بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٣
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الجامعة فيها الحلال والحرام ... كيف يصنع عبدالله إذا جاء الناس من كل اُفق ويسألونه ؟ » (١).

الخامس عشر : روي في كتاب الاختصاص عن حمزة بن يعلى عن احمد بن النضر عن عمرو بن شمر عن جابر عن الامام الباقر عليه‌السلام قال : « يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم » (٢).

الخلاصة : ان كثيراً من الروايات المتقدمة مختلفة من ناحية السند في تمام الطبقات ، كما ان بعضها عن الامام الصادق وبعضها عن الامام الباقر وبعضها عن الامام الرضا وبعضها عن الامام الحسين عليهم‌السلام ، وبعضها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فهي تورث القطع بمضمونها الذي يقول : « ان كل ما يقوله الأئمة هو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إما قد كُتِبَ عندهم بواسطة الكتب التي ورثوها عن آبائهم ، أو تعلّموه من آبائهم ورووه الى الناس لأجل ان تتضح معالم الشريعة المستفادة من القرآن الكريم وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ». واذا كان حديث كل إمام من الأئمة الاثنيعشر ، هو عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حسب الروايات المتقدمة فيجب التسليم لهذه الاحاديث والأخذ بها ، ولذا قال ( الامام ) أحمد وهو يعلّق على حديث الامام الرضا عليه‌السلام عن آبائه حين مرَّ بنيسابور : « لو قرأتُ هذا الاسناد على مجنون لبرئ من جنته ».

ومن هذا الذي تقدم نفهم ان خطّ أهل البيت قد تحمل العبء الثقيل في نشر سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحفظها من الضياع في مقابل الخط الآخر ، الذي كان يرى في حفظ أو نشر السنّة النبوية اختلاط القرآن بغيره ، فصدرت النواهي عن كتابة الحديث النبوي أو نشره بين الاُمة.

__________________

(١) بصائر الدرجات ج ٣ : ص ١٤٧ ، باب ١٤ ، ح ١٩.

(٢) بحار الانوار : ج ٢٦ : ص ٢٨.

٢١

لماذا لم يكن لروايات كتاب علي ( الجامعة ) ذكر في كتب أهل السنّة ؟

وقد يتساءَل المتسائل المنصف عن علّة عدم وجود أثر للروايات التي ترويها الشيعة ( وهي متواترة ) عن كتاب علي عليه‌السلام الذي كتبه بيده بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي فيه كل حلال وحرام الى يوم القيامة ، بل وجد ما يخالف هذه الروايات وينفيها ويثبت كتاباً لعلي عليه‌السلام صغيراً موجوداً في ذؤابة سيفه قد املاه عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . وقد ذكر هذه الروايات النافية لكتاب علي ( الجامعة ) كل من البخاري ومسلم وذكرت ايضاً في مسند أحمد وفي سنن البيهقي وسنن النسائي. واليك خلاصتها كما في البخاري بحاشية السندي :

١ ـ قال البخاري : حدّثنا محمد بن سلام قال اخبرنا وكيع عن سفيان عن مطرف عن الشعبي عن أبي حجيفة ، قال : « قلت لعلي : هل عندكم كتابٌ ؟ قال : لا ، إلاّ كتاب الله ، أو فهمٌ اُعطيَهُ رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال : قلت فما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلمٌ بكافر » (١).

٢ ـ قال البخاري : حدّثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الاعمش عن ابراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي‌الله‌عنه قال : « ما كتبنا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الاّ القرآن وما في هذه الصحيفة. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة حرام ما بين عائر الى كذا ، فمن أحدث حدثاً أو آوى مُحدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف. وذمة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ، ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل » (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري : ج ١ ، ص ٣١ ـ ٣٢ ، باب كتابة العلم.

(٢) المصدر السابق : ج ٢ ، ص ٢٠٥ ، باب إثم من عاهد ثم غدر.

٢٢

٣ ـ وروى البخاري : قال : حدّثنا صدقة بن الفضل أخبرنا ابن عيينة حدّثنا مطرف قال سمعت الشعبي قال سمعت أبا جحيفة قال : « سألت عليّاً رضي‌الله‌عنه : هل عندكم شيء ما ليس في القرآن ؟ ( وقال مرة ما ليس عند الناس ؟ ). قال : والذي فلق الحبّ وبرأ النسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن الا فهماً يُعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة. قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير وان لا يقتل مسلم بكافر » (١).

٤ ـ وروى البخاري : قال : حدّثنا عمر بن حفص بن غياث حدّثنا أبي حدّثنا الأعمش حدثني ابراهيم التيمي حدّثني أبي قال : « خطبنا علي رضي‌الله‌عنه على منبر من آجر وعليه سيف فيه صحيفة معلّقة ، فقال : والله ما عندنا من كتاب يُقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها ، فاذا فيها اسنان الابل ، واذا فيها : المدينة حرم من عير الى كذا فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. واذا فيها : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. واذا فيها : مَنْ والى قوماً بغير اذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً » (٢).

