بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٣
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

٢٨١
٢٨٢

١ ـ مع الدكتور النمر

طالعنا في صحيفة الأهرام ، وفي الصفحة السابعة في العدد الصادر يوم ١ / ٦ / ١٩٨٩ الخميس ٢٧ شوال / ١٤٠٩ ه‍ مقالاً بعنوان : « حول تحديد ربا القرض والوديعة الاستثمارية » للدكتور عبدالمنعم النمر ( وزير الأوقاف الأسبق ). و خلاصة المقال « دعوة الى الاجتهاد » في جواز الربح المحدد للقرض » ، ثم أفتى بحل هذه الزيادة بمقدار (٩) أو (١٠) بالمائة ما دامت من البنوك.

و خلاصة الأدلة التي أدى إليها نظره هي : أدلة ثلاثة ، نعرض كل واحد منها و نناقشه.

١ ـ « الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله اجتهد في المعاملات الدنيوية ، و بنى حكمه على الظروف الموجودة أمامه ».

٢ ـ « وأنَّ الصحابة قد خالفوا أحكامه واجتهدوا و عملوا بخلافها .. ».

٣ ـ وقد حكي عن النمر في كتابه « السنة و التشريع » ص ٤٦ قوله : « فمادام الرسول كان يجتهد ، و ما دام هذا الاجتهاد قد شمل الكثير من أنواع المعاملات ، أفلا يجوز لمن يأتي بعده أن يدلي بالموضوع باجتهاده أيضاً؟ هادفاً الى تحقيق المصلحة ، ولو أدى اجتهاده الى غير ما قرره الرسول باجتهاده؟ ولايصبح ما قرره الرسول باجتهاده حكماً ثابتاً الى الأبد ».

٢٨٣

العصمة للأنبياء عند الشيعة

نقول : إن الشيعة الإمامية تعتقد بعصمة النبي وكل الأنبياء والرسل ، والعصمة التي تدعيها الشيعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكل الأنبياء والرسل هي ثلاثة أقسام :

١ ـ العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي.

٢ ـ العصمة عن الخطأ في التبليغ والرسالة.

٣ ـ العصمة عن المعصية. والمعصية هي التي فيها هتك حرمة العبودية عن المخالفة المولوية.

ونعني بالعصمة : وجود أمر في الانسان يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطأ والمعصية. والأدلة التي تُذكر في هذا المجال كثيرة : قرانية ، وروائية ، و عقلية.

فمن الأدلة القرآنية قوله تعالى : ( فبعث الله النبيين مُبشرينَ ومُنذرينَ وأنزلَ معهم الكتابَ بالحق ليحكُمَ بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتُوه من بعدما جاءتهُمُ البيِّنات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ... ) (١) فانه يدل على أن الله سبحانه إنّما بعث الأنبياء بالتبشير والإنذار ، وانزال الكتاب ( وهو الوحي ) ليبيّنوا للناس الحق في الاعتقاد والعمل. وقد قال تعالى : ( لا يضلُّ ربِّي ولا ينسى ) (٢) فهو دال على أن الله سبحانه لا يضل في فعله ولا يخطأ في شأنه ، فإذا أراد شيئاً فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطأ. وحينئذ يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكل نبي ، مصوناً من الخطأ في تلقي الوحي وفي تبليغه. وبما أن عمله صلى‌الله‌عليه‌وآله كقوله في الدلالة عند العقلاء ، فلو تحققت معصية من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يأمر بخلافها لكان ذلك منه تناقضاً ، ويكون مبلّغاً لكلا المتناقضين ، وكمال تعلمون لا يكون تبليغ المتناقضين تبليغاً للحق لكون كل منهما مبطلاً للآخر. وعلى هذا ، فلا يمكن أن تتحقق معصية من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يكون تبليغ الرسالة إلاّ مع

__________________

(١) البقرة / ٢١٣.

(٢) طه / ٥٢.

٢٨٤

عصمته عن المعصية وصونه عن المخالفة.

ومن هذه الأدلة أيضاً قوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله ... ) (١) فكون الرسول مطاعاً هو غاية للارسال ، وهذا يستدعي بالملازمة البيّنة تعلق ارادته تعالى بكل مايطاع فيه الرسول ( قوله أو فعله ) حيث إن كلاً منهما وسيلة متعارفة في التبليغ ، وحينئذ لو تحقق من الرسول خطأ في فهم الوحي ، أو في التبليغ ، أو في معصية ما ، لكان ذلك ارادة من الله تعالى للباطل ، بينما الله سبحانه و تعالى لا يريد إلاّ الحق.

ومنها أيضاً قوله تعالى : ( رُسلاً مبشرينَ ومنذرينَ لئلا يكونَ للناس على الله حُجّةٌ بعد الرسل ... ) (٢) فالله تعالى يريد قطع عذر الناس فيما فيه المخالفة و المعصية ، و بما أنه لاقاطع لعذرهم إلاّ الرسل عليهم‌السلام ، ومن المعلوم أن قطع الرسل عذر الناس إنما يصح إذا لم يتحقق من ناحيتهم مالا يوافق ارادة الله ورضاه ( من قول أو فعل أو معصية ) وإلاّ إذا لم يتحقق من ناحيتهم مالا يوافق ارادة الله يكون للناس أن يتمسكوا به ويحتجوا على ربّهم سبحانه ، وهذا نقض لغرضه تعالى.

