حديث الولاية

السيّد علي الحسيني الميلاني

حديث الولاية

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-253-9
الصفحات: ٣٨

قال ، فأعرض عنه رسول الله.

يقول بريدة : أعطيته الكتاب ، فأخذه بشماله ، فطأطأت رأسي ، فتكلّمت في علي حتّى فرغت فرفعت رأسي.

ويقول كما في لفظ آخر : وكنت من أشدّ الناس بغضاً لعلي ، فوقعت في علي حتّى فرغت فرفعت رأسي.

يقول : فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غضب غضباً لم أره غضب مثله إلاّ يوم قريظة وبني النضير ، فقال : «ماذا تريدون من علي؟ ماذا تريدون من علي؟ ماذا تريدون من علي؟ إنّ عليّاً منّي وأنا من علي ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي».

ثمّ قال رسول الله ـ كما في سنن البيهقي (١) ، وايضاً في معجم الصحابة لابي نعيم الاصفهاني ، وفي تاريخ دمشق لابن عساكر ، وفي سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ، وفي غيرها من المصادر ، فراجعوها إن شئتم ـ : قال لهم رسول الله : «إنّ له في الخمس أكثر من ذلك».

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما في المستدرك للحاكم ، وفي المختارة للضياء المقدسي ، وفي المعجم الاوسط (٢) وفي غيرها من المصادر : «إنّه

__________________

(١) سنن البيهقي ٦ / ٣٤٢ ـ دارالفكر.

(٢) المعجم الاوسط ٥ / ٤٢٥.

٢١

[أي علي] لا يفعل إلاّ ما يؤمر» ، أو : «إنّما يفعل علي بما يؤمر به».

ثمّ التفت إلى بريدة قائلاً : «أنافقت من بعدي يا بريدة؟» فقال بريدة : يا رسول الله ، أما بسطت يدك حتّى أُبايعك على الاسلام جديداً! قال : فما فارقته حتّى بايعته ، أي بايعت رسول الله على الاسلام.

يقول بريدة : فقمت وما من الناس أحد أحبّ إليّ من علي.

لاحظوا الفوارق بين روايتهم للقصة عن عمران بن حصين وعن بريدة ابن الحصيب ، ولاحظوا ، كيف تلاعبوا بالقضية فزاد أحدهم ونقص الاخر ، ذكر بعضهم بعض القصة ولم يذكر البعض الاخر ، وأحدهم أو آحاد منهم يذكرون القصة مبتورة.

فهذه هي القصة كما يرويها بريدة بن الحصيب وهو صاحب القصة.

٢٢

دلالة حديث الولاية على العصمة

وهذه ألفاظ رسول الله في حق علي عليه‌السلام ، تارة يقول رسول الله : «إنّ عليّاً لا يفعل إلاّ ما يؤمر به» ، أو «إنّما يفعل ما أُمر به».

هذه العبارة تدلّ دلالة واضحة على العصمة.

العبارة هذه في الحقيقة صغرى لكبرى ، أو مصداق لاية مباركة وهي قوله عزّ من قائل : (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُوْنَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (١).

وفي خطبة لامير المؤمنين عليه‌السلام يرويها شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي رحمة الله عليه في مصباح المتهجّد ، رأيت من المناسب أنْ أقرأ لكم هذه القطعة من تلك الخطبة يقول الشيخ : إنّ أمير المؤمنين خطب هذه الخطبة في يوم الغدير :

«وإنّ الله اختصّ لنفسه بعد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بريّته خاصةً ، اختصّ منهم ـ أي من الخلائق بعد النبي ـ خاصة علاهم بتعليته ، وسما بهم

__________________

(١) سورة الانبياء : ٢٦ ، ٢٧.

