ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين

ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

المؤلف:

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المؤسسة الدوليّة للدراسات والنشر
الطبعة: ٧
الصفحات: ٢٢٩

وقد جدّت إلى جانب هذه الطّبقة الثريّة طبقة أُخرى فقيرة ، لم تملك أرضاً ولا مالاً ، وليس لها عطاءات ضخمة ، تلك هي طبقة الجنود المُقاتلين وأهلهم وذراريهم. وقد تكوّنت هذه الطبقة باستئثار عثمان وعمّاله بالفيء والغنائم لأنفسهم والمُقرّبين منهم ، وحرمان المقاتلين منها ؛ مدّعين أنّ الفيء لله وليس للمحارب إلاّ أجر قليل يُدفع إليه (١).

أمّا السّواد ، سواد العراق ، فهو ـ على حدّ تعبير سعيد بن العاص والي عثمان على الكوفة ـ

«بُستان لقريش ، ما شئنا أخذنا منه وما شئنا تركناه» (٢).

وأمّا أموال بيت المال فقد قال عثمان نفسه عنها :

«لنأخُذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أُنوف أقوام» (٣).

ومضت الأيّام ، والأحداث تزيد الهُوّة اتّساعاً بين هاتين الطبقتين ؛ فبينما تزداد الطّبقة الإرستقراطية الثريّة ثراء وتسلّطاً ، وتُمعن في اللهو والبطالة والعبث بحيث يُشارك بعض أولاد الخليفة نفسه في اللهو الحرام والمجون (٤) ، تُزداد الطّبقة الأُخرى فقراً وإحساساً بهذا الفقر.

ولم يكن المُسلمون بحاجة إلى وقت طويل ليتبيّن لهم أنّهم حين بايعوا عثمان قد سلّموا السّلطان الفعلي على المُسلمين إلى آله وذوي قرابته من بني

__________________

(١) حسن ابراهيم حسن : تاريخ الإسلام ١ / ٣٥٨.

(٢) المسعودي : مروج الذهب ٢ / ٣٤٦.

(٣) ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٣ / ٤٩.

(٤) «قُتل عثمان وابنه الوليد ـ وكان صاحب شراب وفتوّة ومجون ـ وهو مُخَلق الوجه ، سكران ، عليه مصبغات واسعة». مروج الذهب ٢ / ٣٤١. والمعارف لابن قتيبة (دار الكتب ١٩٦٠) ٢٠٢.

٤١

أُميّة وآل أبي معيط ؛ فقد اتّضح في وقت مبكّر أنّ عثمان ليس إلاّ واجهة يكمن خلفها الاُمويّون. وسرعان ما عزّزت الأحداث هذا ؛ وذلك إنّ عثمان أسند إلى آله وذويه الولايات الكبرى في دولة الخلافة ، وهي : البصرة والكوفة ، والشام ومصر ، وهذه الولايات الكبرى الأربع هي الولايات ذات المنزلة العظيمة في الحرب والاقتصاد والاجتماع. فهي مركز الثروة المالية ، والزراعية لدولة الخلافة منها تُحمل الأموال والأقوات ، وهي مركز تجمّع الجيوش الإسلاميّة الوافدة من شتى بقاع الدولة ، وهي مركز عمليات الفتح الكبرى التي كانت إذ ذاك لا تزال في أوجها ، وما عدا هذه الولايات فذو شأن ثانوي لا يُؤبه له ، ولا يُلتف إليه.

لقد ولّى عثمان على البصرة ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز ، وعمره خمس وعشرون سنة ، وولّى على الكوفة أخاه الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ثمّ عزله تحت ضغط الرأي العام بعد أن ثبت عليه شرب الخمر والتهتّك ، وولّى مكانه سعيد بن العاص ، وكان معاوية عاملاً لعمر على دمشق والأردن فضمّ إليه عثمان ولاية حمص ، وفلسطين ، والجزيرة ، وبذلك مدّ له في أسباب السّلطان إلى أبعد مدى مُستطاع ، وولّى مصر أخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح.

كان هؤلاء الولاة جميعاً من قرابة عثمان ، ولم يكن سلوكهم الديني أو الإداري أو هما معاً في أمصارهم ومع رعيتهم مُرضياً ومقبولاً ؛ فقد كانوا جميعاً من قريش ، وكانوا في تصرّفاتهم لا يخفون قبليتهم وتعصّبهم على غير قريش من قبائل العرب ؛ ففي الكوفة تجبّر سعيد بن العاص وتعصّب لقريش ، وقال :

«إنّما السّواد بُستان لقريش ما شئنا أخذنا منه وما شئنا تركناه».

فلمّا اعترضه المسلمون من غير قريش نفاهم إلى الشام ، وإذا بمعاوية

٤٢

يناظرهم في فضل قريش وتقدّمها على سائر المسلمين ، فلمّا أنكروا عليه ذلك نفاهم إلى الجزيرة ـ وأميرها من قبل معاوية عبد الله بن خالد بن الوليد المخزومي ـ فأذلّهم ، وأظهر لهم سيادة قريش بامتهانه لهم ، وتحقيره لشأنهم ، وحطّه من مقامهم وفي مصر قسا عبد الله بن سعد في جباية الخراج ، فظلم وأسرف في الظلم ، ثمّ أظهر من العصبيّة لقريش ما أثار غير قريش من العرب المسلمين ودفعهم إلى أن يشكوه إلى عثمان ، فلمّا كتب إليه عثمان يأمره بالإقلاع عمّا هو عليه عدا على الشهود فعاقبهم ، وضرب رجلاً منهم حتّى قتله.

