بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٣
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وواضح أن الرواية الاولى لم تقيّد الدرهم بالفضة ، بل كل نقد سواء كان من فضة أو من غيرها ، وكذا الأمر في الدينار. أما الرواية الثانية ففيها لفظة المال التي هي عامة لكل مال ، سواء كان نقداً ذهباً ، أم فضة ، أم نحاساً ، أم ورقاً ، أم شيئاً آخر من الأموال ، فان كانت الزيادة بشرط والتزام فهي الربا ، أما إذا كانت برضا المقترض ومن دون إلزام ، فهي حلال ، كما عبّرت به بعض الروايات بأن خير القرض ما جرّ نفعاً.

ومن الغريب أن الحديث الذي أخرجه صاحب « بلوغ المرام » عن علي عليه‌السلام ، وقال عنه السيد رشيد رضا : « انه جرى على ألسنة العوام والخواص » وهو : « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا (١) » هو مروي من قبل رواة أهل السُنّة وهو أحد أدلتهم على حرمة الربا ، فكيف خفي هذا على النمر ورفيقه المرسي ؟!

وبعد هذه الفتاوى على حرمة ربا القرض في الفلوس وغيرها من الأموال ، والنصوص التي ذكرناها ، وهي غيض من فيض ، هل يستحق كلام المرسي من دراسة أو يكون مؤيداً للنمر ؟!!

٣ ـ مع الدكتور محمد سيد طنطاوي

ثم انه قد طالعتنا جريدة النور / السنة الثامنة / العدد (٣٨٧) الأربعاء (٣٠) ذوالحجة ( ١٤٠٩ ه‍ ) المصادف (٢) اغسطس ( ١٩٨٩ م ) بفتويين غريبين للدكتور محمد سيد طنطاوي مفتي جمهورية مصر. وإليك كلا السؤالين وجوابهما :

١ ـ وردت رسالة للمفتي برقم (١٤٥) بتاريخ (٤) يوليو الماضي من ( ج.م ) تضمنت سؤالاً جاء فيه : « شهادات الاستثمار التي تدرّ عائداً شهرياً محدداً ، هل

__________________

(١) راجع كتابنا « الربا فقهياً واقتصادياً » ص ١٩٢.

٣٠١

العائد حلال أم حرام ؟ ».

٢ ـ وردت رسالة للمفتي برقم (٢٥٦) جاء فيها « أن السائل كان مودعاً أمواله بأحد البنوك الاسلامية ، ونظراً لما حدث لبعض شركات توظيف الأموال قام بسحب أمواله وأودعها في أحد البنوك الحكومية بفائدة محددة ، ويسأل عن حكم هذه الفوائد المحددة ». وقد أجاب المفتي بإجابة واحدة على السؤالين ، قال فيها : « يرى جمهور الفقهاء أن العائد من الأموال المودعة بالبنوك هو من قبيل الشبهات أو الربا ، لأن العائد قد حدد مقدماً زمناً ومقدراً. ويرى البعض الآخر أن هذا العائد هو من قبيل المضاربة الشرعية فهو حلال. ونحن نرى أنه لامانع من الأخذ بالرأي الثاني رعاية لمصالح الناس ، ولأن تحديد نسبة الربح لم يرد ما يمنعها في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة. وهذا إذاكان الحال كما وردبالسؤال ، والله أعلم ».

أقول : يبدو وجود محاولات حكومية تبذل حالياً لهدف الوصول الى فتاوى بحلّيّة فوائد البنوك التي هي تابعة للدولة ، ولكن هذه المحاولات غير ذكية بل جاهلة ، حيث إن محاولة الدكتور النمر في الحلّيّة تتعارض مع محاولة السيد طنطاوي ، حيث إن الأول حلل الربا وكان أحد أدلته « أن الربا إنما حرم من ناحية التحديد في سعر الفائدة » بينما السيد طنطاوي يقول : « إن تحديد نسبة الربح في الأموال المودعة في البنك لم يرد ما يمنعها في القرآن الكريم أو السُنّة الصحيحة ».

أقول : نعم ، المهم هوالتحليل لما حرّم الله ، أما الدليل فليس مهماً !

الفرق بين الربا والمضاربة الشرعية : (١)

الربا هوعبارة عن أخذ الفائدة على رأس المال النقدي في مقابل الامهال.

__________________

(١) انما قلنا المضاربة الشرعية ، لأنه يوجد اصطلاح للمضاربة في الاقتصاد الحديث. ومعناها في الاقتصاد الحديث : « رغبة بعض الأفراد في تحقيق الأرباح عن طريق الاستفادة من تقلبات معدلات الفائدة الناجمة من تغيرات أسعار السندات » « الدخل القومي والاستثمار » ص ١٧٣.

٣٠٢

وهذا قد وقفت منه النصوص الشرعية ، قرآنية وروائية ، موقفاً حاسماً. فمن الآيات القرآنية قوله تعالى : ( الّذينَ يأكلونَ الرِّبا لا يقومونَ إلاّ كما يقومُ الذي يتخبَّطُهُ الشيطان من المسِّ ، ذلك بأنَّهم قالوا إنّما البيعُ مثلُ الرِّبا وأحلَّ الله البيعَ وحرّمَ الربا ، فمن جاءه موعظةٌ من ربِّه فانتهى فلهُ ماسلف وأمره الى الله ومَنْ عادَ فاولئك أصحابُ النارهُم فيها خالدون * يمحقُ الله الرِّبا ويُربي الصَّدقاتِ والله لايُحبُّ كُلَّ كفار أثيم ... يا أيُّها الّذينَ آمنوا اتَّقوا الله وذروا مابقي مِنَ الرِّبا إن كُنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بِحرب من الله وروسوله وإن تُبتم فلكُمْ رؤوسُ أموالكم لا تَظلِمونَ ولا تُظلَمون ) (١).

