بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٣
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

خصائص الذمّة :

وعلى ما تقدم من معنى الذمّة عند فقهاء الشيعة ، فللذمّة خصائص هي :

١ ـ لا ذمّة للحيوانات ، حيث إن العقلاء اعتبروا الذمّة وعاءً في الانسان لما يجب عليه من حقوق مالية كلية. والحيوان لا يجب عليه حق مالي. نعم اذ اتلف الحيوان مال انسان ، فيجب على مالكه الضمان ، فتنشغل ذمته بالمال.

٢ ـ العبد له ذمّة ، يتبع بعد عتقه ، فيستطيع ان يستدين بشرط ان يكون الدَّين متعلقا بذمته يتبع بها بعد عتقه ، لان العبد وما يملك لمولاه ، ويمكن أن يُضمن ما في ذمّة العبد ويبرأ ويتبرع عنه متبرع.

٣ ـ الجنين لا ذمَّة له وان كان يمكن ان يوهب له او يوصى إلاّ ان هذا حق له في ذمّة غيره ، وليس هو حقاً عليه.

٤ ـ الذمّة من لوازم الشخصية ، فالوليد هو شخص له صلاحية ان تكون عليه حقوق يكون محلها الذمّة ، كما لو فرضنا ان انسانا وليدا قد زوَّجه وليّه لمصلحة فتجب عليه النفقة للزوجة ، فلو فرضنا انه لم ينفق عليها الولي ، فيثبت في ذمّة الزوج ( مقدار النفقة على الزوجة ) ، ولكن لا يجب على الوليد الاداء لعدم تكليفه باداء المال. فعلى هذا يكون المولود له ذمّة ، وكذلك اذا اتلف الوليد الجديد مال غيره بحيث استند الاتلاف إليه فيثبت في ذمّته مثل ما تلف او قيمته.

٥ ـ ليس لسعة الذمّة حدحيث انها امر اعتباري ، تتسع لكل ما يتصور من حقوق.

٦ ـ الشخص الواحد ليس له إلاّ ذمّة واحدة.

٧ ـ لا اشتراك في للذمّة ، اي : لا يكون للذمّة الواحدة اكثر من صاحب واحد ولذا اذا كان المورّث مدينا فلا يكون الوارث مسؤولا عنه ، وانما المسؤول عن الدين هو المورِّث ، فان كفت التركة اُعطي الدائن فيها ، وان لم تفِ فيكون الدائن يطلب الميت ، وذمّة الميت مشغولة بالدَّين الى ان تفرغ بأحد المفرّغات

١٦١

المتقدمة من تبرُّع عنه او ابراء او ضمان.

٨ ـ الذّمة اذا كانت مشغولة لا تمنع المدين من التصرف في امواله الخارجية أو يضيف الى ذمّته أشياء اُخرى مالية.

٩ ـ التحجير من قبل الحاكم الشرعي في صورة ثبوت إفلاسه او سفهه او صغره ، لا يخرّب الذمّة. نعم ، التحجير يمنع المحجر عليه من التصرف في اعيان أمواله كما يمنعه من أن يضيف الى ذمّته ديونا اُخرى بحيث يشترك الدائن الجديد مع الدُيّان القدماء. اما اذا انشغلت ذمّته باتلاف مال غيره فيكون للمتلَف مالُه الحق في ذمَّة المتلِف يتبعه بعد فراغ ذمّته من الديون السابقة على دينه ، كما يمكن ـ المحجر عليه ـ ان يستدين على ان يدفع المال الكلي للدائن بعد فراغ ذمّته من الديون السابقة. وهذا معناه ان ذمّته باقية رغم التحجير عليه.

١٠ ـ قد تقدم منّا أن الذمة لا تخرب بالموت ، وانما اذا كانت ديون الميت تستغرق للتركة فتوثق الديون بتعلقها بماله اضافة الى ذمّته ، فتكون حقوقهم في هذه الحالة شبه عينية.

اما اذا مرض الانسان مرض الموت فبالاولى ان لا تسقط ذمّته ولا تخرب.

