ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين

ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

المؤلف:

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المؤسسة الدوليّة للدراسات والنشر
الطبعة: ٧
الصفحات: ٢٢٩

وقال له :

«مَنْ وجدته من الأعراب في طاعة علي فأغر عليه».

«فأقبل الضحّاك فنهب الأموال ، وقتل مَنْ لقي من الأعراب ، حتّى مرّ بالثعلبية فأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم ، ثمّ أقبل فلقي عمر بن عميس بن مسعود الدّهلي ، وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود فقتله في طريق الحاج عند القطقطانية (٣) ، وقتل معه ناساً من أصحابه» (١).

واستدعى معاوية بُسر بن أرطأة ، ووجّهه إلى الحجاز واليمن ، وقال له :

«سر حتّى تمر بالمدينة فاطرد الناس ، وأخف مَنْ مررت به ، وانهب أموال كلّ مَنْ أصبت له مالاً ممّن لم يكن دخل في طاعتنا ، فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تُريد أنفسهم ، وأخبرهم أنّ لا براءة لهم عندك ولا عذر حتّى إذا ظنّوا أنّك موقع بهم فأكففّ عنهم ... وأرهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة واجعلها شردات ...».

وقال له :

«لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلاّ بسطت عليهم لسانك حتّى يروا أنّهم لا نجاء لهم ، وأنّك محيط بهم ، ثمّ اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي ، فمَنْ أبى فاقتله ، واقتل شيعة علي حيث كانوا» (٢).

فسار ، وأغار على المدينة ومكة ، فقتل ثلاثين ألفاً عدا مَنْ أُحرق بالنار (٣).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) المصدر السابق ٢ / ٦ و ٧.

(٣) المصدر السابق ٢ / ١٧. وتفصيل أحداث بسر بن أرطاة في الجزء نفسه ص ٣ ـ ١٨.

٦١

بهذا المطلع الفاني استهلّ معاوية سياسته بعد التحكيم مع المسلمين الذين يخالفونه في الهوى السياسي. وقد بلغ في ذلك شأواً بعيداً ، فقتل وأرعب ، واستصفى الأموال ، وعاث في الأرض فساداً.

وقد استمر على هذه السياسة بعد أن قُتل علي عليه‌السلام ولكنّها إذ ذاك أخذت شكلاً أكثر تنظيماً وعُنفاً وشمولاً.

وقد نصّ المؤرّخون على أنّ هذا الإرهاب بلغ حدّاً جعل الرجل يُفضّل أن يُقال عنه أنّه زنديق أو كافر ولا يُقال عنه أنّه من شيعة علي (١) ، وقد بلغ بهم الحال أنّهم كانوا يخافون من النطق باسمه حتّى فيما يتعلّق بأحكام الدين التي لا ترجع إلى الفضائل التي كان الأمويون يخشون شيوعها ، فكانوا يقولون : «روى أبو زينب» (٢) ، وقال أبو حنيفة : «إنّ بني اُميّة كانوا لا يفتون بقول علي ولا يأخذون به ، وكان علي لا يذكر في ذلك باسمه.

وكانت العلامة باسمه بين المشايخ أن يقولوا : قال الشيخ» (٣).

«وحضر الاُمويّون على الناس أن يسمّوا أبناءهم باسم علي» (٤).

* * *

وكتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة :

«أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كلّ كورة ، وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ، ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته».

«وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة ؛ لكثرة مَنْ بها من شيعة علي

__________________

(١) المصدر السابق ١١ / ٤٤.

(٢) المصدر السابق ٤ / ٧٣.

(٣) مناقب أبي حنيفة للمكي ١ / ١١٧.

(٤) شرح نهج البلاغة ١ / ١٧.

٦٢

عليه‌السلام ، فاستعمل عليهم زياد بن سميّة وضمّ إليه البصرة ، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف ؛ لأنّه كان منهم أيام علي عليه‌السلام ، فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق ، فلم يبقَ بها معروف منهم».

«وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق :

ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان :

انظروا إلى مَنْ قامت عليه البيّنة إنّه يُحبّ علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك بنسخة اُخرى : مَنْ اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره».

«فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتّى أنّ الرجل من شيعة علي عليه‌السلام ليأتيه مَنْ يثق به فيدخل بينه فيلقى إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه ... فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي عليهما‌السلام ، فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبقَ أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض» (١).

وأجمل ذلك الإمام محمد بن علي بن الحسين الباقر عليه‌السلام ، فقال :

«وقُتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكلّ مَنْ يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله ، أو هدمت داره ، ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤ ـ ٤٦.

٦٣

ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين عليه‌السلام» (١).

* * *

وقد طبّق ولاة معاوية على العراق ـ مهد التشيّع لآل علي ـ هذه السياسة بوحشية لا توصف ؛ فقد استعمل زياد سمرة بن جندب على البصرة فأسرف هذا السفّاح في القتل إسرافاً لا حدود له ؛ فهذا أنس بن سيرين يقول لمَنْ سأله :

هل كان سمرة قتل أحداً؟ «وهل يُحصى مَنْ قتل سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة ، فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس ، فقال له ـ يعني زياداً ـ : هل تخاف أن تكون قتلت أحداً بريئاً؟ فردّ عليه قائلاً : لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت» (٢).