٢٣

إلى رتبته ، وجعلهم الدعاة بالحق إليه والادلاء بالرشاد عليه ، لقرن قرن وزمن زمن ، أنشأهم في القدم قبل كلّ مدر ومبر ، وأنواراً أنطقها لتحمده ، وألهمها شكره وتمجيده ، وجعلهم الحجج على كلّ معترف له بملكة الربوبية وسلطان العبودية ، واستنطق بها الخراسات بأنواع اللغات ، بخوعاً له بأنّه فاطر الارضين والسماوات ، وأشهدهم على خلقه ، وولاّهم ما شاء من أمره ، جعلهم تراجمة مشيّته [هذه هي العصمة] وألسنة إرادته ، عبيداً [مع ذلك هم عبيد] لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى ، وهم من خشيته مشفقون» (١).

فهذه مراتب من كان لا يفعل إلاّ بما يؤمر به ، عبادٌ مكرمون ، أي مقرّبون ، لا يسبقونه بالقول ، أي لا يقولون قبل أنْ يقول الله سبحانه وتعالى ، هذا بالقول ، وأمّا في الفعل والعمل : لا يفعلون إلاّ ما يؤمرون.

فحديثنا يدلّ على العصمة.

وهذه في الجهة الاُولى من جهات البحث.

__________________

(١) مصباح المتهجد : ٧٥٣ ـ مؤسسة فقه الشيعة ـ بيروت ـ ١٤١١ هـ.

٢٤

دلالة حديث الولاية على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام

الجهة الثانية : يدلّ هذا الحديث على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام : «علي منّي وأنا من علي ، وهو وليّكم من بعدي».

ووجه الاستدلال بهذا الحديث الشريف : إنّ هذا الحديث يدلّ على ثبوت الاولويّة بالتصرف لعلي عليه‌السلام ، وهذه الاولوية مستلزمة للامامة ، وذلك :

أوّلاً : لانّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حصرها في علي عندما قال : «وهو وليّكم من بعدي» ، ومن المعلوم أنّ المعاني الاُخرى من الولاية ، كالنصرة والمحبّة وغيرهما ، ليست بأمور مختصّة بعلي عليه‌السلام.

ثانياً : لوجود كلمة «بعدي» في ألفاظ الحديث كلّها أو أكثرها ، فكلمة «بعدي» صريحة في هذا المعنى ، لانّ البعديّة هذه إمّا بعديّة زمانية أو بعديّة رتبيّة :

ربّما يستظهر بالدرجة الاُولى أن تكون البعديّة رتبيّة ، «علي

٢٥

وليّكم بعدي» أي غيري ، أي ما عداي في الرتبة علي وليّكم.

أمّا إذا كانت كلمة «بعدي» بمعنى الزمان والظرف ، علي وليّكم من بعدي ، يدلّ وجود هذه الكلمة على أنّ أمير المؤمنين وليّ المؤمنين بعد رسول الله بلا فصل ، وإلاّ لما أسقط بعضهم كلمة «بعدي» في الحديث ، لما حرّفوا هذا الحديث بإسقاط كلمة «بعدي» كما سنعلم!

ثالثاً : هذه الرواية واردة بألفاظ أُخرى أيضاً ، وتلك الالفاظ هي الاُخرى تدلّ على إمامة أمير المؤمنين وأولويته.

فمثلاً : لاحظوا المسند لابن حنبل ، والمستدرك ، وتاريخ دمشق ، وغيرها من الكتب ، كلّهم يروون عن بريدة في نفس هذه القصة يقول : فلمّا قدمت على رسول الله ذكرت عليّاً فتنقّصته ، فرأيت وجه رسول الله يتغيّر ، فقال : «يا بريدة ، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قلت : بلى يا رسول الله ، قال : «فمن كنت مولاه فعلي مولاه» (١).

نفس الحديث الذي سيقوله رسول الله يوم الغدير في أُخريات حياته ، نفس هذا اللّفظ وارد في ألفاظ هذه القصة.

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٥٠٢ رقم ١٨٨٤١ هـ ، مستدرك الحاكم ٣ / ١١٠ ـ دارالفكر ـ بيروت ـ ١٣٩٨ هـ.

