بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٣
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أصوات من هنا وهناك لتؤيد فتوى التحليل التي هي خلاف القرآن والسنة.

ثم هناك أدلة اقتصادية تدل على حرمة الربا القرضي رجحنا ذكرها هنا اتماماً للفائدة ، وللذكرى ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، وسوف نبيّن فيها أن الاقتصاديين الكبار في المجتمع الرأسمالي يصرحون بأن انخفاض سعر الفائدة يؤدي الى انعاش الاستثمار ، وبالتالي يُحسِن الحالة الاقتصادية ، وان ارتفاع سعر الفائدة يؤدي الى تدهور الاستثمار والحالة الاقتصادية ، ومن هذه النتيجة يُطرح السؤال التالي : إذن ، لماذا لا نحرّم الفائدة من الوجهة الاقتصادية ؟ وهذا ما سوف نتحدث عنه فيما يأتي ان شاء الله.

الأدلة الاقتصادية على حرمة ربا القرض :

إذا أردنا أن ننظر بمنظار اقتصادي للفائدة ونقوّمها من ناحية فائدتها للاقتصاد الوطني ، وعدم فائدتها أو ضررها ، فإننا نجد أن حرمة الفائدة تؤدي :

أولاً : الى القضاء على التناقض المرير بين مصالح التجارة والصناعة ، ومصالح رأس المال الربوي ، إذ أنَّ الرأسماليين الذين يؤمنون بالفائدة « ينتظرون دائماً فرصتهم الذهبية حين تشتد حاجة رجال الأعمال في التجارة والصناعة الى المال ، ويزيد طلبهم عليه ، لكي يرفعوا سعر الفائدة ويمسكوا بأموالهم طلباً لأعلى سعر ممكن لها. أما حين ينخفض الطلب على المال من رجال الأعمال ونقل حاجتهم إليه ، ويهبط تبعاً لذلك سعر الفائدة ، فسوف نجد الرأسماليين وهم يعرضون أموالهم بكل سخاء وبأزهد الأجور. ومن الواضح أن إلغاء الفائدة يضع حداً لهذا التناقض في حياة طبقة المرابين وطبقة التجار في المجتمع الرأسمالي ، لأن إلغاء الفائدة سوف يؤدي بطبيعة الحال الى تحويل الرأسماليين الذين كانوا يقرضون أموالهم بفائدة الى مضاربين ( المضاربة الشرعية ) يساهمون في مشاريع صناعية وتجارية على أساس الاشتراك في الأرباح ، وبذلك يتحدد الموقف ، ويصبح رأس

٣٢١

المال في خدمة التجارة والصناعة ، ويلبّي حاجاتها ويواكب نشاطها » (١).

وبما أننا لانفرق بين طبقة الرأسماليين والتجار وما يقوم به البنك العالمي اليوم من القرض بفائدة ، فإن البنوك أيضاً تقوم بالدور نفسه الذي يقوم به المرابي من التناقض بين مصالح رأس المال الربوي ومصالح التجارة والصناعة.

ثانياً : الى الحصول على مكسب آخر من تحريم الفائدة وهو وجود العزم والطمأنينة في المشاريع الضخمة الطويلة الأمد ، إذ أنَّ صاحب المال ـ بعد إلغاء الفائدة ـ لم يبق أمامه إلاّ أمل الربح ، وهذا يُحرّكه نحو المشاريع الضخمة المغرية بأرباحها ونتائجها ، خلافاً لحاله في المجتمع الربوي ، فإنه يفضل إقراض المال بفائدة على توظيفه في تلك المشاريع ، إذ أنَّ الفائدة مضمونة على أي حال ، كما أنه سوف يفضِّل أيضاً أن يقرض المال لأجل قصير ويتحاشى الإقراض لمدة طويلة لئلا يفوته شيء من سعر الفائدة ، إذا ارتفع في المستقبل القريب سعرها ، وبذلك يضطر المقرضون ( مادام أجل الوفاء قريباً ) الى استخدام أموالهم في مشاريع قصيرة الأمد حتى يتمكنوا من إعادة المبلغ في الوقت المحدد مع الفائدة المتفق عليها الى البنك أو الرأسمالي الكبير.

كما ان إباحة الفائدة تؤدي الى ضررين آخرين هما :

الأول : إن رجال الأعمال في ظل نظام الفائدة لن يقدموا على إقتراض المال من الرأسماليين وتوظيفه في مشروع تجاري أو صناعي ما لم تبرهن الظروف على أن بإمكانهم الحصول على ربح يزيد عن الفائدة التي يتقاضاها الرأسمالي ، وهذا يعيقهم عن ممارسة كثير من ألوان النشاط في كثير من الظروف ، كما يجمد المال في البنوك وعند الرأسماليين ، ويحرمه من المساهمة في الحق الاقتصادي ولايسمح له بأي لون من ألوان الإنفاق الإنتاجي أو الاستهلاكي ، الأمر الذي يؤدي الى عدم إمكان

__________________

(١) اقتصادنا ، للشهيد الصدر ص ٦٥٦.

٣٢٢

تصريف كل المنتجات وكساد السوق وظهور الأزمات وتزلزل الحياة الاقتصادية.