وقال أبو سوار العدوي :

«قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن» (٣).

واستقام سمرة في المدينة شهراً ؛ فهدم دور أهلها ، وجعل يستعرض الناس فلا يُقال له عن أحد إنّه شرك في دم عثمان إلاّ قتله (٣) ، وسبى نساء همدان ـ وهمدان من شيعة علي عليه‌السلام ـ وأقمن في الأسواق ، فكنّ أوّل مسلمات أُشترين في الإسلام (٥). وقد فعل ما فعل لدعم ملك معاوية ، وقال : «لعن

__________________

(١) المصدر السابق ١١ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) الطبري ٦ / ١٣٢.

(٣) الطبري ٦ / ١٢٢.

(٤) الطبري ٦ / ٨٠.

(٥) الاستيعاب ١ / ١٦٥.

٦٤

الله معاوية! والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذّبني أبداً» (١).

أمّا زياد بن سميّة فكان يجمع الناس بباب قصره يحرّضهم على لعن علي ، فمَنْ أبى عرضه على السيف (٢) ، وكان يعذّب بغير القتل من صنوف العذاب ، وتقدّمت إشارات إلى ذلك في كلام المدائني ، وهذا ابن الأثير يذكر لنا أنّه قطع أيدي ثمانين أو ثلاثين رجلاً من أهل الكوفة (٣) ، وقد نوى في آخر أيامه أن يعرض أهل الكوفة أجمعين على البراءة من علي ولعنه ، وأن يقتل كلّ مَنْ امتنع من ذلك ويخرب منزله ، ولكنّه مات قبل أن يُنفّذ هذه الفكرة (٤).

هذا كلّه بالإضافة إلى سياسة الترحيل والتشريد التي قصد بها إلى إضعاف المعارضة في العراق ـ وتقدّمت إشارة إليها في نصّ ابن أبي الحديد عن المدائني ـ فقد أنزل من الكوفيين وأُسرهم ـ وكانوا أعظم الثوار تشيعاً ـ خمسين ألفاً في خراسان (٥) ، وبذلك حطّم قوّة المعارضة في الكوفة وخراسان معاً.

* * *

هذا عرض موجز للسياسة التي تتناول حياة الناس وأمنهم ، وأمّا السياسة التي تتناول أرزاق الناس وموارد عيشهم فلا تقل قتامة وكلوحاً وإيغالاً في الظلم عن سابقتها.

فإنّ معاوية بعد أن تمّ له السلطان على البلاد الإسلاميّة في عام الجماعة عالن الناس بطبيعة الحكم الجديد في كلمته التالية :

__________________

(١) ابن الأثير : الكامل ٣ / ٢١٢.

(٢) المسعودي : مروج الذهب ٣ / ٣٥.

(٣) الكامل لابن الأثير ٣ ـ ٧٣.

(٤) شرح نهج البلاغة ٤ ـ ٥٨ ، ومروج الذهب ٣ ـ ٣٥.

(٥) بروكلمان : تاريخ الشعوب الإسلامية ١ ـ ١٢٨ ، وفيليب حتي : تاريخ العرب : ٢ ـ ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

٦٥

«يا أهل الكوفة ، أترون أنّي قاتلتكم على الصلاة ، والزكاة والحجّ ، وقد علمت أنّكم تُصلّون ، وتزكون وتحجّون ، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وألي رقابكم ، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إنّ كلّ دم اُصيب في هذه مطلول ، وكلّ شرط شرطته فتحت قدَمي هاتين».

وكان قد قال قبل ذلك لمّا تمّ الصلح : «رضينا بها ملكاً» (١).

وكان معاوية أميناً لمنهجه هذا ، فلم يحد عنه أبداً.

وشهدت الأمّة المسلمة من جوره وعسفه ما لم تعهد مثله في سالف أيّامها. وكان أوفر دهاء من أن يدع للمضطهدين منفذاً للتعبير عن سخطهم واستيائهم ، بل كان من البراعة بحيث حمل الكثيرين على وصفه بالحلم والكرم ، والإعجاب به لذلك. وترى كتب التاريخ والأدب حافلة بالحديث عن حلم معاوية وسخائه وبذله الأموال ، ولكنّ شيئاً من دقّة الملاحظة يكشف عن حقيقة الحال ؛ فإنّ هذا السخاء كان مقصوراً على حفنة من الناس لا يتعدّاها إلى غيرها من العامّة ممّن هم في أمس الحاجة إلى الدرهم. لقد كان سخاء معاوية مقصوراً على هذه الطبقة الإرستقراطية التي صعد على أكتافها إلى الحكم ، والتي استعان بما لها من نفوذ سياسي أو ديني في مؤامراته أو حروبه. وكانت هذه الطبقة مؤلّفة من زعماء القبائل الموالين له ، ومن بعض الأشخاص الذين قذفت بهم أحداث الإسلام الأولى مرغمين إلى صحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولولا ذلك لفضلوا أن يكونوا في صفوف أعدائه ، فتدفّقت الثروات الضخمة ، والعطايا الجزيلة على أفراد هذه الطبقة ، وحرم سائر الناس من مطالبهم الأساسية ، وطفق المحدّثون الرسميون (القُصّاص) يُذيعون في الناس سخاء معاوية وكرمه ، مستشهدين بهباته الجزيلة لفلان وفلان. وتناقل الرواة هذه الأحاديث حتّى سجّلها

__________________

(١) ابن الأثير : الكامل ٦ ـ ٢٢٠.