ولم يكن ولاة عثمان هؤلاء من ذوي السابقة في الدين والجهاد في الإسلام ، وإنّما كانوا متّهمين في دينهم ، بل كان فيهم من أمره في الفسق ورِقّة الدين معروف مشهور. كان فيهم عبد الله بن سعد الذي بالغ في إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والسُّخر منه ، وبالغ في الهُزء بالقرآن حتّى نزل القرآن بكفره ، والوليد بن عقبة ممّن أمره في الفُسق معروف مشهور ، وقد نزل فيه قرآن يُعلن فسقه.

وكان المُسلمون ـ أعيانهم وعامّتهم ـ يُراجعون عثمان في شأن هؤلاء الولاة من أقاربه ، ويطلبون منه عزلهم فلا يعزلهم ، ولا يسمع فيهم أيّة شكوى إلاّ كارهاً.

هذه السياسة التي سلكها عثمان في الولايات أثارت عليه وعلى عهده موجة عامّة من السّخط بين المسلمين ؛ لِما رأوه فيه من عصبية قبلية يمارسها هو وولاته من قريش.

وأثارت عليه سخط المسلمين والمعاهدين من غير العرب ؛ لِما عوملوا به من امتهان وقسوة من قبل ولاته وعمّاله.

وأثارت عليه سخط الصحابة ؛ لأنّه ولّى أمور المسلمين وأموالهم وأبشارهم هؤلاء الغُلمة القرشيين الذين لا يحترمون الدين ولا يأبهون له ،

٤٣

والذين يظلمون دون أن يَردوا من قِبل عثمان.

وأثارت عليه سخط الأنصار ؛ لأنّهم حُرموا من الولايات بعد أن وعُدوا بأن يكونوا شركاء في الحكم ، ولم ينس الأنصار يوماً أنّ سيوفهم وقتلاهم وأموالهم هي التي بوّأت قريشاً هذه المنزلة.

وأثارت سخط شباب قريش والطامحين إلى الحكم من أعضاء الشورى ؛ لأنّهم أُهملوا ولم ينالوا ولاية من هذه الولايات.

* * *

ولقد كان سُلوك عثمان إزاء مُعارضي سياسته في المال والإدارة من كبار الصحابة سبباً في مُضاعفة النّقمة عليه في قريش وفي عامّة المسلمين ، وعاملاً مهمّاً من عوامل تعقيد الأزمة التي عاناها عثمان وعاناها المسلمون في عهد عثمان.

فقد عارض سياسة عثمان في المال والإدارة عبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة ، وكان خازناً لبيت المال ، فاعترضه عثمان بقوله : «إنّما أنت خازن لنا».

ثمّ اشتدّت معارضة ابن مسعود فأمر عثمان بضربه حتّى كسر بعض أضلاعه.

وعارضه أبو ذرّ الغفاري فنفاه إلى الشام ، فلم يكُفّ عن المُعارضة ، بلأمدته أساليب معاوية في الناس بمادة جديدة ، فأخذ ينتقد أساليب معاوية في إنفاق الأموال العامّة ، وصادف كلامه هوى في نفوس رعية معاوية ، فكتب بشأنه إلى عثمان ، فأرسل إليه عثمان :

«أرسل إليّ جندباً ـ وهذا اسم أبي ذرّ ـ على أغلظ مركب وأوعره».

فوصل أبو ذرّ إلى المدينة وقد تآكل لحم فخذيه من عنف السير ، ولكنّه لم

٤٤

يكُفّ عن المعارضة أيضاً ، فنفاه عثمان إلى الربذة ، ولبث فيها حتّى مات غريباً وحيداً سنة ٣٢ هـ.

وعارضه عمّار بن ياسر حليف بني مخزوم ، فشتمه عثمان وضربه حتّى غُشي عليه سائر النهار ، ولكنّ هذا العنف لم يثنِ عماراً فاستمر في معارضته ، فشتمه عثمان وأمر به فطرح على الأرض ، ووطئه برجليه وهما في الخف حتّى أصابه الفتق.

وعارضه غير هؤلاء من الصحابة من المهاجرين والأنصار في الأحداث التي كان يقدم عليها ، والسياسة التي كان ينتهجها ، فلم يسمع منهم ولم يستجيب لهم.

وقد كانت هذه المُعارضة تشيع في المسلمين فينتظرون من عثمان أن يستجيب لها ؛ لأنّها كانت معارضة قائمة على إدراك حاجات المجتمع ، وكانت تعبيراً عن عدم رضا المسلمين عن السياسة التي كانوا يُساسون بها ، ولكنّهم بدل ذلك كانوا يرون ويسمعون أنّ عثمان وآله قد نكّلوا بالمعارضين هذا التنكيل الشديد ، ومسّوهم بهذا الأذى البالغ ، ولم يستجيبوا إلى شيء ممّا دعوا إليه.

