ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين

ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

المؤلف:

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المؤسسة الدوليّة للدراسات والنشر
الطبعة: ٧
الصفحات: ٢٢٩

وقد كان زياد بن سميّة من أبرع عمّال معاوية في هذا الميدان ، وممّا يؤثر عنه أنّه عندما همّ القبض على حجر بن عدي الكندي أمر محمد بن الأشعث الكندي بالقبض عليه هادفاً من وراء ذلك إلى زرع بذور الشقاق في كندة ، وهي من أقوى قبائل الكوفة ؛ ليستريح من وحدتها ، ويلهي كلاً من أنصار حجر وأنصار محمد بأعدائه الجدد ، ولكنّ يقظة حجر فوّتت على زياد هذه الفرصة ، فسلّم نفسه إلى السلطة طوعاً (١).

وقد قال عنه ولهاوزن :

«... ولكنّ الواقع أنّه لم يقض في الكوفة على ثورة الشيعة بواسطة الشرطة ، بل بعون من القبائل نفسها ... وتمكّنه الغيرة القائمة بين القبائل من أن يضرب بعضها ببعض» (٢).

وقال عنه أيضاً :

«... وعرف زياد كيف يخضع القبائل بأن يضرب إحداها بالأخرى ، وكيف يجعلها تعمل من أجله ، وأفلح في ذلك» (٣).

وقد سلك ابنه عبيد الله هذا المسلك حين ولاّه معاوية البصرة بعد أبيه ، وممّا يؤثر عنه في هذا الباب أنّه أغرى بين صديقيه الشاعرين أنس بن زنيم الليثي وحارثة بن بدر الفداني ، وكان يُكره أحدهما على هجاء الآخر وقومه حتّى وقع بينهما شرّ بسبب ذلك ، وعبيد الله ماضٍ في الإيقاع

__________________

(١) ونرى عند أحد رفقاء حجر ، وهو قبيصة بن ربيعة العبسي ، تنبّهاً لهذه الأساليب ؛ فقد قال لأبي شريف البدري حين قدم ليقتل في مرج عذراء : «إنّ الشرّ بين قومي وقومك آمن ، فليقتلني سواك. فقال : برّتك رحم. ثمّ قتله القضاعي».

(٢) الدولة العربيّة ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٣) المصدر السابق : ٢٠٧.

٨١

بينهما (١).

وقد كان المغيرة بن شعبة والي الكوفة من قبل معاوية يتّبع نفس هذا الأسلوب ، فعندما ولي الكوفة جعل من همّه أن يُفسد ما بين الخوارج والشيعة ، وبذلك استطاع أن يشغل الكوفيين عن معارضة الاُمويِّين معارضة فعّالة (٢) وها هو يصرّ على أن يدفع بصفوة الشيعة في الكوفة والبصرة إلى حرب الخوارج ، ويُجهّز جيشاً منهم لهذه الغاية (٣).

وقد كانت عاقبة هذه السياسة أن عادت إلى الاشتعال من جديد تلك العداوات والأحقاد القديمة التي كانت بين القبائل ، وكان من نتائجها بعد ذلك ظهور الشعر السياسي الحزبي والقبلي. فقد شبّت نيران الهجاء بين شعراء الشيعة والخوارج والاُمويِّين ، واشتعلت نيران الهجاء والمفاخرات القبلية بين القبائل نفسها ، وعاضد الشعراء القبليون الأحزاب بدوافع قبلية ، فقد انضمّ الأخطل إلى الاُمويِّين على قيس عيلان أعداء قومه التغلبيين ، ثمّ انضمّ إلى الفرزدق على جرير ؛ لأنّ جريراً كان لسان القيسية على تغلب ، وكان الفرزدق تميمياً ، وجرير أخذته قيس عيلان.

وقد تقمصّت هذه العصبية القبلية شكلاً دينياً حينما أخذت القبائل تسعى إلى اختراع الأحاديث في فضلها تنسبها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك إنّ هذه القبائل لمّا كانت تتنازع الرياسة ، والفخر ، والشرف وجدت في الأحاديث باباً تدخل منه إلى المفاخرة كالذي وجدته في الشعر ، فكم من الأحاديث وضعت في فضل قريش ، والأنصار ، وأسلم ، وغفار ، والأشعريين ، والحميريين ، وجهينة ، ومزينة (٤). وسنرى أنّ معاوية قد استأجر بعض تجّار الدين لاختلاق الأحاديث في مديحه ومديح أسرته ، ولعلّ مساعيه هذه هي التي

__________________

(١) الأغاني ٢١ ـ طبعة الساسي.

(٢) بروكلمان : تاريخ الشعوب الاسلامية ١ / ١٤٦.

(٣) الطبري.

(٤) أحمد أمين : فجر الإسلام ، ٢١٣.

٨٢

حملت الآخرين على اختلاق الأحاديث في تمجيد قبائلهم.

