العصمة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-260-1
الصفحات: ٤٤

العصمة عن السهو والخطأ والنسيان

أننا نشترط في العصمة أنْ يكون المعصوم منزّهاً عن السهو والخطأ والنسيان أيضاً ، ولا منزهاً عن المعاصي والذنوب فقط.

كانت آية التطهير تدلّنا على عصمة الائمة أو على عصمة أهل البيت عليهم‌السلام من الرجس ، وكلمة الرجس نستبعد أنْ تطلق وتستعمل ويراد منها الخطأ والنسيان والسهو ، إذن ، لابد من دليل آخر ، فما ذلك الدليل على أن الامام والنبي معصومان ومنزّهان حتى عن السهو والخطأ والنسيان وما شابه ذلك؟

الدليل على ذلك : كل ما دلّ من الكتاب والسنّة والعقل والاجماع على وجوب الانقياد للامام أو النبي ، على وجوب إطاعته إطاعةً مطلقة غير مقيدة.

تارةً نقول لاحد : عليك بإطاعة زيد في الفعل الكذائي ، عليك بإطاعة زيد في الوقت الكذائي ، عليك بإطاعة زيد إنْ قال لك كذا.

٢١

أما إذا قيل للشخص : يجب عليك إطاعة زيد إطاعةً مطلقة غير مقيدة بقيد ، غير مقيدة بحالة ، غير مقيدة بوقت ، فالامر يختلف.

وبعبارة أُخرى : الامام حجةٌ لله سبحانه وتعالى على خلقه ، والخلق أيضاً إنْ انقادوا لهذا الامام ، وامتثلوا أوامره ، وطبّقوا أحكامه وأخذوا بهديه وسيرته ، سوف يحتجّون على الله سبحانه وتعالى بهذا الامام.

إذن ، الامام يكون حجة الله على الخلائق ، وحجة للخلائق إذا كانوا مطيعين له عند لله سبحانه وتعالى ، ولذا يكون قول المعصوم حجة ، فعل المعصوم حجة ، وتقرير المعصوم حجة.

عندما يعرّفون السُنّة يقولون : السنّة قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، والسنّة حجة.

ولماذا؟ لانّ جميع حركات المعصوم وأفعاله وتروكه وحالاته يجب أن تكون بحيث لو أنّ أحداً اقتدى به في تلك الحالات ، في تلك الاقوال ، وفي تلك الافعال ، يمكنه أنْ يحتجّ عند الله سبحانه وتعالى عندما يُسأل لماذا فعلت؟ لماذا تركت؟ عندما يسأل لماذا كنت كذا؟ لماذا لم تكن كذا؟ فالملاك نفس الملاك بالنسبة إلى المعصية.

ولو أنك راجعت كتب الكلام من السنّة والشيعة ، عندما

٢٢

ينزّهون النبي عن المعصية وعن ارتكاب الخطأ يقولون : بأن ذلك منفّر ، ويجب أنْ يكون النبي منزّهاً عن المنفّر ، لان الله سبحانه وتعالى قد نصب هذا الشخص لان تكون جميع أعماله حجة ، ولان يكون أُسوة وقدوة في جميع أعماله وحالاته وسيرته وهديه ، فإذا جاء الامر بالانقياد مطلقاً ، جاء الامر بالطاعة المطلقة ، لابد وأنْ يكون المطاع والمنقاد له معصوماً حتى من الخطأ والنسيان.

لو أنك طلبت من أُستاذ أنْ يدرّس ولدك درساً معيّناً ، فجاء في يوم من الايام وقال : بأني نسيت درس اليوم ، أو درّس هذا التلميذ درساً غير ما كان يجب عليه أنْ يدرّس ، أو أخطأ في التدريس ، لربما في اليوم الاول تسامحه ويكون معذوراً عندك ، ولو جاء في اليوم الثاني ، وأيضاً أخطأ في التدريس أو نسي الدرس ، ثم جاء في اليوم الثالث وكرّر تلك القضية أيضاً ، لاشك أنك ستعترض عليه ، وستعوّضه بأُستاذ آخر.

