنى في العمل بالوصيّة الإتيان بأقلّ القليل (ولا يتسرّى الحكم إلى النذر وشبهه ، ولا الإذن والتوكيل) (٣).

وكحكمه بأنّ من نذر أن يتصدّق بمال كثير ، ينزّل الكثير في نذره على الثمانين ، وبأنّ من نذر أن يعتق كلّ مملوك قديم ، ينزّل القديم في نذره على من مضى على ملكيّته ستّة أشهر فصاعداً ، وبأنّ من نذر صوم زمان وأطلق ، نزّل على خمسة أشهر أو ستّة أشهر.

__________________

(١) في «ح» : يزحم.

(٢) في «س» ، «م» : لما.

(٣) ما بين القوسين ليس في «م» ، «س».

١٤٩

ويقتصر على خصوص النذر بالتصدّق بالمال ، والصوم في زمان ، وبالإعتاق للمملوك أو الوصيّة بالمتعلّقات المخصوصة ، ولا تغني الترجمة فيها ، وفي وصف الكثرة والقدم بالعربيّة لا بغيرها ، اقتصاراً فيما خالف الأصل على المتيقّن.

ويقرب من ذلك ما إذا نذر التصدّق بجميع ماله ، ولا يسعه دفع الجميع ، فإنّه ينزّل على التصدّق بالتدريج حكماً. ويشبه ما ذكرنا تنزيل سكوت البكر على الرضا ، مع كونه أعمّ منه ، وتنزيل إطلاق المهر على مهر السنّة : خمسمائة درهم.

ولا يبعد إلحاق بيع جلد المصحف وورقه مثلاً ، ووصيّة المرتدّ عن فطرة قبل الارتداد بما يصنع له بعد الموت ، في الصنع له حيّاً ، والنيابة عنه فيما يناب به عن الأموات ، ولو كان من خصائص المسلم ؛ لأنّ كفره موته ، وقد أوصى قبله به.

(وكما يجري في الأقوال يجري في الإدراك والأفعال بالنسبة إلى الحكم الواقعي أو الظاهري) (١).

البحث الرابع

لمّا اتّضح أنّ فهم الخطاب مبنيّ على فهم اللغة أو العرف العام أو الخاص ، وكلّ واحدٍ مرأة للاخر في سائر اللغات ، فإن اتّضح الحال بالنسبة إلى زمان صدور الخطاب ؛ بأن عُرِفَ الحال بالنسبة إلى وقت الاستعمال ، لزم البناء على ذلك العرف ولا اعتبار بغيره ؛ فخطاب كلّ وقت محمول على عرفه.

فإن علم الاتّحاد فلا بحث ، وإن جهل الحال في أحدهما وعلم الأخر بُني المجهول على المعلوم ؛ فما صدر من الأوائل محمول على العرف المعلوم عند الأواخر ، وبالعكس.

وإن علم اختلافهما كان خطاب كلّ وقت محمولاً على عرفه ؛ فما ورد من الشرع يُحمل على عرف يوم الورود ، فإن كان فيه مصطلح شرعيّ عمل عليه ، وإلا فعلى الحقيقة العرفيّة العامّة ، ثمّ اللغة.

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في «م» ، «س».

١٥٠

ففي مسألة الغناء قد ظهر في العرف الجديد تخصيصه بما لم يكن في قران أو تعزية أو ذكر أو دعاء أو أذان أو مدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام.

وقد علم من تتبّع كلمات أهل اللغة ، وأحوال الأُمويّين والعبّاسيين وإبراهيم شيخ المغنّين ، أنّ الكثير أو الأكثر أو الأحقّ في تسميته غناءً ما كان في القرآن ومدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا يعرف في أيّامهم الفرق من جهة ذوات الكلمات ، وإنّما المدار على كيفيّات الأصوات ، وهو الظاهر من كلام أهل اللغة ، قدمائهم ومتأخّريهم ، ممّن عاصر زمان ورود النهي أو تقدّمه أو تأخّر عنه (١).