* * *

وهكذا بثّ معاوية روح البغضاء والنفرة بين القبائل العربيّة ، فشغلت هذه القبائل بأحقادها الصغيرة عن مقارعة خصمها الحقيقي ، الحكم الأموي ، وشغل زعماء هذه القبائل بالسعي عند الملوك الاُمويِّين للوقيعة بأعدائهم القبليين ، وفاز معاوية ـ وحلفاؤه من بعد ـ بكونه حكماً بين أعداءٍ هو الذي أشعل نيران العداء بينهم من حيث لا يشعرون ، ووحّدهم في طاعته من حيث لا يدرون ، وقد دفعهم هذا الوضع إلى أن يقفوا دائماً مع الحاكمين ضدّ الثائرين ؛ ليحافظوا على الامتيازات الممنوحة لهم ، ويخذّلون عنها بل ويتسابقون في استخدام أقصى ما يملكونه من نفوذ ودهاء في هذا السبيل ؛ للتأكيد على ولائهم التام للسلطة القائمة ، وقد لاحظ ولهاوزن :

«إنّ وضعهم ـ زعماء القبائل ـ جنح بهم إلى أن يعتصموا بالحِطية والحكم ، فلا يشرعون في القيام بثورة لا هدف لها بل يردّون الجماهير عنها عندما ينطلقون فيها ، وها هم أولاء باسم الإسلام والنظام يضعون نفوذهم تحت تصرّف الحكومة ؛ كيلا يُعرضوا وضعهم للأخطار» (١).

والشواهد التي تدلّ على صدق هذه الملاحظة عمّا آل إليه أمر المسلمين بسبب استفحال الروح القبلية كثيرة جدّاً ، وسيمر بعضها فيما يأتي من هذه الدراسة.

* * *

__________________

(١) الدولة العربية : ٥٢.

٨٣

والعمل الآخر الذي قام به معاوية في هذا المجال هو إثارته للعصبية العنصرية عند العرب عموماً ضدّ المسلمين غير العرب ، وقد أغرى هذا الموقف رؤساء القبائل العراقية فاندفعوا ينصحون الإمام علياً عليه‌السلام قائلين :

«يا أمير المؤمنين ، أعطِ هذه الأموال ، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، واستمل مَنْ تخاف خلافه من الناس».

ناظرين إلى ما يصنع معاوية ، ولكنّ الإمام علياً عليه‌السلام أجابهم قائلاً :

«أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟! وَاللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً» (١).

أمّا السياسة الاُمويّة فلها من الموالي موقف آخر. «تخاصم عربي ومولى بين يدي عبد الله بن عامر.

فقال المولى للعربي :

لا أكثر الله فينا مثلك.

فقال العربي : بل كثّر الله فينا مثلك.

فقيل له : يدعو عليك وتدعو له

وقال : نعم ، يكسحون طرقنا ، ويخرزون خفافنا ، ويحوكون ثيابنا».

وقالوا : لا يصلح للقضاء إلاّ عربي. واستدعى معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس ، وسمرة بن جندب ، وقال لهما :

«إنّي رأيت هذه الحمراء قد كثرت ، وأراها قد قطعت

__________________

(١) دراسات في نهج البلاغة للمؤلف ١٧٠ ـ ١٧٤ ونهج البلاغة (دار الأندلس ٢ / ٧٢).

٨٤

على السلف ، وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان ، فقد رأيت أن أقتل شطراً ، وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة الطريق».

وكان هذا الموقف العدائي من الموالي سبباً في امتهانهم وإرهاقهم بالضرائب ، وفرض الجزية والخراج عليهم ، وإسقاطهم من العطاء ، فكان الجنود الموالي يُقاتلون من غير عطاء. وكانوا يقولون : لا يقطع الصلاة إلاّ ثلاثة ؛ حمار ، أو كلب ، أو مولى (٣). وكانوا لا يُكنّونهم بالكُنى ، ولا يدعونهم إلاّ بالأسماء والألقاب ، ولا يمشون في الصف معهم ، ولا يُقدّمونهم في الموكب ، وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم ، وإن أطعموا المولى لسُنّه وفضله وعلمه أجلسوه على طريق الخبّاز ؛ لئلاّ يخفى على الناظر أنّه ليس من العرب ، ولا يدعونهم يُصلّون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب وإن كان غَريراً.

وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها ، إنّما يخطبها إلى مواليها ، فإن رضي مولاها زوّجت وإلاّ فلا. وإن زوّجها الأب أو الأخ بغير إذن مواليه فُسخ النكاح ، وإن كان قد دخل بها عُدّ ذلك سفاحاً. وإذا أقبل العربي من السوق ومعه شيء فرأى مولىً دفعه إليه ليحمله عنه فلا يمتنع ، ولا السلطان يُغيّر عليه ، وكان إذا لقيه راكباً وأراد أن ينزل فعل (١).

وقد سبّب هذا الموقف اللاإنساني من الموالي شقّ عصا المسلمين ، وتراكم الأحقاد والعداوات بينهم ، وكان سبباً في انعدام الرقابة الشعبية على الحاكمين.