فما ذهب اليه بعض الحنابلة (١) : « من ان الذمّة تتهدم بمجرد الموت ، لان الذمّة من خصائص الشخص الحي ، وثمرتها صحة مطالبة صاحبها بتفريغها من الدين الشاغل لها ، واما اذا مات فقد خرج الانسان عن صلاحية المطالبة فتنهدم الذمة ، وعلى هذا اذا مات الانسان دون أن يترك مالا فمصير ديونه السقوط ، وان ترك مالا تعلقت الديون بماله » ضعيف وذلك : فان ثمرة الذمّة ليست هي فقط مطالبة صاحبها بتفريغها من الدَّين الشاغل لها ، وقد تقدمت منّا فوائد الذمّة. على أن تفريغ الذمّة ليس هو فقط باداء صاحب الذمّة ما عليه ، فقد عرفنا ـ سابقا ان ـ

__________________

(١) القواعد ، لابن رجب ، ص ١٩٣ ، عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٨.

١٦٢

المتبرع يتمكن ان يفرّغ الذمّة المشغولة ، كما ان الابراء ـ ايضا ـ كذلك ، وكذا الضمان. ثم اننا لا ندري ما هو الدليل على أن صاحب الذمّة المشغولة ان لم يترك مالا عند موته تسقط ديونه ؟!! نعم ، الميت غير مكلف باداء الدَّين بعد موته ، لانه خرج عن كونه مكلفا ، اما أن ذمته مشغولة فهو شيء آخر غير العهدة ، وهذا لا يزول ولا يسقط بالموت.

اذن ، الصحيح ما قلناه ـ سابقا ـ من ان الذمّة تبقى بعد الموت صحيحة الى أن توفى الديون او يبرأ من قبل الدائنين او يتبرع عنه متبرع ، او يضمن من قبل شخص حي ويقبل الدائن. والدليل على ذلك بالاضافة الى ما تقدم ـ من ان الذمّة وعاء اعتباري يعتبره العقلاء ، والاعتبار سهل المؤونة ، فيكون بعد الموت ايضا ـ ما ورد في الحديث النبوي الشريف : « إن ذمّة الميت مرتهنة بدَينه حتى يقض عنه » (١).

نعم ، بالموت يخرج الانسان عن صلاحية المطالبة في الدنيا ، كما لا يجب عليه الاداء لعدم تكليفه ، لكن هذا لا يوجب عدم بقاء الذمة وصلاحيتها لان تشتغل بالدَّين وقد وردت صحة أن تشغل ذمّة الميت بدين جديد متفرع عن سبب سابق ، كما لو باع شخص شيئا وتوفى وردّ بعد الموت بعيب فيه ، فان ذمّة البائع تشتغل بثمنه الواجب الرد ، وكذا لو باشر في حياته سببا من اسباب الضمان كمن حفر حفرة في الطريق العام ثم مات فتردّى حيوان في الحفرة بعد موته ، فان ذمة الحافر تشتغل بضمان قيمة الحيوان فتؤخذ من تركته.

والى هذا الرأي ذهب الشافعية (٢) ، وهورأي المالكية وفريق من الحنابلة ايضا (٣).

ومما تقدم ـ ايضا ـ يبطل القول الحنفي القائل : إن الذمّة تضعف بالموت ولكن لا تنهدم ، اي يبقى للذمة ما تقتضيه الضرورة ، وهذا الضعف يبدأ من مرض الموت ،

__________________

(١) الحديث اخذ عن كتاب الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢٢٨. والظاهر انه لم يرد في كتب الشيعة مثل هذا النص ، الا انه موافق لنصوص كثيرة تؤيد هذا المعنى.

(٢) حاشية الرملي على اسناد المطالب ، ج ١ ، ص ٢٣٥ عن الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ، ج ٣ ، ص ٢٢٩.

(٣) الفقه الاسلامي في ثوبه الحديد ، ج ٣ ، ص ٢٢٩.

١٦٣

لذا توثق الديون التي على الميت بتعلقها بماله تقويةً لذمّته.

ودليل بطلان هذا القول هو : ان تعلق الديون التي على الميت باموال الميت الخارجية ، ليس معناه خراب الذمّة ، حيث إن هذا حكم مستقل دلَّت عليه الروايات القائلة اذا مات المدين حلّت جميع ديونه ، وبما أنه لا تركة الاّ بعد سداد الديون (١) ، فحينئذ تباع التركة وتسدد الديون ، وهذا كما ترى لا ارتباط له بفساد ذمّة الميت.

نعم ، ذمّة الميت لا يمكن ان تشغل بحق مالي كلي جديد ، لان الانسان هو الذي يشغل ذمته بنفسه لانه هو المالك لها على حد ملكيته لنفسه ولأعماله ، وبما أنه قد مات فلا يتمكن اي شخص من اشغال ذمته بعد الموت ، وهذا ـ ايضا ـ لا ارتباط له بخراب الذّمة ، اذ عدم امكان اشغال الذمّة في حال معين ليس معناه انه لا ذمّة او أنها قد خربت.