وما رأينا أحداً منهم أخذ قيد عدم القرآنيّة والمدح والذمّ ونحوها فيه. ولم يذكر بينهم خلاف في معناه ، مع اختلاف عباراتهم ؛ فما ذلك إلا لاتّحاد المعنى العرفي ، والإشارة إليه ، والمسامحة في التعريف بالأعمّ أو الأخصّ. فمدار تحقّق الغناء وخلافه على كيفيّات الأصوات ، من غير ملاحظة لذوات الكلمات.

فقد ظهر خطأ العرف الجديد الذي هو بمنزلة المرأة الكاشفة عن العرف القديم ، كما أخطأ بديهةً في تخصيص اسم الغناء بغير الجاري على وفق العربيّة والفصاحة. وليس هذا بأوّل قارورة كُسرت في الإسلام ؛ فقد أخطأ في كثير من المقامات.

فلا يحمل لفظ الغناء على المعنى الجديد ؛ كما لا تحمل ألفاظ التربة ؛ (٢) ، والقهوة ، واللبن ، والنهر والكرّ ، والبحر ، والحجر ، والساعة والكعب والمئزر ، والمثقال ، والوزنة ، والرطل ، والأوقية ، والفرسخ ، والسيّد ، والمؤمن ، والفاسق ونحوها على المعاني الجديدة ؛ لأنّها إن نقلت أو غلط العرف فيها لا يحمل لفظ زمن الخطاب عليها.

وأمّا الصدق باعتبار المبادئ كصفة الكافر والمؤمن ، والعدل والفاسق وجميع مبادئ المشتقّات وجميع العنوانات فيتبع حال الاتّصاف والحكم يدور مداره.

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٣٧٤ ، لسان العرب ١٥ : ١٣٦ ، معجم مقاييس اللغة ٤ : ٣٩٨ ، مجمع البحرين ١ : ٣٢١.

(٢) في «م» : السريّة.

١٥١

فكلّ متّصف بصفة تعلّق به حكم في مبدأ الشرع ثمّ ارتفعت عنه ، ارتفع الحكم عنها بارتفاعها ، وإذا عادت عاد معها ، إلا أن يعيّن الشارع لها وقتاً خاصّاً ، كصفة الكيل والوزن بالنسبة إلى الربا ، فإنّ الصفتين لا اعتبار بهما وجوداً وعدماً إلا ما كان منهما في أيّام سيّد الثقلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا علم الحال هناك بُني عليه ؛ وإن جهل رجع الأمر إلى ظاهر العادة حينئذٍ.

البحث الخامس

في أنّه كما يجب في مصطلح التخاطب اتّباع اللغة كائنة ما كانت في وضع الموادّ وتركيب المفردات وكيفيّة تركيب المركّبات ؛ كذلك يلزم اتّباعها في كيفيّة الاستعمالات والمواقع.

فلا يستعمل ولا يقع اللفظ إلا على نحو ما عُيّن أو تعيّن له بوضع لفظٍ شخصي (١) للفظٍ أو معنىً شخصيّين أو نوعيّين ، أو نوعيّ للفظ أو معنى نوعيّين دون الشخصيّين كما يظهر من التتبّع ، أو بنحو من الإذن والرخصة.

والمعهود في اللغة العربيّة الصحيحة والمحرّفة وغيرها من اللغات استعمال اللّفظ في معنى حقيقي أو مجازي على الانفراد ؛ لا في مجازيّين ولا في حقيقيّين ؛ لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز ، ولا في مختلفين ؛ لا في إفراد ولا في غيره ، في غير الأعلام الشخصيّة ؛ فإنّ الجواز فيها مبنيّ على ظهور إرادة الاسميّة.

حتّى أنّ المستعمِل على هذا النحو يُنكر عليه في جميع اللغات غاية الإنكار ، وحكم اللغة كحكم الشرع توقيفيّ يكفي في الحكم بنفيه الشكّ في ثبوته ، وما يظنّ من ذلك فمن عموم المجاز في الحقيقتين أو المجازين أو الحقيقة والمجاز.