نقول : و بعد هذه النبذة من الأدلة على عصمة النبي و بقية الأنبياء ، هل يسوغ للشيخ النمر أن يقول أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اجتهد في المعاملات الدنيوية ؟! وهل المعاملات الدنيوية إلاّ وقائع لها أحكام من قبل الله تعالى قد بيّنها سبحانه على لسان نبيّه الكريم ؟ وإذا كان هذا حقاً فهل يمكن أن يكون كلام النبي غير حق حتى يسوغ للنمر أن يخالف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!.

نعم ، حدثت مخالفات للنبي الأكرم بعد وفاته من قبل بعض الصحابة ، ولكن هذا ليس دليلاً لجواز مخالفة النبي الأكرم في أحكام الله ( المعاملات و السياسات وغيرها حتى العبادات ) ، بل إن هذاعمل غيرصحيح قام به هؤلاء لأنه ردّ على رسول

__________________

(١) النساء / ٦٤.

(٢) النساء / ١٦٥.

٢٨٥

الله ، والراد على رسول الله راد على الله سبحانه و تعالى ، كما في الأحاديث الشريفة.

ولا أدري كيف خفيت الآيات القرآنية الدالة على أن النبي الأكرم لا تجوز مخالفته بشيء ، ونحن نورد بعضها للاستاذ النمر حتى يتذكر ، فان الذكرى تنفع المؤمنين.

قال تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مُؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبينا ) (١).

فان النبي إذا قضى في أمر من أمور المعاملات الدنيوية ، كما إذا قال : « أحلّ الله البيع وحرّم الربا » ، وهذا الحكم من الله سبحانه قد جرى على لسان الرسول فهو حق ، فهل يجوز للاستاذ النمر أن يجتهد في مخالفته ، وهل يكون هذا غير الاجتهاد في مقابل النص ؟!

وقال تعالى أيضاً : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ... ) (٢).

وقال تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى ) (٣).

أفهل تكفي لك هذه الآيات القرآنية الرادعة أم لا ؟!

ثم إن من قال باجتهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فانه قال إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يُقرّ على خطأ ، بمعنى أن اجتهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إن وافق حكم الله أقره الله عليه ، وإن خالفه عدّله الله الى حكمه ، وحينئذ يكون الحكم في النتيجة هو حكم الله تعالى ، وحينئذ لا يجوز للاستاذ النمر أن يجتهد ( كما يحلوله أن يقول ) فيخالف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢) : أما الدليل الثاني لحلّية ربا القرض ، كما استدل به الاستاذ النمر ، فهو قوله :

إن سبب تحريم الربا تحديد الربح ، ويقول : « إن علماءنا جميعاً متفقون على تحريم هذه المعاملة بسبب تحديد ربحها ، ويقولون إن التحديد جعلها ربا محرماً وقالوا : إن التحديد يجعل المعاملة حراماً » وبما إن النمر يريد أن يحلل ربا القرض ،

__________________

(١) الأحزاب / ٣٦.

(٢) الحشر / ٧.

(٣) النجم / ٣ ، ٤.

٢٨٦

فكأنه يريد أن يحلل ربا القرض الذي لم تحدد فيه نسبة الربح من الأول ، بل نسبة الربح تحدد من قبل البنك بعد ذلك.

أقول : إن أقبح ما يكون عليه الكاتب والعالم هو الكذب والافتراء والاتهام ، فإن هذا هو ما يسمى بالخيانة العلمية ، فإن نسبة شيء الى علمائنا اجمع ( سواء كان قصده علماء السنة أم الشيعة ) شيء لم يجترئ عليه إلاّ الاستاذ النمر ، ففي حدود تتبعي للربا لم أجد من يصرح بأن الربا المحرم في القرض هو الذي تحدد فيه نسبة الربح ، بل إن علماء الشيعة كلهم وكل من قرأتُ له من علماء السنة إذا كان يحرم ربا القرض فهو يحرمه من أجل : « أنه زيادة ، في عقد القرض قد شرطت في مقابل الأجل » ، فمن ذلك ما ذكره في كتاب « المغني » لابن قُدامة حيث يقول : « كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف. قال ابن المنذر : أجمعوا على أن المسلّف إذا شرط على المستسلِف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك ، كان أخذه الزيادة على ذلك ربا » ثم قال ابن قدامة : « وإن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها ، أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها ، أو على أن يهدي له هدية ، أو يعمل له عملاً ، كان أبلغ في التحريم » (١).

وأما ما أفتى به الشيعة من كون مطلق الزيادة المشترطة هي ربا سواء كانت زيادة حقيقية أو حكمية ، محددة أو غير محددة ، فذلك هو المروي بطريق صحيح ، كما في صحيحة محمد بن قيس ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : « من أقرض رجلاً ورِقاً فلا يشترط إلاّ مثلها ، فان جوزي أجود منها فليقبل ، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقه » (٢).

وكذا صحيحة محمد بن مسلم ، عن الامام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : « في الرجل يكون عليه دَين الى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول : انقدني من الذي لي

__________________

(١) ج ٤ / ٣٦٠.

(٢) الوسائل / ج١٣ / باب ١٩ من أبواب الدين / ح ١١ ص ١٠٦.