أما عند إلغاء الفائدة ، وتحويل الرأسماليين والبنوك الى تجار مساهمين مباشرة في مختلف المشاريع التجارية والصناعية ، فإنهم سوف يجدون من مصلحتهم الاكتفاء بقدر أقل من الربح لأنهم لن يضطروا الى تسليم جزء منه باسم الفائدة ، وسوف يجدون من مصلحتهم أيضاً توظيف الفائض عن حاجتهم من الأرباح في مشاريع التجارة والانتاج ، وبذلك يتم إنفاق الناتج كله إنفاقاً استهلاكياً وإنتاجياً بدلاً من تجميد جزء منه في جيوب المرابين بالرغم من حاجة التجارة والصناعة إليه ، وتوقف تصريف جزء من المنتجات على إنفاقه (١).

الثاني : إن نظام الفائدة يحث ويشجع على الاكتناز حتى يحصل لدى البنوك أو الرأسماليين رؤوس أموال لمشاريع كبار ، ولكن الاكتناز يعرقل حركة الحياة الاقتصادية ويهدد حركة الانتاج إذا حصل من الأفراد أو من المؤسسات والبنوك. وإليك توضيح ذلك :

كان في عصر المقايضة أن المنتج لاينتج إلاّ بقدر ما يستهلك ، لأنه يستبدله بسلعة أخرى يستهلكها ، وحينئذ تكون السلعة المنتجة تتضمن دائماً طلباً بقدرها ، وبهذا يتساوى الانتاج والاستهلاك ، والعرض الكلي مع الطلب الكلي.

أما بعد اختراع النقد ( كوسيلة للقضاء على المصاعب المعروفة لعصر المقايضة التي ليس هنا محل ذكرها ) فقد صار المنتج ينتج لا لاستهلاكه ، بل بقصد أن يبيع ويحصل على نقد ليضيفه الى ما ادخره من نقود ، وبهذا يوجد عرض لايقابله طلب ، فيختل لأجل ذلك التوازن بين العرض العام والطلب العام ، ويتعمق هذا الاختلال بقدر ما تتسع ظاهرة الاكتناز لدى المنتجين والبائعين ، وبهذا يظل جزء كبير من الثروة المنتجة دون تصريف ، وتعاني السوق الرأسمالية

__________________

(١) المصدر السابق ص ٦٥٧.

٣٢٣

من مشكلة تصريفها ، وبذلك تتعرض حركة الانتاج والحياة الاقتصادية لأشد الأخطار (١).

وأما الاسلام : فقد اختلف مع الرأسمالية في نظرته الى الادخار والاكتناز ، ونظرته الى الفائدة ، فقد جعل ضريبة على المال المكتنز ، وحث على إنفاق المال في مجالات الاستهلاك غير المسرف والانتاج المثمر ، حتى جاء في الحديث عن الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : ( إن الله إنما أعطاكم هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها الله ، ولم يعطكموها لتكنزوها ) (٢) وقد صرّح القرآن الكريم وهدد المكتنزين ، إذ قال : ( والّذين يكنزونَ الذهبَ والفضَّةَ ولا يُنفقونها في سبيل الله فبشِّرهُمْ بِعذاب أليم * يومَ يُحمى عليها في نارِ جهنَّمَ بها جِباهُهُمْ وجنوبُهُمْ وظُهورهُمْ هذا ما كنزتُمْ لأنفسِكُمْ فذوقوا ما كُنتُمْ تَكنِزون ) ( التوبة / ٣٤ ـ ٣٥ ).

ثم إن الاسلام بغير حاجة الى الاكتناز والحث عليه ، لوجود رؤوس أموال ضخمة تملكها الدولة ويمتلكها المجتمع الاسلامي ويملكها الناس ، هذه هي الملكيات العامة المعترف بها في الاسلام. وتستطيع الدولة أو البنوك استثمارها في المشاريع الاقتصادية والعمرانية الضخمة ، وهذا بخلاف الرأسمالية التي لاتقر بهذه الملكية للدولة وللمجتمع ، هي بحاجة الى تشجيع الاكتناز حتى تتجمع لديها الأموال لهذه المشاريع.

الكسب بدون عمل حرام :

الكسب بدون عمل غير جائز من الناحية الاقتصادية ، لأن الاقتصاد يريد عملاً وجهداً ( إما أن يكون مباشراً أو مختزناً ) حتى يتمكن الانسان من الحصول

__________________

(١) هذا في صورة ما إذا لم تفكر الدولة الرأسمالية بايجاد أسواق لها في الدول الضعيفة ، وأما إذا فكرت بذلك فإنها سوف تستعمل شتى الحيل لاستثمار تلك الدولة في سبيل جعلها سوقاً لبضائعها ، وبهذا يحدث لنا الاستعمار الذي رأينا منه الكثير.

(٢) الكافي / ج ٤ / باب وضع المصروف موضعه / ح ٥ ص ٣٢.

٣٢٤

على ربح في مقابل عمله. أما إذا أخذ الانسان يكتسب ويحصل على الربح من دون مباشرة عمل ( مباشر أو مختزن ) فهذا معناه في المصطلح الاقتصادي تحرك الميزان من جانب واحد وهو لا يجوز في المنظار الاقتصادي ، إذ أنَّ المنظار الاقتصادي يقول بلا بدّية تحرك الميزان من جانبين : عمل و كسب ، أي عمل في كفة وكسب في كفة أخرى.