وهكذا لو أن إماماً نُصب في مسجد ، لانْ يأتمّ به الناس في الصلاة ، فسهى في صلاة ، وفي اليوم الثاني أيضا سهى ، وهكذا تكرّر منه السهو أياماً ، لا ريب أن القوم سيجتمعون عليه ، وسيطلبون منه مغادرة هذا المسجد ، وسيتوجهون إلى شخص آخر وينصبونه إماماً لهم ، وهذا شيء طبيعي.

٢٣

ولو أنك راجعت طبيباً ، وأخطأ في تشخيص مرضك ، وراجعه مريض آخر وأخطأ أيضاً في تشخيص مرضه ، وراجعه مريض ثالث وأخطأ أيضاً في تشخيص مرضه ، لاجتمع الناس وأهل البلد كلهم على هذا الطبيب ، ولاغلقوا عليه بابه ، ولغادر البلد بكل احترام!! وهذا شيء واضح.

الله سبحانه وتعالى يريد أنْ ينصب أحداً بين المجتمع لانْ تكون جميع أعمال هذا الشخص ، وجميع أفعاله ، وجميع حالاته حجة ، يحتج بها على العباد ، يكون قدوة للناس فيها ويكون أُسوة ، يتبعونه ويسلكون مسلكه ثم يعتذرون إلى الله ويحتجون عليه بهذا الشخص.

لاحظوا كلام بعض علماء السنّة ، أقرأ لكم عبارةً واحدةً فقط تشتمل على بعض الاراء والكلمات :

يقول الزرقاني المالكي في شرح المواهب اللدنيّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه معصوم من الذنوب ، بعد النبوة وقبلها ، كبيرها وصغيرها ، وعمدها وسهوها على الاصح [كلمة على الاصح إشارة إلى وجود الخلاف بينهم] في ظاهره وباطنه ، سرّه وجهره ، جدّه ومزحه ، رضاه وغضبه ، كيف؟ وقد أجمع الصحب على اتّباعه [هذه هي النقطة] والتأسي به في كل ما يفعله ، وكذلك الانبياء

٢٤

[أي : لا يختص هذا بنبيّنا ، كل الانبياء هكذا].

قال السبكي : أجمعت الاُمة على عصمة الانبياء فيما يتعلق بالتبليغ وغيره ، من الكبائر والصغائر ، الخسّة أو الخسيسة ، والمداومة على الصغائر ، وفي صغائر لا تحط من رتبتهم خلاف : ذهب المعتزلة وكثير من غيرهم إلى جوازها ، والمختار المنع [لماذا؟ هذه هي العلة :] لانا أُمرنا بالاقتداء بهم في ما يصدر عنهم ، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي؟ ومن جوّزه لم يجوّز بنص ولا دليل (١).

أقول : إن قضية شهادة خزيمة بن ثابت الانصاري ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقّبه في تلك الواقعة بلقب ذي الشهادتين هي من أحسن الشواهد.

وقضية شهادة خزيمة هي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشترى من أعرابي فرساً ، ثم إن الاعرابي أنكر البيع ، وليس هناك من شاهد ، فأقبل خزيمة بن ثابت ففرّج الناس بيده حتى انتهى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أشهد يا رسول الله لقد اشتريته ، فقال الاعرابي : أتشهد ولم تحضرنا؟ [سؤال وجيه ، لان الشهادة تجب أن تكون عن علم]

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية بالمنح المحمديّة ٥ / ٣١٤.

٢٥

وقال النبي : «أشهدتنا؟» قال : لا يا رسول الله ، عندما تبايعتم واشتريت الفرس من الاعرابي لم أكن حاضراً ، ولكني علمت أنك قد اشتريت ، وإذنْ أشهد عن علم ، والشهادة يجب أن تكون عن علم ، قال خزيمة : أفنصدّقك بما جئت به من عند الله ، ولا أُصدّقك على هذا الاعرابي الخبيث؟ ، قال : فعجب رسول الله وقال : «يا خزيمة شهادتك شهادة رجلين» (١).