٢٦

ولاحظوا المسند وغيره من المصادر التي ذكرتها وفي تاريخ دمشق بطرق عديدة يقول رسول الله بعد تلك العبارات : «يا بريدة ، من كنت وليّه فعليّ وليّه» (١).

رابعاً : هناك في ألفاظ هذا الحديث وهذه القصة مناقب أُخرى لامير المؤمنين ، تلك المناقب تختصّ بعلي ولا يشاركه فيها غيره من الصحابة. فمثلاً ، لاحظوا المعجم الاوسط للطبراني (٢) يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه القضيّة : «ما بال أقوام ينتقصون عليّاً؟ [لاحظوا بدقّة] من ينتقص عليّاً فقد تنقّصني ، ومن فارق عليّاً فقد فارقني ، إنّ عليّاً منّي وأنا منه ، خلق من طينتي ، وخلقت من طينة إبراهيم ، وأنا أفضل من إبراهيم ، ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم».

فهذه المناقب جاءت في نفس هذه القصة ، مضافاً إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه لا يفعل إلاّ ما يؤمر به» ، وغير ذلك من ألفاظ هذا الحديث ، كما قرأنا.

خامساً : ابن عباس يذكر هذه المنقبة ، وهذه الفضيلة ، ضمن فضائل لامير المؤمنين يصرّح بأنّها خاصة بعلي ، وحديث عبدالله

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام علي عليه‌السلام ١ / ٤٠٤ رقم ٤٧٣ ـ ٤٧٨.

(٢) المعجم الاوسط ٦ / ٢٣٢ رقم ٦٠٨٥.

٢٧

ابن عباس موجود في مسند الطيالسي ، في مسند أحمد ، في المستدرك للحاكم ، وفي غيرها من الكتب بسند ينصّون بصحّة ذلك السند ... كما ذكرنا سابقاً.

سادساً : حديث الولاية بهذا اللفظ من جملة ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بدء الدعوة المحمّدية ، في حديث الانذار الذي قرأناه ، حيث قال لهم ـ أي للحاضرين ـ : «من يبايعني على أنْ يكون أخي وصاحبي ووليّكم بعدي».

إذن ، الحديث ظاهر أو نصّ في الاولويّة ، مضافاً إلى القرائن الموجودة في داخل الحديث ، والقرائن الموجودة في خارج الحديث.

وحتّى الان فهمنا كيف يكون الحديث دالاًّ على العصمة؟ وكيف يكون دالاًّ على الاولويّة؟

وفي هذا الحديث والقصة التي قرأناها فوائد كثيرة ، ينبغي للباحث أنْ يدقّق النظر فيها.

وجود حركة النفاق في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يدلّ هذا الحديث وتلك القصة على وجود حركة النفاق في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين المقرّبين من أصحابه ، حتّى بين بعض

٢٨

قوّاد جيوشه ، فلا يقال : بأنّ النفاق كان يختصّ بعبدالله بن أُبي وأمثاله من المنافقين المعروفين المشهورين الذين كان يشار إليهم بالبنان ، وقد عرفوا بالنفاق بين جميع الناس.

يظهر من هذه القصة أنّ النفاق كان في داخل المقرّبين من رسول الله ، حتّى في خواصّ أصحابه ، إنّ هذه القصة تكشف لنا خفايا حالات المقرّبين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكم كنت أُحبّ أنْ أعرف الثلاثة الاخرين الذين جاءوا من اليمن مع بريدة إلى المدينة قبل أن يرجع الجيش ، أرسلهم خالد بن الوليد بلا علم من أمير المؤمنين ، وإنْ كنت قد وجدت اسم واحد أو اثنين منهم!

وأيضاً ، كم كنت أُحبّ أنْ أعرف أُولئك الذين كانوا جالسين على باب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستقبلوا بريدة ومن معه ، وكأنّ هناك تنسيقاً بين خالد وأصحابه ، وبين أُولئك الذين كانوا عند النبي وعلى بابه!