٢٨٧

كذا و كذا ، وأضع لك بقيته. أو يقول : انقدني بعضاً وأمد لك في الأجل فيما بقي. فقال : لا أرى به بأساً مالم يزد على رأس ماله شيئاً ، يقول الله عزّوجل : ( فَلَكُمْ رؤوسُ أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون ) (١).

هذا كله بالاضافة الى اطلاق الآيات القرآنية التي دلت على أن كل زيادة في القرض هي ربا منهيٌ عنها ، فلا فرق بين أن تكون الزيادة محددة أو غير محددة.

بالاضافة الى أن البنوك في حالنا الحاضر هي التي تحدد الربا من أول الأمر ، فتحدده بنسبة معينة مع العميل الذي يريد التعامل معها ، فالخارج الربوي هو عكس ما يريد أن يستنتجه الاستاذ النمر ، وكذا إذا كان القرض من المرابي فهو الذي يحدد الفائدة من الأول. نعم ، إذا كان العقد مع البنك هو عقد مضاربة حقيقية بحيث يكون البنك هو العامل الذي يتاجر برأس مال العميل ، وتحدد الأرباح على وفق نسبة معينة فان هذا هو عقد المضاربة الذي أحله الاسلام ، وفي الحقيقة إن المال يبقى على ملك مالكه ، لكن بيد العامل ( وهو هنا البنك حسب القرض ) يتاجربه ، و حينئذ تتحول أموال العميل الى بضاعة و يبيعها البنك ، فإنْ ربح ، فالربح يكون لصاحب المال قد تنازل عن حصة منه الى العامل ( وهو البنك ) حسب العقد ، وأما إذا خسر البنك المال في تجارته ، فالخسارة تقع على صاحب المال فقط ، أما البنك فقد خسر عمله ، وهذا هو عقد المضاربة التي أحلها الاسلام كطريق لتنمية الثروة في الاسلام.

٣ ـ أما الدليل الثالث للاستاذ النمر الذي يحلل فيه ربا القرض فهو يقول :

« إن التحديد الذي اعتبرناه علة لتحريم التعامل مع الأفراد ، لا يصح أساساً لتحريم التعامل مع المصارف ، لعدم وجود أي ضرر عليها منه ، والمفهوم أنها ( أي الزيادة ) مع الأفراد قد تطحنهم ويخسرون ، لكن المصرف يعرف وضعه و تصرفاته التي تجني له الربح ، وغالباً بنسبة ( ٩٩ % ) و تسعة دائرة ـ لا يخسر ».

__________________

(١) الوسائل / ج ١٣ / باب (٣٢) من ابواب الدين / ح ١ / ص ١٢٠.

٢٨٨

وخلاصة هذا المقالة هي :

١ ـ إن الزيادة في ربا القرض المحرمة هي بين الأفراد ، أما بين المصارف والأفراد فلا.

٢ ـ إن الزيادة في ربا القرض إنما تحرم إذا خيفت الخسارة ، أما إذا ضمن المكسب فلا.

نقول : إن هذه الاستنتاجات التي ذكرها الاستاذ النمر هي دعاوى تحتاج الى دليل ، ولم يقدم لنا دليلاً على أن الربا المحرم هو بين الأفراد ، أما بين المصارف فلا ، ولم يقدم لنا دليلاً على أن ربا القرض إنما يحرم إذا خيفت الخسارة.

بل الأدلة متوافرة على حرمة مطلق رباالقرض « الذي هوالزيادة في القرض في مقابل التأجيل » وقد ذكرنا قسماً من الأدلة القرآنية والروائية وستأتي بقية الأدلة. ولم يذكر في الأدلة ما استنتجه النمر من القيود التي ذكرها ، فيكون النمر محجوجاً للأدلة القرآنية والروائية.

والذي أراه ، أن الاستاذ النمر قد درس الفقه الاسلامي دراسة ساذجة ، فلم يلتفت الى أن الاسلام له منهج خاص في الاقتصاد ، وله مذهب اقتصادي خاص به ، فله طريقته في تنمية الثروة وفي توزيعها بحيث تنسجم مع العدالة الاجتماعية ، التي يقرها الاسلام ، فالمسألة ليست مسألة ضرر على المدين ، ولاضرر على البنك ، بل المسألة هي مسألة مذهب اقتصادي ينسجم مع العدالة المقصودة في الاسلام. ولذلك فمن سرق من البنك أموالاً طائلة ، من دون أن يُعرف ، لأن البنك كان في عطلة مقدارها شهر واحد ، ثم اشتغل بها شهراً واحداً حتى ربحت ربحاً كثيراً ، وأرجع المال المسروق الى البنك فهل يحل له أخذ الربح ؟ مع أنه لا يوجد هنا ضرر على البنك.

الجواب هو : عدم جواز الربح للسارق و إن لم يوجد ضرر على البنك ، لأن الطرق المشروعة للكسب قد حددها الاسلام ، وهي : إمّا العمل البشري المباشر

٢٨٩

الذي يقوم به الانسان ، أو العمل البشري المختزن الذي هو في صورة نقد أو عقار قد ملكه ، وأما هذه المعاملة التي بنيت على مال مسروق فهي ليست عملاً مباشراً ، وليست عملاً مختزناً له ، فلا يجوز له أن ينمي ثروته على حسابه. إذن : ليست القضية هي قضية ضرر على الفرد و عدم الضرر على المصرف.