٥ ـ وفي مسند أحمد : ـ الذي بهامشه منتخب كنز العمال ـ يقول : حدّثنا عبدالله حدّثني ابي حدّثنا هاشم بن القاسم حدّثنا شريك عن مخارق عن طارق بن شهاب قال : شهدت عليّاً يقول : « ... والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة ... » (٣). وفي حدود تتبعي في كتاب البخاري ومسند أحمد

__________________

(١) المصدر السابق : ج ٤ ، ص ١٩٢ و ١٩٤ ، باب العاقلة.

(٢) المصدر السابق : ص ٢٦٠.

(٣) مسند أحمد : ج ١ : ص ١٠٠.

٢٣

وسنن النسائي وسنن ابن ماجة وسنن البيهقي ، فقد رأيت كل الروايات ترجع الى ثلاثة أسناد :

السند الأول : الذي يكون عن مطرف عن الشعبي عن ابي جحيفة.

السند الثاني : الأعمش عن ابراهيم التيمي عن أبيه.

السند الثالث : عن شريك عن مخارق عن طارق بن شهاب.

ولكن السند الاول والثاني فيهما سفيان فهما رواية واحدة لها اسناد متعددة فلا تخرج عن الخبر الواحد. ورواية الامام احمد هي رواية ثانية لأنَّ سندها يختلف عمّا سبقها ، وفي هاتين الروايتين من لم يوثَّق أو مجهول فلا تصلح لأن تكون حجّة ؛ فأبو جحيفة وهو وهب بن عبدالله السوالي لم يوثّق في الكتب التي رجعت اليها وكذا الشعبي الذي هو عامر بن شرحبيل رغم عدِّه من الفقهاء ، واما ابراهيم التيمي فهو لم يذكر في كتب الرجال التي رجعت اليها ، وكذا لم يوثق كل من شريك وطارق بن شهاب ، ولم أجد لمخارق ذكراً في الكتب التي رجعت اليها ايضاً. ومع هذا فقد يدور في الذهن عدم صحة الروايات المتقدمة في وجود كتاب لعلّي فيه كل حلال وحرام الى يوم القيامة حتى ارش الخدش.

والجواب :

١ ـ بعد الاغماض عن سند الروايتين المتقدمتين اللتين فيهما من لم يوثَّق والمجهول ، فان لسانهما وأمثالهما من الروايات التي فيها يمين مغلظة على النفي يدلّ على انّ هناك حديثاً حول كتاب خُصّ به علي ( فيه أحكام الدين وقواعده ) دون بقية المسلمين وكان مشهوراً ، الأمر الذي دعا بعض المسلمين الى السؤال عن هذا الكتاب ( الجامعة ) فنفى هذه الروايات باليمين المغلّظة.

انظر الى اليمين : « والله ما عندنا من كتاب يُقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة ... » « والذي فلق الحبّ وبرأ النسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن ... وما في الصحيفة ... » وفي رواية : « من زعم ان عندنا شيء نقرؤه إلاّ كتاب الله

٢٤

وهذه الصحيفة فقد كذب » ، وانظر الى السؤال عن أبيجحيفة « هل عندكم كتابٌ ؟ قال : لا » فهو يدلّ على وجود حديث حول كتاب قد خُصّ به علي عليه‌السلام. وحينئذ يتوجه السؤال لمن روَوْا هذه الروايات فقط فيقال لهم : ما هي تلك الروايات التي اشتهرت أو دار الحديث حولها ؟ لماذا لم تذكروا تلك الروايات التي اشتهرت أو دار الحديث حولها ؟ لماذا لم تذكروا تلك الروايات التي يُدّعى انّ عليّاً عليه‌السلام قد كذبها في هذه الروايات كما يدّعي شرّاح الروايات من أبناء السُّنة ؟

٢ ـ ثم لو تنزلنا عمّا تقدم ، يكون أمامَنا طائفتان من الروايات :

الأولى : تزعم انّ هناك كتاباً خُصّ به علي والائمة من ولده دون بقية الناس ( وهي متواترة كما تقدم ).

الثانية : تزعم نفي ذلك. فما علينا إلاّ أن نقول : إن الروايات المتواترة توجب علماً بالصدور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بخلاف الروايات غير المتواترة فانها لا توجب علماً بالصدور وحينئذ يتعيّن الأخذ بالعلم وترك غير العلم عند التعارض.

اما عدم ذكر الروايات المتواترة في كتب بعض المسلمين ( أهل السنّة ) فهو لا يدل على عدم صدورها ولا يقلل من العلم الحاصل من التواتر.