وقد أثار موقفه هذا سخط عامّة المسلمين ؛ فهؤلاء المعارضون من أعلام الصحابة وأركان الدعوة ، يمتهنهم عثمان ويضطهدهم لدعائهم إيّاه إلى الإصلاح في الوقت الذي يسمع فيه من مروان بن الحكم وأشباهه من بني أُميّة وأنصارهم من مسلمة الفتح الطلقاء ، الذين ليس لهم سابقة ولا مكانة في الإسلام. وهؤلاء المعارضون كانوا يعبّرون بمعارضتهم هذه عن إرادة جميع المسلمين الذي آذتهم سياسة عثمان في كراماتهم وأرزاقهم ، ولم يُفسّر المسلمون موقف عثمان من المعارضين إلاّ بأنّه عازم على المضي في سياسته دون الالتفات إلى أيّ نُصح أو تحذير.

وإلى جانب هذه المعارضة الصادقة المخلصة ، الهادفة إلى خير المسلمين

٤٥

جميعاً كانت توجد معارضة أخرى مدفوعة بأسباب مُغايرة ، وتستهدف نتائج مُغايرة. وقد رأى زعماء هذه المعارضة في فساد الأوضاع العامّة ، وشيوع التذمّر والنقد فرصة يستغلّونها لاستعجال نهاية عهد عثمان التي تُمكّنهم من الوصول إلى مآربهم ، فأخذوا يُساهمون في نشر رُوح التذمّر وتعميقها.

وقد مكّن عثمان بسياسته الإدارية لهذه الطائفة من معارضيه أسباب القوّة والنفوذ ؛ وذلك حين أطلق لها أن تُنمي ثرواتها إلى أبعد مدى بإجرائه الذي قدّمنا الحديث عنه في الأراضي ، وتكوين الإقطاعات الضّخمة ، وحين أطلق لها أن تُغادر المدينة إلى البلاد المفتوحة ؛ حيث راح أفرادها يستكثرون لأنفسهم من الأموال ، ويستكثرون من الأتباع ، ويُمنّون أنفسهم بالوصول إلى الخلافة ، ويمنّيهم بذلك أتباعهم وقبائلهم.

وقد أشار الطبري في أحداث سنة خمس وثلاثين إلى هذه الحقيقة فقال :

«كان عمر بن الخطّاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلاّ بإذن وأجل (١).

فلمّا ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر ، فانساحوا في البلاد ، فلمّا رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس انقطع مَنْ لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام فكان مغموراً في الناس ، وصاروا أوزاعاً إليهم ، وأمّلوهم وتقدّموا في ذلك ، فقالوا يملكون فنكون قد عرفناهم ، وتقدّمنا في التقرّب والانقطاع إليهم ، فكان ذلك أوّل وهن دخل على الإسلام ، وأوّل فتنة كانت في العامّة ليس إلاّ ذلك» (٢).

__________________

(١) قال عمر لمّا استأذنه الزبير بن العوام في الغزو «ها إنّي ممسك بثياب هذا الشعب أن يتفرّق أصحاب محمد في الناس فيُضلّوهم» شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٠.

(٢) الطبري ٥ / ١٣٤.

٤٦

وقال في موضع آخر :

«... فلمّا ولي عثمان خلى عنهم ، فاضطربوا في البلاد ، وانقطع إليهم الناس ...» (١).

* * *

فإذا لاحظنا أنّ عثمان فتح باب الهجرة أمام قريش فانساحوا في البلاد يستصلحون الأموال ، ويُكوّنون الثروات ، ويجمعون حولهم الأنصار بالمال ، والأصهار إلى قبائل العرب ، وبسمعتهم الدينية التي جاءتهم من صحبتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسبقهم إلى الإسلام ، وجهادهم في سبيله. وإنّ سلوك عمّال عثمان على الأمصار الكبرى ، وسلوك عثمان نفسه في المدينة مع ناصحيه والمشفقين عليه ، وعلى الناس من سلوكه ، كان يُقدّم للمسلمين أسباب التذمّر والشكوى ، وأنّ هؤلاء الصحابة من قريش كانوا يرون هذا ويسمعونه ويشاركون فيه ، فإذا أضفنا إلى ذلك ما خلّفه تدبير الشّورى لدى هؤلاء من طموح إلى الخلافة ، وسعي في سبيلها ... إذا لاحظنا هذا كلّه اتّسقت لأعيننا الخطوط البارزة ، والعوامل الأساسية في ثورة المسلمين على عثمان وعلى عهده :

طبقة ارستقراطية دينية كوّنتها السقيفة بما بعثت من مركز قريش ، غدت ـ بالإضافة إلى ارستقراطيتها الدينية ـ تتمتّع بثروات طائلة بسبب مبدأ التفضيل في العطاء ، وسياسة عثمان في المال ، والأرض ، والهجرة ، وقد كوّن مبدأ الشّورى في نفوس كثير من أفرادها الطموح إلى الحكم ممّا دفعهم إلى استغلال كلّ الظروف المواتية للوصول إلى هذا الهدف ، يُقابل هذه الطبقة طبقة المحاربين والمسلمين الجُدد المحرومة من كافة الامتيازات ، والتي كانت أسباب تذمّرها مُتوفّرة.