وهذه الحقيقة لم يغفلها الفقه الاسلامي ، فقد حرم الكسب القائم بدون عمل وصرح الفقهاء : بأنه لا يجوز للانسان أن يستأجر أرضاً أو أداة انتاج بأجرة معينة ثم يؤجرها بأكثر من ذلك مالم يعمل في الأرض أو أداة الانتاج عملاً يسوّغ حصوله على الزيادة. وقد نص على هذا الحكم جماعة من كبار الفقهاء ، كالسيد المرتضى ، والحلبي ، والصدوق ، وابن البراج ، والشيخ المفيد ، والشيخ الطوسي (١).

وهذا الرأي الفقهي يستند الى أحاديث وردت بهذا الصدد ، منها :

١ ـ موثقة أبي بصير قال : قال الامام أبو عبدالله الصادق عليه‌السلام : « إني لأكره أن أستأجر رحاً وحدها ثم اواجرها بأكثر مما استأجرتها به ، إلاّ أن يحدث فيها حدث أو تغرم فيها غرامة » (٢).

٢ ـ صحيحة الحلبي ، عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « في الرجل يستأجر الدراثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به ؟ قال عليه‌السلام : لا يصلح ذلك ، ألاّ أن يحدث فيها شيئاً » (٣).

وهذا الكلام نفسه نقوله في العمل أيضاً ، فلا يجوز أن يتفق شخص مع آخر على إنجاز عمل بأجرة معينة ثم يستأجر للقيام بذلك العمل أجيراً آخر لقاء مبلغ أقل من الأجرة التي ظفربها في الاتفاق الأول ليحتفظ لنفسه بالفارق بين الأجرتين

__________________

(١) المبسوط / للطوسي / ج ٣ ص ٢٢٦.

(٢) وسائل الشيعة / ج ١٣ / باب ٢٢ من أبواب الاجارة / ح ٥ ص ٢٦٥.

(٣) المصدر السابق / ح ٤.

٣٢٥

من دون عمل يقوم به. و الدليل على ذلك الروايات الكثيرة ( وقد تقدم بعضها ) ، ومنها صحيحة محمد بن مسلم ، أنه سأل الامام الصادق عليه‌السلام « عن الرجل يتقبّل بالعمل فلا يعمل فيه ، ويدفعه الى آخر فيربح فيه ؟ قال : لا ، الاّ أن يكون قد عمل شيئاً » (١) و مثلها روايات كثيرة.

إذن ، من كل هذه المقدمة نستفيد فقهياً واقتصادياً أن الكسب من دون تقديم عمل لا يجوز ، وبما أن المرابي هو كذلك ، فانه يكتسب من دون تقديم عمل ( مباشر أو مختزن ) فهو لا يجوز.

وقد يقال ان المال النقدي الذي يقدمه المرابي هو عبارة عن عمل مختزن فيجوز أن يؤجره فيكون كسبه في مقابل العمل المختزن.

فاننا نقول : قد تقدم منّا أن العمل المختزن إنما يجوز إيجاره للغير وأخذ الكسب عليه ( كالبيت والدكان والآلة ) لأنه يُستهلك بعضه بالاستعمال ، أما هنا في النقد المالي فإنه يرجع بنفسه من دون ذرة استهلاك ، ولهذا يكون كسباً من دون عمل ، وهذا يتعارض مع تصورات الاسلام عن العدالة.

نعم ، إذا كانت الفائدة هي : تعبير عن حق الرأسمالي في شيء من الأرباح التي جناها المقترض عن طريق ما قدم إليه من مال ، فان هذا الحق بالاضافة إلى أنه في صورة استثمار المال وحصول الربح فقط والاسلام أقرّ هذا الحق في صورة ما إذا كان اشتراك بين صاحب المال والعامل وربط الرأسمالي بنتائج العملية ، وهذا هو معنى المضاربة التي جوّزها الاسلام ، بشرط أن يكون حق الرأسمالي المتقدم بصورة نسبة مئوية ، وإذا حصلت خسارة فانه هو الذي يتحملها فقط ، أما العامل فقد خسر عمله ، وهذا هو معنى تحرك الميزان من جانبين ، وهو جائز اقتصادياً أيضاً ، ولكن هذا يختلف بصورة جوهرية عن الفائدة بمفهومها الرأسمالي التي تضمن له أجراً ثابتاً منفصلاً عن نتائج العملية التجارية.

__________________

(١) وسائل الشيعة / ج ١٣ / باب ٢٣ من أبواب الاجارة / ح ١ ص ٢٦٥.

٣٢٦

وقد يقال : ان المال الذي قدمه الرأسمالي الى المدين ( قد هبطت قيمته التبادلية ) فالربح والفائدة هو عبارة عن قيمة هذا الهبوط ، فيكون جائزاً.

والجواب : صحيح انه في بعض الحالات تكون القيمة التبادلية للدينار أكثر منها في وقت آخر ، وقد يكون العكس صحيح ، فاذا كانت القيمة التبادلية للدينار تساوي مائة كيلو من الحنطة ثم تحسنت فكانت تساوي مئتي كيلومن الحنطة ، فهل يرضى الدائن بأن يأخذ نصف دينار على ديناره الذي أسلفه للمدين بحجة أن القيمة التبادلية للدينار قد تحسنت ؟! والجواب : إن المدين لا يرضى بذلك لأنه إنما أقرض الدينار فهو يريده بنفسه سواء نزلت قيمته التبادلية أو صعدت ، فان هذا النزول أو الصعود هو تابع الدينار نفسه ولمالكه ، ولا يجوز أن يتحمل النزول فرد آخر ، كما لا يجوز أن يستفيد من الصعود غير صاحبه المالك له.