٣ ـ واما سرّ ترك كتب السنّة للروايات المتواترة ( التي تصرّح بوجود كتاب خصّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله به عليّاً دون بقية الناس فيه كل حلال وحرام الى يوم القيامة ) فهو الجوّ الحاكم في ذلك الوقت الذي كان ضدّ أهل البيت وضدّ عليّ بحيث جعل سبّ عليّ سُنّة تعبّد بها الناس والتزم بها الخطباء وأهل المنابر أكثر من أربعين سنة ، فكُتمت فضائل أهل البيت وعليّ ووضعت فضائل لغيرهم ممن تسلّم الحكم من قبل مَنْ يهوى الاُمويين والعباسيين. وهذا الجوّ الذي ساد في ذلك الزمان أوجب ان توضع روايات لتغيير ما كان مسموعاً ومألوفاً في حق أهل البيت عليهم‌السلام وتبعدهم عن الساحة السياسية ، كما حدث في زمان معاوية ، خصوصاً اذا علمنا ان مرحلة

٢٥

تدوين الحديث حصلت في تلك الاجواء المعادية لعليّ عليه‌السلام وأهل بيته. وبهذا يتضح سرّ عدم ذكر الروايات ( القائلة بأنَّ كتاباً أملاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّه علي بيمينه بتفاصيلها المتقدمة ) في كتب أهل السّنة ووجدت متواترة في كتب الشيعة الامامية. والظاهر ان هذه الروايات كرواية عكرمة ومقاتل ( في شأن نزول آية التطهير ) حيث كان عكرمة ينادي في السوق (١) و يقول : « من شاء باهلته انّها نزلت في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة » أو يقول : « ليس بالذي تذهبون اليه ، إنّما هو نِساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢).

على ان هذه الروايات التي تذكر كتاب علي ( الجامعة ) لو لم تتم فرضاً فيكفينا الروايات الاُخرى الكثيرة والمتواترة ايضاً القائلة بأنَّ الأئمة عليهم‌السلام يروون سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن آبائهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ الأئمة عليهم‌السلام وتشريع الأحكام

وبعد ان اتّضح خط أهل البيت في حفظ السنّة النبوية ونشرها يبقى علينا ان نبحث الروايات الواردة في كون الأئمة مشرّعين لنرى مدى انسجامها مع الروايات المتقدمة أو عدم انسجامها ، ولكن قبل ذلك لابدّ من بيان :

١ ـ معنى تشريع الحكم.

٢ ـ تفويض الامر الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣ ـ روايات التفويض الى الأئمة عليهم‌السلام.

__________________

(١) الواحدي ، اسباب النزول : ص ٢٦٨.

(٢) الدرّ المنثور : ج ٥ ، ص ١٩٨. وعكرمة : خارجي معاد لعليّ ، ومقاتل : خارجي معاد لعليّ. راجع ترجمتهما في ميزان الذهبي ، وكان مقاتل يقول لأبي جعفر المنصور : « انظر ما يمكن ان اُحدثه فيك حتى احدثه ... ».

٢٦

١ ـ معنى تشريع الحكم :

ان الاحكام الشرعية يمكن تقسيمها الى قسمين :

أ ـ الاحكام الواقعية.

ب ـ الاحكام الحكومتية.

اما الاحكام الواقعية : فهي الاحكام التي شرّعها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أو على لسان نبيّه العظيم وجاء فيها الأثر القائل : « حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرام محمّد حرام الى يوم القيامة ».

وهذه الاحكام الواقعية تنقسم الى قسمين :

أولاً : الاحكام الواقعية الأولية.

ثانياً : الاحكام الواقعية الثانوية.

اما الاحكام الواقعية الأولية : فيراد بها الاحكام المجعولة للشيء أولاً وبالذات ، أي بلا لحاظ ما يطرأ عليها من عوارض اُخر مثل وجوب الصلاة والصوم وإباحة شرب الماء وإباحة النوم في النهار وحلّية بيع الطعام وحرمة شرب الخمر بالعناوين الأولية ، وما الى ذلك من أحكام واقعية تكليفية أو وضعية.

واما الاحكام الواقعية الثانوية : فيراد بها ما يجعل للشيء من الاحكام بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير الحكم الأولي ؛ فالصوم اذا كان مضرّاً بالمكلف ينقلب حكمه الى الحرمة أو عدم الوجوب ، وشرب الماء اذا كان لإنقاذ الحياة يكون واجباً ، والنوم في النهار اذا كان فيه خيانة للجيش الاسلامي يكون محرّماً ، وشرب الخمر اذا كان لإنقاذ النفس من الموت يكون واجباً ، وهكذا أكثر الاحكام الأولية اذا طرأت عليها عناوين ثانوية تبدّل واقعها وحكمها الأولي الى حكم ثانوي. وهذه الاحكام هي أحكام شرعية واردة على موضوعاتها الأولية والثانوية ، لا تتغيّر ولا تتبدّل الى يوم القيامة. فاذا ثبت ان هناك تشريعاً من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ( كما هو ثابت ) فهو في هذه الاحكام ، وكذا ما يقال عن

٢٧

تشريع الامام المعصوم.