٦٦

المؤرّخون مفاخر له.

ولا يُغيّر من مغزى هذا شيئاً أنّ معاوية كان يهب بعض أعدائه القدماء أموالاً جزيلة ؛ فإنّ الذي ألجأ هؤلاء الأعداء إلى مسالمته وإن كان عجزهم عن المقاومة إلاّ إنّ هذا لا ينفي أنّهم كانوا قادرين على أن يشغبوا عليه إذا لم يستجب لمطالبهم ، ولم يكن عسيراً عليه إدراك أنّ من الأفضل له عدم إثارتهم بحرمانهم من الامتيازات الثابتة لهم بحكم كونهم زعماء قبليين.

ويجب علينا حين ندرس سياسة معاوية المالية أن نضع خطّاً فاصلاً بين الشام وبين سائر الولايات الإسلاميّة ؛ لأنّ الشام قد تمتّعت برخاء حقيقي ؛ والسرّ في ذلك هو أنّ جند الشام كان عماد معاوية في حروبه ، فلم يسعه إلاّ أن يسترضيه بالأموال. ونلاحظ أنّه كان يُنفق على جيشه الذي بلغ ستين ألف جندي ، ستين مليون درهم في السنة (١) ، على أنّه لا يفوتنا أن نلاحظ أنّ هذا الرخاء لم يكن من حظّ عرب الشام أجمع ، وإنّما كان لقبائل اليمن وحدها ، وأمّا قبائل قيس فكانت تُعاني شظف العيش ؛ لأنّه لثقته بولاء اليمن له لم يأبه لقيس ، فلم يفرض لها في العطاء إلاّ في وقت متأخّر بعد أن خشي على سلطانه من قوّة قبائل اليمن (٢).

وأما سائر الولايات الإسلاميّة فقد ذاقت الطبقات الفقيرة فيها طعم البؤس ، وعانت ألواناً من الاستعباد والإفقار ، بلا فرق في ذلك بين المسلمين وبين الداخلين في ذمّة الإسلام ، فقد اهتمّ معاوية بجمع المال دون أن يهتمّ بمصادره وأساليب جبايته ، واتّخذ من هيمنته على مصادر الجباية وبيت المال ذريعة إلى التحكّم في أعدائه المغلوبين على أمرهم ، والذين لا يقدرون على إزاحته عن الحكم.

وهناك بعض الشواهد على ما نقول. كتب معاوية إلى عمّاله بعد عام

__________________

(١) تاريخ الاسلام ١ ـ ٤٥٧.

(٢) زيدان : التمدن الإسلامي ٤ ـ ٧٤ ـ ٧٥.

٦٧

الجماعة :

«... انظروا إلى مَنْ قامت عليه البيّنة أنّه يُحبّ علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان ، واسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك بنسخة أخرى : مَنْ اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره» (١).

وكثيراً ما كان الأنصار يمكثون بلا عطاء ، ولا ذنب لهم إلاّ أنّهم ينصرون أهل البيت عليهم‌السلام (٢).

وكانوا إذا عصاهم أحد من المسلمين قطعوا عطاءه ولو كان العاصون بلداً برمّتها (٣).

وكان من جملة الأساليب التي اتّبعها معاوية لحمل الحسين عليه‌السلام على بيعة يزيد حرمان جميع بني هاشم من عطائهم حتّى يُبايع الحسين عليه‌السلام (٤).

وكتب إلى زياد بن سميّة عامله على العراق : «اصطف لي الصفراء والبيضاء».

فكتب زياد إلى عمّاله بذلك ، وأمرهم أن لا يُقسموا بين المسلمين ذهباً ولا فضّة (٥).

وكتب إلى وردان عامله على مصر :

أن زد على كلّ امرئ من القبط قيراطاً. ولكن وردان كان أعدل من معاوية ، فكتب إليه : «كيف أزيد عليهم وفي عهدهم ألاّ يُزاد عليهم؟» (٦).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ ـ ٤٤ ـ ٤٦.

(٢) و (٣) زيدان : التمدن السلامي ٤ ـ ٧٦.

(٤) ابن الأثير : الكامل ٣ ـ ٢٥٢ ، والإمامة والسياسة ١ ـ ٢٠٠.

(٥) زيدان : التمدن الإسلامي ٤ ـ ٧٩.

(٦) تاريخ الإسلام السياسي ١ ـ ٤٧٤.

٦٨

وكان ذلك هو شأنه في تحريض عمّاله على جمع الأموال ، وهم يخترعون الطرق للاستكثار منها (١). وفرض ضريبة على الأهالي تُقدّم إليه يوم النيروز ، فكان يُجبى منها عشرة ملايين درهم (٢) ، وهو أوّل مَنْ استصفى أموال الرعية (٣).