ثم : لماذا لانقول هذا الكلام عندما أؤجر بيتي لفلان بخمسين ديناراً ثم تهبط قيمة البيت فهل يجوز أن نقول إن المستأجر يتحمل قيمة الهبوط ؟! وبعكس ذلك إذا صعدت قيمة البيوت ، فإنه لا يجوز للمستأجر أن يقول : أنا أستحق نصف قيمة الصعود ، إذ إن صعود قيمة السلعة أو هبوطها نتيجة لأوضاع خاصة لا ربط لها بالمقرض أو المستأجر. وعلى هذا الأساس إذا نزلت أسعار النقود في السوق ، إلاّ أن هذا لا يكون استهلاكاً للعمل المختزن في النقد وقد انتفع به المستقرض حتى يجب عليه تعويضه ، بل إنَّ العمل المختزن في النقد لا يزال كما هو لم يتفتت ولم يستهلك وإنما العمل يكون قد حصل على كسب بدون سبب ، أي حصل صاحب النقد على كسب من دون أن يستهلك من عمله المختزن شيئاً خلال عملية الانتفاع ، وهذا ما يرفضه الاسلام حسب النهي عن كسب بدون عمل.

الأثر الفطري للربا :

لقد تعرضنا في كتابنا « الربا فقهياً واقتصادياً » الى مضار الربا ، وذكرنا أن له مضاراً من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية ، ومن ناحية المرابي ومن

٣٢٧

ناحية المنتج ومن ناحية تنمية الاقتصاد ، فمن أراد التوسعة فعليه مراجعة الكتاب (١) ، إلاّ أننا هنا نستل من ذلك الفصل عنوان الأثر الفطري للربا لنجعله أمام الرأي العام ، ونقول للنمر وطنطاوي ومرسي ، إذا كان الربا حلالا فلماذا هذه الضجة عندما أقرضت امريكا بريطانيا قرضاً ربوياً ؟!

نقول : بعد الحرب العالمية الثانية عقدت اتفاقية ( برتين وود ) لَديْن كبير من قبل امريكا لبريطانيا ، ولكن بريطانيا قد تأثرت من هذا القرض الربوي على لسان كبار سياسيهم واقتصاديهم ، فمما قاله ( اللورد كينز ) بعد ان عقد الاتفاقية مع امريكا باعتباره ممثلاً للشعب الانجليزي : « لا أستطيع أن أنسى أبد الدهر ذلك الحزن الشديد ، والألم المرير الذي لحق بي من معاملة امريكا إيانا في هذه الاتفاقية ، فانها أبت أن تقرضنا شيئاً إلاّ بالربا ».

ومما قاله تشرشل : « إني لأتوجس خلال هذا السلوك العجيب المبني على الإثرة وحب المال الذي عاملتنا به امريكا ضروباً من الأخطار. والحق أن هذه الاتفاقية قد تركت أثراً سيئاً جداً فيما بيننا و بين امريكا من العلاقة ».

وقال اللورد والتن وزير المالية : « إن هذا العبء الثقيل الذي نخرج من الحرب وهو على ظهورنا ، جائزة عجيبة جداً نلناها على ما عانينا في الحرب من الشدائد والمشاق والتضحيات لأجل الغاية المشتركة ، وندع للمؤرخين في المستقبل أن يروا رأيهم في هذه الجائزة الفذة من نوعها ، التمسنا من امريكا أن تقرضنا قرضاً حسناً ولكنها قالت لنا جواباً على هذا : ما هذه بسياسة عملية » (٢).

الخلاصة : إن المرابين بالرغم من أنهم طفيليون على مائدة أموال الناس ، والمترقب أن يكون حظهم أقل من حظ أصحاب الموائد أنفسهم ، أصبح حظهم

__________________

(١) ص ٣٧٧.

(٢) الربا / للمودودي / ص ٤٣ ـ ٤٤.

٣٢٨

أكثر ، وذلك لأن نفعهم مضمون سواء ربحت التجارة أو خسرت ، فكأن المال ـ تلقائياً ـ ينمو بمضي الزمن عليه في ذمة الناس بلا حاجة الى أي عمل من قبل صاحب المال !!.

وقد ذكروا أن هناك كتاباً أصدره أحد العلماء الفرنسيين الأحرار « كتاب لم يكد يخرج من المطابع سنة (١٩٥٥) حتى استولى عليه هذا الاخطبوط ( أصحاب المصارف الربوية ) فأباد جميع نسخه إلاّ عدداً قليلاً افلت من قبضته » (١). وعنوان هذا الكتاب : « الماليون وكيف يحكمون العالم ويقودونه الى الهاوية » ذكروا أن فيه أدلة كثيرة ووثاق ثابتة تثبت بالبرهان أن كل المحن و الكوارث هي من صنع أصحاب المصارف المرابين.