أما الاحكام الحكومتية : فهي الاحكام التي ترك الاسلام مهمة ملئها الى ولي الأمر الذي يكون على رأس السلطة في الدولة الاسلامية ، سواء كان ولي الأمر هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الامام المعصوم أو الفقيه الذي تصدّى لإقامة دولة اسلامية ونجح في ذلك ، وحينئذ يقوم ولي الأمر بتنظيم أحكام تسمى بالأحكام الحكومتية ( تمييزاً لها عن الاحكام الشرعية الواقعية ) حسب المصلحة التي تتطلبها الدولة أو المجتمع الاسلامي في كل زمان. وهذه الاحكام :

١ ـ ليست لها صفة الثبوت الى الأبد ، بل هي أحكام متحرّكة مؤقتة يمكن تبديلها أو إلغاؤها حسب المصلحة التي يراها ولي الأمر ، لأنها ليست أحكاماً صدرت من ولي الأمر بما انّه مبلِّغ للاحكام العامة الثابتة ، بل صدرت من ولي الأمر بما انّه حاكم وولي على المسلمين.

٢ ـ كما ان هذه الاحكام لا توجد إلاّ على أساس وجود جهاز حاكم يتولى شؤون الدولة الاسلامية ، فيمنح هذه الصلاحية في ايجاد أحكام حكومتية بما تفرضه المصالح والأهداف الاسلامية حسب الظروف التي تعيشها الدولة الاسلامية.

٣ ـ وهذه الاحكام تغطي حاجة تطور علاقات الانسان بالطبيعة أو الثروة عبر الزمن والتي قد تكون مهدِّدة للعدالة الاجتماعية ان لم تكن هناك احكام متحركة يفرضها ولي الأمر ؛ فمثلاً هناك الحكم القائل : « بأنّ من سبق الى معدن فهو أحق به » قد صدر في زمان كان النصّ فيه حكماً عادلاً ، لأن من الظلم ان يساوي بين السابق الى المعدن وغير السابق ، إلاّ أنّ قدرات الانسان السابقة في الاستفادة من المعدن كانت محدودة ، اما في زمان تكون فيه القدرات كبيرة بحيث يمكن لقلّة حرمان الآخرين من الاستفادة من المعادن الكثيرة باستخدام الآلات التقنية المتطورة للسيطرة على المعادن فقد يؤدي الأمرُ الى تزعزع العدالة الاجتماعية في

٢٨

الدولة الاسلامية. لهذا جعل الاسلام لولي الأمر صلاحية أن يُشرِّع في منطقة الفراغ ـ التي سنحددها ـ أحكاماً حكومتية مؤقتة تمنع في العصر المتطور من تطبيق : « من سبق الى معدن فهو أحق به ». وهكذا نقول في ما شرّعه الاسلام من حرمة احتكار اُمور معينة في صدر الاسلام ( من الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح ) ، اما في زماننا هذا فيمكن لجماعة قد اُتيحت لها قدرة مالية معينة ان تحتكر سلعة معينة كالحديد أو الاسمنت بحيث يرتفع سعرها بما يخيّل بموازين العدالة الاجتماعية ، فيتمكن ولي الأمر أن يتدخل هنا ويمنع من احتكار الحديد أو الاسمنت ويعاقب عليه ، حتى تتمكن الدولة من تنظيم اُمور المسلمين. قال تعالى : ( يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم ... ) (١).

حدود منطقة الفراغ :

اما حدود هذه المنطقة التي يملؤها الحاكم الشرعي ورئيس الدولة فهو الفعل المباح تشريعياً بطبيعته ، فيحق لولي الأمر اعطاؤه حكماً بالوجوب أو الحرمة ، وهذا الوجوب أو الحرمة لا يتصف بالبقاء الى يوم القيامة ، بل هو تابع للمصلحة التي يراها ولي الأمر للمجتمع ، فقد يُغيَّر بعد مدّة من الوقت أو يُرفَع حسب ما يراه الحاكم من المصلحة.

المشرِّع هو الله سبحانه وتعالى :

إن المشرِّع الأول هو الله سبحانه وتعالى ، ويكون دور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تبليغ ما شرّعه الله ووصل اليه عن طريق الوحي الى الناس. وهذا ممّا اتفق عليه المسلمون ، وقد ذكرت ذلك الآية القرآنية القائلة : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى ) (٢) ، والنطق في الآية مطلق ورد عليه النفي ، ومقتضاه نفي الهوى عن مطلق

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) النجم : ٣ ـ ٤.

٢٩

نطقه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن بقرينة خطابه للمشركين وهم يرمونه ـ في تشريعاته والقرآن الذي يقرؤه على العباد على انه من الله ـ بانه كاذب متقوّل مفتر على الله سبحانه ... الخ ، كان المراد بقرينة المقام انه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما ينطق عن الهوى فيما يقول من أمر الشريعة ( القرآن والاحكام ) بل هو وحيٌّ يوحى اليه من الله سبحانه.