* * *

وقد استمر هذا الداء الوبيل ينخر في جسم الأمّة الإسلاميّة حتّى مزّقها

__________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٢٦٠ ـ ٢٦١ ، وضحي الإسلام ١ ـ ١٨ ـ ٣٤ والتمدن الإسلامي ٤ / ٦٠ ـ ٦٤ و ٩١ ـ ٩٦.

٨٥

شرّ ممزّق ، وقضى على وحدتها التي أنشأها الإسلام وقذف بها في عُباب حروب طاحنة أتت على روابط الألفة والمحبّة ، وزرعت بين طوائفها الإحن والبغضاء. ولقد كانت هذه السياسة التي سنّها معاوية وحلفاؤه لتدعيم سلطانهم بتحطيم وحدة الأمّة سبباً حاسماً في تحطيمهم ، وتمكين أعدائهم منهم في نهاية المطاف (١).

__________________

(١) للتوسع في موضوع القبلية راجع البلاذري : أنساب الأشراف ١ / ١٨ ـ ٣٤ ، وفيليب حتّى : تاريخ العرب ٢ / ٣٥٠ ـ ٣٥٢ ، وبروكلمان : تاريخ الشعوب الإسلامية ١ / ١٥٦ ـ ١٥٧ ، وولهاوزن : الدولة العربيّة : ١٦٥ ـ ١٧٣ و ٤٠٣ و ٤١٤ ـ ٤١٥ و ٤١٨ ـ ٤١٩. وحسن إبراهيم حسن : تاريخ الإسلام السياسي ١ / ٣٣٧ ـ ٣٤١ ، وسيد أمير علي : مختصر تأريخ العرب : ٦٣ ـ ٦٧ و ٧٨ و ١١٣ ـ ١١٤.

٨٦

ـ ٦ ـ

ج ـ التحذير باسم الدين وشلّ الروح الثوريّة

«المأخذ الدائم الذي يؤخذ على الاُمويِّين هو أنّهم كانوا اُصولاً وفروعاً أخطر أعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم اعتنقوا الإسلام في آخر ساعة مرغمين ، ثمّ أفلحوا في أن يحوّلوا إلى أنفسهم ثمرة حكم الدين أوّلاً بضعف عثمان ، ثمّ بحسن استخدام نتائج قتله ، هذا وأصلهم يفقدهم مزية زعامة اُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن المحن التي بُلي بها حكم الدين أنّهم أصبحوا قائمين عليه ، مع أنّهم كانوا ومافتئوا مغتصبين لسلطانه ، وقوّتهم في جيشهم الذي هو على قدم الاستعداد في الشام ، ولكنّ قوّتهم لا يمكن أن تُصبح حقّاً» (١).

بهذه المشاعر ونظائرها واجه المسلمون الحكم الاُموي ، وقد أراد معاوية أن يتغلّب على هذا الشعور العام بسلاح الدين نفسه ، كما أراد التوصّل إلى تحطيم ما لأعدائه من سلطان روحي على المسلمين عن هذا الطريق أيضاً ، وقد برع في الميدان كلّ البراعة ، وواتته الظروف عليه فبلغ منه أقصى ما يرجو.

وقد حفظ لنا التأريخ بعض الأسماء البارزة من أعوان معاوية في هذا اللون من النشاط. قال ابن أبي الحديد : «ذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي.

__________________

(١) ولهاوزن : الدولة العربية ؛ ٥٣ ، وراجع تاريخ الإسلام السياسي ١ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

٨٧

إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة ، وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جُعلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه. منهم ؛ أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير» (١).

وقد استعمل معاوية هؤلاء الأشخاص في سبيل إيجاد تبرير ديني لسلطان بني اُميّة ، أو على الأقل لكبح الجماهير عن الثورة برادع داخلي هو الدين نفسه ، يعمل مع الروادع الخارجية : التجويع ، والإرهاب ، والانشقاق القبلي ، هذا بالإضافة إلى مهمّة أساسية أخرى ألقاها معاوية على عاتق هؤلاء الأشخاص ، وهي اختلاق «الأحاديث» التي تتضمّن الطعن في علي عليه‌السلام وأهل بيته ، ونسبتها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويوضّح لنا النصّ الآتي مدى اتّساع الشبكة التي كوّنها معاوية ، ومدى تجاوبها مع رغباته.

كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة :

«أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضائل أبي تراب وأهل بيته».

فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ، ويبرءون منه ... وكتب إلي عماله أن لا تقبلوا لأحد من شيعة عل وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم :

«أن انظروا مَنْ قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ، والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم ، وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا إليّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم ، واسمه ، واسم أبيه ، وعشيرته».

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٦١.

٨٨

ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ؛ لِما كان يبعثه معاوية إليهم من الصلات ، والكساء ، والحباء ، والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثُر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه ، فلبثوا بذلك حيناً.

«ثمّ كتب إلى عمّاله أنّ الحديث في عثمان قد كثُر ، وفشا في كلّ مصر ، وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ؛ فإنّ هذا أحبّ إليّ ، وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته».

فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وأُلقي إلى معلمي الكتاتيب ، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتى علّموا بناتهم ونساءهم وخدمهم [وحشمهم] فلبثوا بذلك ما شاء الله ، فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القُرّاء المراؤون ، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ؛ ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويُقربوا مجالسهم ، ويُصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ... فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي عليه‌السلام فازداد البلاء والفتنة (١).

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤ ـ ٦.

٨٩

وأعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر ، وقال :

«إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني اُميّة ؛ تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أنوف بني هاشم» (١).

وقد تجلّى «سخاء» معاوية في هذا الميدان بوضوح ؛ فها هو ذا يبذل (للصحابي) سمرة بن جندب أربعمئة ألف درهم على أن يروي أنّ هذه الآية :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (٢).

قد نزلت في علي بن أبي طالب ، وأنّ الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي قوله تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (٣)

فروى ذلك (٤).

وأمّا أبو هريرة فقد كافأه بولاية المدينة ؛ لأنّه روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن علي عليه‌السلام وبني اُميّة ما يلائم ذوق معاوية وأهدافه السياسيّة (٥).

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ١١ / ٤٦.

(٢) سورة البقرة : ٢٠٤ ، ٢٠٥.

(٣) سورة البقرة : ٢٠٧.

(٤) شرح نهج البلاغة : ٤ / ٧٣.

(٥) المصدر السابق ٤ / ٦٤ وما بعدها ، و ٦٧ ـ ٦٩.

٩٠

وممّا يتصل بهذا ما تكشف عنه بعض النصوص أنّ من ملامح سياسة معاوية وجهازه إلغاء الرموز ذات المحتوى التأريخي الذي يعبّر عن قيمة دينية معينة ذات أثر اجتماعي ، وذلك بما يعكسه الرمز ويثيره في الأذهان من صور تأريخيّة تتّصل بحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالكفاح من أجل انتصار الإسلام.

من هذه السياسة ما يكشف عنه النصّ الذي يتضمّن أنّ معاوية وعمرو بن العاص أرادا أن يختبرا إمكانية إلغاء اسم «الأنصار» الذي اشتهر به الأوس والخزرج منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وورد في القرآن الكريم اسماً لمسلمي المدينة كما كان اسم «المهاجرين» لمسلمي مكة قبل الهجرة (١).

ولا بدّ أنّ هدف هذه المحاولة هو تجريد الأنصار من القوّة المعنوية التي يسبغها هذا اللقب عليهم.

قال عمرو لمعاوية :

«ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين؟ أردد القوم إلى أنسابهم. فقال معاوية : إنّي أخاف من ذلك الشَّنعة. فقال : هي كلمة تقولها ، إن مضت عضّتهم ونقّصتهم».

ولكنّ الأنصار انتبهوا للمحاولة ، فردّوها بحزم (٢).

وقد خلقت لنا هذه المدرسة ـ مدرسة معاوية في الرواية والحديث ـ ألواناً من الأحاديث النبويّة.

__________________

(١) ورد لقب الأنصار في القرآن الكريم مرتين مقروناً بالمهاجرين في آيتين من سورة التوبة ، تضمّنتا مدح الله تعالى لهم وثناءه عليهم : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الآية ١٠٠ ، و (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) الآية ١١٧.

(٢) أبو الفرج الاصبهاني : الأغاني ، طبعة دار الكتب : ١٦ / ٤٢ ـ ٤٣ و ٤٨.

٩١

منها ما يرجع إلى القدح في علي وآل بيته عليهم‌السلام ، وقد استفرغ معاوية غاية وسعه في هذا الميدان الذي قدّمنا لك آنفاً تعريفاً بأسلوب معاوية في خوضه (١).

ومنها ما يرجع إلى تمجيد بني اُميّة ـ وعلى الأخص عثمان ومعاوية ـ ويجعلهم في مرتبة القدّيسين ، كهذا الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنّ الله ائتمن على وحيه ثلاثاً ؛ أنا ، وجبرئيل ، ومعاوية».

وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ناول معاوية سهماً ، فقال له :

«خذ هذا حتّى تلقاني في الجنّة» و «أنا مدينة العلم ، وعلي بابها ، ومعاوية حلقتها»

وتلقون من بعدي اختلافاً وفتنة ، فقال له قائل من الناس : فمَنْ لنا يا رسول الله؟ قال : عليكم بالأمين وأصحابه ، يشير بذلك إلى عثمان.

ومنها ما يُحذّر المسلمين من الثورة ، ويزيّن لهم الرضوخ ، ويوهمهم أنّ الثورة على الظلم ، والسعي نحو إقامة نظام عادل عمل مخالف للدين. وبديهي أنّ شيئاً من ذلك لم يصدر عن الله ولا عن رسوله. ومن هذه الأحاديث ما عن عبد الله بن عمر ، قال :

__________________

(١) ويظهر أنّ هذا الاتجاه اعتُبر سياسة ثابتة في مهمات الدولة الثقافية ، فنجد أنّ هشام بن عبد الملك طلب من ابن شهاب الزهري أن يقول في قوله تعالى : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النور / ١١ ، أي الذي تولّى كبره هو علي بن أبي طالب ، فأبى وقال : هو عبد الله بن أبي سلول. وعندما طلب خالد من عبد الله القسري ـ والي العراق في عهد هشام بن عبد الملك ـ من ابن شهاب الزهري أن يكتب سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول ابن شهاب : «فقلت له : فإنّه يمرّ بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب فأذكره؟» ، ولكنّ خالداً القسري رفض أن يأذن لابن شهاب في ذكر علي عليه‌السلام إلاّ إذا كان ذكره يتضمّن قدحاً وذمّاً.