وأما الروايات المانعة فهي كثيرة سوف نعرض قسماً منها فيما بعد.

إذن ، الاسلام لم يوافق على أن يكون رأس المال مكسباً على نحو اجارة الدور أو الآلات التي تدخل في الانتاج وتُؤخذ الأجرة عليها.

ولسائل أن يسأل : إذن كيف يتمكن المالك لرأس مال نقدي أن ينميه ؟

الجواب : إن رأس المال النقدي قد جعل له الاسلام طريقاً للتنمية ، وذلك بدخوله في التجارة « إما أن يتاجر فيه صاحبه ، وإما أن يعطيه لمن يتاجر به ، على أن تكون نسبة مئوية لصاحب المال ونسبة مئوية أيضاً للعامل » وإذا خسر المشروع فلا يجوز أن يجبر العامل على تحمل الخسارة ، وإنما حدد الشرع الخسارة على صاحب المال النقدي ، أما العامل فقد خسر عمله ، وهذه العملية هي التي تسمى بالمضاربة أو القراض ، وهي عقد شرعي قد أجازه الشارع لتنمية رأس المال النقدي. وهذا المعنى للمضاربة الذي أحلّه الشارع هو المعنى اللغوي للكلمة ، ومعنى المضاربة في اللغة هو « اتجار انسان بمال غيره (٢) ». وفي مجمع البحرين : « المضاربة : مفاعلة ، من الضرب في الأرض والسير فيها للتجارة (٣) » ، ومن أراد

__________________

(١) البقرة / ٢٧٥ إلى ٢٧٩.

(٢) المؤتمر الثاني لجمع البحوث الاسلامية / د. محمد العربي ، ص ٨٣.

(٣) ج ٢ باب ضرب ، ص ١٠٧.

٣٠٣

التوسع فعليه مراجعة كتابنا : « الربا فقهياً واقتصادياً » لمعرفة شروط المضاربة بتفاصيلها وعناصرها المهمة الدخيلة في تكوينها (١).

وفي الحقيقة : إن المضارب عامل يعمل بأموال غيره ، فعندما يحولها الى أعيان بالشراء ويبيعها ، فكل الربح يكون لصاحب المال حيث إن ماله قد تحول الى مال آخر ، فيستحق كل الربح ، وبما أنه قد تعهد أن يعطي للعامل نسبة من الربح ، فهو في الحقيقة قد تنازل عن شيء من أمواله التي يملكها لهذا العامل حسب الاتفاق السابق في العقد ، كما أن للعامل أن لايوافق على عقد المضاربة ، بل يتفق مع صاحب المال على العمل في التجارة بأموال صاحب المال لقاء أجر ثابت ، وبذلك يدفع عن نفسه احتمال الخسارة في عمله ، وقد أجاز الشارع المقدس لعمل العامل كلا الطريقين ، ولكن يمتاز طريق الأجر بعنصر الضمان على أجره بقطع النظر عن نتائج العمل وما يسفر عنه الانتاج من مكاسب أو خسائر. وأما طريق المشاركة في الأرباح بنسبة مئوية ، بأمل الحصول على مكافأة أكبر ، فحقيقته أن العامل قد ربط مصيره بالعملية التي يمارسها وفقد بذلك الضمان ، اذ إنه من المحتمل أن لا يحصل على شيء إذا لم يربح المشروع التجاري ، ولكنه في مقابل تنازله عن الضمان يفوز بمكافأة منفتحة ، غير محددة ، تفوق الأجر المحدد في أكثر الأحيان. وهذا الأسلوب الثاني نظم الاسلام أحكامه عن طريق عقد المضاربة ، ومثلها المزارعة والمساقاة والجُعالة. والذي يهمنا هنا هوالمضاربة ، فمن الأدلة على جوازها شرعاً صحيحة الحلبي ، عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « المال الذي يعمل به مضاربة له من الربح وليس عليه من الوضيعة شيء إلاّ أن يخالف أمر صاحب المال (٢) » وصحيحة الحلبي الثانية عن الامام الصادق عليه‌السلام أنه قال : « في المال الذي يعمل به مضاربة له من الربح وليس عليه من الوضيعة شيء ، إلاّ أن يخالف أمر صاحب المال ،

__________________

(١) ص ٤٣٥.

(٢) وسائل الشيعة / ج ١٣ / باب (١) من أبواب المضاربة / ح ٤ ص ١٨١.

٣٠٤

فإن العباس كان كثير المال ، وكان يعطي الرجال يعملون به مضاربة ، ويشترط عليهم أن لا ينزلوا بطن واد ، ولا يشتروا ذا كبد رطبة ، فإن خالفت شيئاً مما أمرتك به فأنت ضامن المال (١) ».

ثم إن من نافلة القول تأكيد أن عقد المضاربة إنما يصح في التجارة بالمال ، فالمال من فرد والعمل من آخر ، أو المال من جماعة والعمل من جماعة ثانية ، والربح نسبة محددة والخسارة على ربّ المال ، والعمال خسروا العمل ، ولا يصح تضمين العمال للخسارة ، فان كل هذه الشروط هي في باب المضاربة التي يذكرها علماء الاسلام ، ولسنا الآن بصددها.