٢ ـ تفويض الأمر الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

هناك روايات فوّضت الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر الخلق ليسوس الناس والاُمة بالعدل والحق ويحكم فيهم بما أراد الله سبحانه ، قال تعالى : ( أطيعوا الله واطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم ... ) ، وفوّض الله سبحانه الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر الدين في ناحية خاصة وفي منطقة فراغ معينة ليململأها بنفسه فملأها صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقرّه الله سبحانه وتعالى على ذلك ، وقال تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ؛ فمثلاً ورد انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل ربّه في ان يخفف جَعْلَ عدد الصلاة على امته ، فجعلها خمس صلوات ثم فوّض اليه أن يزيد عليها ، فزاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقره الله عليها. وكما ورد في حرمة الخمر : ( ... انّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان ... ) (١) وفوّض الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يزيد فحرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كل مسكر وأقرّه الله تعالى عليه : وهذا التفويض من قبل الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو في دائرة خاصة فملأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه ؛ فما دلّ عليه الدليل بان الله سبحانه قد فوّض الأمر فيه الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقرّه على تشريعه يثبت فيه حق النبي في تشريع بعض الاحكام التي ترجع في النهاية الى مشرِّعية الله تعالى بعد اقراره عليه.

واليك بعض الروايات الدالة على ذلك :

١ ـ صحيحة الفضيل بن يسار ، فقد روى الكليني عن علي بن ابراهيم عن

__________________

(١) المائدة : ٩٠.

٣٠

أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اُذينة عن الفضيل بن يسار قال : « سمعتُ الامام الصادق عليه‌السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر (١) : انّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه ، فلما أكمل له الأدب قال : إنّك لعلى خلق عظيم ، ثم فوّض اليه أمر الدين والاُمّة ليسوس عباده فقال عزّ وجلّ : وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مسدداً وموفّقاً مؤيّداً بروح القدس ، لا يزلُّ ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق ، فتأدب بآداب الله ، ثم انّ الله عزوجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، عشر ركعات ، فأضاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الركعتين ركعتين والى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهنّ إلاّ في سفر ، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عزوجلّ له ذلك كلّه ، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة. ثم سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مِثْلَي الفريضة ، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك. والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدُّ بركعة مكان الوتر. وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان ، وسنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صوم شعبان وثلاثة أيّام في كل شهر مِثْلَي الفريضة ، فأجاز الله له ذلك. وحرّم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المسكر من كل شراب ، فأجاز الله له ذلك كلّه. وعاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة ، ثم رخصّ فيها فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ، ولم يرخّص لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما نهاهم عنه نهي حرام ولا فيما أمر به أمر فرض لازم ؛ فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه

__________________

(١) قيس الماصر : « من المتكلمين ، تَعلّمه من علي بن الحسين ( زين العابدين ) ، وصحب الصادق عليه‌السلام وهو من اصحاب مجلس الشامي » عن جامع الرواة ترجمة قيس بن الماصر.

٣١

نهي حرام لم يرخّص فيه لأحد ، ولم يرخّص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمّهما الى ما فرض الله عزّ وجلّ ، بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً ، لم يرخّص لأحد في شيء من ذلك إلاّ للمسافر ، وليس لأحد أن يرخّص [ شيئا ] مالم يرخّصه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! فوافق أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر الله عزّ وجلّ ونهيه نهي الله عزّ وجلّ ووجب على العباد التسليم له كالتسلم لله تبارك وتعالى » (١).

٢ ـ عن زرارة عن الامام الباقر عليه‌السلام قال : « وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ديّة العين وديّة النفس ، وحرّم النبيذ وكل مسكر ، فقال له رجل : وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من غير ان يكون جاء فيه شيء ؟ قال عليه‌السلام نعم ليعلم من يطع الرسول ممن يعصيه » (٢). وهناك روايات اُخرى تؤدي نفس المضمون المتقدم في نفس المصدر المذكور. اذن تلخص لنا ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

١ ـ مبلِّغ عن الله سبحانه ما شرَّعه الله للناس عن طريق الوحي.

٢ ـ حاكم على الناس.

٣ ـ مشرِّع لأحكام خاصة ( وهي التي فوّض الله فيها أمر التشريع الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في دائرة خاصة وملأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه وأقرّه الله عليها ).

٣ ـ روايات التفويض الى الأئمة عليهم‌السلام :

وهناك روايات تقول : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أعطى ما فوّضه الله اليه الى الأئمة عليهم‌السلام أو إلى علي عليه‌السلام ، وهي عبارة عن خمس روايات أربع منها غير حجّة (٣) وواحدة لها

__________________

(١) اصول الكافي : ج ١ ، كتاب الحجة ، باب التفويض الى رسول الله ٩ والى الأئمة ، ح ٤.

(٢) المصدر السابق : ح ٧.