من هذه القضية نفهم أن الصحابة عرفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه لا يكذب ، ولا يدّعي مال الغير بلا دليل ، هذا صحيح ، ولا خلاف في هذا ، لكنّ المدّعى أن النبي معصوم عن الخطأ والنسيان ، وعن السهو ، وعلى ذلك شهد خزيمة بالامر ، أما كان خزيمة يحتمل أن رسول الله مشتبه؟ ألم يكن هذا الاحتمال ولو واحد بالمائة احتمالاً وارداً ليمنع خزيمة من القيام بهذه الشهادة؟ لا ريب أنه كان عالما بانّ رسول الله لا يكذب ، لا يدّعي مال الناس ، هذا واضح ، لكنْ أليس كان من المناسب أن يتأمّل ويسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله لعلّك سهوت! لعلّك مشتبه! لعلّك نسيت! لعلّ هذا الاعرابي ليس ذلك الاعرابي الذي تعاملت معه ، أو لعلّ هذا الفرس غير

__________________

(١) الكافي ٧ / ٤٠٠ رقم ١ باب النوادر.

٢٦

الفرس الذي اشتريته من الاعرابي. لكنّ كلّ هذه الاحتمالات منتفية عند خزيمة ، ويأتي ، ويفرّج الناس ، ويشهد بأن الحق مع رسول الله ، بلا تريّث ولا تأمل أبداً ، وهكذا عرفوا رسول الله ، ولابد وأنْ يكون كذلك.

قال السبكي : لانا أُمرنا بالاقتداء بهم فيما يصدر عنهم مطلقاً ، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي ، ومن جوّزه لم يجوّز بنص ولا دليل.

أضف إلى ذلك ، هل الخطأ والنسيان والسهو فوق النوم؟ والحال أن نوم النبي ويقظته واحد ، نوم الامام ويقظته واحد.

إتفق الفريقان على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تنام عينه ولا ينام قلبه ، هذا الحديث في سنن الدارمي وفي صحيح الترمذي على ما رأيت في معجم ألفاظ الحديث النبوي (١) ، وهذا المعنى أيضاً وارد في حق أئمّتنا سلام الله عليهم بلا فرق ، ففي عدّة من الكتب للشيخ الصدوق في علامات الامام عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام : «تنام عينه ولا ينام قلبه» (٢).

وهل السهو والخطأ فوق النوم ، الذي في نومه أيضاً يقظان ،

__________________

(١) وهو في سنن الترمذي ٢ / ٣٠٢ رقم ٤٣٩.

(٢) رواه الشيخ الصدوق القمي في الخصال : ٥٢٧ رقم ١ و ٤٢٨ رقم ٥ ، ومعاني الاخبار : ١٠٢ رقم ٤ ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ٢١٢ رقم ١.

٢٧

الذي في حال نومه قلبه غير نائم ، كيف يحتمل في حقه أن يكون في يقظته ساهياً خطئان مشتبهاً أحياناً؟

أضف إلى ذلك ، ألم نقرأ عن أمير المؤمنين سلام الله عليه في الخطبة القاصعة : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان معه ملك أوكله الله سبحانه وتعالى في جميع أدوار حياة رسول الله يسدّده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ونفس هذا المعنى موجود في حق أمير المؤمنين سلام الله عليه ، قال رسول الله ـ وقد ضرب بيده على صدر علي ـ : «اللهم اهدِ قلبه وسدّد لسانه». رواه صاحب الاستيعاب وغيره (١).

بل العجيب ، أن أهل السنة أنفسهم يروون عن أبي هريرة أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني سمعت منك حديثاً كثيراً فأنساه [فإذا كان الحديث كثيراً ، الانسان ينسى] فقال رسول الله : «ابسط رداءك» فبسطته ، فغرف بيديه فيه ، ثم قال : «اضممه» فضممته ، فما نسيت حديثاً بعده.

فكل ما يروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة أبي هريرة يكون حقاً عن رسول الله!! وهذا ما يرويه محمد بن سعد في الطبقات (٢)

__________________

(١) الاستيعاب ٣ / ١١٠٠. دار الجيل ـ بيروت ـ ١٤١٢ هـ.

(٢) طبقات ابن سعد ٢ / ٣٦٢. دار صادر ـ بيروت ـ ١٤٠٥ هـ.

٢٨

ويرويه أيضاً الذهبي في سير أعلام النبلاء (١) ويرويه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (٢) ويوجد في غير هذه الكتب ، فهل من عاقل مسلم يشك في ثبوت هذه الحالة لرسول الله ولعلي وللائمة الاطهار؟!.