وها هو معاوية يُعطي عمرو بن العاص أرض مصر وأموالها وسكّانها المعاهدين ملكاً حلالاً له. وقد جاء في صك هذا العطاء : أنّ معاوية أعطى عمرو بن العاص مصر وأهلها هبة يتصرّف كيف يشاء ..!! مصر التي كتب علي بن أبي طالب للأشتر عامله عليها وثيقة تُعتبر من أعظم حقوق الإنسان على مدى العصور غدت عند معاوية سلعة تُباع وتُشترى. وهاك نموذجاً من سلوك عمرو بن العاص في مصر : سأله صاحب أخنا بمصر أن يُخبره بمقدار ما عليه من الجزية ، فأجابه :

«لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك ، إنّما أنتم خزانة لنا ، إن كثر علينا كثرنا عليكم ، وإن خفف عنّا خففنا عنكم» (٤).

وحين استولى معاوية على العراق نقل بيت المال من الكوفة إلى دمشق ، وزاد في جرايات أهل الشام ، وحطّ من جرايات أهل العراق (٥). وقد أوضح فلسفته في جميع المال بقوله :

«الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما آخذ من مال الله فهو لي ، وما تركته كان جائزاً لي».

وكان معاوية على أن يولي على العراق ـ موطن الولاء لآل البيت ـ أشخاصاً من أعداء آل البيت عليهم‌السلام ؛ ليضمن تنفيذ سياسة الإرهاب والإذلال

__________________

(١) و (٢) و (٣) زيدان : التمدن الإسلامي ٢ ـ ١٩.

(٤) زيدان ، التمدن الإسلامي ٤ ـ ٧٩ ـ ٨٠.

(٥) يوليوس ولهاوزن : الدولة العربية وسقوطها : ١٥٨.

٦٩

والتجويع في العراق بسهولة ، وليستطيع أن يمنح العراقيين امتيازات يعلم أنّ ولاته ـ بسبب من حقدهم ـ لا ينفذونها ، فيفوز بحسن السمعة دون أن يتخلّى عن مبادئه.

ونذكر نموذجاً لذلك هو أنّه أمر لأهل الكوفة :

«بزيادة عشرة دنانير في أعطيتهم ، وعامله يومئذ على الكوفة وأرضها النعمان بن بشير (٣) ، وكان عثمانياً ، وكان يبغض أهل الكوفة لرأيهم في علي عليه‌السلام ، فأبى النعمان أن ينفذها لهم ، فكلّموه وسألوه بالله فأبى أن يفعل.

ولمّا استرحمه عبد الله بن همام السلولي وطلب إليه في قطعة شعرية مؤثّرة أن ينجز لهم الزيادة ، قال :

«والله لا اُجيزها ولا اُنفذها أبداً» (١).

* * *

وهكذا حرم المسلمون من أموالهم لتُنفق هذه الأموال على الزعماء القبليين ، والقادة العسكريين ، وزمر الكذّابين على الله ورسوله.

وقد طُبّقت هذه السياسة ـ سياسة الإرهاب والتجويع ـ بالنسبة إلى المسلمين عموماً ، وبالنسبة إلى كلّ مَنْ اتّهم بحبّ علي وآله على الخصوص. لقد كان حبّ علي عليه‌السلام سرطان الحكم الأموي ، فعزموا على قطعه تماماً.

ويُقدّم لنا يوليوس ولهاوزن صورة مُعبّرة عن الآثار السياسيّة والاجتماعيّة التي خلّفتها هذه السياسة في المجتمع العراقي في ذلك الحين.

«لقد غُلب أهل العراق في صراعهم مع أهل الشام ... وضاع منهم دخل الأراضي التي استولوا عليها ، وصار عليهم أن يقبلوا باُجور هي فتات موائد

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني : الأغاني ، طبعة دار الكتب ج ١٦ / ٢٩ ـ ٣٢.

٧٠

أسيادهم ، وكانوا مغلوبين على أمرهم ، تغلبهم عليه تلك الصدقات التي هم محتاجون إليها ، والتي في يد الاُمويِّين تخفيفها أو إلغاؤها ، فلا عجب إذاً في أن يروا في حكم أهل الشام نيراً ثقيلاً ، وأن يتأهّبوا لدفعه متى سنحت الفرصة المواتية لهم بذلك.

وازدادت الضغينة على الاُمويِّين بسبب عدائهم للنبي والعقيدة الإسلاميّة بما انظمّ إليها من الشكاوى على السلطان التي أصبحت الآن شكاوى من الاُمويِّين ، وهم أصحاب السلطان ، وهي النقاط أنفسها تُعاد وتُكرر ؛ عمّال يسيئون استعمال سلطانهم ، وأموال للدولة تذهب إلى جيوب عدد قليل من الناس ، بينما لا يحصل غيرهم على شيء.

وكان زعماء القبائل والأسر في الكوفة يشاركون غيرهم منذ الأصل هذا الشعور ، بيد أن وضعهم الذي يُلقي بالمسؤولية على عاتقهم جنح بهم إلى أن يعتصموا بالحيطة والحكمة ، فلا يشرعون في القيام بثورة لا هدف لها ، بل يردون الجماهير عنها حين ينطلقون فيها ، وها هم أولاء باسم السلام والنظام يضعون نفوذهم تحت تصرّف الحكومة ؛ كيلا يُعرضوا وضعهم للأخطار ، وإذا هم يُصبحون أعداء أكثر فأكثر للشيعة الحقيقيين ، وأعداء لهم يشتدّ عداؤهم يوماً بعد يوم ، تلك الشيعة التي لم ينقض من تمسكها بورثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إخفاقها في تحقيق رغباتها ... بل زاد فيه. وكانت مقاومتها للإرستقراطية القبلية تُضيق الخناق عليها» (١).