الدكتور أحمد أمين : ضحى الإسلام (الطبعة الخامسة) ٢ / ٣٢٦ ، نقله عن الأغاني ١٩ / ٥٩.

٩٢

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها. قالوا : فماذا تأمرنا يا رسول الله؟ قال : أدّوا إليهم حقّهم ، وسلوا الله حقّكم». و : «مَنْ رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه ؛ فإنّ مَنْ فارق الجماعة شبراً فمات إلاّ ميتة جاهليّة».

و : «ستكون هنات وهنات ، فمَنْ أراد أن يفرّق أمر هذه الأمّة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائناً ما كان» (١).

وحدّث العجّاج قال : قال لي أبو هريرة :

«مَنْ أنت؟ قال : قالت : من أهل العراق. قال : يوشك أن يأتيك بقعان أهل الشام فيأخذوا صدقتك ، فإذا أتوك فتلقّهم بها ، فإذا دخلوها فكن في أقاصيها ، وخلّ عنهم وعنها. وإيّاك أن تسبّهم ؛ فإنّك إن سببتهم ذهب أجرك وأخذوا صدقتك ، وإن صبرت جاءتك في ميزانك يوم القيامة» (١).

وما شاكل هذا من الأحاديث التي تدعو المسلمين إلى الخضوع لأمرائهم الظالمين ، وتحرّم عليهم الثورة على هؤلاء الأمراء طلباً لحقّهم.

إنّ هذه الأحاديث تدعو إلى الصبر على الظلم والجوع والإرهاب ؛ لأنّ استنكار ذلك مخالف للدين.

وينطلق المأجورون من الوعّاظ والمحدّثين فينفثون هذه السموم في قلوب الجماهير المسلمة وعقولها ، وبذلك يلجمونها عن التذمّر والثورة بلجام ينسبونه إلى الدين والدين منه بريء ، يقعدون بها عن الاحتجاج على سياسة

__________________

(١) تجد هذه النصوص وغيرها في البخاري وغيره من كتب الحديث.

(٢) ابن قتيبة : عيون الأخبار ١ / ٧.

٩٣

العسف والظلم ، ويحجزونها عن محاولة تحسين حياتها.

* * *

هذا لون من ألوان التضليل الديني الذي ابتدعه الاُمويّون لتثبيت ملكهم. وهنا لون آخر من ألوان التضليل الديني استخدموه وبرعوا في استخدامه ، وهو تأسيس الفرق الدينية السياسيّة التي تُقدّم للجماهير تفسيرات دينية تخدم سلطة الاُمويِّين وتبرّر أعمالهم.

ومن الأمثلة البارزة في هذا الميدان فرقة المرجئة ، فقد كان الاُمويّون يواجهون الشيعة الذين يعتبرون بني اُميّة قتلة غاصبين لتراث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والخوراج الذين يرونهم كفرة تجب الثورة عليهم وإزاحتهم عن الحكم. وكان كلّ واحد من هذين الفريقين يُقدّم بين يدي دعواه حججاً لا يملك الاُمويّون ما يُقابلها ؛ لذلك أنشؤوا فرقة المرجئة التي قدّمت أدلّة مقابلة لأدلّة الشيعة والخوارج ، ووقفت ضدّهم في ميدان النضال السياسي الديني.

ويحدّثنا ابن أبي الحديد أنّ معاوية كان يتظاهر بالجبر والإرجاء ، وأنّ المعتزلة كفّروه لذلك (١).

لقد اعتبروا المرجئة الإيمان عملاً قلبياً خالصاً لا يحتاج إلى التعبير عنه بفعل من الأفعال ، فيكفي الإنسان أن يكون مؤمناً بقلبه ليعصمه الإسلام ، ويحرم الاعتداء عليه ، وهم ينادون :

«لا تضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة» وقالوا :

«إنّ الإيمان الاعتقاد بالقلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٣٤٠.

٩٤

وعبد الأوثان ، ولزم اليهودية ، والنصرانية في دار الإسلام ، ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عزّ وجلّ ولي لله عزّ وجلّ ، من أهل الجنّة» (١).

والنتيجة المنطقية لهذا اللون من التفكير هي أنّ الاُمويِّين مؤمنون مهما ارتكبوا من الكبائر (٢) ومن نتائج ذلك أنّ المرجئة لا يوافقون الخوارج والشيعة شرعية لا يجوز الخروج عليها ، ولم يسلّم المرجئة بأنّ انصراف خلفاء بني اُميّة عن تطبيق أحكام الشريعة كافٍ لحرمانهم من حقوقهم كأولياء الأمر في الإسلام (٣).