ثم إن عليّاً عليه‌السلام يقول : «وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، سيماهم سيما الصدّيقين ، وكلامهم كلام الابرار ، عمّار الليل ومنار النهار ، مستمسكون بحبل الله ، يحيون سنن الله وسنن رسوله ، لا يستكبرون ولا يغلون ولا يفسدون ، قلوبهم [لاحظوا هذه الكلمة بعد الكلمات السابقة ، وكل كلمة تدل على مقام] في الجنان وأجسادهم في العمل» (٣).

وإني لمن قوم [فمن قومه؟ لابدْ الائمة الاطهار من ذريته] قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل ، ومن كان قلبه في الجنة وهو في هذا العالم ، أتراه يشك ، أتراه يسهو ، أتراه يلهو ، أتراه ينسى.

هذا بالنسبة إلى أمير المؤمنين سلام الله عليه.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٢ / ٥٩٥. مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٤٠٥.

(٢) فتح الباري ١ / ١٧٤. دار احياء التراث ـ بيروت ـ ١٤٠٢ هـ.

(٣) نهج البلاغة ٢ / ١٨٤ شرح محمد عبده. مطبعة الاستقامة ـ القاهرة.

٢٩

عصمة الائمة عليهم‌السلام :

وبالنسبة إلى جميع الائمة ، لاحظوا هذه الرواية في الكافي يقول عليه‌السلام : «إن الله خلقنا فأحسن خلقنا ، وصوّرنا فأحسن صورنا ، وجعلنا عينه في عباده ، ولسانه الناطق في خلقه ، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة ، ووجهه الذي يؤتى منه ، وبابه الذي يدل عليه ، وخزّانه في سمائه وأرضه ، بنا أثمرت الاشجار وأينعت الثمار وجرت الانهار ، وبنا ينزل غيث السماء ونبت عشب الارض ، وبعبادتنا عبد الله ، ولولا نحن ما عبدالله» (١).

فمن يكون عين الله في عباده ولسانه الناطق في خلقه ويده المبسوطة على عباده ، يشتبه ويسهو وينسى؟!

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة : «ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه ، لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجّها آذان السامعين ، فدع عنك من مالت به الرمية ، فإنّا صنايع ربّنا والناس بعد صنايع لنا» (٢).

وعليكم بمراجعة ما قاله ابن أبي الحديد في شرح هذه

__________________

(١) الكافي ١ / ١٤٤ رقم ٥ و ١٩٣ رقم ٦. دار الكتب الاسلامية ـ طهران ـ ١٣٨٨ هـ.

(٢) نهج البلاغة ٣ / ٣٥ ـ ٣٦.

٣٠

الكلمة ، وما أجلّها وأعلاها من كلمة ، إنه فهم مغزى هذا الكلام (١).

تأويل ما ينافي العصمة في الكتاب والسنة :

وحينئذ ، لابد من تأويل كلّ ما يخالف هذه القاعدة العقلية المستندة إلى الكتاب والسنّة والاجماع ، كلما يخالف هذه القاعدة في القرآن الكريم بالنسبة إلى أنبياء الله سبحانه وتعالى ، وكذلك الامر في كل آية في القرآن هناك أدلة قطعية على خلاف ظاهرها من العقل أو النقل ، لابد من تأويل ظاهر تلك الكلمة ، وإلاّ فالايات الدالة بظاهرها على التجسيم ـ مثلاً ـ موجودة في القرآن الكريم.

اذن ، لابد من حمل كلّ ما يخالف بظاهره عصمة الانبياء في القرآن الكريم ، لاحظوا عبارة السيد المرتضى رحمه‌الله في كتاب الذخيرة يقول : ولا يجوز أن يبعث من يوجب علينا اتّباعه وتصديقه وهو على صفة تنفّر عنهم ، وقد جنّب الانبياء عليهم‌السلام الفظاظة والغظلة والغلظة الشنيعة وكثيراً من الامراض ، لاجل التنفير (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

لماذا الله سبحانه وتعالى يمدح نبيّه بأنه ليس فظّاً غليظ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٥ / ١٨١ وشرح الكتاب.

٣١

القلب؟ لان هذه الحالة تنفّر الناس ، لانفضّوا من حولك ، فإذا كان ساهياً ، كان ناسياً ، أو كان لاهياً وغير ذلك ، لانفضّوا من حوله.