ولكن نقول : للمفتي ( طنطاوي ) كيف رجّحت القول القائل بأن الأموال المودعة في البنك وتدر عائداً شهرياً محدداً ( كما في السؤال الأول والثاني ) بأنها مضاربة شرعية ، فأين شرط المضاربة من كونها في التجارة وأن الربح نسبة مئوية ، والخسارة إن حصلت فهي على صاحب المال ؟ فأين هذه الشروط ممن يودع ماله في البنك نتيجة العائد المحدود الذي هو ربا واضح ؟!!

وإذا كان هذا مضاربة ، فأين يوجد الربا القرضي ؟

ثم إنه لماذا تقول إن جمهور الفقهاء يرون أن العائد من الأموال المودعة بالبنوك هو من قبيل الشبهات أو الربا ، فأين الشبهة يا استاذ ؟ أليس أن القرآن الكريم والسُنّة النبوية قد حرمت الربا بصورة قاطعة ، فأين الشبهة ؟!

ثم هل يجوز الأخذ بصالح الناس ـ حسب قولك ـ إذا كان يخالف القرآن والسنة ؟ وهل الصالح هو بتحليل الحرام ، أو بتحريم الحلال ؟ وإليك يا مفتي مصر العربية ، يا من تتجه إليه الأسئلة الدينية ، هذا الكلام الاقتصادي لتعرف إن كانت مصلحة الناس في تحريم الربا أو في تحليله !

__________________

(١) المصدر نفسه / ح ٧ ..

٣٠٥

هل ينمو الانتاج بأخذ الفائدة ؟

ذكر الاقتصاديون : أن ارتفاع سعر الفائدة يؤدي الى انخفاض حجم الاستثمار ، وانخفاض سعر الفائدة يؤدي الى ارتفاع حجم الاستثمار. وبطبيعة الحال إن انخفاظ الفائدة يؤدي ( اضافة الى ما ذكرنا ) الى ارتفاع الدخل القومي ، وبالتالي الى ارتفاع الاستهلاك والادخار. كما أن ارتفاع الفائدة يؤدي ( اضافة الى ماذكرناه ) الى تخفيض الدخل القومي ، وبالتالي الى خفض الاستهلاك والادخار ، فاذا منعنا الادخار فيتعيّن الجانب الآخر ، وقد نهى الاسلام من الادخار بالآية القرآنية الواضحة : ( والّذين يكنزونَ الذهب والفضة ولا يُنفقونها في سبيل الله فَبشِّرهم بعذاب أليم يَومَ يُحمى عليها في نار جهنم فَتُكوى بها جِباهُهُمْ وجنوبُهُمْ وظهورُهُمْ هذا ما كنزتم لأنفُسِكُمْ فذوقوا ما كنتم تكنزون ) (١).

ولما كانت النتيجة واضحة ( وهي أن ارتفاع سرع الفائدة يؤدي الى انخفاض حجم الاستثمار والى قلة الدخل القومي والعكس صحيح ) فلماذا إذن لا تحظر الفائدة اقتصادياً ؟ ، فإن في منعها أو تحريمها اقتصادياً أو شرعاً فوائد اقتصادية هي ارتفاع حجم الاستثمار وارتفاع الدخل القومي ، وفي اباحتها تأخير للاستثمار وتقليل للدخل القومي. وإذا سارالاقتصاد العالمي في طريق مع الفائدة أو تحريمها فلا حاجة إذن للادخار ، إذ أنَّ الادخار أساس الاقراض بالفائدة ، وكما قلنا سابقاً إن الأموال إذا لم تدخر لابُدَّ لها من أن تصرف في وجوه البر والخير والصلاح والمصالح العامة ، أو أن تستثمر في التجارة والصناعة على أساس المشاركة والمضاربة حسب اختلاف الأفراد. وبهذه الطريقة تكون النتيجة واضحة وفي صالح الدولة كما هو واضح.

__________________

(١) التوبة / ٣٤ ـ ٣٥.

٣٠٦

وهنا يدور في خاطرنا سؤال نعرضه على الاقتصاديين وهو : لماذا لا يحظر الاقتصاديون الفائدة إذا كان في منعها زيادة لدخل الفرد ولحجم الاستثمار ؟

إنّ هذا السؤال يحتاج الى جواب ليس هذا محله ، فللأوضاع السياسية ولأرباب البنوك دخل في ذلك ، إذ ليس السياسيون يريدون صلاح المجتمعات ككل ، بل يريدون صلاح دنياهم ولو كانت على جماجم الآلاف من المستضعفين. لذا نراهم يسلكون ما فيه اشباع لشهواتهم الحيوانية ، وإن أدى الى ظلم المجتمعات الكبيرة ، كالحيوان الذي لا يرى إلاّ شهوته وهي مقدمة على كل الناس.

ويجدر بنا هنا أن نعرض أشكالاً بيانية من الاقتصاديين ليلتفت الاستاذ الى أن تحريم الفائدة هوالمصلحة للناس ، لا تحليلها.

الشكل رقم ( أ ) (١)

فالشكل رقم ( أ ) يشير الى تحديد سعر الفائدة بالكمية النقدية وبتفضيل السيولة ، فلو انخفض معدل الفائدة الى الصفر تكون كمية النقود المبذولة للاستثمار أكثر من أي وقت ، وإذا ارتفعت الفائدة انخفضت كميات النقود المبذولة للاستثمار.

__________________

(١) « الاقتصاد السياسي » د. رفعة المحجوب ، ج ٢ شكل ٤٥ ص ٢٨٩.

٣٠٧

الشكل رقم ( ب ) (١)

وهنا في شكل ( ب ) نرى أن انخفاض معدل الفائدة يزيد من الادخار والاستثمار ، والعكس صحيح ، وإذا منعنا الادخار وخفضنا الفائدة تجمعت الأموال للاستثمار.