__________________

(١) يوليوس ولهاوزن : الدولة العربية وسقوطها : ٥١ ـ ٥٢ و ٥٣ و ٥٦.

٧١

ـ ٥ ـ

ب ـ إحياء النزعة القبلية واستغلالها

دعا الإسلام إلى ترك التعصّب للقبيلة والتعصّب للجنس ، واعتبر الناس جميعاً سواء من حيث الإنسانيّة المشتركة ، وأقام مبادئه وتشريعاته على هذه النظرة الصائبة إلى الجنس البشري.

وفي الحديث :

«المؤمنون إخوة ؛ تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمّتهم أدناهم ، وهم يد على مَنْ سواهم».

وممّا روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في خطبته في حجّة الوداع :

«أيّها الناس ، إنّ الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وفخرها بالآباء ، كلكم لأدم وأدم من تراب ، ليس لعربيٍّ على عَجَميٍّ فضل إلاّ بالتقوى».

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«مَنْ قاتل تحت عَمية ، يغضب لعصبيّة ، أو يدعو إلى عصبيّةٍ ، أو ينصر عصبيّةً ، فقُتل ، قُتل قتلةً جاهليّة».

وقال الله تعالى مبيّناً في الكتاب الكريم المقياس الإسلامي في التفاضل :

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ

٧٢

لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١).

بهذه الروح الإنسانيّة الرحبة الآفاق دعا الإسلام إلى النظر إلى اختلاف القبائل والشعوب ، وبهذه الروح الإنسانيّة الرحبة حاول الإسلام أن يجعل من القبائل العربية المسلمة أمّة واحدة لا يمزّقها التناحر القبلي الجاهلي ، وإنّما تربط بين أفرادها أخوّة الإسلام ، ورسالة الإسلام ، وحاول أن يجعل من المسلمين جميعاً ـ على اختلاف أوطانهم ولغاتهم ـ أمّة واحدة متماسكة ، تجمعها وحدة العقيدة ، ووحدة الهدف والمصير.

وقد عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة حياته بأقواله وأعماله على تركيز هذه النظرة الإسلاميّة في وجدان المسلمين ، وجعلها حقيقة حيّة في تفكيرهم ، وتابعه على ذلك علي عليه‌السلام ؛ فعمل على تركيزها بأعماله وأقواله طيلة حياته ، بعد أن شهد عهد عثمان انحرافاً خطيراً عن هذه النظرة الإسلاميّة ، واتجاهاً خطيراً نحو الروح الجاهلي والعصبية القبلية التي اتّبعها هو وعمّاله (٢). ولا نزال حتّى اليوم نحس بحرارة نضال علي عليه‌السلام في هذا المجال ، وإنْ ما سلم من أيدي الحوادث من آثار علي عليه‌السلام الكلامية في هذا الموضوع على قلّته ليدلّنا على عمق النظرة التي نظر بها علي عليه‌السلام إلى التكوين القبلي للمجتمع ، ويدلّنا على وعيه لمدى خطر هذا التكوين القبلي على المجتمع

__________________

(١) الحجرات ـ ١٣ ـ

(٢) قد بيّنا في صدر هذه الرسالة أنّ الروح القبلية بُعثت في وقت مبكر جدّاً بالنسبة إلى هذا التاريخ. نعم ، يُعتبر عهد عثمان عهد استفحالها وظهور آثارها الوبيلة في المجتمع الإسلامي ، وقد ظهرت هذه العصبيّة من عثمان حينما حكّم بني اُميّة في رقاب الناس ، وقد اعتبر كثير من المسلمين في هذا العمل تعصّباً قبلياً مجافياً لروح الإسلام. ومن سعيد بن العاص والي الكوفة يوم قال في ملأ من رجال القبائل ردّاً على أحدهم : «إنّما السواد بستان لقريش». فردّ عليه الأشتر النخعي قائلاً : «أتزعم أنّ السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا لك ولقومك؟!». فوقعت الوحشة بين قريش وسائر القبائل من ذلك الحين. انظر : التمدن الإسلامي ـ زيدان ٤ / ٥٧ ـ ٥٨. أضف إلى هذا سلوك معاوية في الشام وعبد الله بن سعد بن أبي شرح في مصر ، وعبد الله بن عامر في البصرة.

٧٣

الإسلامي. ومن أبرز الآثار الباقية من كلامه في هذا الموضوع الخطبة القاصعة ، وهي وثيقة عظيمة الأهمية في الدلالة على وجهة نظره عليه‌السلام (١).

أمّا معاوية فقد استغل هذه الروح في ميدانَين ؛ فقد أثار بالقول والفعل العصبية القبلية عند القبائل العربية ليضمن ولاءها عن طريق ولاء زعمائها من ناحية ، وليضرب بعضها ببعض حين يخشاها على سلطانه من ناحية أخرى. وآثار العصبية العنصرية عند العرب عموماً ضدّ المسلمين غير العرب ، وهم الذين يُطلق عليهم المؤرّخون اسم الموالي.