يقول رحمه‌الله : وقد تكلّمنا على الايات التي يتعلق بها المبطلون في جواز المعاصي من الانبياء ، وبيّنا الصحيح في تأويلها في كتابنا المفرد تنزيه الانبياء والائمة (١).

نعم ، لابد من تأويل كلّ ما جاء مخالفاً بظاهره لما قرّره العقل والعلم وأجمع عليه العلماء.

مع الشيخ الصدوق في مسألة سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إن علماءنا رحمهم‌الله لم يوافقوا الشيخ الصدوق (٢) رحمه‌الله الذي ذهب تبعاً لشيخه في مسألة سهو النبي إلى مذهب لم يوافقه عليه من أكابر الطائفة أحد ، لا من قبله ولا من بعده ، إنه استند إلى رواية ذي الشمالين ، أما سائر علمائنا فقد أخذوا بالرواية القائلة بأن رسول الله لم يسجد سجدتي السهو قط ، وكيف يسهو ويسجد سجدتي السهو من كان قلبه في الجنان وجسده في العمل كما عبّر الامام أمير المؤمنين؟

__________________

(١) الذخيرة في علم الكلام : ٣٣٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٣٤. دار صعب ـ بيروت ـ ١٤٠١ هـ.

٣٢

بل يقول الشيخ الطوسي رحمه‌الله في كتاب التهذيب : إن ما اشتمل عليه حديث ذو الشمالين من سهو النبي تمتنع العقول منه (١).

وفي الاستبصار يقول : ذلك مما تمنع من الادلة القاطعة في أنه لا يجوز عليه السهو والغلط (٢).

وإنّا نستميح الشيخ الصدوق عذراً فيما إذا أردنا أنْ نقول له : أنت الذي سهوت ، وإن نسبة السهو إلى الشيخ الصدوق في هذا القول أولى من نسبة السهو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نظير ما قاله الفخر الرازي في تفسيره فيما روي في الصحيحين وغيرهما من أن إبراهيم عليه‌السلام كذب ثلاث كذبات ، قال الفخر الرازي : نسبة الكذب إلى الراوي أولى من نسبة الكذب إلى إبراهيم (٣).

وأيضاً ، نرى أهل السنّة يضطربون أمام حديث الغرانيق وتتضارب كلماتهم بشدّة ، ويتحيّرون ماذا يقولون ، لان حديث الغرانيق يدل على جواز السهو على الانبياء بصراحة ، وهذا ما نصّ عليه بعض المفسرين كأبي السعود العمادي في تفسير سورة

__________________

(١) التهذيب ٢ / ١٨١. دار الكتب الاسلامية ـ طهران ـ ١٣٦٤ ش.

(٢) الاستبصار ١ / ٣٧١ / ذيل ح ٦. دار الكتب الاسلامية ـ طهران ـ ١٣٩٠ هـ.

(٣) التفسير الكبير ٢٢ / ١٨٥ ، وفيه : فلان يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الانبياء عليهم الصلاة والسلام.

٣٣

الحج (١) ، وتحيّروا ماذا يفعلون ، لان طرق هذا الحديث بعضها صحيح ، ودافع عن صحته ابن حجر العسقلاني وغيره (٢) ، لكن الحافظ القاضي عياض صاحب كتاب الشفاء في حقوق المصطفى (٣) وأيضاً القاضي ابن العربي المالكي (٤) وأيضاً الفخر الرازي (٥) ، هؤلاء يكذّبون هذا الحديث على صحته سنداً عندهم ، لانه يصادم الادلة القطعية من العقل والنقل.

لاحظوا عبارة القاضي عياض في كتاب الشفاء يقول : لا شك في إدخال بعض شياطين الانس والجن هذا الحديث على بعض مغفلّي المحدّثين ليلبّس به على ضعفاء المسلمين.

وهذا الكلام يفتح لنا باباً واسعاً يفيدنا في مباحث كثيرة ، ولذلك يأبى مثل العسقلاني أن يقبل هذا التصريح من القاضي عياض ولا يوافق عليه.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٦ / ١١٤.

(٢) فتح الباري بشرح البخاري ٨ / ٣٥٥.

(٣) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى ٢ / ١١٨ ، فتح الباري ٨ / ٣٥٥.

(٤) فتح الباري بشرح البخاري ٨ / ٣٥٥.