خالد بن الوليد ـ كما في صريح القصّة ـ كان يبغض عليّاً ، ويعترف عليه بهذا المعنى بريدة بن الحصيب في هذه القصّة ، ويقرّ على نفسه أيضاً ، فيظهر أنّ خالد بن الوليد كان عدوّاً لعلي منذ حياة رسول الله.

٢٩

وخالد هذا هو الذي أرسله أبو بكر إلى القبائل العربية التي أبت أن تبايع لابي بكر ، وامتنعت من دفع الزكاة إلى أبي بكر ، وأعلنت عن اعتقادها بإمامة علي عليه‌السلام.

وخالد هذا هو الذي أمره أبو بكر بأن يقتل عليّاً في أثناء الصلاة ، ثمّ لمّا ندم على ذلك قبل أن يسلّم قال : يا خالد لا تفعل ما أمرتك به.

وخالد هذا من جملة المهاجمين على دار علي والزهراء في قضية السقيفة.

فقد كان أبو بكر يعرف من يرسل لقتل أنصار أمير المؤمنين ، ويعرف من يكلّف بقتل الامام في أثناء الصلاة ، ولولا هذا الخبر الذي وجدناه في كتاب الانساب (١) للسمعاني ، يذكر لنا حضور علي في صلاة أبي بكر ، وأنّ أبا بكر قد أمر خالداً بأنْ يقتل عليّاً في أثناء الصلاة ، لولا هذا الخبر المشتمل على هذه الفائدة الكبيرة ـ لا أتذكّر الان حديثاً في كتاب معتبر ، خبراً في كتاب يعتمد عليه ، يدلّ على أنّ عليّاً كان ملتزماً بالحضور للصلاة مع أبي بكر أو غيره من الصحابة ، ولو وجدتم فأخبروني ، أكون لكم من الشاكرين ـ الذي

__________________

(١) الانساب للسمعاني ٦ / ١٧٠ ـ نشر محمّد أمين دمج ـ بيروت ـ ١٤٠٠ هـ.

٣٠

وجدناه إلى الان هذا الخبر ، وهو يفيدنا هذه الفائدة : إنّ أبا بكر أمر خالداً أنْ يقتل عليّاً وهو يصلّي خلفه في أثناء الصلاة! وهو في مسجد رسول الله! أمره بأنْ يقتل عليّاً! ثمّ إنّه ندم على ذلك ، وقبل أنْ يسلّم قال : يا خالد لا تفعل ما أمرتك.

وهذا قد لا يجده أحد ، لانّ كتاب الانساب للسمعاني ليس بكتاب حديث ، وليس بكتاب رواية ، قد تقول : لا يوجد مثل هذا الحديث في شيء من الصحاح ، في شيء من المسانيد ، في شيء من السنن ، في شيء من معاجم الحديث ، ولكنّ الله شاء أنْ يصلنا هذا الخبر ولو في كتاب في الرجال ، ولو من ناحية من يتّهمونه بالتشيّع ـ وهو عبّاد بن يعقوب الرواجني ـ يتّهمونه بالتشيّع لروايته مثل هذه الاخبار ، ممّا يدلّ على فضائل أمير المؤمنين ، وبعض ما يسيء الاخرين.

وعلى كلّ حال ، فخالد هذا وضعه ، وهذا شأنه ، ترون أنّه أراد أن ينتهز تلك الفرصة ، قضيّة أخذ أمير المؤمنين تلك الجارية ، يقول الحديث : وكانت جارية حسناء ـ عندما قرأت هذه الكلمة ، تذكّرت قضية زوجة مالك ، فإنّ مالك بن نويرة عندما قبض عليه خالد وأمر بقتله ، إلتفت إلى زوجته وقال : أنت التي قتلتيني ، وذلك لانّها كانت من أجمل نساء العرب ، وكان خالد يهواها ، ولذا زنا بها