__________________

(١) الطبري ٥ / ١٣٤.

٤٧

لقد كانت جماهير المحاربين هي مادة الثورة ، أمّا وقودها فهو تصرّفات عثمان وولاته وآل بيته ، وأمّا الذي أجّجها فهم أصحاب المصلحة فيها. هم هؤلاء الزعماء الذين أوتوا من الطموح ما جعل الخلافة هدفهم ، ومن المال والمنزلة الدينية ما مكّنهم من جمع الأنصار حولهم ، ومن سوء الأوضاع ما سهّل عليهم أن يعدّوا الناس بخير ممّا هم فيه.

* * *

وقد تمخّضت هذه الملابسات والظروف السيئة عن حركة عامّة ، إن فقدت النظام بالمعنى الحزبي الدقيق ، فإنّها لم تفقد وحدة الأفكار الدافعة ، والأهداف المشتركة.

وقد سلك عثمان وبطانته من الاُمويِّين والمنتفعين تجاه هذه الحركة سلوكاً بعيداً عن الحكمة والعدل ؛ فبدلاً من أن تُجاب مطالب الثوّار رُدوا بعنف ، واستُهين بهم ، وجوبهوا بسياسة قاسية هي هذه السياسة التي تمخّض عنها مؤتمر عثمان مع عمّاله على الأمصار ، والتي قدّم لنا الطبري صورة عنها :

«... فقال له عبد الله بن عامر : رأيي يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تُجمرهم في المغازي حتّى يذلّوا لك ، فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه ، وما هو فيه من دُبرة دابته ، وقمّل فروه ... فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم ، وأمرهم بالتّضييق على مَنْ قبلهم ، وأمرهم بتجمير (١) الناس في البعوث ، وعزم على تحريم (٢) اُعطياتهم ؛ ليطيعوه ويحتاجوا إليه» (٣).

__________________

(١) جمر الناس : جمعهم. وجمر الجيش : حبسهم في أرض العدو ولم يقفهم (قاموس). انظر : لسان العرب ٤ / ١٤٦. يريد عثمان من عمّاله أن يجمعوا الناس في البعوث العسكرية الطويلة الأمد ، لا يردّوهم إلى أوطانهم.

(٢) حرم : منع.

(٣) انظر : تأريخ الطبري ٣ / ٣٧٣ ـ ٣٧٤.

٤٨

ولكنّ هذه الإجراءات العنيفة زادت نار المقاومة اشتعالاً ، بدل أن تُخفّف من شدّتها ؛ فقد رأى هؤلاء المحاربون الفقراء أنّهم خُدعوا ، فتكتّلوا من الكوفة والبصرة ، ومصر والحجاز ، ومن هنا وهناك للقيام بمسعى جماعي لإرغام عثمان على تغيير بطانته التي اعتبروها مسؤولة عن كثير من المآسي ، وتبديل عمّاله الذي أساؤوا السيرة ، وجاروا على الرعية ... وتغيير سياسته المالية. وبينما كان علي بن أبي طالب عليه‌السلام يُسفر بين الثوار وبين الخليفة ، فيُهدئ من ثورة اُولئك ، وينبّه عثمان وينصحه بالاستقامة والعدل ، نرى أنّ الآخرين من الطامحين إلى الخلافة ينتهزون فرصة ثورة الجماهير للوصول إلى هدفهم ، فيؤجّجون الثورة ، ويزيدون النّقمة اشتعالاً ، ويبذلون الأموال الطائلة في تمويل الثورة ، واصطناع قادتها ، وتسليح أفرادها.

وبلغت المأساة قمّتها بمقتل عثمان.

٤٩

ـ ٣ ـ

وجاء الناس إلى الإمام علي عليه‌السلام يطلبون منه أن يلي الحكم ، ولكنّه أبى عليهم ذلك ؛ لا لأنّه لم يأنس من نفسه القوّة على ولاية الحكم وتحمّل تبعاته ، فقد كان عليه‌السلام على تمام الأُهبة لذلك ، كان قد خبر المجتمع الإسلامي من أقطاره ، وخالط مُختلف طبقاته ، وراقب حياتها عن كثب ، ونفذ إلى أعماقها ، وتعرّف على الوجدان الطبقي الذي يشدّها ويجمعها.

وقد مكّنه من ذلك كلّه المركز الذي كان يتمتّع به من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو وزيره ونجيّه ، وأمين سرّه ، وقائد جيوشه ، ومنفّذ خططه ، ومعلن بلاغاته ... هذه المنزلة الفريدة التي لم يتمتّع بها أحد من الصحابة أعدّته إعداداً تامّاً لمهمّة الحكم. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يبتغي من وراء إناطة هذه المهام كلّها به إعداده للمنصب الإسلامي الأوّل ليصل إليه وهو على أتمّ ما يكون أهلية واستعداداً. ولقد غدا من نافلة القول أن يُقال : إنّه هو الخليفة الذي كان يجب أن يلي حكومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المجتمع الإسلامي.