ولو أجزنا ذلك لتداخلت أنواع الكلمة نوع بنوع في الأنواع الثلاثة ، وصفة المشتق والجامد في اللفظ الواحد ، والمفرد بقسيميه ، وأحد قسيميه بصاحبه ، والمشتقّات

__________________

(١) في هامش الحجريّة زيادة : أو نوعيّ للفظ شخصيّ أو نوعيّ ، أو معنى متشخّص في نفسه بنفسه كذا أو بالمرآة ، أو نوعيّ ، أو بنحو الإذن.

١٥٢

والمصادر بعضها ببعض ، ولَحَسُنَ تداخل اللغات بعض ببعض.

والقول بالفرق بين الأقسام في الجواز والمنع بالتفاوت والتباعد أو بتغليب اسم الأشرف أو غيره على غيره بعيد في صحيح النظر.

وقد يحصل الاشتباه التامّ في هذا المقام بزعم الملازمة بين الاستعمال وإرادة الإفهام ، فتتوجّه الظنون إلى أنّه تدخل في المسألة مسألة البطون في الآيات أو الروايات ، وليست من هذا القبيل ؛ لأنّ الفهم قد يكون من الإشارات والكنايات والتعريضات والتلويحات ؛ من دون استعمال في تلك المفهومات ، كما مرّت الإشارة إليه سابقاً. وسيجي‌ء بيانه ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

البحث السادس

في أنّ الارتباط بين موجودين ، أو معدومين ، أو مختلفين ، واتّحاد أحدهما بالآخر يتوقّف على المقارنة فيهما في الان الواحد ، مع تحقّق جهة الارتباط ، فالارتباط بين العارض والمعروض ، والصفة والموصوف ، والعنوان والمعنون ، يتوقّف على ما ذكر ، من غير فرق بين الجوامد والمشتقّات في جميع اللغات.

فارتباط معنى إنسان ورجل وفرس وحمار وغيرها من الجوامد بموضوعاتها ، كارتباط ضارب وقاتل ومتكلّم وقائم وقاعد ، وحسن وقبيح ونحوها كذلك بمصاديقها متى أُطلق في وضعِ أو حكم أو تقييد اتّحد به (١).

فالعنوان يشير إلى ثبوت المعنون ، والنسبة الصورية على وجه الحقيقة تفيد تلك النسبة الواقعيّة على وجه الإطلاق ، من غير تقييد بزمان أو مكان أو وضع وإنّما الأزمنة والأمكنة والأوضاع بأقسامها فيها شرع سواء.

فالإطلاق على وجه الحقيقة يوافق الأزمنة الثلاثة. ففي قولنا : كان زيد نطفة أو علقة أو مضغة أو يكون في رحم فلانة كذلك مع عدم المقارنة للنطق ، أو هو الان كذلك

__________________

(١) جاء في هامش الحجريّة : فمتى أُريد بشي‌ء من العنوان مصداقاً ونسب إليه بحمل أو وضع أو تقييد اتّحد به ، كذا في بعض نسخ الأصل.

١٥٣

مع المقارنة ، أو كان زيد ضارباً أو قاتلاً أو قائماً أو نائماً أو يكون كذلك ، أو هو الان كذلك مع المقارنة في النطق ؛ لا منافاة ولا مضادّة ولا خروج عن الحقيقة فيها. فالعنوان المجرّد أو المقيّد باقٍ على ذلك الحال ، يستوي فيه الماضي والمستقبل والحال.

وإذا ركّب تركيباً إنشائيّاً ودخلت فيه النسبة الإنشائيّة ؛ كأنتِ طالق أو حرّة ، وليت زيداً حيّ ، ونحوها ، أفادت المقارنة البعدية ، وأشبه حكمها حكم الفور في الطلب (١).

وإذا ركّبت تركيباً خبريّاً كزيد حسن ، أو قبيح ، أو عالم ، أو جاهل ، أو قائم ، أو قاعد ، ولم يكن صارف ؛ أفادت المقارنة الحقيقيّة ، والاتّصال بحال النطق بحكم التخاطب وتخصيص الوقت بالإفادة من بين الأوقات ، وقضاء غلبة العادات.