ويشير الكتاب نفسه في مقدمته الى كتاب آخر يقول عنه الدكتور محمد عبدالله العربي : بحثت عنه سنوات متتالية وفي كل مكان فلم أجد له أثراً ، ولعل الاخطبوط قد أباده أيضاً ، والكتاب عنوانه : « فرنسا اليهودية أمام الرأي العام » ( ونقتبس من هذه المقدمة كلمة لمؤلف هذا الكتاب الثاني ... لأنها صورة دقيقة وموجزة لنفوذ البنوك العالمية الحديثة ) وهي :

« ان الذي يلفت النظر في عصرنا ليس هو فقط تكدس الثروات في أيد قليلة وأحياناً بأساليب فاجرة ، بل هو على الأخص تكدس قوة هائلة تتمثل في سيطرة اقتصادية لا ضابط لها ولا قيد ، سيطرة تصول بها فئة قليلة ليسواهم ـ في الغالب ـ ملاّك المال ، بل مجرد مستودعين له ، ولكنهم يديرونه ويتصرفون فيه كما لو كانوا ملاّكه بالفعل » ، « إنها لقوة هائلة تلك القوة التي يصول بها هؤلاء في سيطرتهم المطلقة على المال ، وعلى الائتمان ، أي الإقراض الذي يوزعونه بمحض مشيئتهم المطلقة ، فكأنهم بذلك إنما يوزعون الدم اللازم لحيوية الجهاز الاقتصادي

__________________

(١) المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الاسلامية / د. محمد عبدالله العربي ص ٩٢.

٣٢٩

بكل أوضاعه ، فاذا شاءوا حرموه دم الحياة فلا يستطيع أن يتنفس ، وإذا شاءوا قدّروا مدى انسيابه في جسم الجهاز ، التقدير الذي يتفق مع مصالحهم الذاتية ». « ثم إن تجمع هذه القوى وهذه الموارد المالية في أيديهم يؤدي بالتالي الى الاستيلاء على السلطة السياسية في النهاية ، وذلك يتحقق في خطوات ثلاث متدرجة متساندة ، الاولى ، الكفاح في سبيل احراز السيادة الاقتصادية. ثم الكفاح في جمع مقاليد السيادة السياسية في أيديهم ، ومتى تحققت لهم بادروا الى استغلال طاقاتها وسلطاتها في تدعيم سيادتهم الاقتصادية ، وفي النهاية ينقلون المعركة الى المجال الدولي العالمي ». والنتيجة الملازمة لهذا الوضع وهي : « أن ولي الأمر ـ الذي كان مفروضاً فيه أن يمثل مصالح المجتمع وأن يحكم من مكانه الرفيع في نزاهة وحياد وعدل وايثار لمصالح المجتمع ـ قد سقط الى درك الرقيق لهذه القوى المالية ، وأصبح أداة طيّعة لتنفيذ أهوائها وشهواتها » (١).

فهل يريد النمر وطنطاوي ومرسي أن يزيدوا من قوة المصارف وقوة الفضائح التي تصدر منها ؟! وماذا سيكون الجواب غداً عند مليك مقتدر ؟ وأخيراً ، أذكر لكم آيات الربا القرآنية ليتذكر مَنْ يدعو الى حلّيته ولو بصورة خاصة وبحجج سقيمة.

قال تعالى : ( وما آتيتُمْ مِن رِباً ليربو في أموالِ الناس ، فلا يَربو عند الله وما آتيتُمْ من زكاة تُريدونَ وجه الله فأولئِكَ هُمُ المُضعِفون ) ( الروم / ٣٩ ).

( يا أيُّها الذين آمنوا لا تَأكلوا الربا أضعافاً مُضاعفةً واتَّقوا الله لعلكُمْ تُفلحون * واتقوا النارَ التي اُعدَّت للكافرين ) ( آل عمران ١٣٠/ ١٣١ ).

( فيظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات اُحلَّت لهم وبصدّهم عن سبيل الله كثيراً وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا لكافرين

__________________

(١) المصدر السابق / ص ٩٣.

٣٣٠

منهم عذاباً اليماً ) ( النساء ١٦٠ / ١٦١ )

( الّذينَ يأكلونَ الرِّبا لا يقومونَ إلاّ كما يقومُ الذي يتخبَّطُهُ الشيطانُ من المَسِّ ، ذلك بأنَّهُمْ قالوا إنما البيعُ مِثلُ الرِّبا ، وأحلَّ الله البيعَ وحرَّم الرِّبا ، فمن جاءه مَوعظةٌ من ربِّه فانتهى فله ما سلف وأمرهُ إلى الله ومَنْ عادَ فأولئِكَ أصحابُ النار هُمْ فيها خالدون * يَمحَقُ الله الرِّبا ويُرْبي الصَّدقاتِ والله لا يُحِبُّ كُلَّ كفّار أثيم ... يا أيُّها الّذينَ آمنوا اتَّقوا الله وذروا ما بقيَ مِنَ الرِّبا إن كُنتُمْ مُؤمنين * فإنْ لَمْ تَفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، وإن تُبتمْ فَلكمْ رؤوسُ أموالِكُمْ لا تَظلمونَ ولا تُظلَمون ) ( البقرة / ٢٧٥ و ٢٧٦ و ٢٧٩ ).

ومن قرأ هذه الآيات القرآنية يفهم منها الاطلاق لكل ما يسمى ربا في زمن نزولها سواء كان « ربا جاهلياً وهو ما عُبِّر عنه بجملة : أتقضي أم تربي ؟ وهو الذي يكون أضعافاً مضاعفة » أم كان ربا في عقد القرض من أول الأمر. وهب أن آية « أضعافاً مضاعفة » قد نزلت في ربا الجاهلية وهي « أتقضي أم تربي؟ » ولكن قال الاصوليون « أن المورد لايخصص الوارد ».