وإذا لم يقدر له أن يصل إلى الحكم بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه لم ينقطع عن الحياة العامّة ، بل ساهم فيها مساهمة خصبة ؛ فقد كان أبو بكر ، ثمّ عمر ، ومن بعدهما عثمان لا يسعهم الاستغناء عن آرائه في القضاء والسياسة والحرب ، وخاصّة في خلافة عثمان ؛ فقد كان على أتمّ الصّلة بالتيّارات التي تمخُر المجتمع الإسلامي ، ولكنّ عثمان لم ينتفع كثيراً بالتوجيه الذي كان الإمام يُقدّمه ؛ لأنّ بطانته المعروفة كانت تأبى عليه ذلك.

ولقد رأى أنّ المجتمع الإسلامي قد تردّى في هوّة من الفوارق الاجتماعيّة والاقتصادية التي زادت عمقاً وحدّة ، بسبب السياسة غير

٥٠

الحكيمة التي اتّبعها ولاة عثمان مدّة خلافته ، ورأى أنّ التوجيهات الدينية العظيمة التي عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة حياته على إرساء أصولها في المجتمع الإسلامي الناشئ قد فقدت فاعليتها في توجيه حياة الناس.

وإنّما صار الناس إلى واقعهم هذا ؛ لأنّهم فقدوا الثقة بالقوّة الحاكمة التي تُهيمن عليهم ، فراحوا يسعون إلى إقرار حقوقهم وصيانتهم بأنفسهم ، وهكذا انقطعت الصلة بينهم وبين الرموز المعنوية التي يجب أن تقود حياتهم ، والسبيل إلى تلافي هذا الفساد هو إشعار الناس أنّ حكماً صحيحاً يهيمن عليهم لتعود إلى الناس ثقتهم الزائلة بحكّامهم ، ولكنّ هذا لم يكن سهلاً قريب الجنى ، فثمّة طبقات ناشئة لا تُسيغ مثل هذا ؛ ولذلك فهي حريّة بأن تقف في وجه كلّ منهج إصلاحي ومحاولة تطهيرية.

وإذاً فقد كان علي عليه‌السلام يُدرك ـ نتيجة لوعيه العميق للظروف الاجتماعيّة والنفسية التي كانت نجاح المجتمع الإسلامي في ذلك الحين ـ أنّ المدّ الثوري الذي انتهى بالأمور إلى ما انتهت إليه بالنسبة إلى عثمان يقتضي عملاً ثورياً يتناول دعائم المجتمع الإسلامي من النواحي الاقتصادية والاجتماعيّة والسياسية ، ولمّا كانت البيعة عقداً حقيقياً يستتبع مسؤوليات وواجبات وحقوقاً لكلّ من الراعي والرعية (١).

لذلك امتنع من الاستجابة الفورية لضغط الجماهير والصحابة عليه بشأن قبول بيعتهم له بالخلافة ، فقد أراد أن يضعهم أمام اختبار يكشف به مدى استعدادهم لتحمّل أسلوب الثورة في العمل ؛ لئلاّ يروا فيما بعد أنّه استغفلهم ، واستغلّ اندفاعهم الثوري حين يكشفون صعوبة الشروط التي يجب أن يُناضلوا الفساد الذي ثاروا عليه في ظلّها.

من أجل هذا قال لهم :

__________________

(١) وقد حدد علي هذه الحقوق في مناسبة قاسمية من مناسبات حياته. وذلك بعد صفين ، في خطبة له ، نهج البلاغة ١ / ١٠٢ ـ ١٠٥.

(٢) انظر : نهج البلاغة / الخطبة ٩٢.

٥١

«دَعُونِي وَالْتَمِسُوا غَيْرِي ؛ فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ ، لا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ ، وَلا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ ، وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ ، وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ، وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً» (١).

ولكنّ الناس أبَو عليه إلاّ أن يلي الحكم ، فاستجاب لهم.

وما أن بويع حتّى عالنهم بسياسته التي قرّر أن يتّبعها من أجل تحقيق الأهداف التي قبل الحكم لأجلها. ولم تكن هذه السياسة شيئاً مرتجلاً اصطنعه لنفسه يوم ولي الخلافة ، وإنّما كانت منهجاً مدروساً ، ومنتزعاً من الواقع الذي كان يعانيه المجتمع الإسلامي آنذاك ، ومعدّة للسّير بهذا المجتمع إلى الأمام ، ومُهيّأة لتنيل هذا المجتمع المطامح التي كان يحلم بها ويصبو إليها.

* * *

وقد تناولت إصلاحات الإمام الثورة ثلاثة ميادين :

الإدارة.

والحقوق.

والمال.