* * *

__________________

(١) هذه القاعدة مستفادة من الآية القائلة : ( من بعد وصية يوصي بها او دين ).

١٦٤

١٦٥
١٦٦

إن الاعسار اذا حدث للمدين فهو يوجب الانظار من قبل الدائن ( وهذا شيء واضح لا خلاف فيه ) وتدل عليه الآية القرآنية ( وان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة ) (١) وحينئذ فاذا أراد الدائن مضايقة مدينه في اداء الدين وهو معسر فيكون قد ارتكب محرّماً ، اذ كما تحرم على المدين مماطلة الدائن وتأخيره دفع الدين عن موعده في صورة اليسار ، تحرم على الدائن مطالبة المدين اذا كان معسرا ، وعلى هذا فتوى مراجع التقليد المعاصرين وغيرهم ، فقد ذكر السيد الإمام الخمينى رحمه‌الله في تحرير الوسيلة : « كما لا يجب على المعسر الاداء يحرم على الدائن اعساره بالمطالبة والاقتضاء ، بل يجب أن ينظره الى اليسار » (٢). وذكر السيد الإمام الخوئي رحمه‌الله : « تحرم على الدائن مطالبة المدين اذا كان معسرا ، بل عليه الصبر والنظرة الى الميسرة » (٣).

وتدل على هذا الرأي ـ مضافا الى الآية ـ الروايات الكثيرة ، منها ما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام في وصية طويلة كتبها الى أصحابه فقال : « واياكم واعسار أحد من اخوانكم المسلمين ، أن تعسروه بشيء يكون لكم قِبله وهو معسر ، فإنَّ أبانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : ليس لمسلم أن يعسر مسلماً ، ومن أنظر

__________________

(١) البقرة ، ٢٨٠.

(٢) ج ١ ، ص ٦٥١ ، مسألة ١٦ من كتاب الدين والقرض.

(٣) منهاج الصالحين وتكملة المنهاج ، ج ٢ ، ص ١٩١ ، مسألة ٨١٠.

١٦٧

معسراً أظلّه الله يوم القيامة بظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه » (١). وعن عبدالله بن سنان قال : « قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الف درهم أقرضها مرتين أحب اليّ من أن أتصدق بها مرة ، وكما لا يحل لغريمك أن يمطلك وهو موسر ، فكذلك لا يحل لك ان تعسره اذا علمت أنه معسر » (٢).

العسر لغة :

العسر لغة : ضد اليسر وهو الضيق والشدة والصعوبة (٣).

قال الله تعالى ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ).

وقال : ( فإنَّ مع العسر يسرا إنّ مع العسر يسراً ).

وقال : ( فإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ).

وحينئذ فان كان الانسان معسرا ، فمعناه انه في ضيق وشدة وصعوبة بحيث لا يمكنه سداد دينه الذي في ذمته ، فيكون معناه ضد اليسر الذي هو عبارة عن الرفاه والسهولة.

روايات الاعسار :

وقد جاءت الروايات عن اهل بيت العصمة تحدد الشدة التي توجب الانظار ، وخلاصة ما يستفاد من الروايات أن عدم القدرة على سداد الدَّين معناه : « أن لا تكون عند الانسان المدين زيادة على ما يحتاج إليه مما يناسب شأنه ولا يمكنه تركه » ، فقد ذكرت الروايات :

١ ـ إن وجود دار للانسان ـ مناسبة لشأنه ، وحتى وجود دارين إذا كان مما

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، باب ٢٥ من ابواب الدين ، ح ١.

(٢) المصدر السابق ح ٢.

(٣) لسان العرب ، مادة عسر.

١٦٨

يحتاجهما ـ لا يخرجه عن حدّ الاعسار الى اليسار ان لم يكن عنده اكثر من ذلك.

٢ ـ إن وجود ثياب تجمُّل متعددة لائقة بحال الانسان المدين ، لا يخرجه ايضا عن حدّ الاعسار بالقيد المتقدم.

٣ ـ وجود خادم او خادمة او خدم ـ اذا كان المدين مما يحتاج اليهم ـ لا يخرجه عن حدّ الاعسار كذلك.

٤ ـ وجود دابة أو أكثر اذا كان مما يحتاج اليها ، لا يخرجه عن حد الاعساركذلك.