(٥) تفسير الرازي ٢٣ / ٥٠.

٣٤

العودة إلى بحث عصمة الائمة عليهم‌السلام :

والان نعود الى بحثنا عن عصمة الائمة من أهل البيت سلام الله عليهم ، وقد رأينا أن جميع ما يدل على عصمة رسول الله يدل على عصمة الائمة الاطهار ، وكلّ دليل يدل على وجوب الانقياد والطاعة له يدل على وجوب الاطاعة للائمة ، وأمثال هذه الادلة تدل على عصمة أئمتنا حتى من السهو والنسيان والخطأ والغلط ، كما بينّا : إن كل الادلة الدالة على إمامة أئمتنا ، وأنهم القائمون مقام نبيّنا ، وأنهم الذين يملؤون الفراغ الحاصل من رحيله عن هذه الدنيا ، كل تلك الادلة تدل على أنهم معصومون حتى من الخطأ والنسيان.

وأما الاحاديث الواردة في هذا الباب فكثيرة ، ألا ترون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من أطاعني فقد أطاع الله ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ومن عصى عليّاً فقد عصاني» ، هذا الحديث أورده الحاكم في المستدرك وصحّحه ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك (١).

وإذا كانت طاعة الله وطاعة الرسول وطاعة علي واحدة ، فهل

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢١.

٣٥

من معصية أو سهو أو خطأ يتصوَّر في رسول الله وعلي والائمة الاطهار؟

كما أنكم لو راجعتم التفاسير لوجدتم تصريحهم بدلالة قوله تعالى : (أطِيعُوا اللهَ وَأَطِيُعوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَمْرِ مِنْكُمْ) (١) على العصمة ، لكنهم لا يريدون أن يعترفوا بأن أُولي الامر هم الائمة من أهل البيت ، فإذا ثبت أن المراد من اُولي الامر في الاية هم أئمة أهل البيت بالادلة المتقنة القطعية المقبولة عند الطرفين ، فلابد وأنْ تدل الاية على عصمة أئمتنا.

لكن الفخر الرازي لا يريد أنْ يعترف بهذه الحقيقة ، إنه يقول بدلالة الاية على العصمة لكن يقول بأن المراد من أولي الامر هم الامة (٢) ، أي الاُمة تطيع الاُمة! أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، أطيعوا الله أيّها الاُمّة ، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أنفسكم ، الاُمة تكون مطيعة للاُمة ، وهل لهذا معنى؟ إنه مما تضحك منه الثكلى.

ومن الطبيعي أنْ يتّبع مثل ابن تيمية الفخر الرازي في هذه الاية المباركة ، هذا واضح ، وهذا ديدنهم مع كل دليل يريدون أن يصرفوه عن الدلالة على إمامة أئمتنا وعصمتهم.

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

(٢) التفسير الكبير ١٠ / ١٤٤.

٣٦

يقول ابن تيمية : لا نسلّم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم ، لان عصمة الاُمة مغنية عن عصمته (١).

وكأنّ ابن تيمية لا يدري بأن أكثر صحابة رسول الله سيذادون عن الحوض ، وما أكثر الفتن ، وما أكثر الفساد ، وما أكثر الويلات والظلم الواقع في هذه الاُمة ، وأين عصمة الاُمة؟

وإني لاكتفي الان بذكر حديث أو حديثين ، لان الوقت لا يسع أكثر من ذلك.

دلالة حديث السفينة على عصمة الائمة عليهم‌السلام :

مما يدل على إمامة أئمتنا وعصمتهم بالمعنى الذي يقول به علماؤنا وعليه مذهبنا حديث السفينة : «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك».

والايات التي قرئت في أول المجلس تنطبق تماماً على واقع حالنا ، وحديث السفينة الوارد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينطبق تماماً على قضية نوح وابنه وما حدث في تلك الواقعة ، ولو أردت أنْ أوضّح هذا الانطباق لطال بنا المجلس ، فتأمّلوا.

__________________

(١) منهاج السنّة ٣ / ١٧٣ ، ٢٧٠.

٣٧

أما حديث السفينة ، فمن رواته :

١ ـ محمد بن إدريس ، إمام الشافعية.

٢ ـ أحمد بن حنبل ، إمام الحنابلة (١).