٣١

في نفس الليلة التي قتل فيها مالكاً ، وهذا ما أدّى إلى ضجّة شديدة بالمدينة المنوّرة بين عامّة المسلمين ـ ففعل علي هذا ، أي أخذ الجارية هذه من الخمس ، وقال رسول الله : «إنّ له أكثر من ذلك» ، وكان خالد يتصوّر بأنّه لو ينتهز هذه الفرصة ، ويرسل هؤلاء الجماعة ، ويكتب هذا الكتاب ، وينسّق مع الموجودين في المدينة المنوّرة ، الذين يفكّرون تفكيره ويخطّطون معه ، يمكنهم أن يستفيدوا من هذه القضية ، لانْ يحطّوا من منزلة علي عند رسول الله وعند المسلمين ، وكأنّ في القضيّة مؤامرةً مدبّرة من هؤلاء المنافقين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملتفت إلى جميع القضايا ، رسول الله يعلم ، رسول الله عالم بنوايا هؤلاء القوم ، وهم لا يعلمون أنّه يسمع أصواتهم من وراء الباب ، من وراء الجدار ، وهم جالسون على بابه ، فخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والغضب يعرف في وجهه فقال : «ما تريدون من علي ، ما تريدون من علي ، دعوا عليّاً ...».

وما زالت المؤامرات ضدّ علي وإلى يومنا هذا ، وما زال علي مظلوماً تحاك له المؤامرات وتدبّر له المخطّطات ، وإلى متى؟ حتّى بعض من ينسب نفسه إليه ، حتّى بعض من يدّعي الانتساب إليه ، وإلى متى يبقى علي مظلوماً ، لكن الله شاء هذا ، وشاءت المصلحة العامة أن يكون حال علي كحال هارون ، وأن تكون منزلته من

٣٢

رسول الله منزلة هارون من موسى ، كما سنقرأ في حديث المنزلة.

والخلاصة : إنّي أرى في هذه القضيّة خطّة مدبّرة ومؤامرة منسّقة مرتّبة بين الغائبين عن المدينة المنوّرة والحاضرين هناك ضدّ أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

وقد انقلبت المؤامرة عليهم ، وأصبحت القضية من جملة موارد إعلان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل الله سبحانه وتعالى ، إعلانه عن إمامة أمير المؤمنين ، عن ولاية أمير المؤمنين ، وعن عصمة أمير المؤمنين ، وعن أنّ كلّ من يبغض عليّاً عليه أن يستغفر ، وعليه أن يجدّد إسلامه بعد استغفاره.

أرادوا أنْ ينتهزوا هذه الفرصة ضدّ علي ، فانتهزها رسول الله في صالح علي والاسلام ، فكان حديث الولاية دالاًّ على إمامة أمير المؤمنين من جهات عديدة.

٣٣
٣٤

المناقشات في حديث الولاية

والان ، فلننظر ماذا يقول المخالفون في مقام الرد على هذا الحديث.

ليست لهم مناقشة تسمع وتستحق الذكر ، إلاّ مناقشتهم في معنى «وليّكم» ، لاحتمال أنْ يكون المراد : علي ناصركم ، علي محبّكم من بعدي.

لكن الحديث بقرائنه الداخليّة وقرائنه الخارجيّة والقصة بأجمعها تأبى كلّ هذه التشكيكات وهم أيضاً يعلمون بهذا ، هم المستشكلون يعلمون.

ولذا يضطرّون إلى اللجوء إلى طريقة أُخرى ، تلك الطريقة هي تحريف الحديث ، وقد ذكرت هنا بعض مواضع تحريفاتهم.

مثلاً : إذا راجعتم صحيح البخاري (١) ، ترونه يروي بسنده عن عبدالله بن بريدة ، عن أبيه ـ نفس السند ـ ، يقول : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّاً

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ / ٢٠٧ ـ دار إحياء التراث ـ بيروت.