وإن وجد صارف من جهة الذات كصيغ المبالغات ، وغير القارّة من الصفات ، وصفات الصناعات ، ونحوها ممّا يظهر منها اعتبار الماضي من الأوقات ، وكصفة الإثمار والولادة والحمل في مثل : شجرة مثمرة ، ونخلة حمّالة ، وفرس سريعة ، ونفس أمارة ، ونحوها ممّا يُراد به مجرّد القابليّة دون الفعليّة ، وربما رجع إلى حال النطق ببعض الوجوه ، وكصفة الذهاب ، والسفر ، والموت ، والوفود في مثل : أنا ذاهب ، أو مسافر ، أو ميّت ، أو وافد على ربّي ، ونحوها ممّا يُراد به الاستقبال باعتبار الخصوصيّة انقلب عن الحال الأوّل.

فلفظ المركّب في باب الخطاب مقيّد بحال النطق ، لا على وجه الحقيقة والاستعمال ، بل إنّما ذلك من مقتضيات الحال ، فليس معنى حقيقياً ، ولا خلافه معنى مجازيّاً كما نقول مثله في مسألة الفور ، فتدبّر.

البحث السابع

في أنّ جميع ما أفاد الإذن والرخصة والجواز ممّا يعطي الوجوب أو الندب أو الكراهة أو الإباحة من لفظٍ أو غيره ممّا يقوم مقامه في كلّ لسان ، ومن أيّ مطاع كان ؛

__________________

(١) في «ح» : وأشبه حكمها حكم الفوريّة كأنّه في الطلب.

١٥٤

من شارع أو متشرّع أو غيرهما ، في كتاب أو سنّة أو عبارة فقيه أو غيرها ، متعلّقاً بعبادةٍ أو عقدٍ أو إيقاعٍ أو حكمٍ أو نحوها ، يقضي بالصحّة وجمع الشروط وفقد الموانع وترتّب الغرض ، لا مجرّد الجواز وعدم الحظر ؛ لأنّ الظاهر من ذلك بيان جواز ما يترتّب عليه الأثر المراد منه كسائر المؤثّرات والآثار.

مع أنّ الاقتضاء في العبادات على وجه اللزوم ؛ لأنّها مع عدم الصحّة تعود تشريعاً محرّماً ، فلا تكون جائزة.

ومن تتبّع آيات الكتاب والأخبار وكلام الأصحاب لا يبقى معه شكّ في ذلك ولا ارتياب. فتخصيص القوم هذه المسألة بمسألة الأمر بقصد المثال أو إرادة الاقتضاء من وجه ثانٍ ، وإلا فلا فرق ما بين صيغة الأمر وغيرها ، بلفظة افعل وغيرها ، مقصوداً بها الوجوب أو الندب ، أو غيرهما ممّا يتضمّن الجواز.

ولو جعلنا الصحّة عبارة عن سقوط القضاء لم تكن ملازمة عقليّة بينها وبين الجواز في العبادات ، على نحو غيرها من المعاملات.

البحث الثامن

في أنّ ما دلّ على مجرّد مطلق الطلب والإرادة من أيّ لغةٍ كانت بعبارة لا يستفاد الندب أو غيره من صيغتها أو من قرينة خارجة عنها ، من خبرٍ أو إنشاء ، بصيغة «افعل» أو غيرها ؛ تفيد الإيجاب (١) صادرة ممّن كان.

وتترتّب عليه صفة الوجوب مع الصدور عن مفترض الطاعة ، من شارع أو سيّد أو وليّ أو أحد الوالدين ونحو ذلك.

ويتأكّد الاقتضاء في «افعل» ؛ لقوّة دلالة صيغتها ؛ وللخبر قوّة من وجهٍ آخر ؛ لاقتضائه الوقوع ، والوجوب إليه أقرب.

ويدلّ على الدلالة في المقامين ، أنّه أكمل أفراد المطلق وأكثرها وإن كانت أنواع

__________________

(١) في «ح» : الوجوب.