(٣) لأنّها بين مرسل أو مسند في بعض رجال سنده ضعف أو جهالة. راجع الروايات في اصول الكافي : ج ١ ،

٣٢

سند معتبر عن الامام الباقر عليه‌السلام : وهي : روى الشيخ الكليني في الكافي عن عدّة من اصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن أبي اسحاق قال : « سمعت الامام الباقر عليه‌السلام يقول : ان الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه على محبته ، فقال : ( وانك لعلى خلق عظيم ) ثم فوّض اليه فقال عزّ وجلّ : وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال عزّ وجلّ : مَنْ يطع الرسول فقد أطاع الله. قال : ثم قال : وإن نبي الله فوّض الى عليّ وائتمنه ، فسلّمتم وحجد الناس ، فوالله لنحبّكم ان تقولوا اذا قلنا ، وان تصمتوا اذا صمتنا ، ونحن فيما بينكم وبين الله عزّ وجلّ ، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا » (١) وهذه الرواية ظاهرة في إعطاء الولاية والحكومة الى الأئمة ، حيث يقول الى بعض اصحابه : « فسلّمتم وجحد الناس ». ونحن نعلم ان الذي جحده الناس هو الحكومة والولاية. اما رواية الأئمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يجحدها الناس. ثم لو تنزلنا وقلنا ان هذه الرواية مطلقة شاملة لإعطاء الولاية وحق التشريع ، فلابدّ من تخصيصها :

١ ـ بطائفة الروايات المتقدمة القائلة على لسان الأئمة عليهم‌السلام « كل ما اُحدّثك هو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ».

٢ ـ والروايات القائلة ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أملى على عليّ وكتب لشركائه كل شيء من حلال وحرام حتى ارش الخدش ؛ ومعنى ذلك ان كل أحكام الاسلام قد أملاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ وشركائه ، فلا حاجة الى تشريع من قبل الأئمة عليهم‌السلام. وقد ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « ما من شيء يقربكم الى الجنة ويبعدكم من

__________________

ص ٢٦٥ ، كتاب الحجة ، باب التفويض الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والى الأئمة ، تجد الرواية الاولى هي المعتبرة بسندها الثاني ، واما الرواية الثانية فضعيفة بابن أشيم ، والرواية الثامنة فيها محمد بن سنان فهي ضعيفة ، والرواية التاسعة فيها الحسن بن زياد ومحمد بن الحسن الميثمي وهما لم يوثقا ، والرواية العاشرة مرسلة.

(١) المصدر السابق : ح ١.

٣٣

النار إلاّ أمرتكم به ».

٣ ـ والآية القرآنية التي نزلت في حجّة الوداع. ( ... اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ... ) (١) ، فقد تم الدين في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا حاجة الى مشرِّع بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . وحينئذ يكون معنى روايات التفويض الى الأئمة عليهم‌السلام ناظرة الى الحكومة وتبليغ الاحكام وحفظها. ومما يؤيد هذا هو استبعاد أن يكون امرٌ عظيم الأهمية ( كحق التشريع للائمة عليهم‌السلام ) في حياة المسلمين وفي مسيرتهم قد دلّ عليه خبر واحد ، بل لابدّ ان يكون مبيّناً بالدليل الواضح ( كالدليل على حاكميتهم في الخلافة العامة مثلاً ) الواصل بحيث لا يكون فيه غموض ولا إبهام فيكون مَنْ خالف قد خالف عن بيّنة. بقي علينا ان نجيب عن سؤال قد يوجّه الينا وهو : لماذا فوّض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر الحكم والتبليغ الى الأئمة عليهم‌السلام دون غيرهم ؟

الجواب : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه ، فيما يرجع إلى اُمور الشريعة بالانفاق لأنه ( لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى ) ، ومع هذا نتمكن ان نجيب على ذلك من باب حكمة هذا التفويض الى الأئمة دون غيرهم ، إذ نقول : يمكن ان تكون الحكمة هي عصمة (٢) هؤلاء الأئمة دون غيرهم ؛ فهم الأجدر بتحمّل مسؤولية التبليغ لأحكام الله وحفظها من الضياع ، وهم الأجدر بحكومة الناس ـ من حيث عصمتهم من الوقوع في الخطأ أو الاشتباه أو النسيان ـ في تطبيق أحكام الله تعالى. وقد أثبت لنا التاريخ انهم الأجدر في حفظ سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث مُنع من كتابة وحفظ الحديث في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد وفاته كما تقدم ذلك ، فان قريش ( ومَنْ تسلّم الحكم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد منعوا من كتابة الحديث بحجّة

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) الأدلة على عصمة الأئمة : من القرآن والسنة كثيرة منها :

آية التطهير : ( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا ).

٣٤

خشية اختلاطه مع القرآن الكريم ! ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة من بعده هم الذين حفظوا حديث رسول الله وكتبوه وتوارثوه ونشروه كما دلّت على ذلك الروايات المتقدمة.

خطأ فظيع :

قد ينسب بعضٌ الى الامامية القول : انهم يقولون بأن الأئمة عليهم‌السلام مشرّعون.