ففي حياة علي عليه‌السلام سلك معاوية سبيل الدسّ والتآمر على حكم علي عليه‌السلام عن طريق إثارة الروح القبلية في سكّان العراق من القبائل العربية ، فتارة يُلوّح لزعماء هذه القبائل بالامتيازات الماديّة والاجتماعيّة التي يخصّ بها الزعماء القبليون في الشام ؛ ومن هنا صارت الشام ملاذاً لمَنْ يغضب عليه الإمام عليه‌السلام من هؤلاء الزعماء لجناية جناها ، أو خيانة خانها في عمله ، ومطمحاً لمَنْ يريد الغنى والمنزلة ، فيجد عند معاوية الإكرام والعطاء الجزل ، والمنزلة الاجتماعيّة الرفيعة.

وقد كتب الإمام علي عليه‌السلام إلى سهل بن حنيف (١) عامله على المدينة في شأن قوم من أهلها لحقوا بمعاوية :

«وإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا ، وَمُهْطِعُونَ إِلَيْهَا ، وَقَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَرَأَوْهُ ، وَسَمِعُوهُ وَوَعَوْهُ ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ فَهَرَبُوا إِلَى الأَثَرَةِ ، فَبُعْداً لَهُمْ وَسُحْقاً» (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة (نشر مكتبة الأندلس ـ بيروت) ٣ ـ ٢٣ ـ ٤٨ ، وراجع للمؤلف : دراسات في نهج البلاغة ـ طبعة النجف ١٩٥٦ ـ في فصلي (المجتمع والطبقات الاجتماعيّة) و (الوعظ) ففيهما دراسة مستوفاة من هذا الموضوع.

(٢) نهج البلاغة ٤ ـ ٧٣ ـ ٧٤.

٧٤

وقد كان معاوية يجد دائماً أشخاصاً من هذا النوع في مجتمع العراق ، وكان يتخلص بولائهم له ، وطمعهم فيما عنده من مآزق حرجة (١). وكان يتمتعّ بحس يوفّق به إلى إثارة هذه الروح في الوقت المناسب ، وبحيث يبدو فعله منسجماً مع ما يقتضيه الإنصاف والعدل ، كقوله لشبث بن ربعي وقد سفر عنده لعلي مع زعيمين آخرين من أهل العراق في صفين :

«أوّل ما عرفت به سفهك ، وخفّة حلمك قطْعك على الحسيب الشريف سيد قومه منطقه. يعني سعيد بن العاص الهمداني» (٢).

ومن ذلك ما كان منه في شأن النزاع الذي حدث حول رياسة كندة وربيعة ، فقد كانت للأشعث بن قيس الكندي ، فعزله عنها علي عليه‌السلام ودفعها لحسّان بن مخدوج من ربيعة ، فلمّا بلغ ذلك معاوية أغرى شاعراً كنديّاً يقول شعراً يهيج به الأشعث وقومه ، فقال شعراً عظّم به شأن الأشعث وقومه ، وهجا به حسّان وربيعة ، ولكنّ أهل اليمن فطنوا إلى ما يريد معاوية ، فقد قال شريح بن هانئ :

«يا أهل اليمن ، ما يريد صاحبكم إلاّ أن يُفرّق بينكم وبين ربيعة» (٣).

وهكذا نراه يسعى إلى أن يؤجج القبلية بين القبائل العربية ؛ فيلقي بينها العداوة والبغضاء ، ويثير فيها إحن الجاهليّة وأحقادها.

وأرسل معاوية في سنة (٣٨) للهجرة ابن الحضرمي إلى البصرة ليضرم الفتنة بين قبائلها بإثارة ذكريات حرب الجمل ، وقتل عثمان ، وقال له :

«فانزل في مضر ، واحذر ربيعة ، وتودّد الأزد ، وانع

__________________

(١) نصر بن مزاحم : كتاب صفين : ٨ ، ١٠٨ ، ٣٤٥ ، ٣٤٦.

(٢) المصادر السابق : ٢٠٩ ـ ٣١١.

(٣) كتاب صفين : ١٥٣ ـ ١٥٦.

٧٥

ابن عفان ، وذكّرهم الوقعة التي أهلكتهم ، ومن لمَنْ سمع وأطاع دنياً لا تفنى ، وأثرة لا يفقدها».

وقد وفق ابن الحضرمي إلى حدٍّ ما في إثارة إحن القبائل ، وكأنّما سرت هذه النار التي أججها ابن الحضرمي بين قبائل البصرة إلى قبائل الكوفة ؛ للقرابة النسبيّة التي بين القبائل هنا وهناك. فقال علي عليه‌السلام يخاطب قبائل الكوفة بهذه المناسبة من جملة كلام له :

«وإذا رأيتم الناس بينهم النائرة ، وقد تداعوا إلى العشائر والقبائل ، فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيف حتّى يفزعوا إلى الله ، وإلى كتابه وسنّة نبيّه ؛ فأمّا تلك الحميّة فإنّها من خطرات الشياطين ، فانتهوا عنها ـ لا أباً لكم! ـ تُفلحوا وتنجحوا» (١).

* * *

وحينما بويع معاوية بالخلافة لم تخضع له البلاد الإسلاميّة كلّها خضوعاً تامّاً ، فقد كان هنالك الشيعة الذين يوالون علياً وأهل بيته ، وكان هنالك الخوارج الذين يتّفقون مع الشيعة في عدائهم للاُمويِّين ، وكان هنالك قبائل العراق التي لم تنظر بعين الارتياح إلى نقل بيت المال إلى الشام ، وإلى تفضيل أهل الشام في العطاء على أهل العراق (٢). هذا مضافاً إلى أنّ كثيراً من المسلمين كانوا يرون في انتصار الاُمويِّين انتصاراً للوثنية على الإسلام ؛ لذلك كلّه كرهوا الاُمويِّين وغطرستهم ، وكبريائهم وإثارتهم للأحقاد القديمة ، ونزوعهم للرّوح الجاهليّة (٣).