٣ ـ مسلم بن الحجّاج (٢).

٤ ـ أبو بكر البزّار.

٥ ـ أبو يعلى الموصلي.

٦ ـ أبو جعفر الطبري.

٧ ـ أبو القاسم الطبراني.

٨ ـ الحاكم النيسابوري.

٩ ـ ابن عبد البر.

١٠ ـ الخطيب البغدادي.

__________________

(١) رواه غير واحد منهم عنه ، منهم صاحب المشكاة قال رواه أحمد.

قال الالباني في هامشه : كذا في الاُصول ، والمراد به عند الاطلاق مسنده ، وليس الحديث فيه.

قلت فهل هذا سهو من صاحب المشكاة أو إسقاط من المسند؟.

(٢) طبعاً هذا الحديث غير موجود في صحيح مسلم إلاّ أننا ننقله من كتاب البراهين القاطعة في ترجمة الصواعق المحرقة ، وهو كتاب فارسي ترجم فيه مؤلّفه الصواعق المحرقة قبل قرون ، وهناك تصريح بأن الحديث في صحيح مسلم ، والعهدة عليه ، إلاّ أنه غير موجود الان في صحيح مسلم.

٣٨

١١ ـ أبو الحسن الواحدي.

١٢ ـ الفخر الرازي.

١٣ ـ ابن الاثير.

١٤ ـ نظام الدين النيسابوري.

١٥ ـ ابن حجر العسقلاني.

١٦ ـ الخطيب التبريزي.

١٧ ـ نور الدين الهيثمي.

١٨ ـ السيوطي ، في غير واحد من كتبه.

١٩ ـ ابن حجر المكي ، في الصواعق.

٢٠ ـ المتقي الهندي ، في كنز العمال.

٢١ ـ القاري ، في المرقاة.

٢٢ ـ الزبيدي ، في تاج العروس.

٢٣ ـ الالوسي ، في تفسيره.

وكثيرون غيرهم يروون حديث السفينة وينصّون على صحة بعض أسانيده (١).

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٢ / ٣٤٣ و ٣ / ١٥١ ، تاريخ بغداد ١٢ / ٩١ رقم ٦٥٠٧ ، المطالب العالية ٤ / ٧٥ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٦٨ ، الصواعق المحرقة : ٣٥٢ ، مشكاة المصابيح

٣٩

وأما في كتبنا فرواياته كثيرة كذلك.

ولو أردنا أن نفهم مغزى هذا الحديث ، فإن هذا الحديث تشبيه لاهل البيت بسفينة نوح «من ركبها [واضح أن معنى «من ركبها» يعني الكون مع أهل البيت ، من كان مع أهل البيت ، من اقتدى بأهل البيت ، من تبع أهل البيت] نجى ، ومن تخلّف عنها [كائناً من كان ، سواء كان منكراً لامامة جميع الائمة ، أو منكراً حتى لواحد منهم] هلك ، ولا فرق حتّى لو كان المتخلِّف ابن رسول الله كابن نوح ، ولو أن رسول الله نادى : «يا ربّ أصحابي أصحابي» يجاب : «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، كما يقول نوح : يا رب ابني ، فيأتي الجواب : (إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (١).

فتدور قضية النجاة من الهلكات مدار الكون مع أهل البيت ، وأهل البيت وسيلة النجاة ، وكل فعل من أفعالهم وكل حال من أحوالهم حجة ، وهم القدوة والاُسوة في جميع الاحوال.

__________________

٣ / ١٧٤٢ ، المعارف : ٨٦ ، عيون الاخبار ١ / ٢١١ ، لابن قتيبة ، المعجم الكبير للطبراني ٣ / ٣٧ ، برقم ٢٦٣٦ و ٢٦٣٧ و ٢٦٣٨ ، ١٢ / ٣٤ برقم ١٢٣٨٨ ، المعجم الصغير للطبراني ١ / ١٣٩ ، ٢ / ٢٢ ، السيرة النبوية للملاّ ٢ / ٢٣٤ ، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى : ٢٠ ، لسان العرب. مادة : زخ ، تفسير النيسابوري ٢٥ / ٢٨ ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٣ / ٣٣٤ ، كنز العمال ١٢ / ٣٤١٥١ ، ٣٤١٧٠.

(١) سورة هود : ٤٦.

٤٠