النظرية في تحريم ربا القرض

ولأجل أن يتضح ما نقول نذكر بعض الأحكام في الفقه الاسلامي :

١ ـ ونذكر حكماً قد اتفق عليه كل الفقهاء وهو : « يجوز للانسان المنتج أن يستأجر أحدى أدوات الانتاج وآلاته من غيره ليستخدمها في عملياته ، ويدفع الى مالك الأداة مكافاة يتفق عليها معه ، و تعتبر هذه المكافاة أجرة لمالك الأداة على الدور الذي لعبته في عملية الانتاج ودَيناً في ذمة الانسان المنتج يجب عليه تسديده ، بقطع النظر عن مدى ونوع المكاسب التي يحصل عليها في عملية الانتاج » (١).

٢ ـ وقال المحقق الحلي في « الشرائع » في كتاب المضاربة : « إن المالك لو دفع الى العامل آلة الصيد بحصة ثلث مثلاً ، فاصطاد العامل ، لم يكن مضاربة ، وكان الصيد للصائد الذي حازه ، وليس لصاحب الآلة شيء منه ، وإنما على الصائد الاجرة لقاء انتفاعه بالآلة » (٢).

ونص على الحكم نفسه الفقيه الحنفي السرخسي اذ كتب يقول : « وإذا دفع الى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أن يكون ما صاد بها من شيء فهو بينهما ، فصاد بها سمكاً كثيراً فجميع ذلك للذي صاد ... لأن الآخذ هوالمكتسب دون الآلة فيكون الكسب له ، وقد استعمل فيه آلة الغير بشرط العوض لصاحب الآلة وهو

__________________

(١) اقتصادنا / للشهيد الصدر / ص ٦٠٠.

(٢) ج ٢ ص ١٣٩ ( الطبعة الجديدة ).

٢٩٠

مجهول فيكون له أجر مثله على الصياد » (١).

إذن : هنا الاسلام لم يسمح بقيام المضاربة والمشاركة في الربح على أساس أداة الانتاج ، مع أن هذا الاتفاق بين صاحب الآلة والصائد ليس فيه ضرر على الصائد ولا على صاحب الآلة ، فلماذا لم يجوزه الاسلام ؟

نقول : إن الاسلام نظم لأدوات الانتاج اسلوب الأجر بتشريع أحكام الاجارة فقط ، وليس لمن له أداة من أدوات الانتاج أن يشارك في الربح ، لذا رأينا اتفاق أهل الاسلام على جواز استئجار أداة الانتاج ، أما حينما أرادت أداة الانتاج أن تشارك في الربح فقد منع منه العلماء ، وما ذاك إلاّ لأجل أن الاسلام له طريقة خاصة ومذهب اقتصادي معين يتوافق مع تصوره عن العدالة الاجتماعية ، فليس كل مكان لا يوجد فيه ضرر على البنك فهو جائز.

وهنا نقول : بالنسبة لرأس المال التجاري سواء كان من المصرف ، أو من الأفراد ، أو من الدولة ، أو من غير ذلك ، فالاسلام لم يسمح لرأس المال التجاري بالكسب على أساس الاجور ، فلا يجوز لصاحب النقد أن يقرض بفائدة ، أي يدفعه الى العامل ليتاجر به ويتقاضى من العامل أجراً على ذلك ، و ذلك لأن الأجر يتمتع بميزة الضمان وعدم الارتباط بنتائج العملية وما يكتنفها من خسائر و أرباح ، وهذا هو الربا المحرّم شرعاً. نعم ، يجوز لصاحب النقد أو السلعة أن يدفع ماله الى العامل ليتاجر به ويتحمل وحده الخسارة بينما يقاسمه الأرباح بنسبة مئوية إذا حققت العملية ربحاً ، فالمشاركة في الربح مع تحمل أعباء الخسارة هو الأسلوب الوحيد الذي سمح لرأس المال التجاري باتخاذه (٢). وأما العامل فقد سمح له الاسلام باسلوب الاجارة واسلوب المشاركة في الربح. فيستطيع أن يؤجر نفسه للعمل بأجر معين كما يجوز أن يشارك في الربح بنسبة مئوية كما في المضاربة.

__________________

(١) المبسوط للسرخسي ج ٢٢ / ص ٣٥.

(٢) راجع « اقتصادنا » للشهيد الصدر ، ص ٦١٦ وما بعدها.

٢٩١

إذن : ما ذكره الاستاذ النمر من عدم ضرر على البنك إذا أعطى الربا القرضي هو كلام غير مسؤول من قبل من يدعي أنه يعرف التشريع الاسلامي ، مع أن التشريع الاسلامي الذي بأيدينا من أحكام هو عبارة عن نظريات اقتصادية اسلامية تكشف عن المذهب الاقتصادي في الاسلام ، لذا لا يجوز لمن يتبع الذهنية الرأسمالية أن ينظر الى الأحكام الاسلامية من ناحية النظرة الرأسمالية ، بل الأحكام الاسلامية تختلف في أساسها عن النظام الرأسمالي الموجود الذي يحلل الربا « القرض بفائدة » استناداً منه الى جواز أن يكون رأس المال داخلاً في أحكام الاجارة ، وقد رأينا أن الاسلام يمنع هذا أشد المنع ، وما الآيات القرآنية الناهية عن الربا والروايات الكثيرة إلاّ شاهد ودليل على عدم السماح لرأس المال أن ينمو عن طريق الاجارة في الاسلام.