واليك تلك الروايات :

١ ـ صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « لا تباع الدار ولا الجارية في الدَّين ، ذلك أنه لابدّ للرجل من ظل يسكنه وخادم يخدمه » (١).

٢ ـ صحيحة الصدوق باسناد عن ابراهيم بن هاشم قال : « إن محمد بن أبي عمير رضي‌الله‌عنه كان رجلا بزازا فذهب ماله وافتقر وكان له على رجل عشرة آلاف درهم ، فباع دارا له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم ، وحمل المال الى بابه فخرج اليه محمد بن أبي عمير فقال : ما هذا ؟ فقال : هذا مالك الذي لك عليَّ.

قال : ورثته ؟ قال : لا ، قال : وُهِب لك ؟ قال : لا ، فقال : هو من ثمن ضيعة بعتَها ؟ فقال : لا ، فقال : ما هو ؟

فقال : بعتُ داري التي اسكنها لأقضي ديني.

فقال محمد بن أبي عمير حدثني ذريح المحاربي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدَّين. إرفعها فلا حاجة لي فيها ، والله وإني لمحتاج في وقتي هذا الى درهم واحد ، وما يدخل ملكي منها درهم واحد » (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، باب ١١ من ابواب الدين ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ح ٥ ، ص ٩٥ ومن الواضح ان جملة ( ارفعه فلا حاجة لي فيها ... الخ ) هو فهم

١٦٩

٣ ـ وعن مسعدة بن صدقة قال : سمعت الإمام الصادق عليه‌السلام وسئل عن رجل عليه دين وله نصيب في دار وهي تغل غلة ، فربما بلغت غلتها قوته وربما لم تبلغ حتى يستدين ، فان هو باع الدار وقضى دينه بقي لا دار له. فقال : « ان كان في داره ما يقضي به دينه ويفضل منها ما يكفيه وعياله فليبع الدار وإلاّ فلا » (١).

ومعنى الحديث ان الانسان اذا كانت عنده دار واسعة يكتفي ببعضها فعليه أن يسكن منها ما يحتاج ويقضي ببقيتها دينه ، وكذا الامر ان كفته دار بدون ثمنها باعها واشترى بثمنها داراً ليسكنها ويقضي دينه بالثمن ، وكذا الامر ان كان يكفيه ومن شأنه ان يسكن داراً مستأجرة ، باع داره وقضى دينه ، فان كانت هذه المصاديق الثلاثة يصدق عليها « ان كان في داره ما يقضي به دينه ويفضل منها ما يكفيه وعياله فليبع الدار ».

تنبيهان :

الأول : إن معنى كون الدار من المستثنيات في الدَّين واشباهها هو : أننا لا نجبر المدين على بيعها لأجل أداء الدَّين ولا يجب عليه ذلك ، ولكن ذا رضي المدين ببيعها لقضاء دَينه جازله ذلك ويجوز للدائن أخذ المال. نعم ينبغي للدائن ان لا يرضى ببيع مسكن المدين وأن لا يصير سبباً في البيع وان رضي المدين ، ففي خبر عثمان بن زياد قال : « قلت للإمام الصادق عليه‌السلام : إن لي على رجل دَيناً وقد أراد أن يبيع داره فيقضيني ، فقال الإمام الصادق عليه‌السلام : أعيذك بالله أن تخرجه من ظل رأسه » (٢).

__________________

خاص لمحمد بن أبي عمير ، ولكنه فهم خاطئ لما سيجيء من أن صاحب الدين اذا باع داره من دون اجبار من قبل الدائن وأراد سداد دينه فيجوز الأخذ ، من قبل المدين ، ولعل ابن أبي عمير فهم كراهة أخذه في هذه الصورة لانه صار سببا في البيع ، وسيأتي انه يكره للدائن ان يصير سببا في بيع المدين داره وان يرضى بذلك.

(١) المصدر السابق ح ٧ ص ٩٦.

(٢) الوسائل ، ج ١٣ ، باب ١١ من ابواب الدين ، ح ٣ ، ص ٩٤.

١٧٠

الثاني : انما لاتباع دار السكنى واشباهها في أداء الدَين مادام المدين حياً ، اما لو مات المدين ولم يترك غير دار سكناه ، او شيئاً من ثيابه ، او دابته او خادمه ، وكان دَينه مستوعباً لما تركه ، فهنا تباع هذه الأشياء وتصرف في أداء الدَين لاجل تفريغ ذمة الميت. وهذا واضح لا يحتاج الى دليل بعد الآية القرآنية القائلة : ( من بعد وصية يوصي بها او دَين ) (١).