ثم إنني أقدم النصح ( الذي يجب على كل إنسان ) للنمر وطنطاوي ومرسي بأن يقرأوا جملة من المواعظ والدروس الأخلاقية ، فإني أرى أن القضية ليست عدم معرفة بأحكام القرآن الواضحة البيّنة ، وإنما القضية تحتاج الى دروس في الوعظ والتذكير بالآخرة وجملة من الدروس الأخلاقية ليعرف الانسان نفسه بأنه قد يكون أشرف من الملائكة إذا التزم ما أراده الله تعالى له ، وأنه يكون أسوأ من الحيوان إذا لم يستوعب ما قرأ وغرّته الحياة الدنيا وزينتها و شهواتها ، فالى دراسة الأخلاق ليعرف الانسان كيف يتسلط على هذه النفس الأمّارة الشهوانية عن زخارف الدنيا الدنيّة التي تجرّه الى المعصية ومخالفة صريح القرآن.

ومن الروايات التي تستقبح الربا و تشينه ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيته لعلي أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : « يا علي ، الرِّبا سبعون جزءاً فأيسرها مثل أن

٣٣١

ينكح الرجل أمه في بيت الله الحرام. يا علي ، درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام » (١).

وفي موثقة ابن بكير قال : بلغ أبا عبدالله الامام الصادق عليه‌السلام عن رجل كان يأكل الربا ويسميه اللبا ، فقال عليه‌السلام : « لئن أمكنني الله منه لأضربن عنقه » (٢).

وفي رواية عن علي عليه‌السلام قال : « لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الربا وآكله وبايعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه » (٣).

وأخيراً : أبتهل الى الله سبحانه وتعالى أن يهدي كل مؤمن الى الصواب وأن لا يحرمنا من رحمته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ مَنْ أتى الله بقلب سليم ، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ونفع المؤمنين ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه ، محمد و آله الطيبين الطاهرين.

__________________

(١) وسائل الشيعة / ج ١٢ / باب ١ من أبواب الربا ح ١٢.

(٢) المصدر السابق / باب ٢ / ح ١.

(٣) وسائل الشيعة ج ١٢ باب ٤ من ابواب الربا ، ح ٢.

٣٣٢

٣٣٣
٣٣٤

١ ـ ما هي المناقصة ؟

عُرّفت المناقصة بانها : « طريقة بمقتضاها تلتزم الادارة ( او الشخص ) باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد معها شروطاً ، سواء من الناحية المالية او من ناحية الخدمة المطلوب أداؤها » (١).

ويرى البعض (٢) ان التعريف الاصح هو : ان المناقصة طريقة يلتزم باختيار افضل من يتقدمون للتعاقد معها من الناحية المالية فقط حيث يفترض ان الداخلين في المناقصة متساوون من النحاية الفنية ( مطابقة الشروط والمواصفات من حيث تحقيق الغرض الفني ).

وأما التعريف الاول : فهو يسمح بالتحايل والتلاعب بإرساء المناقصة على غير الارخص بدعوى افضليته في المواصفات الفنية.

ونرى ان هذا التعريف شامل للمزايدة ايضاً ، باعتبار أن المناقصة والمزايدة معاً من عقود المنافسة النزيهة والتي تساوي بين المتنافسين ، وعلى هذا سوف يكون شراء الحاجات وتنفيذ الاعمال من خصوصيات عقد المناقصة ، كما أنّ بيع

__________________

(١) مصطلحات قانونية ، اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية ، مطبوعات المجمع العلمي العراقي ١٣٩٤ ه‍ ق ١٩٧٤ م ، ص ١٧٨.

(٢) د. رفيق يونس المصري في بحثه مناقصات العقود الادارية ، ص ٤.

٣٣٥

الحاجات والمباني الحكومية او التابعة للأشخاص من خصوصيات عقد المزايدة.

وهذا التعريف وان لم يكن تعريفاً حقيقياً للمناقصات ، بل هو شرح الاسم ، إلاّ أنه قد تعرض لالتزام أحد الاطراف بالتعاقد ، ولم يتعرض لالتزام المتعاقد الآخر ، ولكن من مجمل عملية المناقصة الحديثة نفهم أن المناقص ملزَم بما تقدم به من عرض لبيع سلعته او تقديم خدماته لحين رسوّ عملية المناقصة ، ولذا من الأفضل اضافة هذه الجملة الى التعريف السابق وهي : « ويلتزم الطرف الآخر بما عرضه لحين رسّو العملية ». ولذا يمكننا ان نعرّف المناقصات بأنها : « طريقة بمقتضاها تلتزم الاطراف باختيار افضل من يتقدم للتعاقد شروطاً ».

وقد يقال : إن التزام الداعي الى المناقصة هو التزام إبتدائي ليس في ضمن عقد فيكون وعداً لا يجب الوفاء به وهو معنى عدم كونه ملزِماً.

ونجيب على ذلك : بأن الالتزام اذا كان قد وصل الى حدّ التعهد الى الغير بحيث رتب الغير عليه الآثار ، فصار عهداً « عقداً » مستقلاً يجب الوفاء به خصوصاً اذا قابله التزام من الطرف الآخر (١).