تنبيه و تعميق للنظرية : لعل النمر يرتدع عن الفتاوى التي تخالف نصوص الاسلام ، فهنا نريد أن نحلل للاستاذ النمر بعض النصوص التي عليها فتاوى فقهاء الاسلام ، و خلاصة ما نقول : هو أنه توجد عندنا فتويان :

الأولى : هي ما تقدم الاشارة إليها ، وهي جواز اجارة أدوات الانتاج وجواز الكسب الواقع على هذه الاجارة باتفاق علماء الاسلام.

الثانية : عدم جواز اجارة رأس المال النقدي وعدم جواز الكسب الواقع على هذه الاجارة ، وهذا الحكم هو مورد وفاق علماء الاسلام الملتزمين بالنصوص القرآنية و الروائية.

وهنا قد يتساءل النمر فيقول : إذا كان بالامكان اجارة أداة الانتاج بما انها عمل مختزن ، وكذلك يجوز اجارة البيت للعلة نفسها ، فكذلك يجوز اجارة رأس المال النقدي ، فأي فرق بينهما ؟

وفي الجواب عن ذلك : نقول : إن الاسلام عندما سمح لأداة الانتاج أن تؤجر وكذلك الأمر في البيت ، وكذلك الأمر في ايجار الانسان نفسه للعمل ، فان هذا يكشف عن قاعدة ايجابية في الفقه الاسلامي ، هي : أن العمل المباشر والعمل

٢٩٢

المختزن هوجهد ، فالاجرة التي يتسلّمها عن العمل المباشر تكون في مقابل الجهد الذي بذله العامل مباشرة ، و كذلك الأمر في الدار وأداة الانتاج ، فانه عمل مختزن فيكون جهداً قد تم انفصاله عن العامل ، وحينئذ تكون الاجرة في مقابل العمل المختزن ، إذن تكون الاجرة في كل هذه الأمثلة هي في الحقيقة اجرة على عمل.

أما بالنسبة الى رأس المال و منعه من النمو عن طريق الاجارة ، فان هذا أيضاً قاعدة ، إلاّ أنها عكس القاعدة الأولى ، وهي عبارة عن : « أن كل كسب لا يسوغه عمل منفق فهو حرام » ، وما نحن فيه هو أحد مصاديق هذه القاعدة ، وتوجد مصاديق اخرى لها. مثلاً ، إذا أجرتُ داراً بخمسين ديناراً ثم أجرتها بالسعر نفسه مع سكناي في الدار ، أو بأكثر من السعر مع عدم سكناي في الدار ، فهنا يوجد كسب لي من دون عمل. وهذا لا يجوز ، كما عليه جملة من علماء الاسلام (١) وفي هذا الحكم نصوص كثيرة منها :

صحيحة محمد بن مسلم ، عن أحدهما ( الإمامين الباقر أو الصادق عليهما‌السلام أنه سئل عن الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه ، و يدفعه الى آخر فيربح فيه قال : « لا ، إلاّ أن يكون قد عمل فيه شيئاً » (٢).

وصحيحة محمد بن مسلم الثانية ، عن أحدهما عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه و يعطيه من يخيطه و يستفضل ، قال : « لا بأس قد عمل فيه » (٣).

وصحيحة الحلبي ، عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « لو أن رجلاً استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها وأجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس ،

__________________

(١) كالسيد المرتضى والحلبي والصدوق وابن البراج والشيخ المفيد والشيخ الطوسي / راجع المبسوط للشيخ الطوسي / ج ٣ ص ٣٣٦ / عن اقتصادنا للسيد الشهيد الصدر / ص ٦٠٧.

(٢) وسائل الشيعة / ج ١٣ / باب ٢٣ من أحكام الاجارة / ح ١ / ص ٢٦٥.

(٣) المصدر نفسه / ح ٥.

٢٩٣

ولايؤاجرها بأكثر مما استأجرها به ، إلاّ أن يحدث فيها شيئاً » (١).

وصحيحة الحلبي الثانية ، عن الامام الصادق عليه‌السلام في الرجل يستأجر الدار ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به قال : « لا يصلح ذلك إلاّ أن يحدث فيها شيئاً » (٢) وغيرها.

ونقل الجزيري ، عن فقهاء الأحناف « أن الشخص إذا استأجر داراً أو دكاناً بمبلغ معين ، كجنيه في الشهر ، فلا يحل له أن يؤجرها لغيره بزيادة » (٣).

وذكر السرخسي الحنفي في « مبسوطه » ، عن الشعبي ، في رجل استأجر بيتاً وأجره بأكثر مما استأجره به ، أنه لا بأس بذلك إذا كان يفتح بابه و يغلقه ويخرج متاعه فلا بأس بالفضل ، وعلق السرخسي على ذلك بقوله : بيّن أنه إنما يجوز له أن يستفضل إذا كان يعمل فيه عملاً ، نحو فتح الباب واخراج المتاع ، فيكون الفضل له بازاء عمله وهذا فضل اختلف فيه السلف ... و كان ابراهيم يكره الفضل إلاّ أن يزيد فيه شيئاً ، فان زاد فيه شيئاً طاب له الفضل ، وأخذنا بقول ابراهيم (٤).