الشكل رقم ( ج ) (٢)

__________________

(١) « الدخل القومي والاستثمار » شكل رقم (٢) ص ١٦٦.

(٢) المصدر نفسه شكل رقم (٥) ص ١٨١.

٣٠٨

وهذا الشكل أيضاً يدل على أن انخفاض سعر الفائدة يجعل حجم الاستثمار كبيراً ، فاذا انعدمت الفائدة كان حجم الاستثمار أكبر بالاضافة الى زيادة الدخل القومي لزيادة حجم الاستثمار ، أي أنه ( إذا كانت الكفاية الحدّية لرأس المال ثابتة فان حجم الاستثمارات يزداد كلما كان معدل الفائدة منخفضاً ، والعكس صحيح ).

وقد يرد بعض الاقتصاديين على هذه الحقيقة بقولهم : إن أيام الأزمة أو أيام الكساد مثلاً سنة (١٩٣١) كانت الأسواق مملوءة بالسلع والطلب كان قليلاً ، فحتى لو خفّضت الحكومة معدل الفائدة الى أقل سعر ممكن أو الى الصفر ، فإن طلب أموال لأجل الاستثمارات لن يزيد ، إذن حجم الاستثمار يعتمد على الأرباح التي سوف يتوقع المنظم الحصول عليها من بيع السلع بالدرجة الاولى ، وبعد ذلك يعتمد على معدل الفائدة.

ولكن يجاب بأن أزمة سنة (١٩٣١) شاذة عن القاعدة ، ونادرة الوقوع وكان الأفراد قليلي الدخل. وقد يكون لها أسباب اخرى ليس هنا محل ذكرها.

وماذا بعد تحريم الفائدة يا مفتي الجمهورية المصرية ؟

نقول : إن المفاسد المترتبة على اباحة الربا ( قلة الدخل ، وقلة حجم الاستثمار ) سوف تزول وتستبدل بها صور نافعة ، أما حلّية الفائدة فهي تحرّض الانسان على انفاق أقل ما يمكن على نفسه وادخار أكثر ما يستطيع ، وتوعد الدولة من لم يدخر بأن ليس في المجتمع من يأخذ بيده عند الطوارىٌ والكوارث الى شاطئ الرحمة والرأفة. وقد رأينا سابقاً ما يترتب على ارتفاع سعر الفائدة أو حلّيتها من قلة الدخل ، وانتشار البطالة ، وقلّة حجم الاستثمار ، وما الى ذلك.

٣٠٩

لماذا خلاف القرآن الصريح بين الحين والآخر ؟

نقول : ان الذي جرّأ بعض الأستاتذة في الفقه على القول بحلّية ربا القرض ، هو المسلك الذي سار عليه بعض فقهاء السلطة في ذكر الأدلة الدالة على تحريمه ، مدعين ان الآيات القرآنية نزلت في ربا الجاهلية ، وهو يختلف عن ربا القرض ، فالنتيجة : أن ربا القرض لم تكن له أهمية كبيرة عند بعضهم ، ولذا فقد أهمله بعض منهم وشك في حرمته آخرون (١) ، ولهذا تسمع بين الحين والآخر أصواتاً تدعو لحلّيته ، ونرى المخلصين منهم يردون بحماسة بالغة ولكن من دون تقديم الأدلة الرادعة على ذلك سوى قولهم : ان المؤتمرات حرّمت ربا القرض ، « وكذلك الفتاوى الجماعية التي صدرت عن المجامع الفقهية والمؤتمرات العلمية المتخصصة » (٢).

ولكن الذي أراه أن هذا غير كاف لردع الأصوات التي تنادي بحلّيته ، لأنها تحتاج الى دليل فقهي يقنعهم بالحرمة ، ونحن نذكر أدلتهم على حرمة ربا القرض لأجل أن نوضح السير الضعيف لهذه الأدلة ، ثم نذكر الأدلة التي ذكرها علماء الإمامية على الحرمة ( وهي أدلة قرآنية وروائية ) مقنعة وصريحة وكثيرة تصل الى حدّ التواتر الموجب لحصول القطع على حرمة ربا القرض.

الأدلة المذكورة على حرمة ربا القرض :

١ ـ فمن الأدلة ما ذكره السنهوري وغيره بقوله : « لأن الزيادة تشبه الربا لأنها فضل لا يقابله عوض والتحرز عن حقيقة الربا وعن شبهة الربا واجب » (٣).

__________________

(١) راجع « نظرية الربا المحرم في الشرعة الإسلامية » د. زكي ابراهيم بدوي / ص ٣٢.

(٢) جريدة النور / فوائد البنوك ربا محرم / د. علي السالوس.

(٣) السنهوري / مصادر الحق / ج ٣ ص ٢٣٨.

٣١٠

نقول : وواضح فساد هذا الاستدلال ، لأن الشبه بالمحرم لوحده لايسوّغ لنا أن نعطي حكم المحرم للشبيه ، إلاّ أن يكون الشبه من جميع الجهات ، وهنا الشبه ليس من جميع الجهات فهل يكفي هذا لإعطاء الحرمة لربا القرض ، على أن التحرز من شبهة الربا إذا كانت حكمية ( كما فيما نحن فيه كما يدعي ) فليست بواجبة.

وفيما أرى أن الدليل الذي ذكره السنهوري يعود الى القياس ، فقد قاسوا ربا القرض على الربا المنصوص العلة ، وهذا القياس يسمى في عرف المناطقة ( التمثيل ) وهو لايفيد الاحتمال ، نعم ، كلّما قويت وجوه الشبه قوى عندنا الاحتمال حتى يكون ظناً ، وهو في هذه الحالة لايخرج عن القيافة التي لاتغني من الحق شيئاً (١).