هذا بالاضافة الى ما سيأتي من إمكان أن يكون الزام الداعي الى المناقصة باختيار أحسن العروض والزام المتناقصين بالبقاء على إلتزاماتهم لحين رسوّ المناقصة ، قد شرط في ضمن عقد بيع المعلومات التي تشترط للدخول في المناقصة ، فيحصل الالتزام في ضمن عقد فيكون ملزِماً بالاتفاق.

وقد يستشكل في صحة التزام الداعي الى المناقصة باختيار افضل مَن يتقدمون للتعاقد معه ، سواء قلنا أنّ هذا الالتزام قد وصل الى مرحلة التعهد والعقد او كان شرطاً في ضمن عقد بيع المعلومات ، وقد يستشكل باشكال آخر ،

__________________

(١) هذا الرأي يخالف ما ذهب اليه علماء الامامية من أن التعهد الابتدائي لا يجب الوفاء به ، ولكن رأينا أن الادلة الروائية والقرآنية الدالة على وجوب الوفاء بالعهد حتى الابتدائي كافية ، لذا ارتأينا هذا الرأي خلافاً للمعظم من علماء الامامية.

٣٣٦

وخلاصته تكمن في غررية هذا الالتزام ، لان الداعي الى المناقصة قد التزم باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد معه ، مع أنه لا يعلم المقدار الذي يقع عليه التعاقد في الخارج الآن ، فهو التزام غرري.

والجواب ذلك :

١ ـ إن الغرر الذي منعه الشارع المقدس ليس هو الجهالة ، بل الغرر : عبارة عن عدم معرفة حصول الشيء من عدمه ، كالطير في الهواء والسمك في الماء ، وهذا يختلف عن المجهول الذي معناه : « ما علم حصوله مع جهالة صفته ».

٢ ـ ولو قلنا كما قال الفقهاء : بانَّ الغرر يشمل الجهالة أيضاً ، فان الغرر المنهي عنه هو الغرر الذي يؤدي الى منازعة بين المتبايعين ، اما ما كان لا يؤدي الى المنازعة فهو لا بأس به ، وقد ذكرت الروايات الامثلة الكثيرة الدالة على عدم الضرر في وجود غرر ( جهالة ) لا تؤدي الى المنازعة كما في بيع شيء من الحليب في الاسكرجة مع ما في الضرع ، وبيع السمك في الأجمة مع القصب الظاهر ، وامثال ذلك من البيوع التي فيها جهالة واضحة إلا أنها لا تؤدي الى منازعة بين المتخاصمين.

٣ ـ ولو تنزلنا وقلنا ان الغرر يشمل كل جهالة ، فهو إنما يضر اذا كانت الجهالة في العقد ، أما هنا فان الجهالة في الشرط وليست في العقد (١).

ولا حاجة الى التنبيه الى أن هذه العقود لا يجوز فيها التفرير والخداع من المتناقصين أو المتزايدين او واحد منهم أو أطراف خارجية ، وذلك لأجل تحقيق المنافسة النزيهة التي هي اساس المناقصة الحرة. كما هي عقود يطلب فيها المشتري او البائع الاحتياط لنفسه ودفع التهمة عنه فيما اذا كان وكيلاً او ولياً.

__________________

(١) وقد يكون أقوى شاهد على عدم وجود الغرر في هذه المعاملة هو النصّ الوارد في بيع مَنْ يزيد ، فإنَّ البيع صحيح ، ومعنى ذلك عدم وجود الغرر المضرِّ مع ان البائع حينما عرض سلعته للبيع لا يدري بكم يكون الثمن ، فهنا يكون الامر كذلك حيث إن المشتري يريد الشراء ولا يعلم الثمن وحينئذ يكون الالتزام بمثل هذه المعاملة صحيحاً لأنَّ الالتزام بالصحيح صحيح وهذا واضح.

٣٣٧

العلاقة بين المزايدة والمناقصة :

وبهذا يتضح ان العلاقة بين المزايدة والمناقصة هي علاقة تضاد من الناحية اللغوية والموضوعية ، فالزيادة ضدّ النقص ، ولهذا وردت التفرقة بينهما في العقود :

فالمناقصة : تستهدف اختيار من يتقدم بأقل عطاء ، ويكون ذلك عادة اذا أرادت الادارة القيام باعمال معينة كالاشغال العامة مثل بناء العمارات او اقامة الجسور او تبليط الطرقات وما شابه ذلك.

اما المزايدة : فترمي الى التعاقد مع الشخص الذي يقدم أعلى عطاء ، وذلك اذا أرادت الادارة ان تبيع او تؤجر شيئاً من املاكها مثلاً (١).

وعلى هذا نتمكن ان نقول : ان العلاقة بين المزايدة والمناقصة هي علاقة تضاد في اللفظ والموضوع كما هو واضح من اختلاف طبيعة كل منهما ، ولكن يشتركان في الاجراءات والتنظيمات في الجملة كما هو واضح من اشتراكهما في التعريف ( اختيار أفضل من يتقدم للتعاقد ) ، فالاجراءات المتبعة في عقد المناقصة هي بنفسها متبعة في عقد المزايدة ، فمثلاً : بعد الاعلان عن المزايدة او المناقصة في وسائل الاعلام وتتم الاجراءات الكتابية والمناداة العلنية تأتي هذه المراحل الثلاث :

١ ـ التقدم بالعطاءات من قبل الافراد او المؤسسات.