الخلاصة : ان الميزان لبيع الدار وكذا الخادم والثياب واشباهها هو عدم الاحتياج اليها وهو معنى اليسر ، والميزان لعدم وجوب بيع الدار هو الاحتياج وهو معنى العسر ، والامثلة التي ذكرتها الروايات لا تخرج عن كونها أمثلة لما يحتاج اليه الانسان في ذلك الزمان ، اما في زماننا هذا فان الامثلة قد تكثر وقد تتبدل كما في الدابة فان العربة تقوم مقامها في هذه الازمنة ، وقد يكون الانسان محتاجا في أيامنا هذه الى الهاتف والراديو والمسجل واشباه ذلك كثير ولا يمكن حدّه بأمثلة معدودة ، فالاولى ما ذكرناه من الميزان المتقدم من الحاجة الى الشيء بحيث يصعب عليه تركه فهو ميزان الاعسار الذي لا يباع في الدَّين ، ومن عدم الحاجة الى الشيء بحيث يتمكن من تركه بسهولة فهو معنى اليسر الذي يباع في الدَّين.

هل يجب على المدين المعسر ان يقتصر على ما يمسك رمقه ؟

نقول : لا يلزم ذلك ، بل يجوز له أن يأكل ماشاء ( بشرط ان لا يؤدي الى الاسراف المحرم ) فقد روى علي بن اسماعيل عن رجل من أهل الشام أنه « سأل الامام أباالحسن الرضا عليه‌السلام عن رجل عليه دين قد فدحه وهو يخالط الناس وهو يؤتمن ، يسعه شراء الفضول من الطعام والشراب ، فهل يحل له ام لا ؟ وهل يحل ان يتطلع من الطعام ام لا يحل له إلاّ قدر ما يمسك به نفسه

__________________

(١) النساء ، ١١.

١٧١

ويبلغه ؟ قال : لا بأس بما أكل » (١).

هل يجب على المدين المعسر التكسب وأن يؤاجر نفسه ؟

اختلف فقهاء الإمامية في هذه المسألة ، فمنهم من ذهب الى عدم الوجوب كالشيخ الطوسي في المبسوط قال : « لا خلاف في انه لا يجب عليه قبول الهبة والوصية والاحتشاش والاحتطاب والاغتنام ، مؤيداً بالمشهور نقلا وتحصيلا على عدم وجوب التكسب عليه » (٢). والقول بان مؤاجرته منفعة ، والمنفعة مال يتعلق بها حق الغرماء : « يدفعها أنه لا اشكال في عدم عدّ منفعة الحرّ مالا ، ولذا لا تضمن بالفوات وإنما تكون مالا بالاجارة لا قبلها ، فلا يتعلق بها حينئذ حق الغرماء » (٣).

واما القول الثاني في المسألة فيقول بوجوب التكسب والمؤاجرة على المدين المعسر اذا كان من شأنه ذلك ، وهذا القول أقوى من الاول ، اذ من الواضح أن القادر على الاكتساب بحيث يكفيه اكتسابه لمؤونة سنته غني ، وحينئذ اذا كان مديناً معسراً وهو قادر على الاكتساب فيجب عليه لانه قادر بالقوة على أداء الدين ، ومن كان قادرا على أداء الدين بالفعل يجب عليه اداؤه ، ومن كان قادرا على أداء الدين بالقوة يجب عليه السعي لاداء الدين وهو الاكتساب مثلا ، لذا صرّح بعض الفقهاء بوجوب السعي لقضاء الدين ، ففي السرائر : « ومن كان عليه دين وجب عليه السعي في قضائه » وفي القواعد : « ويجب على المدين السعي في قضاء الدين » (٤).

ولكن هذا الوجوب ليس معناه تسلط الغرماء على استعماله ومؤاجرته ، بل يجب عليه السعي في قضاء دينه ، وهذا غير تسليط الغرماء عليه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، باب ٢٧ من الدين ، ح ١ ، ص ١١٥.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٥ ، ص ٣٢٤.

(٣) المصدر السابق ص ٣٢٥.

(٤) جواهر الكلام ، ج ٢٥ ، ص ٣٢٦.