٢ ـ ومن أدلتهم على حرمة ربا القرض حديث سوار الذي أخرجه صاحب « بلوغ المرام » عن علي عليه‌السلام وهو : « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » ثم قالوا : اسناده ساقط. وسوار : متروك الحديث.

وهكذا أبعدوا القرآن الكريم ( الذي هو أساس التحريم للربا القرضي الذي كان معروفاً في الجاهلية ، عن أدلة الحرمة ، ولذا نجد من يقول بحلّيته ، مثل النمر وطنطاوي وغيرهما ، وقد سبقهم الى مثل هذه الدعوى الاستاذ معروف الدواليبي في محاضراته التي ألقاها في ( مؤتمر الفقه ) بباريس ، وقد ناقشناه في كتابنا : « الربا فقهياً واقتصادياً » (٢) مما لامزيد عليه. وذهب الى هذه الآراء المستشرق « مكسيم رودنسون » في كتابه : « الاسلام والرأسمالية » (٣) بل ادعى أكثر من ذلك بقوله : إن الآيات التي حرمت الربا تشير الى مضاعفة الدّين إذا عجز المدين عن الوفاء به في أجله. ثم قال : « ولعل تحريم الربا كأكثر نواهي القرآن ( وفي الوقت نفسه كأكثر أحكام الأديان الاخرى ) قاعدة عارضة دعت إليها ظروف مؤقتة ». وفيما

__________________

(١) راجع كتابنا « الربا فقهياً واقتصادياً » ص ٧٤ وما بعدها.

(٢) ص ٣٩٤ ومابعدها.

(٣) ترجمة نزيه الحكيم ص ٥٠.

٣١١

أظن أن الدكتور النمر قد تأثر أو أثر في كتابات هذا المستشرق المؤرخ الذي تطرق لقضايا العلم والفقه ، وقد ناقشنا هذا الأخير أيضاً في كتابنا المتقدم ذكره ، فراجع (١).

وممن ذهب الى ذلك أيضاً الشيخ محمد عبده أو تلميذه السيد محمد رشيد رضا الذي كان كثيراً مايخلط كلام استاذه بكلامه (٢). وغير هؤلاء من العلماء.

ربا القرض والربا الجاهلي :

ذكر بعضهم فرقاً بين ربا القرض والربا الجاهلي فقالوا : إن الربا الجاهلي عبارة عن معاملة مخصوصة تختلف عن معاملات الربا التي كافحتها الشرائع السماوية وغيرها وما زالت مورد تعامل عند الناس ، فيقول بعض الفقهاء : ان الربا الجاهلي هو ما أشارت اليه آية : ( يا أيُّها الّذينَ آمَنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مُضافعةً وأتَّقوا الله لعلكم تُفلحون وأتَّقوا النار التي اُعدَّت للكافرين ) (٣) وربما يستدل أو يؤيد هذا الرأي ما روي عنهم بعبارة : « أتقضي أم تربي » التي تدل على أن الزيادة تحصل الآن ، وهذا يختلف عن الربا المتعارف الذي تكون فيه الزيادة من أول الأمر عند عقد القرض ، وإليك الآثار التي تدل على هذا التمييز.

منها : أخرج هذا الأثر جلال الدين السيوطي ، ونصه : « وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد ابن جبير في الآية قال : إن الرجل كان له على الرجل المال ، فاذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه ، فيقول المطلوب أخّر عني وأزيدك في مالك ، فيفعلان ذلك ، فذلك الربا أضعافاً مضاعفة » (٤).

__________________

(١) ص ٤٠٢ وما بعدها.

(٢) « نظرية الربا المحرم في الشريعة الاسلامية » ابراهيم زكي الدين بدوي ص ٢٦٧.

(٣) آل عمران / ١٣٠ ـ ١٣١.

(٤) « الدر المنثور » للسيوطي ج ٢ ص ٧١.

٣١٢

ومنها : المروي عن زيد ، ونصه : « إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن فيكون للرجل فضل دين ، فيأتيه إذا حلّ الأجل فيقول له تقضيني أو تزيدني ؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى ، وإلاّ حوّل الى السن التي فوق ذلك » إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة « لبون » في السنة الثانية ثم « حقه » ثم « جذعه » ثم « رباعياً » ثم هكذا الى فوق ، وفي العين ( النقد الذهبي والفضي ) يأتيه فإن لم يكن عنده ، أضعفه في العام القابل ، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضاً ، فتكون مائة فيجعلها الى قابل مائتين ، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة ، يضعفها له كل سنة أو يقضيه ، قال : فهذا قوله : « لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة » (١).

هكذا قصروا كل الآيات القرآنية على ربا الجاهلية ، بينما استدلالهم كما رأينا هو قصر آية ( أضعافاً مضاعفة ) على ربا الجاهلية. أما غيرها من الآيات فلم يرد في تفسيرها ذلك ، ولكن اشتبه الأمر عليهم فذهب قسم منهم الى أن الآيات القرآنية تحرم ربا الجاهلية فقط. وقد جرّ البحث بعضهم الى أن لفظة الربا المحلاة بالألف واللام ، هل هي للجنس أم للعهد ؟ ولكن هذا لا يجدي في حرمة الربا القرضي مادام الانصراف الى قسم خاص من الربا وهو ( الربا الجاهلي ) يمكن أن يُدعى في المقام.