وقد كان المرجئة يبشّرون بهذه الأفكار بين صفوف الأمّة المسلمة ؛ لأجل تخديرها وصرفها عن الاستجابة لدعاة الثورة على الاُمويِّين.

وبينما نجد الاُمويِّين يضطهدون كلّ دعوة دينية لا تلائمهم نراهم بالنسبة إلى المرجئة على العكس من ذلك فهم يحتضنون هذه الفرقة ويعطفون على قادتها ، وما ذلك إلاّ لأنّ معاوية سيّدهم هو واضع أسسها ، وقد عرفت آنفاً إنّه كان يقول بالجبر والإرجاء.

__________________

(١) ابن حزم : الفصل في الملل والنحل ٤ / ٢٠٤.

(٢) فيليب حتي : تاريخ العرب ٢ / ٣١٦.

(٣) لمّا استخلف يزيد بن عبد الملك بن مروان قال : سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز. فمكث كذلك أربعين ليلة ، فأتى بأربعين شيخاً فشهدوا له أنّه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب ابن كثير ص ٢٣٢.

وفي الطبري ٦ / ٥٩٣ : وإنّ قوماً من المرجئة على رأسهم رجل يُقال له : أبو رُوّية ، انضموا إلى يزيد بن المهلّب بن أبي صفرة في ثورته على يزيد بن عبد الملك بن مروان ، ولمّا جاء مسلمة بن عبد الملك لقمع الثورة ، وحرّض يزيد بن المهلّب الناس على القتال ، قال ابن رُوّية : إنّا قد دعوناهم إلى كتاب الله ، وسنّة نبيّه ، وقد زعموا أنّهم قبلوا ، فليس لنا أن نمكر ولا نغدر ، ولا نريدهم بسوء ، فقال لهم يزيد بن المهلّب : ويحكم! أتصدّقون بني اُميّة؟! إنّهم أرادوا أن يجيبوكم ليكفّوكم منهم حتّى يعملوا في المنكر ، قالوا : لا نرى أن نفعل ذلك حتّى يردّوا علينا ما زعموا أنّهم قبلوه منّا».

٩٥

من البيّن أنّ هذا الموقف الذي اتّخذه المرجئة من الاُمويِّين يتعارض تعارضاً مطلقاً مع إدراك اُولئك الذين يؤيّدون مطالب العلويين. ويصوّر لنا هذان البيتان من الهجاء نظرة الشيعة إلى المرجئة :

إذا ما المُرجيّ سرّك أن تراه

يموتُ بدائهِ من قبلِ موتهْ

فجدّد عندهُ ذكرى عليٍّ

وصلِّ على النبي وآلِ بيتهْ (١)

وإلى جانب ما تقدّم أعتمد الاُمويّون أسلوباً آخر من أساليب التضليل الديني لدعم حكمهم وصرف الناس عن الثورة عليهم.

فقد واجه الاُمويّون خطراً ساحقاً عليهم من عقيدة القدرية القائلين بحرية الإرادة والاختيار ، وإنّ الإنسان هو الذي يختار نوع السلوك والعمل الذي يمارسه في حياته ، وإذا كان حرّاً فهو مسؤول عن أفعاله ؛ لأنّ كلّ حرية تستتبع حتماً المسؤولية.

هذه العقيدة كانت خطراً على الاُمويِّين الذي يفرّقون من رقابة الاُمّة عليهم وعلى تصرّفاتهم ؛ ولذلك فقد اضطهدوا هذه العقيدة ودعاتها وتمسّكوا بالعقيدة المضّادة لها (عقيدة الجبر) (٢). فهذه هي العقيدة التي تلائمهم في الميدان السياسي ؛ لأنّها توحي إلى الناس بأنّ وجود الاُمويِّين وتصرّفاتهم مهما كانت شاذّة وظالمة ليست سوى قدر مرسوم من الله لا يمكن تغييره ولا تبديله ، فلا جدوى من الثورة عليه. وها هو معاوية يتظاهر بالجبر والإرجاء كما قدّمنا ؛ لأجل تبرير أفعاله أمام الملأ بأنّها مقدورة لا سبيل إلى تبديلها ، مع كونها في الوقت نفسه غير قادحة فيه باعتباره حاكماً دينياً.

__________________

(١) لاحظ في هذا الموضوع أحمد أمين : فجر الإسلام : ٢٧٩ ـ ٢٨٢ و ٢٩١ ـ ٢٩٤ ، وضحى الإسلام ٣ : ٣١٦ ـ ٣٢٩ ، وإجناس جولد تسهر العقيدة والشريعة في الإسلام : ٧٥ ـ ٧٧ و ٢٩٥ هامش رقم ٢٠.

(٢) موريس غودفردا ، النظم الإسلامية : ٣٩ : «في الخلاف الذي قام حول الجبرية ساند الخلفاء الأُمويون فكرة انكار الإرادة في أفعال الإنسان».