٣٥

إلى خالد ليقبض الخمس ، يقول بريدة : وكنت أُبغض عليّاً وقد اغتسل ـ التقطيع في الحديث واضح ، فمن يدقّق النظر في لفظ هذا الحديث المبتور يرى أنّ فيه تقطيعاً! يرى أنّ فيه تحريفاً! ـ لاحظوا : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّاً إلى خالد ليقبض الخمس وكنت أُبغض عليّاً وقد اغتسل ، فقلت لخالد : ألا ترى إلى هذا ، فلمّا قدمنا على النبي ذكرت ذلك له.

لا يقول : تنقّصت عليّاً عند النبي ، لا يقول : أمرني خالد ، ولا ، ولا ، ولا ، يقول : ذكرت ذلك له ـ وكأنّه يذكر قضيةً طبيعية ـ ذكرت ذلك له فقال : «يا بريدة ، أتبغض عليّاً؟» فقلت : نعم ، فقال : «لا تبغضه فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك».

فأين حديث «علي منّي وأنا من علي ، وهو وليّكم من بعدي»؟

هذا لفظ البخاري.

وإذا راجعتم البيهقي في سننه (١) ، البيهقي تلميذ الحاكم النيشابوري ، قرأت لكم لفظ الحاكم النيشابوري في مستدركه ، وهو أيضاً يروي الحديث عن الحاكم ، البيهقي يروي الحديث عن

__________________

(١) سنن البيهقي ٦ / ٣٤٢.

٣٦

شيخه الحاكم بإسناده ويسقط من آخره : «إنّ عليّاً منّي وأنا من عليّ وهو وليّكم من بعدي» ، لا يوجد هذا في سنن البيهقي.

وإذا راجعتم مصابيح السنّة (١) للبغوي ، الذي هو من أهم كتب الحديث عندهم ، ترون أنّه لا توجد فيه كلمة «بعدي» ، ففيه : «علي منّي وأنا من علي وهو وليّكم».

فعندما تسقط كلمة «بعدي» يصبح علي لائقاً للولاية أو منصوباً للولاية من قبل النبي ، لكنْ متى؟ لِيكنْ بعد عثمان!!

وإذا راجعتم المشكاة (٢) ، يروي هذا الحديث عن الترمذي بلا لفظة «بعدي» ، أي ينسب هذا الحديث المحرّف إلى الترمذي ، مع أنّ الحديث موجود في الترمذي مع كلمة «بعدي»!! وكأنّهم لا يشعرون أنّ هناك ناظراً في الكتاب ، أنّ هناك من يقرأ كتابه ، أنّ هناك من يرجع إلى صحيح الترمذي ويطابق بين النقلين وبين اللفظين ، لكنّهم لا يستحون.

إذن ، هذه طريقة ثانية وهي طريقة التحريف.

لكنْ لا مناص لمن يريد أنْ يخالف الله ورسوله ، لمن يريد أن يعرض عمّا أراد الله ورسوله ، من أن يتّبع طريقة ابن تيميّة ، إنّه

__________________

(١) مصابيح السنّة ٤ / ١٧٢ رقم ٤٧٦٦ وفيه باختلاف : «وهو وليّ كلّ مؤمن».

(٢) المشكاة ٣ / ١٧٢٠.

٣٧

يقول : هذا الحديث كذب ، وهذه أحسن طريقة لمن يريد أن يخالف الله ورسوله فيما قالا ، وفيما أرادا ، أنْ ينفي أصل القضية ، وينكر أصل الخبر ، ويكذّب الحديث من أصله ، نصّ عبارة ابن تيميّة :

قوله : «وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي» كذب على رسول الله ، وكلام يمتنع نسبته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

هذه الطريقة التي لهم أن يتّخذوها ، والافضل لهم أن يسلكوا هذا الطريق ، فلماذا التحريف؟ ولماذا التكذيب لبعض الالفاظ؟ ولبعض الخصوصيات الموجودة في الحديث؟ لننكر أصل الحديث ونرتاح.

(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٢).

(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٣).

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

__________________

(١) منهاج السنة ٧ / ٣٩١.

(٢) سورة البقرة : ٧٩.

(٣) سورة النساء : ٦٥.

٣٨