٢ ـ فحص العطاءات وارساء المزايدة او المناقصة.

٣ ـ ابرام العقد.

النجش :

ويأتي في بيع المناقصة النجش الذي يذكر في بيع من يزيد ويعرّف : « بانه

__________________

(١) الاسس العامة للعقود الادارية ( دراسة مقارنة ) ، السيد محمد الطحاوي ، الطبعة الرابعة مصر ، ١٩٨٤ ، ص ٢١٣ ومصطلحات قانونية ، ص ١٧٨.

٣٣٨

تواطؤ صاحب السلعة مع مزايد صوري يدفعه للمزايدة في السلعة حتى يُعلي ثمنها ، ولا يقصد شرائها ، وانما اراد خدمة صاحبها » وذكر الفقهاء حرمته في صورة كون الناجش قد رفع الثمن عن القيمة الحقيقية تضليلاً للمزايدين ، وذلك لوجود العلة التي حرمته وهي الاحتيال والاضرار بالأخ المسلم ظلماً ، المستنبطة من نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن النجش. وعلى هذا فلو تواطأ المريد للسلعة الموصوفة باوصاف معينة مع احد الافراد المشتركين في المناقصة بان يعرض بثمن أقل من الثمن السوقي ولا يقصد البيع حقيقة خدمة لمن طلبها فسوف يكون هذا حراماً ، للعلة التي حرم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها النجش وهي الاحتيال والخديعة والاضرار بالاخ المسلم ظلماً ، ويشتركان في الاثم.

وكذا يحرم فيما اذا اتفق البائع مع مَنْ ينافسه في بيع السلعة الكلية على عدم المنافسة له في العرض ، او اتفق معهم على عدم عرض السلعة بثمن أقل من كذا ، فهو من الاحتيال والغش « حيث ان اتفاق الاطراف كلها كان قد بني على المنافسة النزيهة فيكون اتفاق البعض على عدمها غشاً واحتيالاً » فان كان فيه اضرار بالمشتري ( كأن اشترى السلعة باكثر من الثمن السوقي مع عدم علمه بذلك ) فالعمل يكون حراماً لوجود علة حرمة النجش ويثبت للمشتري الخيار في امضاء الصفقة او فسخها.

وإن حصل التنقيص في الثمن ممن لا يريد شرائها بغير تواطؤ مع المشتري ليضرّ الغير ويخدعه ، فان الحرمة تختص بالمنقص.

اختلاف الموجب بين المزايدة والمناقصة في البيع :

قالوا (١) : إن الموجب هو من يتقدم بعطاء ، الا أنه في المزايدة يكون الموجب

__________________

(١) مصادر الحق في الفقه الاسلامي ، ج ٢ ، ص ٦٦.

٣٣٩

هو المشتري ، بينما في المناقصة يكون الموجب هو البائع ، كما يكون ارساء المناقصة باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد هو القبول.

ولكن يمكن المناقشة في جعل الموجب في المزايدة هو مَنْ يتقدم بعطاء ، باعتبار انه يتملّك بثمن معين ( وانما يملّك ثمنه للغير تباعاً لتمليك الغير سلعته اياه ، فهو تمليك تبعي ) فيكون قابلاً ، وقدّم قبوله بلفظ اشتريت او ابتعت او تملكت واشباهها ، واما الموجب فهو الذي يملِّك السلعة وإن تأخر عن القبول ، وعلى هذا لا يشترط تقديم الايجاب على القبول لظهور كونه عقداً يجب الوفاء به ، أما الرضا فهو موجود في تقديم القبول على الايجاب وتقديم الايجاب على القبول نعم يكون المتقدم بالعطاء في المناقصة موجباً ، لأنه يملَّك ماله بثمن معين وهو معنى الايجاب ، ثم إننا وإن قبلنا ( قياساً على المزايدة ) بأن الذي تقدم بعرض سلعته بثمن معين هو الموجب ، فان بذل آخر عمله او سلعته بأقل من الأول فقد سقط الإيجاب الأول ووجد ايجاب ثاني ( وهو البذل الثاني ) استناداً الى التعريف الذي تقدم للمناقصات القائل بأنه باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد ، وحينئذ يكون البذل بالأقل هو أفضل من الأول للتعاقد ، وقد التزم الداعي الى المناقصة باختياره فيكون ملزَماً به ومعرِضاً عن البذل الأول فيسقط الأول ، فاننا وإن قبلنا كل ذلك الا أننا لا نقبل ذلك فيما إذا كان البذل الثاني قد صدر من القاصر أو المحجور عليه (١) ، لان هذا البذل الأخير ليس ملزِماً للداعي الى المناقصة وإن تصوره ملزِماً. وعلى هذا يمكن القول بعدم وجود بذل ثاني أفضل من الأول في هذه الصورة الأخيرة.

علاقة المناقصة بالتوريد :

ان التوريد ( كما ذكره البعض ) (٢) : هو عقد بيع يتأجل فيه البدلان ( المبيع

__________________

(١) مصادر الحق في الفقه الإسلامي ج ٢ ، ص ٦٦.

(٢) د. رفيق المصري ، في بحثه في المناقصات المقدم للدورة التاسعة لمجمع الفقه الاسلامي ، ص ١٨.

٣٤٠