ولقد واجه معاوية هذه الموجة العارمة من البغضاء التي قوبل بها حكمه

__________________

(١) الطبري : ٤ / ٨٤ ـ ٨٦ ، وشرح نهج البلاغة.

(٢) ولهاوزن ، الدولة العربية : ١٠٨.

(٣) تاريخ الإسلامي السياسي ١ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

٧٦

بأنماط متعدّدة من السلوك كان منها ـ ولعلّه أهمّها ـ ضرب القوى العقائدية المعادية للحكم الأموي بعضها ببعض ، وإثارة الرّوح القبلية على نطاق واسع يكفل له انشقاق القبائل بتأثير أحقادها الصغيرة ، ويخلق بينها حالة من التوتّر تجعل من المتعذّر عليها أن تتوحّد ، وأن تنظر إلى الحكم الأموي نظرة موضوعية ، وبذلك فاز معاوية بتفتيت المعارضة بعوامل داخلية تنبع من صميم المعارضة نفسها.

ولم تكن هذه السياسة هي اللون المفضّل عند معاوية بالنسبة إلى سائر القبائل فحسب ، بل كانت بهذه المنزلة عنده بالنسبة إلى أسرته الأموية ذاتها أيضاً ، ففد كان ـ كما يقول ولهاوزن ـ يسعى إلى أن يدخل القطيعة بين مختلف فروع الأسرة الأموية بالمدينة ليقضي بذلك على شوكتهم (١).

وإذا كانت هذه هي خطّته بالنسبة إلى أسرته ذاتها فليس لنا أن نطمع منه بسلوك أنبل بالنسبة إلى سائر القبائل التي كان يخشاها على سلطانه ؛ لأنّ الدوافع المشتركة كانت توحّدها في الوقوف ضدّه.

ولا يجد الباحث صعوبة كبيرة في اكتشاف هذا الخُلق في معاوية ؛ فتأريخه مليء بالشواهد عليه.

فبراعته في استغلال ما لشعراء عصره من تأثير عظيم في الرأي العام من أجل مصالحه الخاصّة جعلته يستغل هؤلاء الشعراء في هذا الميدان ، فيحرّضهم على القول في موضوعات الفخر والهجاء كالذي كان بين القبائل في الجاهليّة (٢).

ومن ذلك موقف شاعره الأخطل من الأنصار ، فقد واصل شعراء الأنصار هجاء معاوية على أساس ديني ، فردّ عليهم الأخطل بهجاء قبلي

__________________

(١) الدولة العربية / ١١٢ نقلاً عن الطبري ، وفي شرح نهج البلاغة ١١ / ١٩ نقلاً عن الجاحظ : «وكان معاوية يحبّ أن يغري بين قريش».

(٢) بروكلمان : تاريخ الشعوب الإسلامية ١ / ١٤٨ ، وأحمد أمين : قصة الأدب في العالم ١ / ٣٧٢.

٧٧

جاهلي ، ونظم فيهم قصيدته التي يقول فيها :

ذهبت قريش بالمكارم والعُلا

واللؤم تحت عمائم الأنصارِ (١)

ولا يصعب علينا أن نعرف الدوافع التي دفعت معاوية إلى اتّخاذ هذا الموقف من الأنصار ، فقد كانوا يقفون في صف المعارضة للحكم الأموي إلى جانب الأُسر القرشية البارزة التي أحفظها أن تفوز أميّة بالحكم دونها ؛ لأنّهم لم ينظروا بعين الارتياح إلى استيلاء أعداء الإسلام ونبيّه على الحكم بهذه السهولة ، ولعلّه قدّر أنّ إثارة الأحقاد القديمة التي خلّفتها حروب الإسلام القديمة كفيلة بأن تنال من هذا الاتّحاد بين الأنصار وبين المنافسين لأميّة من قريش.

ومن جهة أخرى نراه يسعى إلى تفتيت وحدة الأنصار بإثارة الأحقاد الجاهليّة التي كانت بين الحيين الأوس والخزرج ، فيضرب إحدى القبيلتين بالاُخرى. وقد توصّل إلى ذلك ببراعة ؛ فقد كان يوعز إلى المعنيين بإنشاد الشعر الجاهلي الذي تهاجت به القبائل قبل الإسلام. قال أبو الفرج الأصفهاني :

«كان طويس ولعاً بالشعر الذي قالته الأوس والخزرج في حروبهم ، وكان يريد بذلك الإغراء ، فقلّ مجلس اجتمع فيه هذان الحيّان فغنى فيه طويس إلاّ وقع فيه شيء ... فكان يُبدي السرائر ويُخرج الضغائن» (٢).

وهذا عبد الله بن قيس الغطفاني ، من قيس عيلان اعتدى على كثير بن شهاب الحارثي ، فكتب ناس من اليمانية إلى معاوية أنّ سيدنا ضربه

__________________

(١) أحمد الشايب : تاريخ الشعر السياسي : ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

(٢) الأغاني (طبعة الساسي) ٢ / ١٧٠ ، وتأريخ الإسلام السياسي ١ / ٥٣٥. وفجر الإسلام : ٢٨٠.