١٧٢

١٧٣
١٧٤

السَلَم ـ بِفَتح السين واللام ـ : مرادف للفظ السلف لغةً (١) ، واصطلاحاً : هو نوع من البيع. فاستعمال صيغة البيع فيه استعمال للفظ فيما وضع له ، غاية الامر ان هذا الفرد من البيع له احكامه الخاصة الزائدة على احكام البيع : « وقد عطف في مختصر النهاية القرض عليه ، ولعل اشتراكهما لفظاً فيه لاشتراكهما في أن كلاً منهما اثبات مال في الذمة بمبذول في الحال » (٢).

والايجاب فيه :

١ ـ اذا كان بلفظ السلم او السلف ، هو أن يقول المشتري اسلمت اليك او اسلفتك كذا في كذا الى أجل ، فيقول المسلَم اليه ( البائع ) : قبلت وشبهه. وهذا من مختصات بيع السلم لعدم تعقل معناهما من غير المشتري.

٢ ـ اما اذا وقع بغير لفظ اسلمتك او اسلفتك فيصح الايجاب من البائع فيقول : بعتك كذا بكذا وصفته كذا الى أجل كذا ، فيقول المشتري : قبلت ، ودفع الثمن في المجلس انعقد سلماً لا بيعاً مجرداً عن كونه سلماً اذ اتضح عدم اعتبار لفظ السلمية في صيرورته سلماً بعد ان كان مورده متشخصاً في نفسه. « فما عن بعض الشافعية من أن ذلك بيع لا سلم فلا يجب القبض في المجلس وغيره من احكامه نظراً الى كون الايجاب بلفظ البيع واضح الفساد ، اذمع كون الأوْلى النظر الى المعاني ،

__________________

(١) والأول : لغة اهل الحجاز ، والثاني لغة اهل العراق. راجع نيل الاوطار ، ج ٥ ، ص ٢٣٩.

(٢) جواهر الكلام ، للمحقق النجفي ، ج ٢٤ ، ص ٢٦٧ ـ ٢٦٩.

١٧٥

لا تنافي هنا بين اللفظ والمعنى ضرورة كون السلم نوعاً من البيع ، فليس في لفظ البيع ما يقتضي كونه غير سلم حتى يحتاج الى ترجيح النظر الى اللفظ على المعنى » (١).

٣ ـ وكذا يقع السلم ( من البائع ) بلفظ : استلمتُ ، وتسلّفتُ وتسلّمتُ ، فيقول المشتري ( المسلِم ) : قبلت ونحوه ، فيكون الموجب هو البائع والقابل هو المشتري.

٤ ـ كما يصح السلم بلفظ الشراء ، فيقول : اشتريتُ منك ثوباً او طعاماً صفته كذا بهذه الدراهم الى أجل كذا ، فقال البائع : بعته منك ، فهنا ينعقد هذا البيع سلماً ويكون صحيحاً بناءاً على جواز تقديم القبول على الايجاب ، كما هو الصحيح. اما لو قال البائع : قبلت ، فقد يقال بصحته ايضاً بناءاً على صحة العقد ، بالايجاب من المشتري والقبول من البائع.

تعريف بيع السلم :

عُرِّف عند البعض بانه : « ابتياع مال مضمون الى أجل معلوم بمال حاضر او في حكمه » (٢). وهذا التعريف ينسجم مع من يقول بان البيع هو اسم للنقل والانتقال المراد من الابتياع هنا (٣).

والمراد من المضمون هنا هو الكلي في الذمة بقرينة الى أجل معلوم ، وبهذا يحترز عن البيع المضمون قبل القبض الذيورد النهي فيه اذا كان طعاماً. واخرج بقوله بمال حاضر أو ما في حكمه بيع النسيئة لعدم اعتبار ذلك فيها ، فالمراد بالمال الحاضر هو المال الموجود المشخّص في مجلس العقد.

والمراد بما في حكمه :

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) شرائع الاسلام للمحقق الحلي ، ج ٢ ، ص ٧٥.

(٣) اما مَنْ يقول بان البيع هو انشاء التمليك بعوض وهو فعل البائع ، البائع فلا ينسجم معه التعريف

١٧٦

١ ـ المال المقبوض قبل التفرق وإن لم يكن موجوداً في مجلس العقد وهو الكلي في الذمة المدفوع قبل التفرق.

٢ ـ او كان موجوداً بدون تشخيص ثم يشخّص قبل التفرق ويقبض.

٣ ـ او كان الثمن ديناً في ذمة البائع بناء على جواز جعله ثمناً للسلم.