١٥٥

غيره أكثر ، وأنّ الظاهر من حال كلّ مريد الإلزام ، كما يظهر من تتبّع كلمات أهل اللغة والعرف ، ومن أحاط خُبراً باحتجاج الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم بما في الكتاب ، والأخبار النبوية ، وكلمات القدس ، والأنبياء السابقين ، والسلف الماضين بلغ في ذلك حدّ اليقين.

وتخصيص البحث بصيغة الأمر في كلام كثيرٍ منهم (١) يمكن تنزيله على المثال ، أو بيان اقتضاء الصيغة من جهة نفسها ؛ لأنّ ما عداها إنّما جاءت دلالته من ملاحظة أحوال المخاطبين والخطاب.

ولا يبعد القول بأنّ مجرّد الحكم بالرجحان مستفاداً (٢) من عقل أو نقل يكفي في ثبوت صفة الوجوب للعلم بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام فعلوه ولو مرّة ، وبضميمة وجوب التأسّي يثبت الوجوب.

ويقوى في النظر إثبات قاعدة جديدة ، وهي : البناء على أنّ ما دخل في الفرائض المعروفة ، والواجبات المألوفة من العبادات الواجبة بالالتزام أو الفرائض الخمس أو شهر الصيام أو الزكاة وما يتبعها ، والحجّ والعمرة والجهاد وما يتبعها ممّا تعلّق بها ، أو بما يدخل في العبادات الموظّفة ، شطراً كان أو شرطاً أو ترك منافٍ ؛ داخل في حكم الواجب والشرط ، والخارج خارج إلا أن يقوم دليل الإيجاب أو الشرطيّة.

فما ورد من التعقيبات ومن جملتها ، جبر المقصورة. ومن الأذكار ، ومن جملتها : ما يقال عند طلوع الشمس وعند غروبها. ومن الزيارات ومنها : زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحسين عليه‌السلام ، ومقدّماتها وآدابها. ومنها : الغسل للجامعة وقراءة القرآن والدعوات. ومنها : الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلقاً أو عند ذكره أو سماعه ، وآداب الأكل والشرب والنكاح والتخلّي سوى ما دلّ الدليل على تحريمه ، وآداب دخول المساجد والحمّام ومكارم الأخلاق إلا ما علم تحريمه بعقل أو نقل ، إلى غير ذلك ، يبنى على الندب ، كما يظهر من تتبّع السيرة لصاحب البصيرة ،

__________________

(١) كالمحقق في معارج الأُصول : ٦١ ، والعلامة في مبادئ الوصول : ٩١ ، والفاضل التوني في الوافية : ٦٧.

(٢) في «م» ، «س» : ولا مستفاداً.

١٥٦

ولظاهر الأخبار الكثيرة.

البحث التاسع

في أنّ مطلوبيّة الترك ـ بلفظ خبريّ أو إنشائيّ ، أو ما قام مقامه في أيّ لسان كان ، مشتمل على صيغة نهي أو لا ـ تقتضي الحظر والتحريم ما لم يكن شاهد من داخل أو خارج يدلّ على الكراهة ؛ حملاً للمطلق على أكثر الأفراد وأشهرها وأكملها وأظهرها.

وكثرة النوع لا تخل مع أكثريّة تعلّق الخطاب بالأفراد ، ولأنّ الظاهر من حال الطالب لترك فعلٍ الإلزام بتركه.

ومن تَتَبّعَ الآثار ونظر في صحيح الأخبار وتتبّع احتجاجات الأئمّة الأطهار بكلام الله الجبّار وأخبار النبيّ المختار لم يذهب إلا إلى ما ذهبنا إليه ، ولم يعوّل إلا على ما عوّلنا عليه.

وإنّما خصّ بعضهم البحث بصيغة «لا تفعل» (١) ، إمّا لقصد المثال ، أو لزيادة قوّة الدلالة فيها على ما عداها من الأقوال.

ودلالة الخبر لا تخلو من قوّة ؛ لأنّ علاقة النفي مع التحريم أظهر ، وتختلف الدلالات قوّةً وضعفاً باختلاف العبارات.