أقول : وهذا من الخطأ بمكان ، لأن مسألة ما يوهم تشريع الأئمة للاحكام الشرعية قد ورد فيها ( كما تقدم ) اخبار آحاد لم يسلم من عدم الحجّية إلا رواية واحدة كانت ظاهرة في تفويض أمر الخلق الى الأئمة ليسوسوا الناس بالحق ، ومع التنزل وافتراض اطلاقها لتفويض أمر الدين والخلق ، فبناء على حجية خبر الواحد الثقة ( وهو الصحيح ) تمكنّا ان نجمع بين هذه الرواية وبين الروايات المتقدمة التي أوجبت القطع بكون الأئمة عليهم‌السلام رواة وحفظة للسُّنة النبوية ، فكانت النتيجة هي : ان الأئمة قد فوّض اليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحكم على الامة والتبليغ لأحكام الشريعة التي تمَّت زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذا رأي نلتزم به والتزمناه وكتبناه في كتابنا الحلال والحرام في الاسلام.

وهناك من علماء الامامية من ذهب الى عدم حجيّة خبر الواحد منهم :

١ ـ نُسب الى السيد المرتضى وأتباعه بان الخبر الواحد اذا كان متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعية فهو حجّة ويجوز العمل به وإلا فلا.

٢ ـ نُسب الى المحقق الحلّي بان الخبرالواحد إن عمل به المشهور فهو حجّة وان كان ضعيف السند ، وان لم يعمل به المشهور فليس بحجة وان كان صحيح السند.

٣ ـ نُسب الى صاحب المدارك وغيره بان الخبر الواحد إن كان رجال سنده عدولاً اُخذ به وإلا فلا وان كان رجال سنده من الثقات. وحينئذ : فعلى هذه المسالك الثلاثة لا يكون الخبر الواحد بما انه خبر واحد حجّة. إذن لا يمكن ولا يصح ان ينسب الى الطائفة الامامية اعتقادها بتشريع الأئمة للاحكام الشرعية

٣٥

الواقعية ( الأولية والثانوية ) وانه أمرٌ مجمع عليه ، فان هذا من الخطأ الفظيع ، اضافة الى أنّ خبر الواحد في المسائل العقائدية ليس حجة بالاتفاق فتنبه.

الفرق بين الأئمة عليهم‌السلام وغيرهم كأئمة المذاهب والرواة :

ذكرنا فرقاً بين الأئمة من أهل البيت وغيرهم أدى توجيه اعطاء ولاية الحكم والتبليغ الى الأئمة دون غيرهم بعد زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . اما هنا فنريد بيان فرق آخر بعد التسليم بإعطاء ولاية التبليغ اليهم دون غيرهم ؛ إذ ليس المراد باعطاء ولاية التبليغ لهم دون غيرهم هو حرمة ان يكون المكلف مبلغاً لاحكام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق نشرها بين الناس ، فان هذا أمر لا يمكن ان يلتزم به أحد ، بل المراد هو اعطاء الولاية في التبليغ لهم ( مع ضم عصمتهم التي أوجبت أو سوغت ذلك ) هو الاطمئنان بعدم امكان تطرق الريب إليهم في الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . ولذا قال الامام أحمد وهو يعلّق على حديث الامام الرضا عليه‌السلام المعروف ب‍ « سلسلة الذهب » عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين مرّ بنيسابور : « لو قرأتُ هذا الاسناد على مجنون لبرئ من جنته » (١). وحينئذ يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تلقى الوحي من السماء ، بينما يتلقّى الأئمة عليهم‌السلام ما يوحى به الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريقه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم منفردون بمعرفة جميع الاحكام ( كما تقدمت الروايات الدالة على ذلك ). ولذا

__________________

(١) الاصول العامة للفقه المقارن : ص ١٨١ نقلاً عن الصواعق المحرقة : ص ٢٠٣. وسند الحديث وأصل الحديث هو : حينما وصل الامام الرضا عليه‌السلام الى نيسابور وقد خرج اليه العلماء يستقبلونه ، فلما صاروا الى المربعة تعلقوا بلجام بغلته الشهباء وقالوا : يا ابن رسول الله حدّثنا بحقّ آبائك الطاهرين حديثاً عن آبائك صلوات الله عليهم أجمعين ، فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف خز فقال : « حدّثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنّة عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال أخبرني جبرئيل الروح الأمين عن الله تقدست اسماؤه وجلّ وجهه : « إني أنا الله لا إله إلا انا وحدي ، عبادي فاعبدوني ، وليعلم من لقيني منكم بشهادة ان لا إله إلا الله مخلصاً بها انه دخل في حصني ، ومن دخل في حصني أمن من عذابي ... ». بحارالانوار ج ٤٩ : ص ١٢٠ وما بعدها عن كتاب عيون أخبار الرضا عليه‌السلام.