وهذه وامثالها لم تعتبر في النسيئة. واما الاجل في السلم فهو المشهور وسيأتي تحقيق الحال فيه.

مشروعيته :

اما مشروعيته فقد دلّ عليها امور :

١ ـ شمول العمومات القرآنية مثل : ( أحلّ الله البيع ) و ( تجارة عن تراض ) اذ لا اشكال في كونه بيعاً عرفاً فتشمله الادلة (١).

٢ ـ إجماع المسلمين على جواز هذا البيع. إلاّ ما حُكي في البحر الزخّارج ٣ / ٣٩٧ ، ونيل الأوطار ٥ / ٢٣٩ عن ابن المسيب أنّه لا يجيزه ، متمسكاً بحديث النهي عن بيع ما ليس عند الانسان.

٣ ـ الروايات المتواترة التي دلت على صحته وهي كاشفة عن السنة النبوية ، فمن الروايات :

أ ـ صحيح جميل بن دراج عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « لا بأس بالسلم في المتاع اذا وصفت الطول والعرض » (٢).

__________________

(١) اما الاستدلال بمشروعية السلم من الكتاب بقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه ) بشهادة ابن عباس عند ما قال : « اشهد ان السلف المضمون الى أجل مسمى قد احلّه الله في كتابه ثم قرأ : يا أيها الذين آمنوا ... » فلعله لعموم اللفظ والاّ فإنَّ الديْن الذي وردت فيه الاية القرآنية يختلف عن بيع السلف الذي نحن بصدده فلا تكون الاية دليل عليه.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، باب ١ من السلف ، ح ١.

١٧٧

ب ـ صحيح زرارة عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « لا بأس بالسلم في الحيوان اذا وصفت اسنانها » (١).

ج ـ صحيح الحلبي عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك الى أجل مسمى ، قال عليه‌السلام : لا بأس ، ( الى أن قال ) : والاكسية مثل الحنطة والشعير والزعفران والغنم » (٢) ، وغيرها من الروايات.

هل مشروعية السلم اصلية او استثناء ؟

ذهب البعض إلى أن مشروعية السلم ليست أصلية ، بل إن تعامل الناس والحاجة جعل الفقه الاسلامي يميز بيع السلم ، فقد ذكر السنهوري ما خلاصته : هنا نجد الفقه الاسلامي ـ على الوجه الذي استقر عليه في عصور التقليد ـ يضيق بحاجات التعامل. فقد كان الاصل الذي قام عليه عدم جواز بيع المعدوم هو فكرة الغرر (٣) ، ولكن سرعان ما اختفى هذا الاصل ، وأصبح انعدام الشيء في ذاته هو سبب البطلان ولو لم يكن هناك غرر او كان هناك غرر يسير.

لذلك نجد اجماعاً من المذاهب على أن الشيء اذا لم يكن موجوداً أصلاً وقت التعاقد كان العقد باطلاً ، حتى لو كان وجوده محققاً في المستقبل.

لقد سلّم الفقهاء كما رأينا ، أن الشيء اذا كان موجوداً في أصله دون أن يوجد كاملاً ـ كالزرع او الثمر الذي لم يبد صلاحه وكالزرع الذي يوجد بعضه بعد بعض ـ فهذا الوجود الاصلي وإن لم يكن وجوداً كاملاً يكفي لجواز التعاقد. اما انعدام

__________________

(١) المصدر السابق ح ٣.

(٢) المصدر السابق ح ٤ ، والاكسية معناها : الثياب.

(٣) الغرر هو عبارة عن التردد في حصول الشيء وعدمه كالطير في الهواء والسمك في الماء وهو يختلف عن المجهول الذي معناه ما علم حصوله مع جهل صفته.

١٧٨

الشيء اصلاً ، فقد خلطوا بينه وبين الغرر ، واعتبروا أن التعامل في شيء منعدم وقت التعاقد ينطوي في ذاته على غرر يفسد العقد ، ولم يميزوا بين مصير الشيء المعدوم في المستقبل ، هل هو محقق الوجود فتزول الخشية من الغرر وكان ينبغي أن يصح العقد أو هو محتمل الوجود ، وعند ذلك يدخل عنصر الغرر بقدر متفاوت فيعالج القدر الذي يقتضيه.