وهذا الذي نقلناه عن علماء السنة هو نفسه ماذهبت إليه الإمامية مستندةً الى النصوص الشرعية ، وحينئذ نقول : إن كسب المرابي هو كسب بلا عمل فلا يجوز. أفهل يقبل الدكتور النمر على هذه النتيجة الاقتصادية الشرعية ؟

الفرق بين العقارات وأدوات الانتاج ورأس المال :

قد يقول الاستاذ النمر : كما يمكنك أن تستأجر داراً تسكنها برهة من الوقت ثم تدفعها الى صاحبها مع اجرة معينة ، كذلك يسمح لك في القرض الذي يقرض

__________________

(١) المصدر نفسه / باب ٢٢ / ح ٣.

(٢) المصدر نفسه / ح ٤.

(٣) الفقه على المذاهب الأربعة / ج ٣ ص ١١٧.

(٤) المبسوط / للسرخسي ج ١٥ ص ٧٨ ، عن اقتصادنا ص ٦١٣.

٢٩٤

بالفائدة أن تقترض كمية من النقود لتستخدمها في أغراض تجارية أو استهلاكية ثم تدفع الكمية نفسها مع اجرة محددة الى الشخص الذي استقرضت المال منه.

الجواب : يوجد فرق نظري بين العقارات و أدوات الانتاج ورأس المال النقدي. فان العقارات والأدوات الانتاجية هي عمل مختزن ، فيكون للمستأجر الحق في استهلاك قسط منه من خلال استخدام العقار أو أداة الانتاج التي يباشرها ، وحينئذ تكون الاجرة في مقابل العمل المختزن. إذن ، الكسب قام على أساس عمل منفق في السلعة ، وهذا يجوز كما تقدم.

أما الكسب المضمون القائم على رأس المال النقدي ، فليس له ما يسوغه نظرياً ، لأن التاجر الذي يستقرض ( الف دينار ) لمشروع تجاري بفائدة معينة ، فانه سوف يدفع الألف دينار في الوقت المحدد الى الدائن من دون أن يستهلك منها ذرة ، وحينئذ تصبح الفائدة كسباً غير مشروع لأنه لايقوم على أساس أي عمل منفق ، فطبيعة رأس المال النقدي عند القرض لا يؤدي الى استهلاك شيء أصلاً ( لا منه ولا من العمل المتجسد فيه ). أما انتفاع المستأجر بالبيت أو الأداة فانه يؤدي الى استهلاك شيء من العمل المختزن فيها ، ولهذا اجاز لصاحب البيت أن ينتفع لقاء العمل الذي استهلك من استخدام الدار أو الأداة (١).

المسوغ للفائدة :

قد يقال ، كما قالت الرأسمالية على يد بعض رجالاتها : إن القيمة التبادلية لدينار اليوم هي أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل ، فاذا أقرضت غيرك ديناراً الى سنة ، كان من حقك في نهاية السنة أن تحصل على أكثر من دينار ، لتسترد بذلك ما يساوي القيمة التبادلية للدينار الذي أقرضته ، فالفائدة هي الفرق بين قيمة الحاضر وقيمة المستقبل.

__________________

(١) يراجع اقتصادنا / للسيد الشهيد الصدر للتوسع ج ٢.

٢٩٥

الجواب : ان هذا الكلام قد يحصل عكسه في بعض الظروف ، كما إذا كانت قيمة السلع عالية جداً نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي و نجوم الحرب في البلاد وضعف الحكومة ، ثم بعد فترة من الزمن يتحسن الوضع الاقتصادي وتنتهي الحرب وتأتي للحكم حكومة قوية ، فهنا ترتفع قيمة الدينار بحيث إنه إذا كانت قيمته التبادلية كيلواً من السكر ، فأصبحت قيمته التبادلية كيلوين من السكر ، فهل هنا يقول الاقتصاديون الرأسماليون بأن من أقترض خمسين ديناراً وقت الحرب ، فبعد الحرب يؤدي خمسة وعشرين ديناراً لانها هي القيمة التبادلية للخمسين ؟

أقول : لا أظن أن يلتزم بهذا أحد منهم ، وما ذلك إلاّ لأن المقرض هي الدنانير نفسها ، والدنانير هي هي بطبيعتها لا تنزل قيمتها ولا ترتفع ، وإنما الذي ينزل ويرتفع هي السلع ، وهذه السلع ليست هي المُقرَضَة حتى نُلزِم المدين بما يساويها.

ثم حتى لو سلّمنا بصحة هذه المقالة وهي : « أن القيمة التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل » إلاّ أن هذا وحده لا يسوغ الفائدة مالم تتفق الفائدة مع تصورات العدالة التي يتبناها المذهب الاسلامي عن العدالة. فمثلاً ، نحن نعتقد أن كثيراً من العناصر لها دخل في تكوين القيمة التبادلية لسلعة من السلع بعد الانتاج ، كالعامل الذي يغزل الصوف الذي أملكه أنا ، والماكنة التي هي لزيد والتي لها دخل في غزل الصوف ، ووجود قيمة تبادلية للصوف ، هذه الامور كلها لها دخل في تكوين القيمة التبادلية ، إلاّ أنها ليس لها نصيب في تلك السلعة في التوزيع الاسلامي ، وإنما لها الأجر من صاحب الصوف. إذن ، عناصر الأنتاج ليس لها نصيب في السلعة المنتجة بعد الانتاج ، وإنما لها اجور فقط لأنها أدت بذلك عملاً ، وعمل المسلم محترم. فهنا في مسألتنا فلنفترض أن المرابي بأمواله التي قدمها الى المستقرض كان قد تدخل في تكوين القيمة التبادلية للسلعة المنتجة ( الصوف المملوك ) إلاّ أن هذا لوحده لا يسوغ أخذ اجرة ، ما لم تتفق الاجرة المأخوذة مع تصورات العدالة التي يتبناها المذهب الاسلامي ، ولكننا نجد أن الاسلام ـ كما تقدم ـ لا يجيز كسباً من دون انفاق عمل مباشر أو مختزن ، والفائدة