كما نرى من الخطأ البحث في عموم لفظة الربا ، إذ لا عموم فيها كما هو واضح المراد من العموم المستفاد من اللفظ ، فإن اللفظة إذا كان فيها شمول فمن مقدمات الحكمة ، ولذلك من الخطأ البحث في أنها عامة أو خاصة ، كما نقل ذلك عن المفسّر القرطبي في « الجامع لأحكام القرآن » والفقيه الشافعي الكياهراسي في كتابه « أحكام القرآن » وهو مخطوط في مصر ، وقد نقل عبارته السيد محمد رشيد رضا في رسالته عن الربا ص ٢٤.

__________________

(١) « جامع البيان » ج ٤ ص ٩٠.

٣١٣

تغيير خطة البحث :

١ ـ من الأرجح تغيير خطة البحث من عموم اللفظ وجنسية الألف واللام ، الى مراجعة الآثار التي ذُكرت لنرى إن كانت تثبت فقط حرمة الربا الجاهلي ، أو أنها لا تحصر الربا المحرم بالجاهلي المتقدم ذكره وإنما تشمل معاملات اخرى كانت تسمى بربا الجاهلية ؟

٢ ـ ثم بعد ذلك : نرى الآيات الاخرى التي نزلت في تلك الفترة من الزمن ، هل المقصود منها نوع خاص من المعاملات الربوية أم تشمل كل المعاملات الربوية الموجودة في ذلك الوقت ؟ وأما آية : ( أضعافاً مضاعفة ) فهي تريد لفت نظر المرابين الى النتائج الفضيعة التي يسفر عنها الربا. ؟

البحث الأول : نقول : إن الآثار المتقدمة وغيرها لاتحصر معنى « ربا الجاهلية » بالمعنى الذي ذكر ، وإنما يذكر له معنى آخر وهو « القرض بفائدة » ، وقد ذكر الفخر الرازي موضحاً المعاملة التي كانت جارية آنذاك فقال : « إعلم ، أن الربا قسمان : ربا النسيئة وربا الفضل. أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهوداً متعارفاً في الجاهلية ، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ، ويكون رأس المال باقياً ، ثم إذا حلّ الدين طالبوا المديون برأس المال ، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل ، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به » (١).

وهذا وإن كان فهماً خاصاً له ، إلاّ أنه يكشف عن معاملة ذلك الزمان بحسب رأيه في الأقل ، كما أن الآثار المتقدمة لم نستفد منها إلاّ فهمهم الخاص للربا المسمى بالجاهلي.

وفي هذا المعنى الذي ذهب إليه الفخر الرازي ماذكره الجصاص في « أحكام

__________________

(١) « مفاتيح الغيب » المشتهر بالتفسير الكبير ج ٧ ص ٩١ ( طبعة مصر ـ المطبعة البهية ).

٣١٤

القرآن » إذ قال : « والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير الى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به ، ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد ، وإذا كان متفاضلاً من جنس واحد. هذا كان المتعارف المشهور بينهم ولذلك قال الله تعالى : ( وما آتَيتُمْ مِنْ رِباً لِيَربُوَا في أموالِ الناسِ فلا يَربُوا عِندَ الله ) فاخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال المعيّن لأنه لا عوض لها من جهة المقرض » (١).

إذن ، لم يكن معنى الربا الجاهلي ذلك المعنى الخاص الذي ذكر له ، وإنما له معنى آخر كما تقدم ، وربما يكون معنى « الربا الجاهلي » هوالمعنى العام الشامل للتأخير في مقابل الزيادة والقرض بفائدة من أول الأمر ، وأن كل أثر لا يحصر معنى « الربا الجاهلي » بما قاله فلا مانع من المعنى العام للربا الجاهلي.

نعم ، إن ما جاء في « أحكام القرآن » هوالحصر ، إذ يقول : « ولم يكن تعاملهم بالربا إلاّ على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير الى أجل مع شرط الزيادة ». ولكن نقول : ان الحصر لا وجه له لما ذكر من الآثار الكثيرة الدالة على وجود ما يسمى بالربا الجاهلي المتقدم.

ثم على فرض أن يكون للربا الجاهلي ذلك المعنى الخاص الذي ذكر فقط ( وهو التأخير في سداد الدين في مقابل الزيادة ) إلاّ أن هذا المعنى لم يكن دليلاً على استعمال لفظة الربا في ذلك المعنى فقط ، بل يمكن أن تكون لفظة الربا تستعمل في « الربا الجاهلي » وفي الربا غير الجاهلي الذي كان موجوداً في ذلك الزمان وهو « القرض بفائدة » الذي كان شائعاً قبل الاسلام وفي الديانات السماوية قبل الاسلام والذي رُدع عنه أيضاً.

البحث الثاني : وهو : هل المقصود من الآيات القرآنية هو « الربا الجاهلي »

__________________

(١) ج ١ ص ٤٦٥.

٣١٥

الذي هو بمعنى الزيادة في مقابل تأجيل الدين الى الأجل الثاني ؟

نقول : إنما نقبل هذه الدعوى إذا صرح بالنصوص الواردة في تفسير آيات الربا كلها بأن المراد ذلك المعنى من « ربا الجاهلية ». أو أن يكون استعمال هذا المعنى من الربا الجاهلي بصورة كثيرة بحيث نُقِل المعنى العام للربا الى هذا المعنى الجديد ، باعتبار أن كثرة استعمال اللفظ وارادة معنى خاص منه يوجب أن يكون هذا الاستعمال الثاني هو المراد دائماً ويُنسى المعنى الأول ، وحينئذ إذا جاءت لفظة الربا مطلقة فلا يمكن ارادة المعنى الأول منها ، لأن اللفظة إنما يصار الى اطلاقها إذا لم تكن هناك قرينة على القيد ، وهذا المعنى الذي ذكرناه ، أو في الأقل الفرق الخاص بين اللفظة وارادة معنى معين بكثرة هو قرينة على القيد.