ففيما يرجع إلى سياسة الإدارة أصرّ على عزل ولاة عثمان على الأمصار ، هؤلاء الولاة الذين كانوا من الأسباب الهامّة في الثورة على عثمان ؛ لظلمهم وبغيهم ، وعدم درايتهم بالسياسة وأصول الحكم. وقد كلّمه المغيرة بن شعبة في شأن ولاة عثمان ، فأشار عليه بأن يُثبت هؤلاء الولاة

__________________

(١) نهج البلاغة : ١ / ٢١٧.

٥٢

على أعمالهم ، ولكنّه أبى عليه ذلك وعزلهم ، وكلّمه طلحة والزبير في شأن الولاية على الكوفة والبصرة فردّهما ردّاً رفيقاً ، وولّى رجالاً من أهل الدين ، والعفّة والحزم ، فولّى على البصرة عثمان بن حُنيف (١) ، وعلى الشام سهل بن حُنيف ، وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة ، وثبّت أبا موسى الأشعري على الكوفة ، وهذه هي الأمصار الكبرى في دولة الخلافة حينذاك. وقد أصاب هذا الإجراء قريشاً بضربة قاصمة في كبريائها ، وسلطانها ونفوذها ؛ لأنّ هؤلاء جميعاً من غير قريش.

وقد قال في شأن ولاة عثمان ومَنْ لفّ لفّهم :

«... وَلَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَفُجَّارُهَا ، فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلاً ، وعِبَادَهُ خَوَلاً ، وَالصَّالِحِينَ حَرْباً ، وَالْفَاسِقِينَ حِزْباً ؛ فَإِنَّ مِنْهُمُ الَّذِي قَدْ شَرِبَ فِيكُمُ الْحَرَامَ ، وَجُلِدَ حَدّاً فِي الإِسْلامِ ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ لَهُ عَلَى الإِسْلامِ الرَّضَائِخُ» (١).

* * *

وفيما يرجع إلى الحقوق نادى بأنّ المسلمين جميعاً سواء في الحقوق والواجبات في الإسلام ، وقد كانت هناك فروق حقوقية جاهليّة قضى عليها الإسلام ، وأُعيدت في عهود لاحقة ؛ فقريش ذات الماضي العريق في السيادة على القبائل العربية عادت في عهد عثمان إلى إيمانها بتلك الفروق ، فغدا أُناس ليس لهم ماضٍ مشرّف بالنسبة إلى الإسلام ونبيّه يتعالون على أعظم المسلمين جهاداً ، وسابقة وبلاء لمجرّد أنّهم قرشيون .. هذه الفروق المعنوية الجاهليّة قضى عليها الإمام عليه‌السلام ، فقال :

__________________

(١) نهج البلاغة.

٥٣

«الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له ، والقوي عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه» (١).

* * *

وفيما يرجع إلى سياسة المال وقف موقفاً صارماً ، وكانت تواجهه فيما يتعلّق بهذه السياسة نقطتان هامّتان ؛ إحداهما الثروات التي تكوّنت في أيام عثمان بأسباب غير مشروعة ، والثانية أسلوب توزيع العطاء.

وقد أعلن في الخُطب الأولى التي استهل بها حكمه مصادرة جميع ما أقطعه عثمان من القطائع وما وهبه من الأموال العظيمة لطبقة الإرستوقراطيين ، كما أعلن أنّه سيتّبع مبدأ المساواة في العطاء ، فقال :

«أيّها الناس ، إنّي رجل منكم ، لي ما لكم وعليّ ما عليكم ، وإنّي حاملكم على منهج نبيّكم ، ومنفّذ فيكم ما أمر به. ألا وإنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان ، وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ؛ فإنّ الحقّ لا يبطله شيء ، ولَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ ، وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ ؛ فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً ، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ» (٢).

وقال من خطاب آخر :

«... ألا لا يقولنّ رجال منكم غداً غمرتهم الدنيا فاتّخذوا العقار ، وفجّروا الأنهار ، وركبوا الخيول الفارهة ، واتّخذوا الوصائف الرُّوقة ، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً ، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه ، وأخّرتهم

__________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) نهج البلاغة ١ / ٥٩. وشرح نهج البلاغة ١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

٥٤

إلى حقوقهم التي يعلمون ، فينقمون ذلك ويستنكرون ، ويقولون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا! ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى أنّ الفضل له على سواه لصحبته ؛ فإنّ الفضل النيّر غداً عند الله ، وثوابه وأجره على الله وأيّما رجل استجاب لله وللرسول ، فصدّق ملّتنا ، ودخل في ديننا ، واستقبل قبلتنا ، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده ؛ فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ، يُقسم بينكم بالسويّة ، لا فضل فيه لأحد على أحد ، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء ، وأفضل الثواب. لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً ، وما عند الله خير للأبرار. وإذا كان غد إن شاء الله فاغدوا علينا ؛ فإنّ عندنا مالاً نقسمه ، ولا يتخلّفنّ أحد منكم ؛ عربي ولا عجميّ ، كان من أهل العطاء أو لم يكن ، إلاّ حضر إذا كان مسلماً حرّاً».