٧٨

خسيس من غطفان ، فإن رأيت أن تُقيدنا من أسماء بن خارجة. فحمّقهم معاوية. وقال كثير بن شهاب : والله لا أستقيدها إلاّ من سيد مضر. فغضب معاوية ، وأمّن عبد الله وأطلقه ، وأبطل ما فعله بابن شهاب فلم يقتصّ ولا أخذ له عقلاً (١).

وحين تعرف أنّ أشدّ الناس إخلاصاً لعلي عليه‌السلام في العراق كانوا من قبائل اليمن ، يتّضح لنا لماذا يتعصّب معاوية لمضر العراق على يمن العراق. هذا بالإضافة إلى أنّ السلطة حين تكفّ عن أن تكون حكماً بين القبائل في منازعاتها تسعى هذه القبائل إلى أن تقتصّ لنفسها ، وتتناحر فيما بينها ، وهي النتيجة التي يطمح إليها معاوية.

أمّا في الشام فتراه يتعصّب لليمن على مضر ؛ فقد تقرّب إلى قبيلة كلب اليمانية فتزوّج ميسون اُمّ يزيد ، وهي ابنة بجدل زعيم قبيلة كلب ، وزوّج ابنه يزيد من هذه القبيلة أيضاً. وقد اعتمد حروبه ومؤامراته على هذه القبيلة وعلى قبائل اليمن الأخرى : عكّ ، والسكاسك ، والسكون ، وغسّان وغيرها ، واضطهد مضر الشام فلم يفرض عطاءً لقيس وهي من مضر ؛ لثقته العظيمة بكفاءة أنصاره اليمانيين. وهكذا مسكين الدارمي ، وهو شاعر يخشى لسانه ويُرجى ، طلب من معاوية أن يفرض له في العطاء فلم يجبه إلى ذلك ؛ لأنّه مضري ، فقال شعراً يرقق به قلب معاوية فلم يلتفت إليه. وقد سببت هذه المحاباة اعتزاز اليمن ، فاشتدّ بأسها ، واستطالت على الدولة ، وتضعضعت قيس وسائر عدنان ، وسمع معاوية كلمة من بعض أهل اليمن أثارت مخاوفه ، فرأى أن يضرب اليمانيين بالمضريِّين ، ففرض من وقته لأربعة آلاف من قيس وغيرها من عدنان ، وبعث إلى مسكين يقول له :

«لقد فرضنا لك وأنت في بلدك ؛ فإن شئت أن تقيم بها

__________________

(١) تاريخ الشعر السياسي : ١٦٠ ـ ١٦١.

٧٩

أو عندنا فافعل ؛ فإنّ عطاءك سيأتيك» (١).

* * *

ولقد كانت سياسة عمّال معاوية على أمصار الدولة هي سياسة معاوية نفسه ، فيعمد الوالي إلى إثارة العصبيات القبلية فيما بين القبائل ؛ ليشغلها عن مراقبته والاتّحاد ضدّه ، بالتناحر عنده فيما بينها ، وقد لاحظ ولهاوزن هذه الظاهرة ، وقال عنها :

«... وأججّ الولاة نار هذه الخصومة ـ يعني الخصومة بين القبائل ـ ولم يكن تحت تصرّف الولاة إلاّ شرطة قليلة ، وفيما سوى ذلك كانت فرقهم من مقاتلة المصر ، وهي قوّة الدفاع في القبائل ، حتّى إذا أحسنوا التصرّف تهيّأ لهم أن يضربوا القبائل بعضها ببعض ، وأن يثبتوا مركزهم بينهم. وكثيراً ما كان يحدث أنّ الوالي يعتمد على إحدى القبائل ضدّ الأخرى ، وبوجه عام على قبيلته التي أتى بها معه ، حتّى إذا أتى والٍ جديد أتت قبيلة أخرى إلى الحكم ، وينتج من ذلك أنّ القبيلة التي نُحّيت عن الحكم تُصبح عدوّاً لدوداً للقبيلة التي تحكم ، وهكذا أضحت الميزات القبلية ملطّخة بالسياسة والخصام على الغنائم السياسيّة» (٢).

__________________

(١) زيدان : التمدن الإسلامي ٤ / ٧٤ ـ ٧٥. وقد جنى معاوية من فعله هذا ولاء مسكين الدارمي ، وها هو يزين له استخلاف يزيد بقوله :

ألا ليتَ شعري ما يقول ابنُ عامرٍ

ومروانُ أم ماذا يقول سعيدُ

بني خلفاء اللهِ مهلاً فإنّما

يُبوّئها الرحمان حيث يريدُ

إذا المنبرُ الغربيُّ خلاه ربُّه

فإنّ أميرَ المؤمنين يزيدُ

تأريخ الشعر السياسي : ٢٤١. ولا يفوتنا أن نلاحظ أنّ البيت الأوّل يشهد لهذا التناحر الذي كان يعمل عمله في صميم الأسرة الاُمويّة. ويشير إلى الأسماء البارزة في هذا الصراع : عبد الله بن عامر ، ومروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص.

(٢) ولهاوزن : الدولة العربية : ٥٨.

٨٠