٩٦

ولا بدّ أنّه قد عهد بإذاعة أفكاره الخاصّة حول هاتين العقيدتين ـ الجبر والإرجاء ـ بين المسلمين إلى ولاته وأجهزة الدعاية عنده ، ومنها القصّاص ، قال الليث بن سعد :

«وأمّا قصص الخاصّة فهو الذي أوجده معاوية ، ولّى رجلاً على القصص فإذا سلّم من صلاة الصبح جلس وذكر الله عزّ وجلّ ، وحمده ومجّده ، وصلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودعا للخليفة ولأهل بيته ، وحشمه وجنوده ، ودعا على أهل حربه ، وعلى المشركين كافّة» (١).

وأمر رجلاً يقصّ بعد الصبح ، وبعد المغرب يدعو له ولأهل الشام (٢) ، ولا بدّ أنّ هذا الدعاء كان استهلالاً يبتدئ به القاصّ ، ثمّ يأخذ بعده في قصصه.

ومثل معاوية لا يجعل الفوائد الجليلة التي يمكن أن تُقدّمها له عقيدة الجبر ، فهو ـ وسائر الاُمويِّين ـ كانوا يعلمون أنّ أُسرتهم غير مُحتلمة من المسلمين ، ويعلمون أنّهم في نظر كثير من رعاياهم مُختلسون. وصلوا إلى السلطة بوسائل قهريّة شديدة ، وأنّهم أعداء لآل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقتلة لأشخاص مُقدّسين لا ذنب لهم ، وإن كان ثمّة عقيدة تمسك الناس عن أن يثوروا عليهم وعلى ولاتهم لكانت عقيدة الجبر ، هذه العقيدة التي توحي إلى الناس بأنّ الله قد حكم منذ الأزل أن تصل هذه الأسرة إلى الحكم ، فأعمالهم وتصرّفاتهم ليست إلاّ نتيجة لقدر إلهي محكم ، من أجل ذلك كان حسناً جدّاً لهم ولدولتهم أن تتأصّل هذه الأفكار في أذهان الاُمّة (٣).

__________________

(١) فجر الإسلام : ١٥٩.

(٢) المصدر السابق : ١٦٠.

(٣) يقول الدكتور أحمد أمين : ضحي الإسلام ٣ / ٨١ «... وبنو اُميّة ـ كما يظهر ـ كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة ، لا دينياً فقط ، ولكن سياسياً كذلك ؛ لأنّ الجبر يخدم سياستهم. فالنتيجة للجبر أنّ الله الذي يُسيّر الاُمور قد فرض على الناس بني اُميّة كما فرض كلّ شيء ، ودولتهم بقضاء الله وقدره ، فيجب الخضوع للقضاء والقدر».

٩٧

وقد استغل الشعر إلى جانب النصوص الدينية في سبيل تعزيز هذه الأفكار ، فقد كان معاوية ـ كما يقول بروكلمان ـ قادراً على أن يفيد ممّا لشعراء عصره من تأثير عظيم في الرأي العام بسبيل مصالحه العائلية (١).

فكان معاوية ـ وملوك بني اُميّة من بعده ـ يسعون راضين شعراءهم بل ويحملون هؤلاء الشعراء على أن يقولوا الشعر الذي يُمجّدونهم فيه بنعوت تجعل سلطانهم وسيادتهم قدراً مقدوراً من الله ، ومن أجل ذلك لا يمكن أن يثور المؤمن ضدّهم.

فمعاوية عند الأخطل ليس ملكاً كما وصف نفسه في ساعة من ساعات سهوه ، بل خليفة الله ، والظفر الذي حازه ليس ناشئاً من أسبابه الطبيعية وإنّما هو من صنع الله :

إلى امرئ لا تعدينا نوافلُه

أظفرهُ اللهُ فليهنأ لهُ الظفرُ

الخائضُ الغمرَ والميمونُ طائرُه

خليفةُ اللهِ يُستسقى بهِ المطرُ

ولم يُفضل الاُمويّون غيرهم ـ عند الأخطل ـ بماضيهم المجيد في الجاهليّة ولا بسخائهم ، ولا بنجدتهم وشجاعتهم ، وإنّما فضّلهم الله. ولم يكن رفع المصاحف في صفّين خدعة تفتّق عنها ذهن ابن العاص ، وإنّما هو إلهام من الله. وأخيراً فالله هو الذي مكّنهم من الثأر لعثمان حين أوصلهم إلى سدّة الحكم :

تمّت جدودُهمُ واللهُ فضّلهمْ

وجدُّ قومٍ سواهم خاملٌ نكدُ

همُ الذينَ أجابَ اللهُ دعوتهمْ

لمّا تلاقت نواصي الخيلِ واجتلدوا

ويوم صفّين والأبصارُ خاشعةٌ

أمدّهم إذ دُعوا من ربّهم مددُ

على الاُلى قتلوا عثمانَ مظلمةً

لم ينههم نشدٌ عنهُ وقد نُشدوا

والأخطل كسائر شعراء عصره ذو روح جاهليّة تعرف الفضل

__________________

(١) تاريخ الشعوب الإسلامية ١ / ١٤٨.