٢٩٦

هي من هذا القبيل لأنها تبعاً للتفسير الرأسمالي المتقدم ، نتيجة لعامل الزمن وحده دون عمل منفق ، وإذا كان هذا هو المدعى ، فمن حق المذهب أن يمنع الرأسمالي عن استغلال دور الزمن في الحصول على كسب ربوي ، حتى لو اعترف المذهب بدور ايجابي لعامل الزمن في تكوين القيمة ، إلاّ أن هذا في السلع والنقد الذي تحت يده وتصرفه ، أما إذا أقرضه لآخر وملَّكه له مع الضمان ، فليس له أن يطالب بأكثر مما ملّك ، لأنه كسب بدون عمل.

والى هنا تم الحديث مع الدكتور النمر من الناحية التشريعية الفقهية ، ولنا معه حديث آخر من الناحية الاقتصادية ، إذ لعله لاينسجم مع الشريعة والفقه وإنما ينسجم مع الاقتصاد الرأسمالي أو الماركسي ، وسوف نبيّن فيما بعد أن الماركسية تمنع من الربا ، كما أن الرأسمالية تعترف بواسطة أقطابها ( كينز ) وأمثاله بأن الفائدة كلما انخفضت تحسن الوضع الاقتصادي العام ، وكلما ارتفعت تدهور الوضع الاقتصادي العام ، فاذا كان هذا هو المصرح به عندهم كما سيأتي ، يتضح أنَّ كبار الاقتصاديين الرأسماليين أدركوا أن انخفاض الفائدة الى نصف الواحد بالمائة هو الأسلم للأقتصاد العالمي. إذن ، فهم يرون ضررها أكثر من فائدتها ، ولعل بهذا الذي سيأتي يقتنع الدكتور النمر ، وما علينا إلاّ الارشاد والتذكير بما ينفع الناس.

٢ ـ مع الدكتور جمال مرسي بدر

بعد نشر موضوع النمر بأربعة أيام نشرت الأهرام كلمة تحت عنوان : « حكم الشرع في فوائد القروض والودائع المصرفية » لكاتب يدعى الدكتور جمال مرسي بدر ، استاذ الشريعة الاسلامية بجامعة نيويورك. قال الدكتور في مقاله :

« إني أتفق مع فضيلة الدكتور النمر كل الاتفاق في الرأي الذي قال به ، وإن كنت أقترح تبريراً آخر للوصول الى النتيجة نفسها ».

والتبرير هو : « إن القاعدة في الفقه الاسلامي ، أن الأحكام المانعة التي

٢٩٧

تقضي بالتحريم لا يتوسع في تفسيرها ولا يجوز سحبها على ما لم يرد به النص ، ومن ثم فإن الحديث الشريف الذي يحرِّم أي زيادة في تبادل الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة لا يجوز أن نعتبره منطبقاً على نقود من غير هذين الصنفين ».

ثم قال : « ولمّا ظهرت في بلاد الاسلام العملات المسكوكة من المعادن الخسيسة كالنحاس أو البرونز ، أجمع الفقهاء على أن حكم الربا لا يسري عليها ، فأجازوا مثلاً أن يقرض زيد عمراً ألف قطعة نقدية من النحاس مشترطاً عليه أن يردها ألفاً ومائتي قطعة ، ولم يقل أحد من الفقهاء القدامى من مختلف المذاهب أن المائتي قطعة الزائدة تعتبر من قبيل الربا ، ولما كانت النقود الورقية هي المثل البارز للنقود بالاصطلاح ، فان القاعدة التي طبقها القدامى على غيرها من النقود بالاصطلاح تنطبق على النقود الورقية من باب أولى وآحرى ، ولذلك لا تكون الفوائد في عصرنا هذا من قبيل الربا المحرم ».

أقول : لعمري إنه حاطب ليل ، فقد خلط بين حديث الأصناف الستة الوارد في ربا البيع من جهة وربا القرض الذي تحدث عنه الدكتور النمر من جهة أخرى. فعلى الاجتهاد السلام إذا كان الدكتور مجتهداً قد أدلى برأيه كما هو واضح.