والذي يظهر من التتبّع التامّ والنظر في سيرة العلماء الأعلام أنّ كلّما يرد من نهي في مقام الاداب محمول على الكراهة من غير ارتياب ، كالمتعلّقة بهيئة الجلوس أو النوم ، أو بآداب دخول الحمّام ونحوها ، إلا أن يقوم دليل على الخلاف.

البحث العاشر

في أنّ مطلوبيّة الفعل في جميع اللغات ، إيجاباً أو ندباً ، بأيّ صيغة كانت ، من غير فرق بين «افعل» وغيرها كمطلوبيّة الترك لا تقتضي توقيتاً.

وإنّما تقتضي الفور على النحو المتعارف في مثل ذلك الفعل ؛ لأنّ ظاهر تخصيص

__________________

(١) كالشيخ حسن في المعالم : ٩٠.

١٥٧

الزمن الأوّل بإلقاء صيغة الخطاب أنّه لا ميدان يتّسع لها ، وإلا لأخّرها ، ولأنّ الأزمنة متساوية في حسن الترك فيها مع عدمه فيلزم الإهمال. ولأنّ المريد للشي‌ء يتأكّد داعيه ويكثر حرصه على المبادرة إليه ، قضاءً لحقّ الحبّ ، وامتثالاً لأمر سلطان الهوى ، كما أنّ قرب المكان في جنب الأعيان كذلك.

ولأنّ أكثر أفراد المطلق وأشهرها وأكملها وأظهرها إرادة المبادرة ، ولأنّه قد وجب عليه الإتيان به في زمن (معيّن ، والخروج) (١) عن عهدة التكليف مقصور على الأوّل.

ولأنّ الاحتياط لخوف عروض التعذّر أو التعسّر لازم ، حتّى أنّ المأمور إذا أخّر العمل فتعذّر لم يُعذر. واشتراط العصيان بما إذا ظنّ الفوات بعيد في النظر ، ولأنّ العرف يقضي بذلك ، حتّى لو أنّ مأموراً سأل الأمر قائلاً : متى تريد منّي هذا الفعل ، عُدّ لاغياً.

وربما يدّعى أنّ ظاهر الإخبار عن الكائنات اتّصال وقوع المخبر به ، وظاهر التمنّي والترجّي والإرادة والمحبّة ونحوها الوقوع بعد وقوع الصيغة ، ومن تتبّع الأخبار ونظر في الآثار وجد ما يستفيد منه ما ذكرناه.

البحث الحادي عشر

في أنّ الأمر بالشي‌ء في سائر اللغات كالإخبار عنه وتمنّيه وترجّيه وإباحته ومحبّته وإرادته لا يدلّ على وحدة بلا شرط ، ولا بشرط لا ، ولا على دوام فيما يمكن أن يدوم ، ولا تكرار فيما يمكن أن يتكرّر.

وإنّما مقتضاها نفس وقوع الحقيقة كما هو ظاهر الإطلاق ، ولا يتوقّف على القول بالوجود بمعناه ولا بمعنى وجود أفراده عند (٢) الانتزاع عنه.

فمن أتى بالآحاد دفعة امتثل بالمجموع لا بواحد منها كما تقتضيه الوحدة المطلقة ، ومع الترتيب يتساويان كما في الاقتصار على الواحد.

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في «م» : ويتعيّن الخروج ، وفي «س» : وتعيّن الخروج.

(٢) في «ح» : لإغناء.

١٥٨

فمرجوحيّة الآحاد من حيث الفردية لا تقتضي مرجوحيّة الحقيقة (ويجوز تعلّق الأمر بها مع إمكان غير المرجوح منها) ؛ (١) كما أنّ مرجوحيّة الحقيقة لا تقتضي مرجوحيّة الفرد (وإن امتنع التكليف به للملازمة) ؛ ؛ (٢) لأنّ تضادّ الأحكام إنّما يكون مع وحدة الموضوع أو لزوم الاستحالة ، كما إذا انحصر الفرد أو تعلّق الأمر بالفرد والنهي بالحقيقة.