فلمّا كان من الغد ، غدا وغدا الناس لقبض المال ، فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه :

«ابدأ بالمهاجرين فنادهم ، وأعطِ كلّ رجل ممّن حضر ثلاثة دنانير ، ثمّ ثنّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك ، ومَنْ حضر من الناس كلّهم ؛ الأحمر والأسود ، فاصنع به مثل ذلك».

فقال سهل بن حنيف : يا أمير المؤمنين ، هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم. فقال :

«نعطيه كما نُعطيك ، فأعطى كلّ واحد منهما ثلاثة دنانير».

٥٥

ولم يفضّل أحداً على أحد. وتخلّف عن هذا القسم يومئذ طلحة ، والزبير ، وعبد الله بن عمر ، وسعيد بن العاص ، ومروان بن الحكم ، ورجال من قريش وغيرها (١).

* * *

وهكذا قضى بسرعة وحسم على شرعيّة التفاوت الطبقي بما له من ذيول اقتصادية ودينية ، فسوّى بين المعتقين والأحرار ، والسابقين في الإسلام والمسلمين الجدد ، ولم يجعل من الفضل الديني ذريعة إلى المغانم الاقتصادية ، كما شلّ بإجراء آخر قوّة هذه الطبقة التي تكوّنت في عهد عثمان ؛ وذلك حين صادر قطاع عثمان والأموال التي أعطاها.

وبقدر ما كانت هذه السياسة مصدر فرح وجدل للطّبقة المستضعفة الفقيرة الرازخة تحت أثقال من الظلم ، كانت أيضاً صفعة لقريش ولغرورها ، وخيلائها واستعلائها على الناس ، فمن أين لها بعد اليوم أن تحوز الأموال العظيمة دون أن تنفرج شقتان لتقولا لها : من أين لك هذا؟

وكيف لها بعد اليوم أن تستعلي وتستبد ، وتفرض على الناس في ظلّ الإسلام سلطانها عليهم في الجاهليّة.

ولعلّ قادة الطبقة الثرية وزعماءها فكّروا في أن يساوموا علياً على بذل طاعتهم له على أن يُغضي عمّا سلف منهم ، ويأخذهم باللين والهوادة فيما يستقبلون ، فأرسلوا إليه الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فجاء إليه وقال :

«يا أبا الحسن ، إنّك قد وترتنا جميعاً ، ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف ، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال أيّام عثمان ، وأن تقتل قتلته ، وإنّا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام».

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٧ / ٣٧ ـ ٣٨.

٥٦

فقال عليه‌السلام :

«أمّا ما ذكرتم من وتري إيّاكم فالحقّ وتركم ؛ وأمّا وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حقّ الله عنكم ولا من غيركم ...» (١).

ولمّا أيقن زعماء هذه الطبقة أنّهم لن يُفلحوا عن طريق المساومة والتهديد ، لجؤوا إلى السعي لنقض البيعة ، وقد جاء مَنْ أخبر علياً بأنّهم يدعون الناس إلى رفض البيعة ؛ مدفوعين إلى ذلك بالامتيازات الاقتصادية والاجتماعيّة التي فقدوها.

فخطب الناس ، وكأنّه أراد بذلك أن يكشف عناصر الفتنة الجديدة ، ويخرج بالمسألة من حدود الهمس والعمل في الظلام إلى الصعيد العام ، ويسلّط عليه وعلى زعمائها النور ، ويفضح أهدافهم ، ويُطلع الأمّة على المناورة التي تريد أن تحوّل نتائج الثورة إلى مغانم شخصيّة ، وتُعيد الأوضاع القديمة كما كانت ، فلا تحصل الأمّة من ثورتها إلاّ على تبديل الوجوه.

وقد أكّد في هذه الخطبة عزمه على مواصلة تطبيق المنهج الذي بدأ به ، فقال :

«فأمّا هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرَة ، وقد فرغ الله من قسمته ، فهو مال الله ، وأنتم عباد الله المسلمون ، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا ، وعهد نبيّنا بين أظهرنا ، فمَنْ لم يرض به فليتولّ كيف شاء» (٢).

ولكنّ الإرستقراطية الجديدة لم تقف مكتوفة اليدين ، فقامت بحركة تمرّد الأولى في البصرة تحت ستار الثأر لعثمان ، وما هي في واقعها إلاّ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٧ / ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) المصدر السابق ٧ / ٣٩ ـ ٤٠.

٥٧

تدبير دبّره مَنْ لم يُماش الحكم الجديد أهواءهم من بني أميّة وغيرهم من المنتفعين بعهد عثمان ، وقد كان القائمون بهذه الحركة يريدون أن يعطفوا أزمّة الحكم إلى جانبهم بعد أن يئسوا من مساعدة الإمام عليه‌السلام لهم على ما يبتغون ، ولكنّ الإمام عليه‌السلام قضى على الحركة في مهدها ، وفرّ مَنْ بقي من أنصارها إلى الشام ، حيث قامت حكومة برياسة معاوية بن أبي سفيان ، انضوت إليها جميع العناصر المنتفعة بعهد عثمان ، والتي رأت في الحكم الجديد خطراً عليها وعلى امتيازاتها الطبقية وبينما كانت حكومة الإمام عليه‌السلام تسير على نهج إسلامي خالص ، أي أنّها كانت تحقّق للأمّة أقصى قدر مستطاع ـ في ظروفها السياسيّة والاقتصادية والعسكرية ـ من الرفاهية ، والعدالة والأمن ، كان معاوية يسير على نهج آخر في الحكم يقوم على شراء الضمائر بالمال ، وتفضيل طائفة بحرمان طائفة أخرى ، وتعطيل السبل ، وتعكير الأمن ، ولم يكن معاوية ليبالي في أن ينزل بدافعي الضرائب من الزرّاع ، والتجّار أفدح الظلم في سبيل أن يحصل منهم على مبلغ من المال يُغذّي به أطماع حفنة من رؤساء القبائل العربية يؤلّفون جهازه العسكري المتأهّب دائماً لقمع أي حركة تحرريّة تقوم بها جماعة من الناس.