ثم بعد هذه المقدمة نقول :

أما التصريح بأن المراد من كل الآيات القرآنية حصة خاصة من الربا ، فلم يرد ذلك أصلا. نعم ، وردت الآثار في خصوص تفسير قوله تعالى : ( أضعافاً مضاعفة ) بأن المراد منه الربا الجاهلي ، وقد تقدم أيضاً بأن الآثار عن معنى الربا الجاهلي مختلفة ويمكن أن يراد جميعها.

ثم إن آية ( اضعافاً مضاعفة ) تريد لفت نظر المرابين الى النتائج الفضيعة التي قد يسفر عنها الربا ، إذ يصبح المدين مثقلاً بأضعاف ما استقرضه لتراكم فوائد الربا ، ولذا نجد القرآن الكريم في آية اخرى يقول : ( وإنْ تُبتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أموالِكُمْ لا تَظلِمُونَ ولا تُظلَمُونَ ) ، إذن المسألة ليست مسألة حرب مع نوع خاص من الربا الجاهلي وهو الذي يضاعف الدين أضعافاً مضاعفة في بعض الأحيان ، وإنما هي مسألة مذهب اقتصادي له نظرته الخاصة الى رأس المال النقدي الذي تحدد له مسوغات نموه و تشجب كل زيادة له منفصلة عن تلك المسوغات مهما كانت ضئيلة ، كما يقرره الزام الدائن بالاكتفاء برأس ماله لا يظلم ولا يُظلم. وهذا سوف نوضحه في الأبحاث القادمة إن شاء الله تعالى.

٣١٦

أما الاستعمال ، فإن لفظ الربا لاإشكال في استعماله في ذلك الزمان في الزيادة في القرض والزيادة عند حلول الأجل الذي هو « الربا الجاهلي » بالمعنى الأخص ، ولم يكن أحد الاستعمالين شائعاً بحيث يُشكِّل قرينة على الانصراف.

وعلى هذا الأساس ، تكون الآيات القرآنية غير خاصة بالربا الجاهلي بالمعنى الأخص ، سواء كانت الألف واللام للجنس أو للعهد ، وبهذا تبطل دعوى من يقول إن النهي القرآني لايشمل القرض بفائدة ، وهذه النتيجة التي وصلنا إليها بطريقتنا هذه هي مورد قبول قسم من علماء أهل السُنّة ، وان كانت طريقتهم إليها لاتخلو من ضعف ، كما تقدم ذلك.

فقهاء الامامية :

أما فقهاء الإمامية رحمهم‌الله فإن حجّتهم على حرمة ربا القرض لا تكاد أن يفكر في ردها ، ولذا لم يرد صوت واحد منهم يدعو الى دراسة فكرة تحليل ربا القرض على مدى العصور إذ أنهم يرون أن الأدلة القرآنية شاملة لربا القرض كما أنها تشمل كل ربا الجاهلية لأنها صريحة في كل زيادة بلا مسوغ من قبل الشارع الذي رسم لنا دواعي الكسب ونمو المال ، وليس منها الربا الذي نهي عنه بصورة بشعة وحاسمة. وسوف نعرض قسماً منها هنا.

ربا القرض عند الامامية :

القرض معروف عند العرف وهو : عبارة عن طلب المال من شخص أو جهة على أن يرجعه في مدة معينة أو عند الاستطاعة ، وهو عند الفقهاء : تمليك المال على وجه الضمان ، ولا فرق فيه بين أن يكون بصيغة عقد أو لا ، كالقرض المعاطاتي.

والزيادة في القرض لها صورتان :

الأولى : أن تكون في مقابل التأجيل : فهي زيادة حقيقية في الشيء نفسه لأنها زيادة على ما كان في الذمة.

٣١٧

الثانية : زيادة في عقد القرض نفسه ابتداءً ، فهي زيادة بالمسامحة العرفية وإنما تكون ربا حراماً في صورة مالو شرط النفع في عقد القرض فحصلت الزيادة ، وهذا لا يختص بالمكيل والموزون ، بل يعم المعدود والمشاهد.

الأدلة على حرمته :

استدلوا على حرمة ربا القرض بأدلة كثيرة تصل الى حدّ التواتر ، منها :

١ ـ قوله تعالى : ( وأحَلَّ الله البَيْع وحَرَّمَ الرِّبا ) وأمثالها من الآيات الناهية ، عن التعامل بالربا وتصوره بصورة بشعة تحذر من الاقتراب منه ، فإن الحرمة هنا مطلقة لكل زيادة تؤخذ بلا عوض في بيع المتجانسين (١) ، أو في عقد القرض ، فهنا أيضاً الزيادة المشترطة قد اخذت بلا عوض في عقد القرض ، وهذا هو الربا الحقيقي.

٢ ـ معتبرة اسحاق بن عمار ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يكون له مع رجل مال قرضاً فيعطيه الشيء من ربحه مخافة أن يقطع ذلك عنه ، فيأخذ ماله ، من غير أن يكون شرط عليه ، قال عليه‌السلام : لا بأس بذلك مالم يكن شرطاً » (٢). ومفهوم هذه الرواية أن اعطاء شيء من الربح بعقد القرض إذا كان بشرط فهو حرام وفيه البأس ، ولذا نرى أن الراوي لم يسأل عن هذه الصورة لوضوح حكمها عندهم ، وإنما سأل عن اعطاء شيء من الربح من دون شرط في عقد القرض حيث شك في حلّيته.