على ان تعامل الناس والحاجة أوجدا ثغرتين في هذا المبدأ الذي جمد عليه الفقهاء ، فأجاز الفقه الاسلامي بيع المعدوم في السلم والاستصناع فنتكلم أولا عن المبدأ ثم نستعرض الاستثنائين. ثم استند السنهوري في رأيه هذا على أقوال بعض الفقهاء كقول صاحب البدائع في عدم جواز بيع المعدوم ، ونقل عن فتح القدير ( ج ٥ / ١٠٢ ) : « لا خلاف في عدم جواز بيع الثمار قبل أن تظهر » وعن الفتاوى الهندية ( ج ٣ / ١٠٦ ) : « بيع الثمار قبل الظهور لا يصح اتفاقاً ». وعن بداية المجتهد ( ج ٢ / ١٢٤ ) : « أما القسم الاول وهو بيع الثمار قبل ان تُخلَق فجميع العلماء مطبقون على منع ذلك ، لانه من باب النهي عن بيع مالم يُخلَق او من باب بيع السنين والمعاومة وهي بيع الشجر أعواماً ، إلا ما روي عن عمر بن الخطاب وابن الزبير أنهما كانا يجيزان بيع الثمار سنين » (١).

اقول : يرد على ما ذكره السنهوري عدة امور :

١ ـ إن ما ننسبه الى الفقه الاسلامي يجب أن يكون مستخرَجاً من الادلة الشرعية التي هي مصدر الفتاوى عند علماء الاسلام ، فنسبة مشروعية السلم الى الاستثناء ( من عدم جواز بيع المعدوم ) دعت اليها الضرورة كما صرح بذلك ، استناداً الى أقوال بعض الفقهاء غير صحيح.

٢ ـ إن قاعدة « عدم جواز بيع المعدوم » ليس لها أصل في الشريعة المقدسة

__________________

(١) مصادر الحق في الفقه الاسلامي ، ج ٣ ، ص ٣١ ـ ٣٢.

١٧٩

( القرآن والسنة ) ، نعم ورد النهي عن بيع الغرر وهو كما يوجد في بيع بعض الاعيان المعدومة كبيع ما تحمل هذه الأَمَة او هذه الشجرة ، يوجد كذلك في بيع بعض الاعيان الموجودة كما في بيع الحنطة جزافاً ، وكبيع الآبق منفرداً. لقد أجاز الشارع المقدس بيع المعدوم في بعض الموارد ( كما سيأتي ذكر الروايات الدالة على ذلك ) فكيف مع هذا ننسب الى الفقه الاسلامي أن الاصل فيه عدم جواز بيع المعدوم ؟!.

٣ ـ المبيع الشخصي لا يجوز بيعه قبل وجوده ، إما للغرر أو لقاعدة عدم جواز بيع المعدوم ، وأما اذا كان المبيع كليّاً فلا يحتمل احدٌ عدم جواز بيعه قبل وجوده ، فانه اذا حُدِّد فلا يلزم غرر ولا تشمله قاعدة عدم جواز بيع المعدوم ، فانه لا اشكال في جواز بيع الكلي حالاًّ وإن لم يملك البائع حين البيع مصداقاً من مصاديق ذلك الكلي ، وحيث إن المبيع في باب السلم كلي لا جزئي ، فقاعدة عدم جواز بيع الغرر او عدم جواز بيع المعدوم لا تشملانه.

٤ ـ اجاز الشارع المقدس بيع السلم بروايات كثيرة وجعل له شروطاً رفعه عن دائرة الغرر والجهالة وبيع المعدوم الغرري ، فاشترط في المبيع ان يكون معلوم الجنس والنوع والصفة ، وان يكون معلوم القدر بالكيل او الوزن او العدّ او الذرع وان يكون مما يمكن ان يضبط قدره وصفته بالوصف الذي لا يفضي الى التنازع. كما اشترط في الثمن شروطاً معينة كأن يكون مقبوضاً في المجلس ، كما اشترط في الأجل ان لا ترقى اليه الجهالة ، وغير هذه الشروط المذكورة في الروايات التي صدرت في عصر التشريع الاسلامي الاول ، ومع هذا كيف يقال انه اُجيز للضرورة على خلاف الاصل ؟!.

روايات جواز بيع المعدوم ( الخاص ) :

لقد وردت روايات كثيرة تصحح بيع المعدوم ، وهي تكشف عن رؤية اسلامية لصحة بيع المعدوم اذا توفرت فيه شروط خاصة تخرجه عن الجهالة والغرر ( الخطر ) المؤدي الى المنازعة ، واليك بعضها :

١٨٠