فلا معارضة عقليّة بين الأمر بالطبيعة والنهي عن خصوص الفرد ، وإنّما المعارضة ظاهريّة صوريّة ويبتني عليها تقييد الأوامر المطلقة بالنواهي المقيّدة وبالعكس ؛ لأنّ ذلك مقتضى فهم أهل العرف واللغة في جميع الخطابات ، وكلّ أقسام اللغات.

البحث الثاني عشر

في أنّ الأمر بالأمر (٣) ليس بأمرٍ (٤). وهو يتضمّن أمرين كلّ منهما يتبع حال مدلوله ، فيختلفان ويتّفقان.

فقد يرجعان إلى إيجاب الإيجاب ، أو ندب الندب ، أو إيجاب الندب ، أو ندب الإيجاب ، كما تتعلّق الإباحة والكراهة والتحريم بالأمر بقسميه على نحو تعلّقها بالنهي ، وهي بعضها ببعض ، كما أنّ الإخبار بالإخبار أو تمنّي التمنّي أو ترجّي الترجّي مثلاً ليس بإخبارٍ ولا تمنّ ولا ترجّ.

ثمّ ما كان فيه من مادّة أمر يفيد الوجوب بناءً على إفادة مطلق الطلب ، ومع التخصيص بالصيغة لا يفيد الوجوب وإن كان عبارة عن الصيغة ؛ للفرق بين العارض والمعروض.

فعلى ما تقرّر يكون حكم المأمور الأوّل يتبع أمر الأمر الأوّل (٥) ، والمأمور الثاني يتبع أمر الأمر الثاني ، فلا يدخل مأمور ومن أُمر بأمر قوم بالاجتماع لضيافتهم أو بأخذ

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في «م» ، «س».

(٢) ما بين القوسين ليس في «م» ، «س».

(٣) في «ح» زيادة : لمأمورٍ

(٤) في «ح» زيادة : عليه وليس بأمر به على الآمر المأمور ولا المأمور عليه.

(٥) في «ح» : يتبع الأمر الأوّل.

١٥٩

شي‌ء ممّا يقسم بينهم تحت أمر الأمر ، كما لا يدخل (١) المأمور في حكم جماعتهم واستحقاق شي‌ء من قسمتهم.

لكنّا وجدنا في بعض احتجاج بعض الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ما يدلّ على ثبوت الحكم للمأمور الثاني بالأمر بالأمر (٢) ، على أنّ ظهور ذلك من مقتضى الحال غير خفيّ ، خصوصاً فيما بنيت أحكامه على العموم ، ولا سيّما في أوامر الشرع الظاهرة في عموم المكلّفين ؛ بل يظهر من التتبّع دخول المأمور الأوّل في حكم مأمور (٣) الثاني (٤) ولا يخفى على من تدبّر في مواضع الاستعمال.

البحث الثالث عشر

في أنّ الخطاب بالمركّبات الصرفة وذوات الأجزاء المتّصلة ظاهر في إرادة المجموع والأجزاء بالتبع ؛ فالمأمور به واحد.

فإذا فات منه جزء فات المجموع ، إلا أن يتعسّر ويقال بدخوله تحت الخبر ، أو يظهر من حال الخطاب حصول توزيع الغرض المطلوب على الأجزاء ، فإذا أُتي بجزء منه حصل منه بعض المطلوب.

كالأمر بستر العورة وجميع ما يحرم نظره عن (٥) الناظر و (٦) في الصلاة ، وستر بعض رأس المحرم ووجه المحرمة في الإحرام ، وغسل بعض الكفّ أو الكفّين ، والتمضمض والاستنشاق في أحد الجانبين (٧) أو المنخرين في وضوء أو غسل (٨).

__________________

(١) في «م» زيادة : إلا.

(٢) الاحتجاج للطبرسي ٢ : ٣٠٦.

(٣) في «ح» : مأمور به.

(٤) في «ح» زيادة : وإن صدر من غيره بأمره فالحال.

(٥) في «م» ، «س» : على.

(٦) الواو ليست في «ح».

(٧) في «ح» زيادة : من الصفحتين.

(٨) في «س» زيادة : ونحوهما.

١٦٠