ولعل السبب في هذه الفتاوى هي الشهادات التي تعطى لغير مستحقيها من طلاب الدنيا الذين لاورع لهم في الدين إلاّ بقدر ما تدرّ عليهم الدنيا من أرباح ظاهرة ، بل هي سبب خسرانهم في الآخرة ، فان الدنيا مزرعة الآخرة. وما نعمل وكل انسان فمه مفتوح يقول من دون حساب ولا مسؤولية ، لأن الدولة التي ينتمي إليها قد قررت عملاً محرماً في الشريعة الاسلامية ، ولابُدَّ لطلاب الدنيا من التأييد والتسديد وجمع الأدلة الواهية وإن كانت شيطانية ؟

نعم ، ليس علينا إلاّ الرد ، ولكن للحقيقة فقط نقول : لقد جانب صاحب المقال الصواب بقوله : « ولما ظهرت في بلاد الاسلام العملات المسكوكة من المعادن الخسيسة ... أجمع الفقهاء على أن حكم الربا لا يسري عليها ، فأجازوا مثلاً أن

٢٩٨

يقرض زيد عمراً ألف قطعة نقدية من النحاس مشترطاً عليه أن يردها ألفاً ومائتي قطعة ، ولم يقل أحد من الفقهاء القدامى من مختلف المذاهب أن المائتي قطعة الزائدة تعتبر من قبيل الربا ... ».

واليك الأدلة على ذلك ( في خصوص الفلوس ) :

ورد في المدونة الكبرى للامام مالك ٣ ( ٣٩٥ ـ ٣٩٦ ) بعض الروايات الدالة على الربا في الفلوس منها :

أ ـ ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن أنه قال : الفلوس بالفلوس بينهما فضل فهو لايصلح في عاجل لآجل ، ولا عاجل بعاجل ، ولا يصلح بعض ذلك ببعض.

ب ـ قال الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد وربيعة ، أنهما كرها الفلوس بالفلوس بينهما فضل أو نظرة.

ج ـ الحنفية : « شرح العناية على الهداية » و ( شرح فتح الغدير » ( ٦ / ١٦٢ ) :

« الفلوس الرايجة أمثال متساوية قطعاً ، لاصطلاح الناس على اصدار قيمة الجودة منها ، فيكون أحد الفلسين فضلاً خالياً عن العوض مشروطاً في العقد وهو الربا ». وأما الأدلة الدالة على تقوله على أقوال العلماء ( فيما يشمل الفلوس ) فهي :

أ ـ مالك في « المدونة » ( ٤ / ٢٥ ) : « وكل شيء أعطيته الى أجل فردّ إليك مثله وزيادة فهو ربا ».

ب ـ قال ابن قدامة في « المغني » ( ٤ / ٣٦٤ ) : « المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله ».

ج ـ قال ابن تيمية في « مجموع الفتاوى » ( ٢٩ / ٥٣٥ ) : « لا يجب في القرض إلاّ ردّ المثل بلا زيادة ». وقال : « وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء. والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته ».

د ـ أهل الظاهر : الذين وقفوا عند الأصناف الستة في ربا البيع ، كابن حزم في « المحلّى » ( ٨ / ٤٦٢ ) قال : « ولا يجوز في القرض إلاّ ردّ مثل ما اقترض » وقال في

٢٩٩

موضع آخر ( ٩ / ٥٠٩ ) : « والربا يجوز في البيع والسَلَم إلاّ في ستة أشياء فقط ... وهو في القرض في كل شيء فلا يحل اقراض شيء ليردّ إليك أقل ولا أكثر ... ».

ومما ورد عن الإمامية قول المحقق الحلي في الشرائع ( ج ٢ / ٦٧ ) عن حقيقة القرض : « والاقتصار على رد العوض فلو شرط النفع حرم ولم يفد الملك ». ثم قال فيما يصح اقراضه ( ص ٦٨ ) : « وهو كل ما يضبط وصفه وقدره ، فيجوز إقراض الذهب والفضة وزناً والحنطة والشعير كيلاً ووزناً ، والخبز وزناً وعدداً ... وكل ما يتساوى أجزاؤه يثبت في الذمة مثله ... وما ليس كذلك يثبت في الذمة قيمته وقت التسليم ». وواضح دخول الفلوس والأوراق النقدية في هذه الفتوى.

أقول : لا أحب أن أطيل على الدكتور مرسي بدر في نقل الفتاوى من قبل علماء الاسلام الذين نسب إليهم عدم القول في حرمة ربا الفلوس ، وألحق بها الأوراق النقدية ، بل أقول له : ان هذا الاطباق على حرمة ربا القرض سواء كانت في الذهب أو الفضة ، أو في الفلوس ، أو في الأوراق النقدية ، إنما نتج عن اطلاق النصوص القرآنية والروائية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل بيته الكرام ، وعن الصحابة. فمن الروايات التي وردت عن أهل البيت عليهم‌السلام ما تقدم من صحيحة علي بن جعفر في « قرب الإسناد » عن أخيه الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : « سألت أخي موسى عليه‌السلام عن رجل أعطى رجلاً مائة درهم على أن يعطيه خمسة دراهم أو أقل أو أكثر. فقال : هذا الربا المحض (١) ». وموثق إسحاق بن عمار قال : « قلت لأبي إبراهيم الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام : الرجل يكون له عند الرجل المال قرضاً فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منه منفعة ، فينيله الرجل ، كراهة أن يأخذ ماله ، حيث لا يصيب منه منفعة ، يحل ذلك له ؟ قال : لا بأس إذا لم يكن شرطاه (٢) ».

__________________

(١) وسائل الشيعة / ج ١٢ باب (١٢) من أبواب الصرف / ح ١.

(٢) المصدر نفسه / ج ١٣ / باب (٩) من أبواب الدَين والقرض / ح ١٣.

٣٠٠