٩٨

بالنسب وما إليه من عنعنات الجاهليّين ، لا بالله ، وتعرف النصر بالشجاعة والقوّة والكثرة والدهاء ، لا بالله ، فهذا النفس الديني الذي يشبه أن يكون صوفيّاً ؛ لكثرة ذكر الله فيه ليس من طبيعة الأخطل ، وإنّما هو موحى به من ممدوحه ، أو من هؤلاء الذين بثّهم معاوية لصوغ أفكاره الخاصّة بما يشيع بين العامّة ؛ سواء كان ذلك بالرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بالشعر.

ومسكين الدارمي يقول في شأن عقد ولاية العهد ليزيد :

ألا ليتَ شعري ما يقولُ ابنُ عامرٍ

ومروانُ أم ماذا يقولُ سعيدُ

بني خلفاءِ اللهِ مهلاً فإنّما

يبوّئها الرحمانُ حيثُ يريدُ

إذا المنبرُ الغربي خلاه ربُّه

فإنّ أميرَ المؤمنينَ يزيدُ

وكما أنّ مذهب الجبر استُخدم لتبرير حال الأسرة الاُمويّة على العموم ، فقد استخدم أيضاً في تهدئة الشعب حين كان يُبتلى ، أو يُغرى بأن يرى في أعمال الحكّام والعمّال الظلم والطغيان (١).

* * *

لقد رأينا أنّ سياسة الاضطهاد والتجويع خنقت نزعة الحرية في النفوس ، وحملت الجماهير على أن ترضى بحياة ذليلة مُضطهدة ؛ خشية أن تصير إلى لون من الحياة أقسى وأنكد. ورأينا أنّ الروح القبلية حوّلت الإنسان المسلم عن أهدافه العظيمة التي وجّهه إليها الإسلام ، وشغلته بأهداف أخرى تتّصل بأفقه القبلي الضيّق وصنمه القبلي الجديد.

فهنا عامل نفسي وهو الخوف ، وعامل اجتماعي وهو الوضع القبلي كانا يُقعدان بالإنسان المسلم عن الثورة ، ويحملانه على تقبّل حياته على ما فيها من نكد وقسوة وحرمان ، ولكنّهما ما كانا ليحملا الرضى الباطني لروحه

__________________

(١) أحمد أمين : ضحي الإسلام ٣ / ٨١ ـ ٨٢ ، وجولد تسيهر : العقيدة والشريعة في الإسلام : ٨٥ ـ ٨٧.

٩٩

القلقة المعذّبة ، فقد كان يشعر بالإثم لسكوته عن الحكم الأموي ، وقد كان يشعر بالإثم ؛ لقعوده عن محاولة تطهير المجتمع من المنكرات التي يراها ، وقد كان هذا الشعور بالإثم كفيلاً بأن يدفعه في النهاية إلى التغلّب على الخوف في نفسه وإلى تحطيم النطاق القبلي الذي يغلّه.

ولكن هذا الركن الثالث من أركان السياسة الاُمويّة ـ أعني التضليل الديني ـ تكفّل بإيجاد تبرير ديني للوضع الاجتماعي الشاذّ الذي كان عليه المجتمع الإسلامي ، واُريد منه حمل الجماهير المسلمة على السكوت عن النقد ، والقعود عن محاولة تغيير الوضع إلى مستوى أحسن ، وبذلك يختفي الشعور بالإثم من الضمير الجماهيري ، هذا الشعور الذي يدفع إلى الثورة حين يبلغ درجة ضغط عالية ، وعندما يضمحلّ الشعور بالإثم يستقر المجتمع نهائياً ، فهناك عامل نفسي وديني يدفعه إلى الخضوع ، وهناك عامل اجتماعي يجعله حتميّاً ، وحينئذ يطمئن الحاكمون إلى أنّ تصرّفاتهم لن تثير أيّ استنكار لدى الجماهير.

كان هذا هو الوضع النفسي لهؤلاء الذين أخذوا بأساليب الاُمويِّين في التحذير الديني ، وأمّا اُولئك الذين لم يُؤخذوا بهذا اللون من الدعاية ، ولم تنطلِ عليهم أحابيل الاُمويِّين وأكاذيبهم فقد كان لهم وضع آخر لا يقلّ إثارة للأسى عن هذا الوضع.

لقد صار الأمر بهؤلاء الآخرين إلى ازدواج الشخصيّة ؛ فقد عملت سياسة معاوية المالية ، وأسلوبه الوحشي في التنكيل بأعدائه العزّل من السلاح ، وتعليم الناس على الدجل والنفاق ، والسكوت عن الحقّ ، والتظاهر بخلاف ما يعتقدون توصّلاً إلى دنيا معاوية ، وتمسّكاً بروحهم القبلية التي تفرض عليهم أن يتبعوا ساداتهم القبليين دون تروّ أو تفكير. وهذا الوضع الشاذّ ـ الوضع الذي يفرض عليهم أن يخفوا دوماً ما يعتقدونه حقّاً واقعاً ، وأن يتظاهروا بما تريده السلطة منهم ـ ولّد عندهم ازدواج الشخصيّة ، هذا

١٠٠