٣٦

اشتهر في زمان الخليفة عمر بن الخطاب قوله : « لولا عليّ لهلك عمر ». وقوله « معضلة وليس لها ابوالحسن » ، حينما ترد المعضلة ولا يجد الحلّ الصحيح لها. وعلى هذا فسيكون قولهم عليهم‌السلام حجّة يجب الأخذ به ، ويكون ما ذكره الأئمة عليهم‌السلام من قواعد وطرق استنباط وترجيح للتعارض بين الاخبار وما الى ذلك لا يعدوا ان تكون من تعاليم الاسلام نفسه قد وصلت الى الأئمة عليهم‌السلام عن طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما يكون دور أئمة المذاهب أو غيرهم من المجتهدين هو الاجتهاد في كل ما يأتون به من أحكام ، فقد يصيبون كما قد يخطِئون ، فليسوا هم مصدراً من مصادر التشريع ، ٢ ولذا لا يكون قولهم حجّة على المجتهدين الآخرين ، كما يمكن النظر فيما يأتون به من أصل الاستنباط للحكم الشرعي فلا يكون حجّة على الغير.

واما فرق الأئمة عليهم‌السلام عن غيرهم من الرواة فهو في عصمة الأئمة التي دلّ عليها الدليل ، بخلاف غيرهم الذي يكون في معرض الخطأ والنسيان وان كانوا عدولاً ، كما ان احتمال الدس والكذب بسبب الاهواء يكون موجوداً اذا لم يكونوا عدولاً.

وعلى ما تقدم : فلا يمكن ان نسمي الشيعة الامامية مذهباً في مقابل بقية المذاهب ، لأن ما يأتي به أئمة الشيعة ليس رأياً لهم وانما هو تعبير عن واقع الاسلام من أصفى منابعه ؛ فقد ذكر المحدّث أبو جعفر محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار القمي ( المتوفى سنة ٢٩٠ ه‍.ق ) قال : « حدّثنا أحمد بن محمد عن البرقي عن اسماعيل بن مهران عن سيف بن عميره عن أبي المعزا عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « قلت له : كل شيء تقول به في كتاب الله وسنّته ، أو تقولون فيه برأيكم؟ قال عليه‌السلام : بل كل شيء نقوله في كتاب الله وسنة نبيّه » (١). ويتفرع على ما تقدم كون المجتهد من الشيعة الامامية إنْ اجتهد في ضمن إطار الاسلام فقد يُخطئ وقد يصيب كالائمة المجتهدين الأربعة ( ابي حنيفة والشافعي واحمد بن

__________________

(١) بصائر الدرجات : ج ٦ ، ص ٧ ، الباب ١٥ ، ح ١.

٣٧

حنبل ومالك ).

خلاصة البحث :

بعد اجماع المسلمين على أن القرآن الكريم قد جمع وكتب في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يبق من الدين إلاّ السّنة الشريفة التي كانت في صدور الرجال ( الصحابة ) ، الى أن الروايات المتواترة عن أئمة اهل البيت عليهم‌السلام تؤكد جمعها وايداعها عند الأئمة من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كان الامام علي عليه‌السلام يكتب ما أملاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه ، وقد تواترت الروايات ايضاً في كون الأئمة عليهم‌السلام ينقلون ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واملى على عليّ عليه‌السلام فليس هم أهل رأي وقياس بل حَفَظَة للسنة النبوية التي هي عدل القرآن في التشريع ، وبهذا ينتهي الأمر إلى أن كل ما يقوله الأئمة عليهم‌السلام هو من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكون المشرِّع الوحيد للدين الاسلامي الحنيف هو الله سبحانه وما فوضه الله الى نبيّه الكريم وشرعه النبي وأقره الله تعالى عليه ، فاذا اضفنا الى دور الأئمة عليهم‌السلام في حفظ السنة النبوية حصانتهم من الانحراف كما تبينه عدة أدلة ومنها الواقع الخارجي الذي كان عليه الأئمة عليهم‌السلام من سيرتهم المثلى التي يقتدي بها المسلمون من دون نكير ، يتبيّن لنا عظمة التشريع الاسلامي الحنيف الذي حفظ المصدرين الأساسيين للتشريع من ألاعيب اللاعبين ، وهذا هو سر خلود الشريعة الاسلامية وتفوقها على كل تشريع آخر ، ومعنى : أني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا. وبهذا ينحل ما يتخيل من التضاد بين الحديث المشهور بل المتواتر : « اني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ... » وبين حديث : « اني مخلف فيكم كتاب الله وسنّتي ... » بناءً على صحة سند الحديث الثاني وصدوره. فسلام الله على نبيه الاكرم حين ولد وحين توفى وحين يبعث حيّاً.

نسأل الله سبحانه التأييد والتسديد وان يحفظنا من الزلل والزيغ وأن ينفع بنا الاسلام والمسلمين وآخر دعوانا ان الحمد لله ربّ العالمين.

٣٨

٣٩
٤٠