وقد كان من الطبيعي أن تقوم حركة تمرّد أخرى وراء الواجهة نفسها بزعامة معاوية ، فكانت صفين ، وكان التحكيم ثمّ النهروان ، ثم قُتل عليه‌السلام بثمرة من ثمرات التحكيم بعد أن غرس في عقول الناس وقلوبهم المبادئ الإسلاميّة في الحكم وسياسة الجماعات. ثم كانت خلافة الحسن بن علي عليه‌السلام ذات الشهور العاصفة ، الحُبلى بالدسائس والمؤامرات عليه من قبل الانتهازيين والوصوليين ، ثم اضطراره إلى التخلّي عن الحكم مؤقتاً تحت ضغط الأحداث التي لم تكن صالحة تفادياً لحرب خاسرة تذهب فيها دماء أنصاره دون الحصول على نصر آني أو في المستقبل القريب أو البعيد.

وصار الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان ، واتّسقت له الأمور ، وسيطر على العالم الإسلامي كلّه بعد أن أُخذت له البيعة على الناس في شوّال سنة

٥٨

إحدى وأربعين للهجرة.

وقد كانت سياسة الإمام علي عليه‌السلام وطريقته في ممارسة مهمّة الحكم ، وفهمه لواجبات الحاكم ، كانت هذه الأمور تُشكّل تحدّياً مستمراً لمعاوية وبطانته ، وتهديداً لمشاريعه في التسلّط على المسلمين. والذي زاد من خطورة هذه الأفكار على معاوية ومشاريعه أنّها لم تكن أفكاراً مجرّدة ، بل طُبّقت على حياة الناس بأمانة وإخلاص عظيمين ؛ لذلك عمل معاوية منذ انتهت مهزلة التحكيم على أن يحارب هذه المبادئ ، وأن يطبع حياة الناس وأفكارهم بالطابع الذي يؤمن له سيطرة دائمة خالية من أيّ رقابة أو احتجاج ؛ ولذلك مارس سياسة استهدف منها محق نزعة الحرية لدى الإنسان المسلم ، وتحويله عن أهدافه العظيمة ، ونضاله من أجلها.

ولقد كانت هذه السياسة تقوم على المبادئ التالية :

أ ـ الإرهاب والتجويع.

ب ـ إحياء النزعة القبلية واستغلاها.

ج ـ التحذير باسم الدين ، وشلّ الروح الثورية.

وبهذه السياسة حاول معاوية القضاء على ما لدى الجماهير المسلمة من نزعة إنسانيّة تجعلها خطراً على كلّ حاكم يجافي مبادئ الإسلام في ممارسته لمهمّة الحكم ، وبذلك أمن ثورة الجماهير ونقدها.

ولنأخذ هذه المبادئ بشيء من التفصيل.

٥٩

ـ ٤ ـ

أ ـ الإرهاب والتجويع

لقد اتّبع معاوية سياسة الإرهاب ، والقتل ، والتجويع بالنسبة إلى الرعايا المسلمين الذين لا يتّفقون معه في الهوى السياسي ، وإطلالة قصيرة على تأريخ هذه الفترة من حياة المسلمين تُثبت هذه الدعوى.

حدّث سفيان بن عوف الغامدي ، وهو أحد قوّاد معاوية العسكريين ، قال :

«دعاني معاوية فقال : إنّي باعثك بجيش كثيف ذي أداة وجلادة ، فالزم ليّ جانب الفرات حتّى تمرّ بهيت فتقطعها ، فإن وجدت بها جُنداً فأغر عليهم ، وإلاّ فامض حتّى تُغير على الأنبار ، فإن لم تجد جنداً فامض حتي نوغل في المدائن. إنّ هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق تُرعب قلوبهم ، وتُفرح كلّ مَنْ له هوى فينا منهم ، وتدعو إلينا كلّ ما خاف الدوائر ، فاقتل كلّ مَنْ لقيته ممّن هو ليس على مثل رأيك ، وأخرب كلّ ما مررت به من القرى ، وأحرِب الأموال فإنّ حرب الأموال شبيه بالقتل ، وهو أوجع للقلب»(١).

ودعا معاوية بالضحّاك بن قيس الفهري وأمره بالتوجّه ناحية الكوفة ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٨٥ ـ ٨٦.

٦٠