٣ ـ معتبرة اسحاق بن عمار الثانية ، قال : « قلت لأبي ابراهيم الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام الرجل يكون له عند الرجل المال قرضاً فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منفعة ، فينيله الرجل الشيء بعد الشيء كراهية أن

__________________

(١) هنا النهي الوراد من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قَبِله الأصحاب تبعداً ، ولكن في ربا القرض علة الحرمة واضحة.

(٢) وسائل الشيعة / ج ١٤ باب ١٩ من أبواب الدين / ح ٣ و ١٣ ص ١٠٤ ـ ١٠٦.

٣١٨

يأخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة ، أيحل ذلك ؟ قال : لا بأس إذا لم يكن شرطاً » (١) ، ومثل هذه الرواية توجد روايات صحيحة.

٤ ـ صحيحة محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر الامام الباقر عليه‌السلام « في الرجل يكون عليه دين الى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول : انقدني من الذي لي كذا وكذا وأضع لك بقيته ، أو يقول انقدني بعضاً وأمدّ لك في الأجل فيما بقي. فقال : لا أرى به بأساً ما لم يزد على رأس ماله شيئاً ، يقول الله عزّ وجلّ : ( فَلَكُمْ رُؤوسُ أموالكُمْ لا تَظلِمونَ ولا تُظلَمون ) (٢). فهذه الرواية تدل على أن الزيادة في القرض ( سواء كانت في عقد القرض أو في مقابل الامهال ) فيها بأس.

٥ ـ صحيحة علي بن جعفر ( في قرب الاسناد ) ، قال : « سألت أخي موسى بن جعفر عليه‌السلام عن رجل أعطى رجلاً مئة درهم يعمل بها على أن يعطيه خمسة دراهم وأقل أو أكثر هل يحل ذلك ؟ فقال : هذا الربا محضاً » (٣).

٦ ـ معتبرة محمد بن قيس ، عن أبي جعفر الامام الباقر عليه‌السلام قال : « من أقرض رجلاً ورِقاً فلا يشترط إلاّ مثلها فإن جوزي أجود منها فليقبل ، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورِقه » (٤).

وهذه الرواية تدل على منع اشتراط الورِق ( وهو الفضة ) الزائدة أو غير ذلك من الشروط ، كاشتراط ركوب الدابة أو العارية من الزيادات التي تسمى حكمية.

والى هنا نكتفي بسرد هذه الأدلة القاطعة على حرمة ربا القرض ، ونود التنبيه على ان هذه الروايات هي عن الأئمة ( المعصومين عليهم‌السلام ) حسب عقيدتنا

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) المصدر نفسه / باب ٣٢ من أبواب الدين. ح ١ ص ١٢٠.

(٣) المصدر نفسه / ج ١٢ / باب ٧ من أبواب الربا / ح ٧ ص ٤٣٧.

(٤) المصدر نفسه / ج ١٣ / باب ١٩ من أبواب الدين ح ١١ / ص ١٠٦.

٣١٩

الإمامية الاثني عشرية ، فهي حجّة نحتج بها على غيرنا ، وهي حجة عليه حتى وإن لم يعتقد بعصمة الأئمة عليهم‌السلام ، وذلك لأن هؤلاء الأئمة عليهم‌السلام أكدوا في أحاديثهم أنها عن آبائهم ، عن رسول الله ، عن جبرائيل ، عن الله تعالى. وبما أن هؤلاء الأئمة عليهم‌السلام هم أفضل أهل زمانهم علماً وتقى وهدى وجهاداً وفضلاً ، فيجب على من يرى أن سلسلة السند كلهم من الثقات حتى الأئمة فيلزمه الأخذ بأقوالهم ، لأنها أقوال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس الأئمة هم بمجتهدين في الأحكام حتى يكون رأيهم كرأي غيرهم لا يمكن الاعتماد عليه بحسب رأي الآخرين في صورة المخالفة.

ومن الروايات المتواترة اجمالاً على ما ادعيناه ما رواه سماعة ، عن أبي الحسن عليه‌السلام الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : « كل شيء تقول به في كتاب الله وسنّته أو تقولون فيه برأيكم ؟ قال : بل كل شيء نقوله في كتاب الله وسنة نبيّه » (١). ومنها ما ورد عن جابر قال : قلت لأبي جعفر الامام الباقر عليه‌السلام : « إذا حدثتني بحديث فاسنده لي. فقال : حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل عن الله تبارك وتعالى ، وكلما احدثك بهذا الاسناد » (٢).

والى هنا يكفي ما أردنا أن نثبته للنمر وطنطاوي ومرسي ، من أن الأدلة كافية وقاطعة على حرمة ربا القرض ، وينبغي للاستاذ العالم أن لا يكتفي بما ورد من طريقه كدليل على الحكم الشرعي ، ويقلِّد مَنْ سبقه في الأقوال ، بل يجب عليه أن ينظر في أدلة الفرق الاخرى ومنها الفرقة الامامية التي اتخذت على عاتقها أن لا تتخطى القرآن والسنة في الاستدلال على الأحكام الشرعية باضافة حكم العقل ، فاذا نظر هؤلاء الأساتذة الثلاثة الى ما ذكرناه يحصل لهم القطع بالحرمة ، فلا تنبعث

__________________

(١) بصائر الدرجات / ص ٣٠١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ / باب ٨ من أبواب صفات القاضي / ح ٦٧ وغيره. وأمالي الشيخ المفيد ، ص ٢٦. ويراجع كتابنا في الحلال والحرام فإن فيه بحثاً مفصلا عن هذه الحقيقة.

٣٢٠